الأزمة اليمنية ومسارات الوحدة والتجزئة

يتركز جوهر الأزمة في سيطرة الأسرة على المؤسسة العسكرية، وتحويل اليمن إلى تركة قابلة للتوريث، فاستلاب المشروع الوطني من قبل مشروع التوريث هو جذر وجوهر الأزمة، ولا يمكن فهم الأزمة السياسية التي تعصف باليمن اليوم ما لم نفهم أولاً بعديها التاريخي والاجتماعي.
2 June 2009







 
ناصر محمد ناصر


أعتقد أنه لا يمكن فهم الأزمة السياسية التي تعصف باليمن اليوم ما لم نفهم أولاً بعديها التاريخي والاجتماعي، فالأزمة ليست وليدة اليوم، وليست نتاج السياسة وحدها، إنها صراع اجتماعي على أرض السياسة. ولذلك سوف أضطر إلى معالجة الأزمة انطلاقاً من منهج سيسيولجي يقرأ السياسي من خلال جذره الاجتماعي.


أولا: جوهر الأزمة
ثانيا: بداية وتطور الأزمة
ثالثا: حرب 1994 وتجذر الأزمة
رابعا: بروز مشروع الانفصال
خامسا: فرضية واحتمالات الانفصال
سادسا: فرضية واحتمالات الإصلاح
الخلاصة


أولاً: جوهر الأزمة


يتمثل جوهر الأزمة في سيطرة البنية الاجتماعية التقليدية ممثلة في بالأسر والقبيلة على المؤسسة العسكرية، ومن ثم السيطرة على كل إمكانيات ومقدرات الدولة وتسخيرها لإنجاز مشروع التوريث، ومقاومة كل محاولات الإصلاح التي تمس بسياسة التوريث.





الأزمة السياسية اليمنية ليست وليدة اليوم، وليست نتاج السياسة وحدها، إنها صراع اجتماعي على أرض السياسة.
فقد شكل وصول صالح إلى السلطة في 17 يوليو/تموز 1978 انتصاراً للقبيلة، فالرجل ينحدر من سنحان، وسنحان هي إحدى بطون قبيلة حاشد أقوى القبائل اليمنية وأكثرها تماسكاً ونفوذا، وقد تمكن صالح من تشييد حكم أسري يتجسد في سيطرة قبيلته وعشيرته على المؤسسة العسكرية، ومن ثم على كل إمكانيات ومقدرات الدولة.

وفي الواقع فإن من يمسك بزمام السلطة في اليمن هو على وجه الحصر مركز اتخاذ القرار، يليه الرباعي المتنفذ من أبناء الرئيس وإخوانه وأبناء إخوانه، ويتكون من:



  1. قائد الحرس الجمهوري وهو نجل الرئيس الذي يسيطر بقوات الحرس البالغة 30 ألف رجل، وفرق القوات الخاصة على مداخل صنعاء من جهاتها الأربع.
  2. يليه قائد الفرقة الأولى مدرعة ويقودها أخ غير شقيق للرئيس، والتي تتكون من عدة ألوية جيدة التسليح وتسيطر على المحور الغربي، وقد تعمد النظام إضعافها في الآوانة الأخيرة بالزج بها في خمسة حروب مع الحوثي.
  3. وقائد وحدات الأمن المركزي وهو ابن أخ الرئيس التي تسيطر على كافة المدن اليمنية بما فيها العاصمة صنعاء.
  4. وقائد سلاح الطيران، ويقوده أخ الرئيس، الرابض في مطار صنعاء شمال صنعاء وفي كافة المطارات اليمنية، وفي الجنوب التي استقلت في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1967.

إلا أن قبائل الضالع وردفان ما لبثت أن سيطرت على المؤسسة العسكرية بعد أن تمكنت من الإطاحة بقحطان الشعبي في 22 يونيو/حزيران 1969، الذي كان يعارض دمج الميليشيات القبلية في قوام الجيش.


ثانياً: بداية وتطور الأزمة 


إن الوحدة هي صناعة الأسرة في الشمال والقبيلة في الجنوب، والمفارقة أن دستورها نص على أنها دولة تعددية وديمقراطية، ولكن الصراع بين مكوني قيادة الوحدة وهما الأسرة والقبيلة ما لبث أن تفجر بعد أشهر قليلة من قيامها كما كان متوقعاً.





في الواقع فإن من يمسك بزمام السلطة في اليمن هو على وجه الحصر مركز اتخاذ القرار يليه الرباعي المتنفذ من أبناء الرئيس وإخوانه وأبناء إخوانه
لم يكن هناك اصطفاف على أساس جهوي شمال/ جنوب، فإبان احتدام الخلاف بين المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي حول برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي طرحه الحزب، أيد معظم اليمنيين طرح الحزب كونهم كانوا متضررين من الفساد وكانوا يتوقون إلى الإصلاح، وتزايدت شعبية الحزب في المحافظات الشمالية، وذلك عندما شعر اليمنيون أن من يقاوم سياسة الإصلاح هو مشروع التوريث، وأن من أحبط ذلك البرنامج هي الرئاسة عبر وزير المالية المقرب منها، والذي قام بسحب بساط التمويل من تحت أقدام الحكومة التي كان يترأسها الحزب.

وعند اندلاع الحرب، وقف معظم اليمنيين موقف المتفرج إلى أن أعلن علي سالم البيض زعيم الحزب الاشتراكي الانفصال، فأيدوا موقف الرئيس صالح لصالح استمرار الوحدة، وانتهى ذلك الصراع في 7يوليو/تموز 1994 بانتصار الأسرة على القبيلة، وبالتالي سقطت الوحدة في قبضة المشروع الوراثي تبعا لبنية الحكم المنتصر.


وعقب الحرب شكلت حكومة ائتلافية من المؤتمر والإصلاح وهو الحزب الذي يضم جماعة الإخوان المسلمين، وكان برنامجها يقوم على تزامن الإصلاح المالي والإداري، ولكن هذه الحكومة انفضت إثر إصرار الرئاسة على تنفيذ الشق المالي المتمثل في رفع الدعم عن السلع ورفع أسعار الخدمات والمشتقات النفطية، ورفضت الشق الإداري، لأنه سيمس بقوى الفساد التي يرتكز عليها النظام.


ثالثاً: حرب 1994 وتجذر الأزمة 


بعد حرب عام 1994، كان الناس، وبالذات في المحافظات الجنوبية ينتظرون من النظام معالجة آثار الحرب، إلا أن النظام سار في الاتجاه المعاكس وقام بالآتي:



  1. ألغى اتفاقيات الوحدة الموقعة بين الحزب والمؤتمر والتي كانت تنص على الأخذ بأفضل ما في النظامين السابقين.
  2. عدل الدستور بتحويل شكل رئاسة الدولة من مجلس رئاسة مكون من خمسة أعضاء بواقع 3 أعضاء للمؤتمر وعضوين للحزب الاشتراكي يختارهم مجلس النواب، إلى رئيس ونائب له يعين من قبل الرئيس الذي ينتخب مباشرة من الشعب. وإعطاء رئيس الجمهورية صلاحيات التشريع بقوانين يصدرها بمراسيم رئاسية.
  3. صادر مقرات وأموال الحزب الاشتراكي وجمد أمواله وضيق على نشاطه، واستهدف قياداته وأعضائه، في حين أن الحزب كان هو وحده المؤهل لترميم الجراح الاجتماعية والسياسية العميقة التي خلفتها الحرب، وكان يفترض في النظام بعد أن تمكن من نزع آلته العسكرية وإزالة خطورته على مشروع التوريث، أن يوكل إليه تشكيل الحكومة ويطلب منه معالجة آثار الحرب.
  4. سرح معظم القيادات العسكرية من أبناء المحافظات الجنوبية التي كانت متعاطفة مع الحزب، وأسند مواقعها القيادية إلى قيادات جنوبية شاركت الرئيس في حربه على الحزب، كتلك العناصر التي فرت من الجنوب مع علي ناصر محمد عقب مذبحة 13 يناير/كانون الثاني 1986.
  5. منح الإقطاعات والأراضي الواسعة لقادة المؤسسة العسكرية ومعظمهم من أبناء الأسرة الحاكمة في المحافظات الجنوبية، عن طريق مصلحة أراضي وعقارات الدولة التي يديرها شخص مقرب من الرئاسة، وقد أثيرت هذه المشكلة قبل أشهر ورفع تقرير إلى الرئاسة خير الرئيس بين الوحدة وبين 15 فاسداً ممن نهبوا تلك الأراضي، وحتى الآن لم يصدر قرار بمعالجة هذه المسألة التي تثير غضب وحنق الفقراء والبؤساء من أبناء اليمن وأبناء المحافظات الجنوبية تحديداً.

رابعاً: بروز مشروع الانفصال 


بناءً على ما سبق فقد بدأ الرأي العام وبالذات في المحافظات الجنوبية التي كانت مسرحاً للحرب والتي عانت بعد الحرب من عملية نهب منظم، في التململ من الوحدة التي راهنوا عليها في تحسين أوضاعهم فإذا هم يفاجؤن بنتائج عكسية.





بدأ الرأي العام وبالذات في المحافظات الجنوبية التي كانت مسرحاً للحرب والتي عانت بعد الحرب من عملية نهب منظم، في التململ من الوحدة التي راهنوا عليها في تحسين أوضاعهم فإذا هم يفاجؤن بنتائج عكسية
وزاد من حالة الاحتقان في اليمن عموماً وفي الجنوب خصوصاً، إسراف النظام في قطع الوعود إبان الحملات الانتخابية في الأعوام 1999 عندما جرت الانتخابات الرئاسية، و2003 عندما جرت الانتخابات البرلمانية، و2006 عندما جرت الانتخابات الرئاسية الثانية، ثم التنصل من تلك الوعود عقب كل انتخابات، وذلك إضافة إلى سلبية المعارضة التي شاركت في تلك الانتخابات وأضفت المشروعية عليها وأقرت بنتائجها رغم أن الجميع كان يعرف نتائجها سلفاً، ويعرف أنها مجرد انتخابات لإضفاء المشروعية على نظام قائم وليس لتغيير واقع.

ومما زاد الطين بلة أن المعارضة كانت تعلن قبيل كل انتخابات أنها قبلت الدخول في الانتخابات لتحقيق الحد الأدنى من المكاسب، وهي مكاسب صورية تتمثل في الحصول على بضعة مقاعد في مجلس نيابي معدوم الصلاحيات، وعقب الانتخابات كانت تقول أنها أقرت بنتائج تلك الانتخابات ليس لنزاهتها وإنما أقرت بها بحكم الأمر الواقع.


والخلاصة أن الناس باتوا ينظرون إلى المعارضة على أنها معارضة صورية لا تملك مشروعاً ولا تقوى على مواجهة النظام، وتأكدت هذه الحقيقة حين انتفضت الجماهير في يوليو/تموز 2005 -عقب رفع أسعار المشتقات النفطية بنسبة 100%- عندما قمع النظام المظاهرة بشدة، ولم يصدر من المعارضة حتى مجرد بيان يدين عمليات القمع.


وبلغت الأزمة الذروة عام 2007 عندما قام المتقاعدون العسكريون بتأسيس جمعية للمطالبة بإعادتهم إلى مواقعهم القيادية السابقة، وإعادة كامل مستحقاتهم المالية منذ يوم تسريحهم عقب الحرب، وقد قامت السلطة بإعادة البعض منهم، إلا أن قيادات الحزب التي فرت إلى الخارج عقب الحرب اتصلت بهؤلاء وطلبت منهم رفع سقف مطالبهم من مطالب حقوقية إلى مطالب سياسية، تتمثل في إعادة العمل باتفاقيات دولة الوحدة ومعالجة آثار الحرب في الجنوب.


وعندما وجدت هذه القيادات تجاوبا شعبيا مع مطالبها، صعدت مطالبها وأخذت تطالب بالانفصال، وفي هذه اللحظة تدخل الحزب الاشتراكي اليمني وطرح مشروعاً يقوم على أساس معالجة الوضع في الجنوب من منظور وطني، بإيجاد شراكة وطنية تضم وتسع كل أبناء اليمن، بصرف النظر عن الاعتبارات الجهوية والمناطقية، وتقطع الطريق على أي دعاوى انفصالية، إلا أن السلطة لم تستجب لهذه المطالب مما أضعف الحزب في المحافظات الجنوبية.


خامساً: فرضية واحتمالات الانفصال 


بما أن المشروع الوراثي يقصي المشروع الوطني، فإن المشكلة اليوم باتت تتركز في عدم وجود قيادة سياسية لديها رؤية ولديها مشروع اقتصادي وتنموي لليمن.


والقيادة السياسية اليمنية شأنها شأن أي قيادة سياسية عربية تقليدية، لديها مشروعان:



  • الأول يتمثل في جمع ثروة شخصية لرأس النظام.
  • والثاني يتمثل في توريث السلطة.

فالمشروع الوطني هنا مستلب ومغيب لحساب ولمصلحة المشروع الذاتي والأسري، ولو سألت أي حاكم عربي تقليدي وقلت له: كيف سيكون وضع هذا البلد الذي تحكمه بعد خمس أو عشر سنوات؟ لاختلط عليه الأمر، ولما وجد إلى الإجابة من سبيل، أي إن المسألة بالنسبة له غير مدركة من حيث الأساس.


إن حضور المشروع الأسري الوراثي وغياب المشروع الوطني سيدفع بأزمة اليمن الراهنة إلى مأزق غاية في الخطورة على النظام، وعلى اليمن، وعلى المنطقة والعالم.


وإذا لم يلتفت المشروع الأسري لمعطيات الواقع، ويقدم وبسرعة على معالجة الوضع فإن النتيجة ستكون تمزق اليمن إلى أكثر من كيان وذلك للأسباب التالية:






  • إن حضور المشروع الأسري الوراثي وغياب المشروع الوطني سيدفع بأزمة اليمن الراهنة إلى مأزق غاية في الخطورة على النظام، وعلى اليمن، وعلى المنطقة والعالم.
    في المحافظات الجنوبية هناك نزعات استقلالية وانفصالية على أسس مناطقية، فحفيد سلطان منطقة أبْيَن طارق الفضلي يطالب اليوم بمحافظة أبين وثلاثة أرباع محافظة عدن وأجزاء من محافظات أخرى.
  • ومحافظة حضرموت لها نزعات استقلالية قديمة وكانت ترفض البقاء ضمن اليمن الجنوبية قبل الوحدة، وقد تم إحياء هذه المطالب اليوم.
  • ومؤخرا أعلنت المحافظات الصحراوية المكونة من محافظات جنوبية وشمالية وهي محافظات شبوة وحضرموت في الجنوب، ومأرب والجوف في الشمال عما سمته بحراك أبناء الصحراء، وطالبت بنسبة من عائدات النفط، كون هذه المحافظات هي المنتجة للنفط وتعتبر نفسها محرومة من عملية التنمية.
  • ويعتقد البعض أن هناك أيادٍ سعودية تهدف إلى إيجاد كيان تابع لها على حدودها الجنوبية، ليصد عنها موجات الهجرات البشرية من المحافظات الوسطى ذات الكثافة السكانية العالية.

وعليه أعتقد أنه في حالة انهيار الوضع في الجنوب ستنشأ فيه ثلاثة كيانات هي:



  1. دويلة تشمل محافظة لحج وأجزاء صغيرة من محافظة عدن تسيطر عليها قبائل الضالع وردفان، وهي قبائل مكروهة من عموم أبناء الجنوب، كونهم كانوا وراء كل الأحداث والتصفيات التي شهدها الجنوب قبل الوحدة.
  2. دويلة في محافظة أبين يحكمها آل الفضلي، وتضم إليها معظم أراضي محافظة عدن، وأجزاء من محافظة حضرموت، ولا يخفي آل الفضلي اليوم مطالبهم بأراضي السلطنة التي كان يحكمها أجدادهم.
  3. دويلة تشمل محافظات الحزام الصحراوي، المحاذي للحدود السعودية، من حدود عمان شرقاً إلى حدود السعودية شمالاً وتشمل محافظتين شماليتين، وستكون تابعة وخاضعة للدولة السعودية.

إذا تحقق هذا الفرض، فستنجم عنه مشاكل حدودية بين تلك الدويلات، وستنشأ مشاكل بين كل من عمان والسعودية، حيث ترفض الأولى امتداد نفوذ الأخيرة إلى حدودها الجنوبية.


أما في الشمال فيعتبر الحوثي في حكم المستقل من الناحية الفعلية، إذ لم يعد للدولة وجود في أجزاء كبيرة من محافظة صعدة، وأجزاء أقل من محافظات عمران وحجة وصنعاء، ولا ينقص الحوثي سوى الاعتراف الدولي به، فهناك إمكانية قيام دويلة شيعية جنوب السعودية تكون عامل قلق مستمر لها في حالة انفلات الوضع، وفي حالة حدوث ذلك فمن المستحيل أن تقبل المحافظات الوسطى التي تتركز فيها الغالبية العظمى من سكان اليمن ببقاء النظام القائم.


ومن هنا أعتقد أن هذا الفرض غير قابل للتحقق على الأقل في ظل معطيات الظرف الراهن، كون هذا الفرض لا يضر بالنظام أو باليمن وحده وإنما سيمتد ضرره إلى المنطقة وإلى العالم أجمع بحكم الإفرازات والتداعيات السلبية التي بعضها غير مرئي الآن، والتي ستنجم عن "بلقنة" وتجزئة اليمن.


سادساً: فرضية واحتمالات الإصلاح 






رغم ما يعيشه اليمن اليوم فإني أعتقد أن فرص نجاح الانفصال غير مرجحة وذلك للأسباب التالية:






  1. المشكلة هي مشكلة سلطة وليست مشكلة وحدة، ومشكلة السلطة ليست مع أبناء المحافظات الجنوبية وحدهم، وإن كانوا أكثر تضرراً، وإنما مع جميع أبناء اليمن
    أن مشروعية النظام القائم اليوم ترتكز أولا وأخيرا علي منجز الوحدة، إذ لا مشروعية إنجاز للنظام في الميدان الاقتصادي والتنموي، وسقوط الوحدة بين الشمال والجنوب يعني سقوط مشروعية النظام في الشمال وبالتالي سقوط النظام برمته، ولهذا فالحفاظ على الوحدة هي مسألة مصيرية بالنسبة للنظام القائم، ولا بقاء له بغيرها.

  2. يتركز أكثر من 85% من سكان اليمن البالغ عددهم 25 مليوناً في المحافظات الشمالية، وهؤلاء لا مصلحة لهم البتة في تأييد الانفصال، وهم ينقمون على النظام كونهم يعانون من التهميش والإقصاء شأنهم في ذلك شأن أبناء المحافظات الجنوبية، ولكن إذا ما خيروا بين النظام القائم وبين تشطير اليمن فلا شك أنهم سيختارون بقاء الوضع القائم على علاته، فالوحدة هي أغلى قيمة في حياة اليمني بعد القيم الدينية.

  3. إن مطالب قادة الانفصال بتجزئة اليمن ليست منطقية ولا مقنعة ولا معقولة، لا على مستوى القاعدة الجماهيرية في المحافظات الشمالية، ولا على مستوى أغلب النخب السياسية في عموم اليمن، فهذه المطالب قائمة على الخلط بين الوحدة والسلطة، وهناك شبه إجماع في اليمن على أنه لا توجد عداوة بين أبناء الشمال وأبناء الجنوب، ولا توجد أي فروقات عرقية أو دينية أو مذهبية تبرر دعاوى الانفصال، فالمجتمع اليمني من أكثر شعوب الأرض تجانساً، وبالتالي فإن المشكلة هي مشكلة سلطة وليست مشكلة وحدة، ومشكلة السلطة ليست مع أبناء المحافظات الجنوبية وحدهم، وإن كانوا أكثر تضرراً، وإنما مع جميع أبناء اليمن، فالكل في وضع المهمش، والكل في وضع المستلب من قبل سياسة التوريث.

  4. إن الظرف الدولي والإقليمي اليوم لا يساعد على فتح جبهات جديدة في المنطقة في ظل التهاب وتفجر الوضع في جبهة مفتوحة تمتد من فلسطين ولبنان إلى باكستان مروراً بالعراق وإيران وأفغانستان، لاسيما وأن هناك قناعة راسخة لدى دول الجوار -رغم رغبة بعضها في الانتقام من النظام الذي ساند صدام حسين في غزو الكويت- ولدى القوى الفاعلة في النظام الدولي بأن وجود دويلة في جنوب اليمن -بفرض بقاء الجنوب كيان واحدا- لن يكون في مصلحة استقرار المنطقة والعالم وذلك للأسباب التالية:



    • أن هذه الدويلة ستكون في حالة عداء وصراع دائم مع الشمال.
    • أن تلك الدويلة لن تستطيع الانضمام إلى دول الخليج أو التكامل معها لوجود تباينات كثيرة. ليس أقلها طبيعة النظم الحاكمة.
    • أن هناك مخاوف من عودة الصراع الداخلي في هذه الدويلة إلى ما كان عليه قبل الوحدة، وهناك علامات استفهام كبيرة وكثيرة حول هوية الدولة القادمة ومن سيحكمها، فهذه الدولة لن تكون ديمقراطية، لعدم وجود مقومات الديمقراطية لا على صعيد الوضع الاجتماعي والثقافي الداخلي، ولا على صعيد المحيط الإقليمي.

      ثم مَنْ مِنْ فرقاء اليوم سيحكمها؟ هل سيحكمها علي سالم البيض؟ أم سيحكمها خصمه وعدوه اللدود علي ناصر محمد؟ أم سيحكمها عدوهما المشترك طارق الفضلي وأحفاد السلاطين الذين أخذوا يظهرون اليوم بقوة؟ أم ستحكمها عناصر جبهة التحرير؟ أم نقيضها الجبهة القومية؟ وأين سيكون مكان الحزب الاشتراكي اليمني في وسط هذا كله؟

وبناءً على ما سبق وتأسيساً عليه أعتقد أن تطور ضغوط الجبهة الداخلية في اليمن، وضغوط المجتمع الدولي على النظام ستدفعه إلى السير في طريق حل الأزمة القائمة في إطار الوحدة، وأعتقد أن النظام سوف يقاوم هذه الضغوط بما في وسعه، إلا أن هذه المقاومة لها حدود.


وما أراه هو أن النظام سيقبل بحل عبر المسارات الآتية:


النظام البرلماني والقائمة النسبية



هناك إدراك متزايد من قبل القيادة السياسية بأنه يستحيل استمرار الوضع على ما هو عليه، كما تستحيل عملية التوريث في ظل الوضع المتجه نحو مزيد من التأزم.
هناك إدراك متزايد من قبل القيادة السياسية بأنه يستحيل استمرار الوضع على ما هو عليه، كما تستحيل عملية التوريث في ظل الوضع المتجه نحو مزيد من التأزم.

وبالتالي فهناك موافقة بصفة مبدئية من قبل القيادة السياسية عبر مفاوضاتها التي تمت مع تكتل أحزاب اللقاء المشترك، بضرورة القبول بالنظام البرلماني، وإيجاد مجلس نيابي مكون من غرفتين، الأولى ينتخب مباشرة من الشعب، والثانية تمثل المحافظات. والقبول بنظام القائمة النسبية كحل لمشكلة النظام على مستوى السلطة المركزية.


فإن تم هذا الإنجاز -وأعتقد أن الظروف الراهنة وحجم الضغوط المتزايدة على النظام تعطي إمكانية كبيرة لنجاحه- فمن شأنه أن يقلص من صلاحيات منصب الرئاسة وبالتالي يحرر كافة مؤسسات الدولة التنفيذية، والتشريعية، والرقابية، من سيطرة المركز، ويجعلها تعمل باستقلالية، تحت مظلة القانون.


ومن شأنه أن يحرر قطاع الأعمال ومؤسسات الطبقة الوسطى، ويعيد إليها الحياة التي ستُفعّل دورها وتأثيرها الاجتماعي والسياسي، وتجعل منها روافع وآليات ووسائل تغيير، بدلاً من آليات ووسائل للكبح والجمود.

إلا أن المؤسسة العسكرية ستبقى والى أمد غير منظور في يد الأسرة، وأعتقد أن الأسرة سترضى بهذا الحل الوسطي شريطة أن تؤمن الحكومة المنتخبة للمؤسسة العسكرية موازنتها، مقابل التزام من قبل الأسرة بعدم تدخل المؤسسة العسكرية في شؤون الحكومة، بحيث يصبح للحكومة مطلق الحرية في إدارة بقية مؤسسات الدولة، وإدارة عملية التنمية في البلاد.


كما أن من شأن تطبيق القائمة النسبية أن يربط المواطن بالحزب بدلاً من الشيخ، وبالتالي يحرر المواطن من هيمنة المشيخات القبلية والقوى التقليدية، ويخلق لدى المواطن روح الاستقلالية والندية، في مواجهة تلك الزعامات، ويخرجه من واقع الهيمنة والتبعية، إلى فضاء المواطنة المتساوية.


وتطبيق القائمة النسبية سيمد نفوذ وسلطة الدولة على كل أراضي الجمهورية، وبالتالي يحرر كل من الدولة والمواطن من ابتزاز تلك الزعامات، ويكرس الأموال التي تخصصها الدولة لشراء ولاء تلك الزعامات لعملية التنمية.


وأن يدفع الأحزاب إلى التنافس على استقطاب الشخصيات الاجتماعية المؤهلة والفاعلة والقادرة على التأثير، ومن ثم صياغة برلمان نوعي فاعل ومؤثر يستطيع أن يضع الحكومة تحت مظلة رقابية صارمة، ويرهن بقاءها واستمرارها بقدرتها على تحقيق أهدافها.


الحكم المحلي



الضغوط المتنامية وبالذات في المحافظات الجنوبية ستجبر النظام في نهاية المطاف على القبول بحكم فيدرالي، تقسم اليمن بموجبه إلى أقاليم أو ولايات، مع بقاء المسائل السيادية كالسياسة الخارجية والدفاع بيد الحكومة المركزية.
هناك موافقة مبدئية من قبل النظام -بدت في أكثر من تصريح وأكثر من خطاب لرأس الدولة- على تطوير الحكم المحلي الحالي القائم اليوم على انتخاب  المجالس المحلية -على مستوى المديرية والمحافظة- من قبل المواطنين، وتعيين المحافظ من قبل الرئاسة، إلى حكم محلي كامل الصلاحيات بحيث يمكن لكل محافظة أن تنتخب كل من مجالس المديريات ومجالس المحافظات، وانتخاب المحافظ نفسه، وإعطائه مزيداً من الصلاحيات في إدارة شؤون المحافظة.

الضغوط المتنامية وبالذات في المحافظات الجنوبية ستجبر النظام في نهاية المطاف على القبول بحكم فيدرالي، تقسم اليمن بموجبه إلى أقاليم أو ولايات يكون لكل إقليم أو ولاية حكومة ومجلس نيابي، يدير كافة شؤونها، مع بقاء المسائل السيادية كالسياسة الخارجية والدفاع بيد الحكومة المركزية.


ومخاوف البعض من نزوع الأقاليم أو الولايات نحو الاستقلال، أو تحولها إلى بؤر لقوى جذرية متطرفة تضر بعلاقات اليمن الخارجية، هي مخاوف غير حقيقية، لاسيما إذا حظر الدستور -وهذا أمر ضروري- هذه التوجهات، وأعطى الحق للحكومة المركزية للتدخل بجيشها لإحباط أي مساعٍ من هذا القبيل، وإعادة القرار للشعب في ذلك الإقليم أو الولاية في انتخاب حكومة محلية جديدة.


الخلاصة 


يتركز جوهر الأزمة في سيطرة الأسرة على المؤسسة العسكرية، وتحويل اليمن إلى تركة قابلة للتوريث، فاستلاب المشروع الوطني من قبل مشروع التوريث هو جذر وجوهر الأزمة.


كما أن ضعف المعارضة وعدم قدرتها على مواجهة النظام بمشروع مضاد، رغم أنها تملك مثل هذا المشروع، قد أضعف وغيب البديل الوطني الذي يمكن الرهان عليه في مقاومة المشروع الأسري.


وفي ظل هذا الغياب والضعف ولدت المشاريع الصغيرة، المتمثلة في المذهبية في الشمال التي ينادي بها الحوثي، والمناطقية في الجنوب التي ينادي بها قادة الانفصال.


وبما أن كل الصلاحيات في الدولة تتركز في يد رجل واحد، وله القدرة دون غيره على السير في طريق الإصلاح، فإن الخروج من الأزمة لا يتمثل في اجتراح الحلول، فالحلول موجودة، وقد طرحت منذ عام 1993م عبر وثيقة العهد والاتفاق التي وقعت في عمّان والتي شخصت المشكلة وطرحت الحل، وغيرها من الوثائق وبرامج الإصلاح اللاحقة التي طرحتها المعارضة بخجل ورفضها النظام، وإنما يتمثل في وجود إرادة لدى رأس الدولة في وضع الحل موضع التطبيق الفعلي.


وبإمكان رأس الدولة أن يحل المشكلة من جانب واحد إن هو قرر ذلك من خلال المسار التالي:






  1. هناك فرص جيدة لتجاوز الأزمة، إذا ما تكاثفت الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية لوضع تلك الحلول موضع التنفيذ الفعلي، وحمل الفرقاء على القبول بها، ولكن المسألة في نهاية المطاف مرهونة بما يمكن عمله لا بمجرد ما يتم قوله.
    فك الارتباط بين رئاسة الدولة ورئاسة الحزب الحاكم، باستقالته من رئاسة الحزب الحاكم.
  2. الدعوة إلى انتخابات حرة ونزيهة تشترك فيها كل الأحزاب وكل القوى السياسية دون قيد أو شرط أو استثناء لأحد.
  3. تسليم الحكومة للحزب الفائز في الانتخابات، وتحميله مسؤولية إدارة شؤون الدولة وإنجاز مشاريع التنمية، وتعهد الرئاسة بعدم التدخل في شؤون الحكومة، مقابل تعهد الحكومة ببقاء القوات المسلحة بيد رئيس الجمهورية وعدم التلكؤ في توفير الموازنة المالية الخاصة بتلك المؤسسة.
  4. تطوير الحكم المحلي القائم إلى حكم محلي واسع الصلاحيات، أو إلى حكم فيدرالي، بهدف إرضاء إخواننا في المحافظات الجنوبية إن هم أصروا على ذلك.

وبحسب اعتقادي، فإن هناك فرصة للوصول إلى هذه النتيجة في نهاية المطاف سواءً عبر مبادرة للحل من داخل النظام، ومن رأس الدولة تحديداً، أو عبر مفاوضات بين النظام وبين معارضيه.


وأرى أن الرئاسة ما زالت تراهن على سياستها القائمة اليوم، والمتمثلة في زرع الشقاق بين أوساط مكونات الحراك بهدف إضعافه، والقائمة أيضا على الرهان على عامل الزمن، الذي ترى الرئاسة أن إطالته سيزرع اليأس في أوساط المطالبين بالانفصال.


ولن تنجح السلطة في هذه الرهانات، فطالما الأزمة قائمة فإن الاضطرابات ستظل محتدمة وقابلة للانفجار في أي وقت حتى وإن تمكنت السلطة عبر وسائلها هذه من إضعافها أو إيقافها لبعض الوقت.


وأخيراً أعتقد أن مجمل هذه الحلول إن طبقت، ستكون مرضية لكل من أبناء المحافظات الجنوبية والشمالية، ولكل من النظام ومعارضيه، وستؤدي إلى سحب البساط من تحت أقدام القيادات الانفصالية، وتبعد شبح المخاوف الدولية والإقليمية من إمكانية انزلاق اليمن إلى وضع الفوضى والاحتراب.


وهناك فرص جيدة لتجاوز الأزمة، إذا ما تكاثفت الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية لوضع تلك الحلول موضع التنفيذ الفعلي، وحمل الفرقاء على القبول بها، إن إمكانيات النجاح تظل قائمة، ولكن المسألة في نهاية المطاف مرهونة بما يمكن عمله لا بمجرد ما يتم قوله.
_______________
باحث يمني