يعتبر "المفهوم الإستراتيجي الجديد" في أدبيات الناتو المختصر الرسمي لعقيدته الأمنية، وهو يعد في الواقع المرجعية الثانية بعد معاهدة واشنطن. وقد تم اعتماد أول وثيقة من هذا النوع خلال الحرب الباردة سنة 1949، وكانت تركز على الدفاع المشترك من حيث بناء القدرة العسكرية لإحداث التوازن الإستراتيجي مع حلف وارسو، فانتصر الحلف الأطلسي في هذه الحرب وأسهم في انهيار الإتحاد السوفيتي وانتهاء الشيوعية دون إطلاق رصاصة واحدة.
من الدفاع إلى الأمن
المعادلة المعاصرة
إستراتيجية الأمن عبر الشراكة
رؤية دول الخليج للتعاون مع الحلف الأطلسي
آفـــاق وتـحـديــات
بعد نهاية الحرب الباردة دخل الحلف في متاهات البحث عن هوية جديدة تبرر سبب وجوده حتى بعد اختفاء عدوه التقليدي الذي تأسس من أجله، فحرص على اعتماد مفهوم استراتيجي جديد سنة 1991 خلال قمة روما، تم تحيينه فيما بعد خلال قمة واشنطن سنة 1999.
وتعتبر قمة برشلونة، التي ستنعقد يومي 19 و 20 نوفمبر المقبل/ تشرين الثاني، المحطة الثالثة في مسلسل مراجعة التوجهات السياسية والأمنية التي تحدد عمل الناتو، إذ ستتم المصادقة على وثيقة "المفهوم الإستراتيجي الجديد" الذي حضرت أسسه السياسية والعسكرية لجنة الخبراء برئاسة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت.
وباختصار شديد، لقد تحول الناتو من منظمة تهتم فقط بالدفاع المشترك – ضمن المجال الجغرافي الذي يحدده الفصل الخامس من معاهدة واشنطن- إلى منظمة تعطي اهتماما متزايدا لقضايا الأمن الجماعي، حيث يشارك في تدبير الأزمات وعمليات حفظ السلام، ويطور علاقات شراكة مع عدد من الدول غير الأعضاء.
وضمن هذا الإطار يعتبر الحوار المتوسطي، الذي يعود إلى سنة 1994 والذي يشمل إسرائيل وستة دول عربية (المغرب، الجزائر، تونس، موريتانيا، مصر والأردن)، ومبادرة اسطنبول لسنة 2004 التي تشارك فيها أربعة دول خليجية (قطر، الكويت، الإمارات العربية المتحدة والبحرين)، من أهم مظاهر الإستراتيجية الجديدة التي يطلق عليها الحلف "الأمن عبر التعاون والشراكة".
والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هو: كيف يمكن فهم مضمون هذا "المفهوم الإستراتيجي الجديد" من خلال ملامح التوجه الأطلسي نحو المنطقة العربية عموما والخليجية خصوصا؟ إلى أي حد يمتلك الناتو رؤية واضحة حول أمن الخليج؟ هل يشكل التعاون مع هذا الحلف قيمة مضافة بالنسبة لدول هذه المنطقة؟ وما هي حدود وآفاق هذه العلاقة؟
1- المعادلة المعاصرة: الأمن العسكري+ الأمن غير العسكري = الأمن الشامل
تحول الناتو من حلف يرعى الحدود وفق نظام محدد للدفاع المشترك إلى حلف ينظر إلى خارج الحدود الجغرافية لأعضائه حيث تكمن الأخطار الصاعدة التي لها تأثير مباشر على مصالحه |
فالحلف الأطلسي الذي يمتلك استعمال كل مقومات القوة العسكرية لا يواجه تهديدا من النوع الذي من شأنه أن يعصف بالسيادة والوحدة الترابية لأعضائه. ولهذا شهد الناتو هذا التحول الوظيفي من حلف يرعى الحدود وفق نظام محدد للدفاع المشترك إلى حلف ينظر إلى خارج الحدود الجغرافية لأعضائه حيث تكمن الأخطار الصاعدة التي لها تأثير مباشر على مصالحه. وهذه الرؤية تجد تطبيقاتها في علاقة الناتو بدول الخليج ودول جنوب المتوسط من خلال الاعتبارات التالية:
1-1 مصادر التهديد
أدرك الناتو أن أغلب مصادر تهديد استقرار أعضائه تأتي من المنطقة الجنوبية للمتوسط ومن الشرق الأوسط بما فيه الخليج. فنحن هنا أمام فكرة التهديد التي لم تختفي رغم اختفاء الإتحاد الاتحاد السوفيتي. الجديد في الأمر هو أن الناتو قد استبدل العدو الشيوعي الواضح للعيان بعدو آخر يصفه ب "الأخطار الجديدة" التي توجد بهذه المنطقة، والتي تضمر في حقيقة الأمر استمرار الصراع الإيديولوجي في صيغة مختلفة تتخذ من حركات الإسلام الجهادي والأنظمة التي تتبنى إيديولوجيات إسلامية عدوا بديلا. فمنذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، كيّف الناتو إستراتيجيته العسكرية لمحاربة ما يسمى ب"الإرهاب الإسلامي" وما يستدعيه ذلك من تقديم الدعم الأمني وتبادل المعلومات الإستخباراتية في شراكة مع دول المنطقة. وضمن هذا النسق الإيديولوجي يبرر معركته ضد الطالبان وتنظيم القاعدة بأفغانستان، وكذلك العملية البحرية المسماة Endeavour بالمتوسط، إلى جانب امتداد تنظيم القاعدة باليمن ومنطقة الساحل والصحراء التي تندرج ضمن انشغالات الناتو. ولهذا أقترح لفهم علاقة الناتو بدول هذه المنطقة، خاصة الخليجية، أن نربطه بما أسميه "انتشار الأخطار الجديدة"، وهذا معناه أن الحلف الأطلسي لازال يخدم نفس الأهداف لكن بفلسفة وأساليب مغايرة عن تلك التي اعتمدها في زمن الحرب الباردة، أخذا بعين الاعتبار أن كل حلف عسكري وكل سياسة دفاعية تسعى إلى القضاء على مصادر التهديد أو التقليل منها.
1-2 خدمة المصالح الاقتصادية والإستراتيجية
ينطلق المفهوم الإستراتيجي الجديد من أن التعاون مع الدول غير الأعضاء ينسجم مع روح الفصل الرابع من معاهدة واشنطن الذي يدعو إلى إجراء كل المشاورات الضرورية التي تخدم بالأساس المصالح الاقتصادية والإستراتيجية لدول الحلف. فللحلف مصلحة مباشرة في ربط علاقات جديدة مع دول منطقة الخليج التي تعتبر أكبر مخزون للنفط في العالم. بعبارة أخرى، تدخل هذه العلاقة في إطار الآليات التي يعتمدها الحلف لتأمين احتياجاته من النفط والغاز من منطقة الخليج التي تعيش اضطرابات سياسية إقليمية تؤثر بشكل كبير على سلامة الإمدادات وعلى تقلبات سعر البترول. والناتو كأداة أمنية وعسكرية يعتبر نفسه مفيدا في علاقاته مع هذه الدول لتقديم المساعدة بهدف حماية البنية التحتية المرتبطة بالصناعة البترولية وكذا مراقبة الممرات البحرية وربما حتى التدخل العسكري إذا اقتضت الضرورة. وهذا الدور يعتبر بطبيعة الحال مكملا للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة بمعنى أنه جزء من الإستراتيجيات الأمريكية في الشرق الأوسط. ويمكن أن نستشف الأهمية التي أضحى يعطيها الحلف للأمن الطاقوي (وعلى رأسها ندرة الطاقة والماء) من خلال تعزيز بنيته التنظيمية بقسم خاص يطلق عليه: "مديرية التحديات الأمنية الصاعدة". فهذا الجانب من التوجه نحو الخليج والشرق الأوسط عموما مبعثه التفكير في صياغة جماعية للخريطة الإقليمية توفر للحلف الأطلسي قواعد جديدة لتدبير هذه التحديات.
1-3 الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل
يوصي تقرير أولبرايت حول "المفهوم الإستراتيجي الجديد" بإعطاء أهمية قصوى للأنشطة المرتبطة بهذا النوع من الأسلحة خاصة بمنطقة الشرق الأوسط. فالحلف الأطلسي يرى أن البرنامج النووي الإيراني يثير الشكوك ويغير من موازين القوى الإقليمية والدولية ويعرض معاهدة عدم الانتشار النووي – التي دخلت حيز التنفيذ سنة 1970- للخطر. ومن شأن كل هذه الانعكاسات أن تضعف الأمن الأطلسي، الأمر الذي يستوجب أهمية تدخل الناتو لممارسة دور تفعيل الرقابة الدولية على تلك الأسلحة ونزعها. لكن هذا التوجه الأطلسي يشكل تحديا جديدا أمام إيران من جهة، ويفرض على دول الخليج إعادة ترتيب تحالفاتها الأمنية من جهة أخرى. كما أن الناتو يأخذ بالاعتبار المعطيات الجديدة التي أوجدتها حرب الخليج الثالثة التي جعلت من إيران أكثر الأطراف الإقليمية استفادة من هذا الوضع، حيث أنها أنهت التهديد العراقي وأخرجته من معادلة التوازن الإقليمي، لكنها في المقابل أفرزت وضعا داخليا مضطربا بالعراق يعرض دول الخليج لعدد من المشاكل الإقليمية (مشكلة اللاجئين العراقيين، مشكلة مراقبة الحدود لمنع تسرب العناصر "الإرهابية"...).
1-4 استمرار النزاع العربي الإسرائيلي
حول هذا الموضوع يرى تقرير أولبرايت بأن السلام بالمنطقة يعتبر شيئا أساسيا سيمهد لدور أكبر للحلف الأطلسي في قيادة تشكيل قوة السلام الدولية التي من شأنها المساهمة في مراقبة الاتفاقيات المبرمة فيما يتعلق بإنشاء الدولة الفلسطينية، وهذا جزء من الإستراتيجية الأمريكية التي تريد أن تسند إلى الناتو مهمة مراقبة حدود الدوليتين. ومن جهتها، رحبت السلطة الفلسطينية بهذا الدور، فيما اعتبرت إسرائيل أن الناتو هو أكثر كفاءة لحماية حدودها. أما الناتو، فإنه لا يستبعد هذا الأمر لحل هذا النزاع، لكن وفق شروط أساسية ثلاثة: في حالة وجود اتفاق فلسطيني إسرائيلي، في حالة وجود طلب تتقدم به الأطراف المعنية تدعو فيه إلى تدخل الحلف، ثم في حالة وجود قرار من مجلس الأمن. وهذه الشروط تبرز أن الناتو يحصر دوره في ما بعد النزاع، ولا يطمح في أن يلعب دورا سياسيا في عملية تسهيل المفاوضات أو ممارسة نوع من الضغط للدفع بالأطراف إلى التوافق حول قضايا الحل النهائي. فالحلفاء يرون بأن الإطار المناسب لحل هذا النزاع هو الأمم المتحدة، ولا يريدون لمنظمتهم أن تكون بديلا أو منافسا للدور الأممي.
2- إستراتيجية الأمن عبر الشراكة: مبادرة اسطنبول نموذجا
إذا كانت مبادرة اسطنبول تسعى إلى تعزيز الإصلاحات العسكرية بالخليج وتقديم المساعدة فيما يتعلق بدمقرطة قطاع الدفاع، فإن الانضمام إليها غير مبني على مبدأ الشرطية الديمقراطية . |
2-1 التعاون بعيدا عن منطق الهيمنة
وتدخل مبادرة اسطنبول الموجهة نحو دول الخليج ضمن هذه الرؤية. فهي تتضمن تعزيز الروابط العسكرية بهدف تقوية القدرات العسكرية لهذه الدول، حتى لا ينظر إليها على أنها نوع من الإمبريالية الجديدة بحكم الصورة السلبية لحلف الناتو لدى قطاع واسع من الرأي العام العربي والإسلامي، وارتباط هذه الصورة بالسياسات الأمريكية في المنطقة. كما أنها تشدد على أن الناتو لا يحاول "فرض أي شيء على أحد". فمضمون الخطاب في هذه المبادرة يقوم على وضع ترتيبات أمنية مبنية على الاحترام والمصالح المتبادلة بعيدا عن منطق فرض الهيمنة. كما أن هذا الخطاب يدافع على أن هذه المبادرة مستقلة وتم تبنيها من قبل رؤساء دول وحكومات دول الناتو، وليست مشروعا أمريكيا أو رديفا لما يسمى بمبادرة الشرق الأوسط الكبير التي طرحتها الإدارة الأمريكية سنة 2003 لتعزيز الديمقراطية بهذه المنطقة. فإذا كانت هذه المبادرة تسعى إلى تعزيز الإصلاحات العسكرية بالخليج وتقديم المساعدة فيما يتعلق بدمقرطة قطاع الدفاع، فإن الانضمام إليها غير مبني على مبدأ الشرطية الديمقراطية .
2-2 تقديم الخدمات ذات القيمة المضافة
من جهة أخرى، فإن مبادرة اسطنبول تعتبر مكملة وليست بديلا للاتفاقيات الأمنية التي وقعتها دول الخليج مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وغيرها من دول الحلف الأطلسي. فالناتو يسعى من خلالها إلى تقديم خدمات في المجالات التي يمتلك فيها قيمة مضافة كالتدريب المتخصص في مجالات الدفاع المدني والتدريب في مجال إعداد الكوادر العسكرية وأمن الحدود ومحاربة عمليات التهريب والتنسيق في مجال الأنشطة الإستخباراتية وتقوية ملكات التقارب العملياتي للقوات العسكرية لدول الخليج وغيرها من المجالات التي تنوي تطوير التعاون فيها.
2-3 استبعاد الدفاع المشترك
تدخل مبادرة اسطنبول، من الناحية القانونية، في إطار الفصل الرابع من معاهدة واشنطن لسنة 1949 المؤسسة للحلف الأطلسي وليس ضمن الفصل الخامس المرتبط بالدفاع المشترك. فهي لا تؤسس لإطار رسمي بين الناتو ودول الخليج ولا تلزم الحلف بالتدخل العسكري في حالة تعرض هذه الدول لاعتداء خارجي على سياستها ووحدتها الترابية. ولهذا السبب تتهم النخب الخليجية الناتو بعدم وضوح رؤيته. وهنا يجب التمييز بين المبادرة كإطار للتعاون وتقديم المساعدة لا غير، أي دون أن يكون الهدف من ورائها إعداد هذه الدول لتصبح أعضاء في المنظمة كما هو الشأن بالنسبة لعدد من دول أوربا الشرقية، وبين مضمون المعاهدة المؤسسة للحلف الذي يركز على أن الردع والدفاع المشترك يشمل فقط أراضي الدول الأعضاء. كما أن الفصل العاشر من هذه المعاهدة ينص على أن كل دولة أوربية يمكن لها أن تنظم إلى الحلف. فهناك إذن محدد الجغرافيا (وهو ما يذكرنا برفض الإتحاد الأوربي طلب انضمام المغرب إليه سنة 1987 تماشيا مع الفصل التمهيدي لمعاهدة روما). فالشركاء الخليجيون، والشركاء المنخرطون في الحوار المتوسطي لا يمكنهم أن يصبحوا أعضاء إلا إذا تم تعديل معاهدة الحلف الأطلسي. وهذا غير ممكن لأن الحلف لا يقدم نفسه على أساس أنه حلف عسكري وسياسي فقط، ولكن على أنه أيضا مجموعة أمنية تشترك في رزنامة من القيم السياسية والثقافية.
3- رؤية دول الخليج للتعاون مع الحلف الأطلسي
رؤية مختلف أعضاء مجلس التعاون الخليجي ليست واحدة، فالدول التي تنتمي إلى مبادرة اسطنبول لم تتجاوز الأربع دول وهي (قطر، الإمارات، الكويت والبحرين)، في حين تظل العربية السعودية وسلطنة عمان خارجها |
أعتقد أنه يجب التمييز بين الرؤية السلبية السائدة حول الناتو لدى الرأي العام العربي والإسلامي، لاسيما وأن ما يحدث في أفغانستان يغذي النظرة إليه على أنه آلة عسكرية لقتل المدنيين، وأنه جزء من الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وبين النظرة الإيجابية للناتو من قبل النخب الحاكمة، حيث استطاع الحلف الأطلسي منذ انطلاق مبادرة اسطنبول سنة 2004 تبديد تخوفات هذه النخب بزعمه أنه لا يبحث عن عدو جديد. فهذه النخب تستوعب جيدا التحديات التي شهدها هذا الحلف ومضمون "مفهومه الإستراتيجي الجديد"، لكنها لا تعتبره الإطار الأنسب أو الوحيد لخدمة الأمن الخليجي، ومن هنا تكون الاستفادة من مؤهلاته وتجاربه تكملة للسياسات الأمنية التي تعتمدها هذه الدول، خاصة وأن أمن الخليج يواجه العديد من المشكلات التي تتمثل في صعوبة إيجاد توازن في علاقات القوى الإقليمية.
غير أن هذه الرؤية ليست موحدة ومتجانسة بين مختلف أعضاء مجلس التعاون الخليجي، فالدول التي تنتمي إلى مبادرة اسطنبول لم تتجاوز الأربع دول وهي (قطر، الإمارات، الكويت والبحرين)، في حين تظل العربية السعودية وسلطنة عمان خارجها، وهما الدولتان اللتان تشكلان أكبر ثقل استراتيجي في مجلس التعاون الخليجي سواء من الناحية الجغرافية أو البشرية أو العسكرية. وغياب هاتين الدولتين يؤثر على مسيرة تطور العلاقة بين الناتو ودول الخليج، فعلى سبيل المثال، تمتلك هاتين الدولتين 70% من القدرات الدفاعية لمجلس التعاون الخليجي، وتعتبر قواتهم المسلحة الأكثر تدريبا وخبرة في الخليج العربي. فالعربية السعودية لا ترى حاجة ماسة للانضمام إلى هذه المبادرة، ما دام أن ما تقدمه من خدمات أمنية ودفاعية يمكن أن تحصل عليها في إطار اتفاقياتها الأمنية الثنائية مع بعض أعضاء الناتو وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية وليس بالضرورة مع منظمة الناتو. وهذا الرفض يظهر العربية السعودية على أنها دولة ذات سيادة تمتلك كل المقومات للدفاع عن سيادتها. أما بالنسبة لسلطنة عمان فيمكن تفسير موقفها بالرغبة في عدم إزعاج أو إثارة البلبلة مع إيران التي تربطها معها علاقات تاريخية تقليدية، خاصة وأنهما يشتركان في مراقبة مضيق هرمز. وهنا تجب الإشارة إلى أن إيران تنظر بعين الريبة والحذر إلى التمدد الأطلسي في المنطقة لأن وجود الناتو في أفغانستان والعراق ودول آسيا الوسطى وعلاقاته بدول الخليج يساهم بالتأكيد في تضييق الخناق عليها.
ويدل هذا الموقف من الحلف الأطلسي على غياب الانسجام داخل مجلس التعاون الخليجي من المبادرات الخارجية التي تستهدف الأمن الخليجي، ربما لكثرتها، خاصة على ضوء المعطيات الأمنية التي أوجدتها حرب الخليج الثالثة. فعلى مستوى التشخيص، هناك تقارب كبير فيما يتعلق بمصادر التهديد. فكل هذه الدول تتفق على أن هناك خللا في التوازن لصالح إيران، وأن التهديد العراقي لم يعد ينبع من نظام حكمه بل من انهيار الدولة ذاتها التي أضحت مثالا لما يسمى "الدولة العاجزة"، وأن مخاطر سقوط اليمن في الفوضى ستكون لها انعكاسات سلبية على الدول الخليجية الأخرى؛ فالدول الخليجية التي تعتبر نفسها صغيرة ومحاطة بدول كبيرة تعتبر العلاقة مع الحلف الأطلسي جزءا من الإجراءات التي تضمن سلامتها وأمنها الداخلي في حين تفضل دول أخرى عدم التسرع ما دام الناتو لا يقدم ضمانات الدفاع المشترك.
اتساقا مع كل ما سبق ذكره، يمكن أن نقول أن تطبيقات مضمون "المفهوم الإستراتيجي الجديد" لحلف الناتو على التعاون مع دول الخليج من خلال مبادرة اسطنبول لم تتمخض عنه نتائج مهمة فيما يتعلق بمعادلة الأمن الإقليمي. صحيح أن هذه المبادرة، رغم حداثتها، قد أثبتت نجاحها على مستوى العلاقات العامة وتبديد التخوفات لدى النخب الحاكمة بشأن أهداف الناتو، لكنها تبقى أسيرة التعاون الأمني ولا ترقى إلى تعاون استراتيجي حقيقي وعميق. ولهذا فإن دخول الناتو في تفاعلات الأمن الخليجي لا يمكن أن يكون له أثر بعيد المدى، رغم وجود اعتقاد بأن الناتو وهذه الدول تواجه تهديدات مشتركة، كالتصدي للإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل والاتجار بالبشر والأسلحة والمخدرات؛ فما يمكن أن يفعله الحلف هو أن يقدم المساعدة في عدد من المجالات الأمنية والعسكرية، وهو أمر مهم للاستفادة من خبرة الناتو.
غير أن في نهاية المطاف، يبقى أمن الخليج من مسؤولية دوله ومواطنيه. بعبارة أخرى، التوجه نحو الناتو يمكن أن يكون خيارا مساعدا ومناسبا على المدى القريب، لكن الخيار الإستراتيجي والحتمي على المدى البعيد هو أن تتمكن تلك الدول من التحول الذاتي إلى مفهوم القوة الموازية. فدول الخليج لن تكون لها كلمة مسموعة، ولن يكون لها دور حقيقي على الساحة الدولية إلا إذا تكلمت بصوت واحد وفق استراتيجيات موحدة ومشتركة.
وهذا يتطلب تعميق الحوار الخليجي بين النخب الحاكمة لتحقيق التوافق السياسي وإيجاد حلول لتضارب المصالح، وأن يكون الهدف من هذا الحوار هو بناء مشروع سياسي محدد الأبعاد لا ينشغل فقط ببناء الدولة القطرية والحفاظ على سيادتها، ولكن يجعل من ركيزته بناء أمن ودفاع خليجي مشترك. وأما الاعتماد على توفير الحماية من خلال استضافة قوات أجنبية أطلسية أو أمريكية فإنه يحول دون حصول هذا التطور. فالأجدى لدول الخليج أن تتجه إلى تسريع بناء القدرات الخليجية، وذلك ببناء صناعات دفاعية محلية للحد من الاستمرار في الاعتماد على الآخر في التسلح، أخذا بعين الاعتبار أن هذا الاعتماد يعتبر جد مكلف من الناحية السياسية والمالية. فكما أن إيران نجحت في بناء صناعة عسكرية بقيمة مضافة محلية، ونجح العراق في وقت من الأوقات في نهج هذا الخيار، يمكن لدول الخليج بفضل توفرها على السيولة المالية أن تؤسس لصناعة محلية في هذا المجال تكون دعامة لتطورها الاقتصادي ، وأن يترافق هذا بتطوير نظمها الإستخباراتية.
أما من ناحية التهديد الإيراني، فإن الاصطفاف ضد إيران لا يؤدي إلا إلى توسيع دائرة التهديد، وربما تغذية الكراهية بدلا من اعتماد رؤية شمولية لتدبير النزاعات تقوم أساسا على تخفيف التوتر وتعزيز بناء إجراءات الثقة. ولهذا السبب فإن احتواء إيران يعتبر أقل تكلفة من الدخول في صراع إقليمي دولي تكون دول الخليج أطرافا فيه، وستكون في مقدمة من يتحمل تبعاته المالية والبشرية وعلى مجالها الترابي.
ـــــــــــــــ
*متخصص في شؤون الحلف الأطلسي و السياسات الدفاعية والأمنية بالعالم العربي .