تداعيات التقارب الروسي الأميركي على النووي الإيراني

السياسة الأميركية تجاه الملف النووي الإيراني لا يمكن وصفها إلا بسياسة التصعيد، وهذا التصعيد الذي بات يجد تأييداً من روسيا سيكون القصد منه إنهاك إيران.







 

بشير نافع


ثمة عدد من التطورات التي تشير إلى أن الملف النووي الإيراني لم يسقط من أولويات السياسة الأميركية، ومن أجندة السياسة الدولية التي تقودها واشنطن. إن كان هناك من تغيير يمكن رصده، فالواضح أن الملف النووي الإيراني شهد تصعيداً ملموساً خلال الشهرين الماضيين. الأسوأ من وجهة النظر الإيرانية كان التحول الصريح في الموقف الروسي من هذا الملف. ما هي دوافع ومبررات هذا التحول؟ وما علاقة ذلك بالخيار العسكري للتعامل مع الملف النووي الإيراني في حال لجأت الولايات المتحدة أو إسرائيل إليه؟


قرار العقوبات الدولي 1929: الأثقل والأشمل
دوافع ومبررات تغير الموقف الروسي
تصعيد العقوبات لإنهاك إيران


قرار العقوبات الدولي 1929: الأثقل والأشمل 


بعد مفاوضات طويلة بين الدول دائمة العضوية في مجلس أمن الأمم المتحدة، أصدر المجلس في 9 يونيو/ حزيران قراره 1929 الذي تضمن عقوبات جديدة على إيران. وبالرغم من أن هذا ليس قرار العقوبات الأول في هذا الشأن، وأن إيران تخضع لهذا المستوى أو ذاك من العقوبات منذ ولادة نظام الجمهورية الإسلامية، إلا أن القرار 1929 يعتبر الأكثر شمولاً والأثقل وطأة. لكن دولة قارية مثل إيران، تحتفظ بحدود طويلة مع عدد كبير من الدول، بعضها لا يتمتع باستقرار كبير، لا يمكن إخضاعها بحزمة عقوبات دولية. هذا لا يعني أن هذه العقوبات لن تكون بلا أثر، لاسيما في المجالات المالية والتجارية – الاقتصادية، ومجال الصناعة النفطية، الذي تسعى إيران منذ سنوات لجذب شركات نفط عالمية لتطويره.





دولة قارية مثل إيران، تحتفظ بحدود طويلة مع عدد كبير من الدول، بعضها لا يتمتع باستقرار كبير، لا يمكن إخضاعها بحزمة عقوبات دولية. هذا لا يعني أن هذه العقوبات لن تكون بلا أثر، لاسيما في المجالات المالية والتجارية – الاقتصادية، ومجال الصناعة النفطية.
بيد أن القرار الدولي حمل لإيران مؤشرات سياسية سلبية إضافية، لم تكن في الحسبان. فمنذ بدأت الولايات المتحدة تعد لقرار عقوبات دولية جديدة، بنت القيادة الإيرانية حساباتها على أن المعارضة الروسية والصينية لمثل هذه العقوبات ستجهض المخطط الأميركي. وقد شهدت الأسابيع القليلة السابقة لصدور القرار 1929 نشاطاً إيرانياً دبلوماسياً ملحوظاً تجاه موسكو وبيجين. ولكن المفاجأة كانت في تصويت كل من روسيا والصين لصالح مشروع القرار الأميركي، بعد جهود متواضعة من دبلوماسية البلدين لتخفيف وطأة العقوبات المقترحة على الشعب الإيراني.

لم تعارض القرار سوى تركيا والبرازيل، اللتين كانتا قد توصلتا إلى اتفاق مع إيران حول مبادلة اليورانيوم منخفض التخصيب بيورانيوم أعلى تخصيباً على الأرض التركية وبضمان برازيلي. وبالرغم من أن تركيا لم تنشط في حقل الوساطة مع إيران إلا بعد أن تيقنت من موافقة واشنطن، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها أداروا ظهرهم للاتفاق التركي – البرازيلي – الإيراني، معتبرين إياه غير كاف لحل الأزمة، أو أنه مجرد وسيلة لتوفير طوق نجاة للإيرانيين. وليس ثمة شك أن هذا الموقف الأميركي من اتفاق التبادل كان المؤشر الأول على أن إدارة الرئيس باراك أوباما تتجه نحو التصعيد مع إيران، وأن موقفها من الملف النووي الإيراني لن يكون أقل تشددا من موقف إدارة بوش.


وفي لغة اعتذار ملتوية، قال مسئولون روس أن العقوبات الجديدة لن يكون لها أثر يذكر على إيران، ودعوا إلى استئناف المفاوضات بين الدول الغربية والولايات المتحدة مع إيران. ولكن خلال أسبوع واحد فقط على صدور القرار 1929 في (17 يونيو/ حزيران)، كانت إدارة أوباما تصدر، بصورة منفردة، قراراً بفرض عقوبات إضافية، تطال هذه المرة البنك المركزي الإيراني وعدداً من الشركات والمؤسسات الإيرانية الهامة الأخرى. في اليوم نفسه، أعلن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي عن اتفاقهم على تطبيق عقوبات مشابهة، تقرها القمة الأوروبية القادمة. فأعربت موسكو عن قلقها من الإجراءات الأميركية – الأوروبية الانفرادية، وادّعت أن هذه الإجراءات تخالف ما اتفق عليه ضمناً حول عدم تطبيق عقوبات إضافية لتلك التي تضمنها القرار 1929 بدون توافق الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. ولكن التصريحات الروسية كانت أقرب إلى العتب الدبلوماسي منها إلى التهديد بموقف جديد.


دوافع ومبررات تغير الموقف الروسي 


مشكلة إيران مع السياسة الروسية أكبر منها مع السياسة الصينية. فبالرغم من أن طهران كانت تأمل في معارضة بيجين لمشروع قرار العقوبات، إلا أن الإيرانيين كانوا يعرفون أن الصين لن تلجأ في النهاية إلى مواجهة المشروع الأميركي؛ فسجل السياسة الصينية الخارجية يشير بوضوح إلى أن الصين لا تنتهج سياسة صدام مع الولايات المتحدة إلا إذا مست السياسة الأميركية مصالح صينية مباشرة في الجوار الصيني الجيوبوليتيكي. أما روسيا فهي حالة مختلفة؛ ليس فقط لحجم العلاقات التي تربطها مع إيران في كافة المجالات، ولكن أيضاً لأن روسيا أظهرت ميلاً مطرداً منذ الأزمة الجورجية لتوكيد الذات واستعادة الموقع والدور الاستراتيجيين، إقليمياً ودولياً.


بيد أن الأدلة على تغير الموقف الروسي من الملف النووي الإيراني سرعان ما تواترت. ففي كلمة ألقاها الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، يوم 13 يوليو/ تموز، أمام تجمع سفراء بلاده في الخارج، قال: "إننا نحتاج إلى تحالفات خاصة كي نواكب العصر، أولاً مع ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي بشكل عام، ومع الولايات المتحدة." وبموازاة ذلك، أشار الرئيس الروسي إلى أن إيران "تقترب من امتلاك تقنيات يمكن استخدامها لصناعة أسلحة نووية"، مطالباً المجتمع الدولي بالتعامل مع الملف النووي الإيراني بجدية، ومن دون اللجوء إلى حلول انتقائية وسهلة. وأوضح ميدفيديف أن السعي إلى امتلاك قدرات نووية ليس محرماً في حد ذاته بحسب معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي، لكن القدرة على تطوير السلاح النووي لا بد أن تثير القلق، داعياً في الوقت ذاته إلى ضرورة "عدم التسرع في اتخاذ خطوات أحادية الجانب"، وأضاف أن الحديث يدور عن الفارق بين امتلاك قدرات تسمح بها المعاهدات الدولية، وتطوير السلاح النووي بالاعتماد على هذه القدرات، باعتباره أحد "المشكلات التي أحاطت بالملف الإيراني". وتطرق ميدفيديف إلى العقوبات، معتبراً أنها "لا تؤدي إلى النتائج المطلوبة منها". كما انتقد إيران، ووصفها بأنها "تتصرف بطريقة غير مناسبة"، وجدد الدعوة إلى الإيرانيين للانفتاح والتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وأشار ميدفيديف إلى أن الهدف الأساس من قرار العقوبات الأخير كان "التوصل في أسرع وقت ممكن إلى إحياء مسار المفاوضات"، محذراً من أن تفويت الدبلوماسية لهذه الفرصة سيكون فشلاً جماعياً. وبعد أيام قليلة، عاد ميدفيديف إلى استخدام اللغة ذاتها خلال مؤتمر صحفي جمعه والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.


المهم في هذا الموقف ليس فقط أنه يأتي عقب التصويت الروسي المفاجئ على مشروع قرار العقوبات الأميركي، بل وتراجعه أيضاً عن تأكيدات عسكرية وسياسة روسية سابقة، ومتكررة، على أن إيران لا تمتلك قدرات لتطوير سلاح نووي في المدى المنظور. وكأن تصريحات ميدفيديف الجديدة تظهر التقارب المطرد بين الموقفين الروسي والأميركي تجاه تقدير طبيعة الملف النووي الإيراني، وحول ضرورة اتخاذ القوى الدولية إجراءات كافية لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، بدون أن يكون واضحاً المدى الذي يمكن أن يكون التوافق الروسي – الأميركي قد وصله حول طبيعة هذه الإجراءات.


ثمة عدد من الدوافع خلف الانقلاب المفاجئ في الموقف الروسي من الملف النووي الإيراني:






  • المفاجأة كانت في تصويت كل من روسيا والصين لصالح مشروع القرار الأميركي بفرض عقوبات جديدة على إيران، بعد جهود متواضعة من دبلوماسية البلدين لتخفيف وطأة العقوبات المقترحة على الشعب الإيراني.
    أولها
    ، أن أولوية السياسة الروسية الخارجية لم تزل تدور حول ما يعرف بـ "الخارج القريب"، أي محيط روسيا الأوروبي والآسيوي الذي فقدته روسيا بفعل انهيار الكتلة الشيوعية والاتحاد السوفيتي. في هذا المحيط الجيوبوليتيكي الحيوي لروسيا، تجري تدافعات روسيا مع الولايات المتحدة منذ بدأ فلاديمير بوتين إتباع سياسة توكيد الذات الروسية، وهنا أيضاً تجري التوافقات الروسية – الأميركية الرئيسة. بينما كل دوائر الخلاف الجيوبوليتكي الأخرى تعتبر أقل أهمية، ومفتوحة للمساومات.


  • ويتعلق الدافع الثاني بأهداف إعادة بناء روسيا داخليا، حيث بدأت بمرحلة تسلم الدولة والمقربين منها مقاليد الاقتصاد والتجارة، ثم مع تحرير الاقتصاد الروسي من عبء الديون الخارجية الهائلة، وهو الهدف الذي أمكن تحقيقه بفعل الارتفاع الكبير في أسعار النفط. المرحلة الثالثة من وجهة نظر إدارة بوتين – ميدفيديف هي تحديث البنية الصناعية والتقنية الروسية، والتي تتطلب تعاوناً نوعياً من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. والحقيقة أن زيارة ميدفيديف الأخيرة لواشنطن قد تمحورت كلياً حول هذا الملف. فمثل هذا التعاون الأميركي – الأوروبي، بالطبع، يتطلب "حسن نوايا روسية" في ملفات دولية أخرى، ترى واشنطن أن الملف النووي الإيراني أهمها.


  • أما الدافع الثالث فقد يكون تقديره روسيا ومن منظار أوسع يأخذ بعين الاعتبار ما حققته روسيا في مجالها الحيوي، في شرق أوروبا ووسط آسيا والقوقاز خلال سنوات الانشغال الأميركي المنهك بالمغامرات العسكرية في العالم الإسلامي مؤسس على فرضية أنه طالما أن واشنطن تضع الملف الإيراني على رأس جدول أولوياتها العالمية، فما الذي يمنع أن توفر موسكو تسهيلات غير مباشرة تعمل على تورط جديد للولايات المتحدة تكون إيران هذه المرة مسرحا له؟

تصعيد العقوبات لإنهاك إيران 


ليس ثمة ما يشير إلى أن واشنطن ستوجه ضربة عسكرية لإيران في المدى القريب، أو أنها قد أعطت موافقتها على أن تقوم الدولة العبرية بتوجيه مثل هذه الضربة. ومهما بلغ مستوى الجدل حول المقاربة الأميركية للملف النووي الإيراني، فقرار الحرب في نهاية الأمر، هو قرار الرئيس الأميركي؛ ولم تتوفر شواهد كافية بعد على أنه قد اتخذ مثل هذا القرار. وما تشير إليه الشواهد هو أن خيار الضربة العسكرية لم يطرح جانباً، وأن الموقف الأميركي يتلخص في أنه ما لم تنجح العقوبات في إجبار إيران على الاستجابة للمطالب الأميركية – الأوروبية – الإسرائيلية، فستساهم في إضعاف إيران وتقليل المخاطر المترتبة على الخيار العسكري في النهاية.


إن قررت الإدارة الأميركية توجيه ضربة عسكرية لإيران فثمة تقدير إجماعي تقريباً بأن تأخذ الحرب سمة الضربة الجوية. فبعد تجربتي العراق وأفغانستان لن تجرؤ أية قيادة أميركية على المغامرة بغزو بري، مهما كانت دائرته صغيرة، لدولة مثل إيران. وما يشير إليه عدد محدود من الدلائل على استعدادات أميركية عسكرية في محيط إيران الإقليمي لا يمكن أن تفهم إلا في سياق الاستعداد لضربة جوية محتملة لإيران، ليس لمنشآتها النووية وحسب، بل ولعدد واسع من الأهداف ذات الطابع العسكري الدفاعي.





المؤكد أن السياسة الأميركية تجاه الملف النووي الإيراني لا يمكن وصفها إلا بسياسة التصعيد، وأن هذا التصعيد بات يجد تأييداً من روسيا وهو ما سيكون له تداعياته على هذا الملف المعقد والمتشابك.
تعمل إدارة أوباما على تعزيز المقدرات العسكرية الهجومية في القاعدة الأميركية في جزيرة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي، التي يقدر خبراء عسكريون أنها ستكون القاعدة الأساسية لأية هجمة عسكرية على إيران. وتشير تقارير إلى أن البحرية الأميركية تقيم منشئات قادرة على استقبال غواصات نووية، مجهزة بصواريخ توماهوك التي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية. كل من هذه الغواصات تتمتع بقدرات تعادل قدرات مجموعة جوية هجومية على حاملة للطائرات. كما تم في الجزيرة المذكورة تخزين 387 قنبلة مدمرة للتحصينات تحت الأرض. وكان طلب هذه القذائف قد أقر في عهد إدارة بوش، ولكن إدارة أوباما أمرت بالإسراع بتوفير هذه القذائف، قبل موعد تسليمها المقرر بسنوات. ويقول دان بليش، مدير مركز الدراسات الدولية والدبلوماسية بجامعة لندن، إن إدارة أوباما تجهز لتدمير عشرة آلاف هدف في إيران خلال ساعات قليلة. والحقيقة أن القدرات العسكرية الأميركية الهجومية تضاعفت أربعة مرات منذ غزو العراق في 2003. كما أن تسارع الجهد الإسرائيلي لنصب حائط مضاد للصواريخ على حدودي لبنان وغزة، وتصاعد حدة التوتر السياسي الداخلي المستهدف لحزب الله في لبنان، لا يمكن فهمهما إلا في سياق التحضير لضربة محتملة لإيران.

لكن هذا لا يعني أن ضربة عسكرية أميركية لإيران قد باتت أمرا واقعا لا محالة، فقد لا تقع مثل هذه الضربة مطلقاً على يد واشنطن، إذ قد تتعرض إيران لضربة جوية إسرائيلية وليست أميركية، تمد فيها الولايات المتحدة يد العون للدولة العبرية بشكل خفي. ولكن حتى الضربة الإسرائيلية لا تعد أمراً متيقناً. ثمة مسار سياسي طويل نسبياً، وحسابات سياسية وعسكرية إقليمية ودولية لابد أن تؤخذ في الاعتبار، قبل أن يبدأ العد العكسي لسيناريو الحرب. ولكن المؤكد أن السياسة الأميركية تجاه الملف النووي الإيراني لا يمكن وصفها إلا بسياسة التصعيد، وأن هذا التصعيد بات يجد تأييداً من روسيا وهو ما سيكون له تداعياته على هذا الملف المعقد والمتشابك.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات