انتخابات الكونجرس 2010 ومستقبل السياسة الأمريكية

هزيمة الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس هي بالأساس نتيجة لتخلي أوباما عن أنصاره لكنها لا تعني بالضرورة خسارة أكيدة لمنصبه الرئاسي في الانتخابات المقبلة، وإن كانت تداعياتها ستتمثل في شلل السياسة الأمريكية داخليا وخارجيا.







 

منار الشوربجي


مقدمة
إستراتيجية أوباما المستقبلية
السياسة الخارجية: نحو مزيد من الاستقطاب
خاتمة


مقدمة


"هزيمة ساحقة". تلك كانت الكلمات التي استخدمها الرئيس الأمريكي باراك أوباما لوصف نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وهى الانتخابات التي انتزع فيها الجمهوريون ما يقرب من ستين مقعدا في مجلس النواب وستة مقاعد في مجلس الشيوخ فسيطروا على الأغلبية في الأول وقيدوا حرية حركة الأغلبية الديمقراطية بدرجة أعلى في الثاني. والهزيمة، التي كانت متوقعة منذ شهور عدة، فشلت محاولات اللحظة الأخيرة التي بذلها الديمقراطيون، بل وأوباما نفسه، في تغييرها.


ما الذي جرى بالضبط وأدى لتلك النتيجة؟ وما هي دلالاتها بالنسبة لمستقبل السياسة الأمريكية في الداخل والخارج؟


يسعى هذا التقرير للإجابة عن هذه الأسئلة، وهو في ذلك ينقسم لأجزاء ثلاثة، يتناول أولها السبب وراء تلك النتيجة بينما يتناول الثاني دلالاتها بالنسبة لوجهة الرئيس الأمريكي في العامين المقبلين. أما الجزء الثالث فيتناول تأثير فوز الجمهوريين على السياسة الخارجية الأمريكية.


الانتخابات: ماذا جرى؟





المفارقة هي أن أوباما صاحب الملكات الكارزمية التي ألهمت العالم لحظة الانتخابات عجز عن استخدام تلك الملكات نفسها للتواصل مع الأمريكيين بعد توليه الحكم.
قبل أيام من الانتخابات التشريعية، ظهر أوباما في برنامج جون ستيوارت الشهير في محاولة للتواصل مع ملايين الشباب من عشاق البرنامج. ذكر الإعلامي المعروف شعار حملة أوباما الذي ألهم الشباب: "نعم نستطيع"، ثم سأل الرئيس عما إذا كان اليوم قد صار أكثر واقعية بما يجعله يعدل الشعار ليكون "نعم نستطيع إذا ما توافرت الشروط" فأجاب أوباما: " لا، دعني أقول نعم نستطيع ولكن..." وقبل أن يكمل الرئيس عبارته، انفجر ستيوارت والجمهور ضاحكين. أما أوباما، الذي ظل وجهه يعكس جدية كاملة، فقد أكمل عبارته قائلا:" نعم نستطيع ولكن ليس بين يوم وليلة". كان المشهد في دلالته الرمزية تجسيدا صارخا لما جرى لأوباما ولأمريكا خلال العامين الماضيين. فرغم الفارق الذي لا ينكر بين إدارة حملة انتخابية وإدارة دفة الحكم إلا أن المفارقة هي أن أوباما صاحب الملكات الكارزمية التي ألهمت العالم لحظة الانتخابات عجز عن استخدام تلك الملكات نفسها للتواصل مع الأمريكيين بعد توليه الحكم. فأوباما الذي جاء للحكم محمولا على أكتاف حركة سياسية واسعة لم يفلح في الاحتفاظ بالزخم الشعبي الذي كان يحيط به، فتوارت حركة أوباما وبرزت في محلها حركة أخرى يمينية هذه المرة وظفها خصومه لصالحهم فحملتهم للنصر.

ما الذي حدث بالضبط وكيف يمكن أن تتحول الأمور بهذا الشكل؟


بادئ ذي بدء لابد من الإشارة إلى أن هزيمة الديمقراطيين في انتخابات 2010 لا تعنى النهاية بالنسبة لمستقبل أوباما السياسي. فخسارة حزب الرئيس في انتخابات منتصف المدة هي القاعدة وليس الاستثناء. وتتراوح تلك الخسارة بين فقدان عدد من المقاعد في واحد من المجلسين أو كليهما وبين الطرد الكامل من مقاعد الأغلبية. ففي 1946 ، مني الحزب الديمقراطي بهزيمة مدوية ومع ذلك أعيد انتخاب الرئيس ترومان في 1948. و الشيء نفسه حدث مع كل من فرانكلين روزفلت في الثلاثينات وكلينتون في التسعينات، وكلاهما أعيد انتخابه بأغلبية مريحة. لكن ذلك المستقبل السياسي مرهون بقدرة كل رئيس على قراءة تلك الهزيمة وأسبابها قراءة دقيقة وبناء إستراتيجية ناجحة بعدها تضمن فوزه مرة ثانية. ومن هنا، تصبح مسألة فهم ما جرى بدقة مسألة بالغة الأهمية حتى نستطيع الحكم على أداء الرئيس أوباما في العامين المقبلين.


ورغم كثرة التعليقات التي عنيت بتحليل ما قاله الناخبون في صناديق الاقتراع، فإن القصة الحقيقية لانتخابات الكونجرس الأخيرة ليست قصة ما قاله هؤلاء الناخبون وإنما هي قصة الناخبين الذين لم يذهبوا أصلا لصناديق الاقتراع. فالذين أحجموا عن التصويت هم قصة الفشل الحقيقية لأوباما التي تحكى ما جرى فعلا طوال الفترة التي مضت منذ انتخابه. فالحركة الواسعة التي دعمت أوباما وحملته حملا للبيت الأبيض ضمت قوى وقطاعات عدة، منها قطاع مهم وقف وراءه لتغيير السياسات الكارثية التي انتهجها بوش. لكن قطاعا مهما في هذه الحركة، بمن في ذلك الشباب والمستقلين دعموه من أجل تغيير طريقة صنع السياسة لا تغيير السياسة وحدها، بمعنى تحرير العملية السياسية من أسر جماعات المصالح القوية ومن الفساد المالي والسياسي. وأوباما كان يملك فعلا من المقومات ما يمكنه من أن يتحرك بجرأة سواء فيما يتعلق بنوع السياسات أو ما يتعلق بطريقة صنعها. فهو لحظة توليه كانت بيده مجموعة من الأوراق التي عادة ما تمكن واحدة أو اثنتان منها أي رئيس أمريكي أن يحدث تحولات كبرى. فأوباما تولى الحكم في لحظة أزمة كبرى لبلاده في الداخل والخارج. فهو جاء للحكم وسط كارثة اقتصادية في وقت تحتل فيه بلاده بلدين كبيرين وعلاقات متوترة مع الأصدقاء قبل الأعداء. وجاء للرئاسة محمولا بزخم شعبي هائل وأغلبية مريحة لحزبه في الكونجرس بمجلسيه فضلا عن أغلبية شعبية واضحة تتوق للتغيير. بعبارة أخرى، كانت اللحظة التاريخية التي تولى فيها أوباما وتوافر كل تلك العوامل دفعة واحدة تسمح له-إذا أراد- أن يحدث تحولات كبرى تغير وجه أمريكا مثلما فعل روزفلت في الثلاثينات أو حتى ريغان في الثمانينات. بل أكثر من ذلك، تسلم أوباما منصبه بعد أن كان فريق بوش الابن قد نجح في توسيع صلاحيات مؤسسة الرئاسة على نحو مذهل على حساب المؤسستين التشريعية والقضائية، الأمر الذي يزيد من قدرة الرئيس بالقطع على إحداث تحولات كبرى. كل ذلك كان يسمح لأوباما بأن يحكم كزعيم سياسي يعلو فوق الأحزاب وصراعاتها ويتبنى سياسات جريئة تتناسب مع فداحة الأزمات ويستخدم ملكاته الكارزمية لإقناع الأمريكيين بها. وقد جرب أوباما أن يصارح الأمريكيين ويتحدث إليهم كبالغين وحقق نجاحا باهرا في حملة الرئاسة.





بدلا من أن يتبنى أوباما سياسات جريئة تتناسب مع التفويض الشعبي الواسع إذا به يحكم وكأنه فاز بأغلبية ضئيلة تستلزم البدء من نقطة وسط للتوفيق مع خصومه الجمهوريين.
لكن ما حدث كان مفاجأة. فبدلا من أن يفعل أوباما أيا من ذلك، إذا بالرجل يحيط نفسه بفريق عمل من الوجوه التقليدية، بما يعنى إعادة إنتاج السياسات نفسها بل ويستخدم نفس أساليب صنع السياسة التي يرفضها مناصروه. والمفارقة هي أنه بعد أن هزم هيلارى كلينتون بعد معركة ضارية بفضل تلك الحركة التي رفضت أن تعيد إنتاج إرث كلينتون اختار فريق عمل كان في غالبيته ممن عملوا مع بيل كلينتون. وبدلا من أن يتبنى سياسات جريئة تتناسب مع التفويض الشعبي الواسع إذا به يحكم وكأنه فاز بأغلبية ضئيلة تستلزم البدء من نقطة وسط للتوفيق مع خصومه الجمهوريين. لكن الحزب الجمهوري كان قد أعد العدة منذ اللحظة الأولى لهزيمة أوباما وحرمانه من أي إنجاز. فهم ناصبوه العداء بالمطلق ورفضوا التوفيق معه، فاضطر أوباما لتقديم سلسلة من التنازلات المكلفة، بل وعقد صفقات مع أعتى جماعات المصالح لتمرير أجندته. وقد دفع أوباما ثمنا باهظا لتلك الإستراتيجية البائسة، فهي أحبطت أنصاره بينما لم تلطف مطلقا من موقف خصومه تجاهه. فهدفهم الأول كما قال زعيمهم في مجلس الشيوخ مؤخرا هو "جعل أوباما رئيس مدة واحدة فقط". وطوال العامين اختفت ملكات أوباما الكارزمية، فهو ترك التواصل الجماهيري حتى الشهور الأخيرة قبل الانتخابات لخصومه فقاموا بمهمة تعريف الناس بأجندته نيابة عنه. باختصار خسر أوباما أنصاره ولم يكسب اليمين. وتوارت حركة أوباما وبرزت حركة أخرى، يمينية هذه المرة، هي حركة حفل الشاي. وفى الوقت الذي ازداد فيه الهجوم على الديمقراطيين في الحملة الانتخابية الأخيرة، ظل أوباما حتى اللحظات الأخيرة مصرا على أنه سيستمر يسعى للتوفيق مع الجمهوريين، الأمر الذي سبب مزيدا من الإحباط لأنصاره لأن معناه المزيد من التخلي عنهم. وكانت النتيجة أن انحسرت بشدة في هذه الانتخابات نسبة تصويت من جاءوا بأوباما للحكم من الشباب والأقليات، بينما خسر نصف صوت المرأة وهجرته أصوات المستقلين. بعبارة أخرى، أحجم أنصار أوباما عن التصويت أو هجروه فحسمت أصوات اليمين المعركة لصالح خصومه.

غير أنه ينبغي أيضا القول أن حركة أوباما نفسها أخطأت خطأ فادحا هي الأخرى. فللأمانة فإن الأمل كان منذ اللحظة الأولى في حركة أوباما لا في أوباما نفسه. فالحركة كانت أكثر تقدمية منه بكثير. وكان هذا الأمل معقودا على أن تظل تلك الحركة منظمة بعد توليه الحكم فتمارس عليه ضغوطا تحدث توازنا في الساحة الأمريكية التي صارت منذ عقود تزداد انجرافا نحو اليمين. لكن الحركة انفرط عقدها للأسف بعد توليه الحكم. وبدلا من أن تضغط عليه قام هو بتوظيفها لتمرير أجندته. وكان الخطأ الرئيسي الذي وقعت فيه الحركة هي أن بعض أجنحتها وقواها قدمت الولاء والدعم لأوباما في وجه خصومه على الضغط عليه، بينما اعتبرت قطاعات أخرى أن مهمتها انتهت بفوزه وتوقعت منه أن يتولى هو الباقي دون ضغط مستمر منها، في حين أصاب فريق ثالث الإحباط بسبب المواقف والسياسات التي اتخذها أوباما بعد توليه الحكم وصار الارتباك عنوانا لأدائها. أما أوباما نفسه فنظر للحركة من زاوية توظيفها لدعم أجندته التي لم تكن هي نفسها أجندة الحركة كما سبق القول.


إستراتيجية أوباما المستقبلية 


معنى كل ما سبق أن أزمة أوباما الحقيقية جوهرها تخليه عن مناصريه. لكن هناك من ينصحون الرئيس بالإمعان في التخلي عنهم. فتيار يمين الوسط في الحزب الديمقراطي، والذي ينتمي له الكثير من مستشاري الرئيس والمحيطين به يقرأ الانتخابات قراءة جد مغايرة. وتلك القراءة ترى أن تلك الانتخابات كانت بمثابة استفتاء حول أوباما وسياساته ومثلت رفضا لهما. وتركز هذه القراءة على ما قاله الناخبون في صناديق الاقتراع حين أعطوا أصواتهم للجمهوريين، وتؤكد على أن أوباما فقد أيضا أصوات المستقلين الذين كانوا عاملا أساسيا في فوزه في 2008. فالمستقلون وفق هذه القراءة الذين يؤمنون بأن القطاع الخاص هو القاطرة الرئيسية للنمو الاقتصادي لم يعجبهم تركيز الديمقراطيين على الدور الحكومي عبر برامج إنعاش الاقتصاد وهالهم عجز الموازنة. ومن ثم فإن تلك الانتخابات كانت تعبر عن رغبة في الميل نحو السياسات الاقتصادية اليمينية التي يعبر عنها الجمهوريون والتي تقوم على تخفيض الإنفاق الحكومي وإبقاء العمل بالخفض الضريبي الواسع الذي أرساه بوش الابن فضلا عن اعتبار القطاع الخاص هو العجلة الرئيسية للنمو الاقتصادي. وبناء على هذه القراءة، يصبح المطلوب من أوباما أن ينحو إلى مزيد من اليمين ويستجيب لمطالب الجمهوريين. وهؤلاء ينصحون أوباما – حتى ينقذ مستقبله السياسي- بأن يفعل تماما مثلما فعل كلينتون بعد أن مني حزبه بهزيمة مماثلة في انتخابات 1994 التشريعية. وقتها اختار كلينتون أن يميل أكثر نحو اليمين في سياساته، وبعد عامين رشح نفسه للمرة الثانية وفاز بأغلبية مريحة.





الانتخابات الأخيرة كانت تعبيرا عن غضب إزاء الأوضاع الحالية لا تفضيلا لحزب أو سياسات بعينها.
لكن هناك محاذير كثيرة تتعلق بدقة تلك القراءة وتبعاتها، أولها أن السياسات المالية والاقتصادية اليمينية التي انتهجها كلينتون وقتها ثم كرسها بعده بوش الابن هي نفسها المسئولة عن الكارثة الاقتصادية التي تعانى منها أمريكا حاليا ويسعى أوباما لمواجهتها. وثانيها أن رموز تيار يمين الوسط الديمقراطي قد منيت بهزيمة مدوية في الانتخابات الأخيرة نفسها، فمن بين 54 عضوا، أعيد انتخاب 26 منهم فقط، بما يعنى أن إتباع منهج اليمين الديمقراطي ليس مضمون العواقب بالنسبة لأوباما. لكن الأهم من هذا وذاك هو أنه لا دليل على الإطلاق على أن الناخبين قد أيدوا فعلا أجندة الجمهوريين ولا حتى الحزب نفسه. فعلى سبيل المثال، تشير استطلاعات الرأي إلى أن 37% من الناخبين يعتبرون عجز الموازنة له الأولوية بينما يريد 37% إنفاقا حكوميا من أجل خلق الوظائف وإنعاش الاقتصاد. وفى الوقت الذي انقسم الناخبون بالتساوي بين مؤيد ومعارض لقانون الرعاية الصحية الذي صدر في عهد أوباما فإن شعبية الحزب الجمهوري لا تزيد عن شعبية الحزب الديمقراطي إلا بفارق 1% فقط لصالح الأول، في حين أثبتت الاستطلاعات أيضا أن 75% من الناخبين يرفضون خفض الإنفاق الحكومي على التعليم، و60% منهم يرفضون رفع سن الإحالة للمعاش. بل أن 39% من الناخبين الجمهوريين رفضوا مد العمل بالخفض الضريبي الواسع الذي تبناه بوش. وإذا كان هناك من دلالة لكل تلك الأرقام فهي أن الانتخابات الأخيرة كانت تعبيرا عن غضب إزاء الأوضاع الحالية لا تفضيلا لحزب أو سياسات بعينها.

ومن هنا يظل السؤال مفتوحا حول الوجهة التي سيختارها أوباما. لكن أيا كانت تلك الوجهة فإن المفارقة الحقيقية هي أن مصيره صار مرتبطا بأداء خصومه. فالتحدي الحقيقي في المرحلة القادمة من نصيب الحزب الجمهوري وليس الحزب الديمقراطي. فإذا ما هيمن الجناح اليميني المتطرف على مقدرات ذلك الحزب، ستكون تلك أفضل هدية يحتاجها أوباما لإنقاذ فرصه واستعادة الدفة السياسية.


السياسة الخارجية: نحو مزيد من الاستقطاب 


بعد انتخابات الكونجرس حفل الإعلام العربي المرئي والمقروء بتعليقات مؤداها أن السياسة الخارجية هي ملعب الرئاسة، والرئيس له فيها اليد العليا، بينما لا يستطيع فيها الكونجرس أن يفعل بشأنها الكثير. ولا أخفى أنني فوجئت بمثل تلك التعليقات. ومصدر المفاجأة هو أنني كنت أتصور أن مثل ذلك الطرح الذي ساد لفترة طويلة في عالمنا العربي قد توارى بفعل خبرتنا نحن العرب أثناء حكم كلينتون. وقتها لعب الكونجرس دورا بالغ الأهمية في صنع السياسة الخارجية الأمريكية عموما وتجاه العالم العربي على وجه الخصوص مما جعلني أعتقد أن مثل تلك الأطروحات قد ذهبت بفعل الدليل القاطع إلى غير رجعة.


والحقيقة أنني لا أعرف من أين أتى العرب بحكاية اليد العليا تلك للرئيس الأمريكي في السياسة الخارجية إلا إذا كانت انعكاسا لثقافتنا السياسية التي يلعب فيها الحاكم الأوحد الدور الرئيسي. فالعلاقة التي أنشأها الدستور الأمريكي بين الكونجرس والرئيس بخصوص السياسة الخارجية يصفها المتخصصون بأنها "دعوة للصراع بينهما". فالصلاحيات موزعة على نحو يقود للمنافسة على أفضل تقدير، وللصراع في أحيان كثيرة. فوفق الدستور الأمريكي يملك الكونجرس صلاحيات هائلة في مجال السياسة الخارجية تجعله قادرا – إذا أراد- على أن يشل يد الرئيس في السياسة الخارجية. فالكونجرس وحده هو الذي يعلن الحرب وهو الذي يملك "محفظة" الولايات المتحدة، أي هو الذي يقر الاعتماد المالي، وهو الذي يصدق على المعاهدات. بل أكثر من ذلك، فالكونجرس هو صاحب الحق الدستوري في الرقابة، ومن ثم يمكنه أن يشل المؤسسة التنفيذية عبر إغراقها في سلسلة لا نهائية من التحقيقات وإجبار مسئوليها على المثول أمامه في جلسات الاستماع.


وهذا الدور المحوري للكونجرس في السياسة الخارجية محكوم بشرط أساسي هو إرادة الكونجرس نفسه. فالمؤسسة التشريعية الأمريكية تختار أحيانا ألا تفعل ذلك وتتخلى في أحيان أخرى عن صلاحياتها. ففي عهد بوش الابن، تخلى الكونجرس عن صلاحياته ومنح الرئيس شيكا على بياض في السياسة الخارجية والداخلية على السواء، ولم يستخدم حقه الرقابي فكانت النتيجة هي الكوارث التي تعانى منها أمريكا حاليا. لكن تخلى الكونجرس عن صلاحياته لا يعنى مطلقا أنه لا يملكها ولا حتى أنه يملكها نظريا كما يحلو لبعض العرب أن يقولوا. فقد استطاع الكونجرس حين امتلك الإرادة أن يحقق ذلك على أرض الواقع. فحين تولى الجمهوريون الأغلبية في عهد كلينتون صنعوا الأجندة وفرضوها على البيت الأبيض. فهم مرروا قوانين رفضها كلينتون مثل قانون نقل السفارة الأمريكية للقدس، ورفضوا التصديق على معاهدات وقعها الرئيس مثل معاهدة الأسلحة الكيماوية، ومنعوا تمويل الأمم المتحدة، وأعادوا هيكلة وزارة الخارجية بهيئاتها المختلفة ضد رغبة الرئيس.


ماذا إذن عن الكونجرس الذي انتخب لتوه؟ وهل نتوقع أن يفعل الجمهوريون مع أوباما ما فعلوه مع كلينتون؟





انقسام السلطة التشريعية بين الحزبين معناه أيضا أن النظام الأمريكي مرشح في العامين القادمين للدخول في حالة الشلل السياسي أكثر منه مرشحا للإنجاز، وهناك احتمالات لتعرض قضايا السياسة الخارجية تحديدا لمقايضتها بقضايا الداخل.
تكمن الإجابة عن هذا السؤال في قراءة الواقع الحالي. فالموقف الآن يختلف عما كان عليه في عهد كلينتون. فالجمهوريون لا يسيطرون على المجلسين وإنما على أحدهما فقط، أي مجلس النواب، بينما بقيت أغلبية مجلس الشيوخ في يد الديمقراطيين. وهو الأمر الذي يحد من قدرتهم على الفعل وإن لم يؤثر في  قدرتهم على عرقلة فعل الرئيس. بعبارة أخرى، فإن الشلل السياسي سيكون عنوان المرحلة القادمة في السياسة الداخلية والخارجية على السواء. ومما يدعم ذلك أن هذه الانتخابات أسفرت عن هزيمة عدد من الأعضاء الديمقراطيين اليمينيين والجمهوريين المعتدلين مما يعنى أن الكونجرس القادم سيكون أكثر استقطابا من الناحية الأيديولوجية. فالحزب الجمهوري سيكون أكثر يمينية والديمقراطي أكثر يسارية في المجلسين.

لكن فوز الجمهوريين سيعنى أيضا إنعاش الرقابة التشريعية حتى ولو لتحقيق أغراض حزبية وسياسية. وفى هذا الإطار لعل المسألة الإيرانية تكون مرشحة لجلسات استماع مطولة لمحاكمة إدارة أوباما ودفعها دفعا نحو المزيد من التشدد في هذا الشأن خاصة في ضوء التركيبة الجديدة للجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب.


ولأن الجمهوريين جاءوا للحكم بتعهدات تتعلق بعجز الموازنة وخفض الإنفاق الفيدرالي فالأرجح أن يستخدموا الاعتماد المالية كسلاح ضد الرئيس في السياسة الخارجية. فمن الوارد أن تتعرض الاعتماد الموجهة للأمم المتحدة وبرامجها المختلفة فضلا عن اعتماد المعونات الخارجية لصعوبات. ومن المنتظر أن تتعرض المساعدات الموجهة للفلسطينيين على وجه الخصوص لتشدد الجمهوريين خصوصا في مجلس النواب. أما الاعتماد الموجهة للميزانية العسكرية وخصوصا الموجه منها للعراق وأفغانستان فالأرجح ألا يسعى الجمهوريون للمساس بها. فالحزب الجمهوري أكثر تأييدا للدور العسكري الأمريكي، رغم فوز عدد من الأعضاء الذين يميلون للانعزالية في السياسة الخارجية. لكن يظل تعريض حياة القوات الأمريكية للخطر عبر تهديد التمويل الموجه لها هو آخر ما يريد أن يتهم به الجمهوريون والديمقراطيون بالمناسبة.


أما فيما يتعلق بمسألة التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي، فإن فوز الجمهوريين معناه تخفيض السقف السياسي الذي يتحرك فيه الرئيس، وهو السقف الذي كان منخفضا أصلا خصوصا في العام الأخير. فقد خرج من الكونجرس عدد من الديمقراطيين اليساريين المناصرين لإسرائيل الذين لم يكن عندهم مانع من الضغط عليها للتوصل لتسوية وفق حل الدولتين باعتبار ذلك مصلحة إسرائيلية أكثر منه مصلحة للفلسطينيين. وقد انضم للكونجرس بدلا من هؤلاء عدد لا بأس به من اليمين المسيحي مدعومين بحركة حفل الشاي. بعبارة أخرى، فإن فوز الجمهوريين نتج عنه تكريس ائتلاف التطرف الذي يدعم إسرائيل بلا شروط ويرفض الضغط عليها.


لكن لأن الاستقطاب السياسي هو عنوان المرحلة القادمة في أمريكا فإن الوارد أيضا أن تحدث مقايضات بين الرئيس والكونجرس بشأن قضايا عدة، وهى مسألة معتادة في النظام الأمريكي. فالرئيس يقايض الكونجرس عبر التنازل لهم عن قضية بعينها مقابل قضية أخرى تهمه. وقضايا السياسة الخارجية مرشحة للمقايضة. فهي أقل تكلفة للرئيس من قضايا السياسة الداخلية. ومن هنا فمن الوارد تماما أن يتنازل أوباما للجمهوريين عن قضايا خارجية لا تكلفه كثيرا مقابل تعاونهم معه في قضية داخلية تلعب دورا مهما في إعادة انتخابه.


خاتمة 


لأن القاعدة هي أن يخسر حزب الرئيس في انتخابات منتصف المدة فإن فوز الجمهوريين في ذاته لا يعنى نهاية مستقبل أوباما السياسي. فالمسألة سوف تتوقف على عدة أمور أولها طبيعة قراءة الرئيس لنتائج الانتخابات ودلالاتها وثانيها أداء خصومه السياسيين. لكن انقسام السلطة التشريعية بين الحزبين معناه أيضا أن النظام الأمريكي مرشح في العامين القادمين للدخول في حالة الشلل السياسي أكثر منه مرشحا للإنجاز، وهناك احتمالات لتعرض قضايا السياسة الخارجية تحديدا لمقايضتها بقضايا الداخل.
_______________
خبيرة في الشؤون الأمريكية

ABOUT THE AUTHOR