العراق قبل الانتخابات: المسار والوجهة

أعمى الجدل الذي أثير حول قانون الانتخاب العراقي بصيرة الكثيرين عن عيوب رئيسية تمس هذا القانون، أو استخراج المعنى والدلالة وراء إقراره، أو البيئة انتخابية التي سيتم فيها إجراء هذه العملية.







باسل حسين


أعمى الجدل الذي أثير حول قانون الانتخاب بصيرة الكثيرين عن عيوب رئيسية تمس هذا القانون، أو استخراج المعنى والدلالة وراء إقراره، أو البيئة انتخابية التي سيتم فيها إجراء هذه العملية.





إن المتتبع لمسيرة العمل السياسي داخل العراق بعد الاحتلال سيصل في النهاية إلى حقيقة مفادها أن الاتفاق سيتم التوصل إليه عاجلا أم آجلا في القضايا المختلف عليها.
ليس من قبيل المبالغة القول إن الجدل الذي أثاره قانون الانتخابات قد كشف عن احتباس سياسي حقيقي داخل منظومة العملية السياسية التي تشكلت بعد عام 2003، هذا الاحتباس هو نتاج طبيعي للبنى السياسية والتشريعية ومعها المنظومة القيمية التي تم تبنيها على نحو فج لا يمثل صيغ الدولة العصرية.

وينبغي التوقف هنا عند رصد وتحليل حالة استقرت في العمل السياسي العراقي ألا وهي اللحظة الحرجة أو النفس الأخير أو ما يصح أن نطلق عليه في الفقه السياسي بسياسة حافة الهاوية، وهي سياسة، وإن عكست إلى حد ما عمق الأزمة البنيوية الحاصلة في النظام السياسي العراقي، إلا أنها أيضا استخدمت أيضا كإحدى الأدوات الرئيسة من أجل الحصول على تنازلات أو نيل ضمانات دولية لا سيما الأمريكية.


بمعنى أن التوافق الذي يتم حول قضية ما بعد إخضاعها لسياسة حافة الهاوية، لم ولن يتم وفقا لمقتضيات المصلحة الوطنية، إنما هو نتيجة إدراك فعلي أن الجميع على نفس القارب المثقوب الذي لن يتحمل ثقوبا أخرى. فضلا عما تؤديه هذه السياسة من جانب وظيفي آخر من خلال الجلبة التي تبعد النظر عن العيوب الجوهرية التي ترافق القوانين المطروحة للتصويت أو على قضايا جانبية أخرى يراد لها أن تمرر دون إلقاء الضوء عليها أو التوقف عندها، على الرغم ما يمكن أن تشكله من تأثير واضح على مستقبل العراق.


وعليه يسهل علينا القول، إن المتتبع لمسيرة العمل السياسي داخل العراق بعد الاحتلال سيصل في النهاية إلى حقيقة مفادها أن الاتفاق سيتم التوصل إليه عاجلا أم آجلا في القضايا المختلف عليها.
ومما يكسب هذا الرأي مصداقيته أن قضايا مصيرية عدة قد تم تمريرها تحت مسمى الإنجاز التوافقي الذي سبق غبار سياسة حافة الهاوية، ليظهر فيما بعد أن هذا الإنجاز هو إنجاز لديمومة البناء السياسي القائم على فكرة المحاصة الطائفية والعنصرية.


المشهد الانتخابي
الاختبار الانتخابي والمرحلة المقبلة


المشهد الانتخابي


واتساقا مع ما ذكر أعلاه، نجد أن ضباب الجدل الذي أثير حول قانون الانتخابات قد أعمي بصيرة الكثيرين عن عيوب رئيسية تمس هذا القانون، أو استخراج المعنى والدلالة وراء هذا الإقرار، أو البيئة انتخابية التي سيتم فيها إجراء هذه العملية:



  1. إن هذا القانون ليس قانونا انتخابيا من حيث الإطار والمضمون، فهو تعديل أو لنقل ترقيعا لقانون سابق هو قانون رقم 16 لسنة 2005، ثم إنه يفتقر إلى كثير من الإجراءات والضوابط الانتخابية المعمول بها في الدول الديمقراطية التي تؤمن التنافس العادل، فعلى سبيل المثال لم ينظم القانون عملية التمويل الانتخابي والكيفية التي يتم بها تلقي الأموال بما يضمن مبدأ الشفافية والعدالة بين جميع القوى والأطراف المشاركة.


  2. إنه افتقر إلى الصرامة والوضوح وتضمن مغالطات دستورية لم يتم فيها احترام قاعدة عدم دستورية القوانين، كما أن هذا القانون قد قيد نفسه بنفسه، إذ تم إعطاء مفوضية الانتخاب المثيرة للجدل مهمات، جعلت القانون رهينة تفسيراتها في نواح عدة. وإذا ما نظرنا إلى من يسيطر على هذه المفوضية لسهل علينا فهم هذا التخويل.


  3. يعد إقرار القاسم الانتخابي من أحد العيوب الرئيسة في هذا القانون، إذ يشكل بمثابة تزوير مبطن لإرادة الناخب لأنها ترحل أصوات الناخبين الذي صوتوا لجهة معينة إلى جهة هي أبعد ما تكون من خياراتهم الانتخابية، وهي من حيث الأسلوب والمضمون بدعة برلمانية عراقية، يتم فيها تقاسم الأصوات ما بين الكتل الكبيرة، على حساب الأصوات المستقلة التي دخلت على نحو منفرد أو الكتل الصغيرة، ليصبح القانون تجسيدا حقيقيا لمقولة السمك الكبير يلتهم السمك الصغير، مما يفقد العملية الانتخابية لأحد أركانها الجوهرية، إذ أن حق الانتخاب من أهم الممارسات السياسية. فهي وسيلة لنقل السلطة بطريقة سلمية من شخص أو مجموعة إلى شخص آخر أو مجموعة أخرى بمحض إرادتها لا أن يلتف عليها.





  4. ضباب الجدل الذي أثير حول قانون الانتخابات قد أعمي بصيرة الكثيرين عن عيوب رئيسية تمس هذا القانون، أو استخراج المعنى والدلالة وراء هذا الإقرار، أو البيئة انتخابية التي سيتم فيها إجراء هذه العملية
    أعطى القانون ميزة إضافية للقوائم الكبيرة، حينما منح حصة تقارب النصف من حصص المقاعد التعويضية، وهي منحة غير مبررة على الإطلاق، لأن من المفترض منح هذه الحصص إما للقوائم التي لم تفز بأي مقعد من المقاعد كلا حسب نسبتها التي حصلت عليها أو إلى الشخصيات المستقلة التي اقتربت من العتبة الانتخابية. أما منحها للقوائم الفائزة فهو تجسيد آخر لعقلية القوى المهيمنة على البرلمان العراقي، القصد منها تأمين وصول قادة الأحزاب والأشخاص النافذين الذين لن يصلوا إلى العتبة الانتخابية.


  5. فيما يتعلق بنظام القائمة المغلقة أو المفتوحة، فإن القانون وإن لم يتبنَّ نظام القائمة المغلقة، فإنه في الواقع لم يتبن نظام القائمة المفتوحة، بمعنى أن القانون سلك طريقا ما بين الطريقين، وإن كان أقرب إلى القائمة المغلقة منه إلى المفتوحة، فلم يضف شيئا سوى حرية انتخاب الناخب لمرشح ولكن من قائمة واحدة.


  6. إن هذا القانون قد أدخل مفاهيم مغلوطة لا تتسق مع النظم الديمقراطية الحديثة، إذ اعتمد مبدأ التمييز بين فئاته في مخالفة صريحة للدستور المادة 14 التي تنص (العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييزٍ بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي). ومنح امتيازات للقوى المهيمنة، وفي هذه أيضا مخالفة صريحة لنص الدستور في مادته 16 التي تنص (تكافؤ الفرص حقٌ مكفولٌ لجميع العراقيين، وتكفل الدولة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك). كما تم تغييب الرقابة والمحاسبة، وقلل من دور الموطن في المشاركة والتأثير من خلال الالتفاف على إرادته.


  7. إن المعنى والدلالة الحقيقية لهذا القانون يتمثل في مهمة أساسية تتجلى في محاولة القوى المهيمنة وشخوصها إعادة إنتاج أنفسهم تحت مسميات وإشكال جديدة. إذ حافظ هذا القانون المعتمد على مكانة النخب التي سادت بعد 2003 بما يضمن استمرارها.

البيئة الانتخابية
كما أن البيئة الانتخابية داخل العراق لا تسمح بإجراء انتخابات شفافة ونزيهة لعدة أسباب لعل من أهمها:



  1. غياب قانون الأحزاب، إذ أن غياب هذا القانون يعطي أكثر من علامة استفهام عن الأسباب الذي تعيق إقرار هذا القانون وما هي الجهات المستفيدة جراء هذا الغياب. ولا شك أن الجهة المستفيدة هي تلك القوى السياسية المهيمنة على الحياة السياسية فيه، لأن أي قانون لا بد أن يراعي منع الأحزاب ذات المدعى العنصري والطائفي، كما يفرض مبدأ الإفصاح حول مصادر التمويل لتلك الأحزاب، ويحد من الكثير من التجاوزات التي تحدث الآن بسبب هذا الغياب.


  2. تجري الانتخابات في ضوء إدراك جمعي لدى عموم الشعب العراقي بعدم الإيمان بجدوى التصويت، لأن سلوك معظم البرلمانيين أعطى انطباعا لديهم مفاده أن أعضاء البرلمان ينظرون إلى عضوية البرلمان على أنها تشريف وليست تكليفا، بتعبير أوضح إن الوصول إلى البرلمان أو لبقية المناصب الحكومية والإدارية العليا، ليست إلا وسيلة للحصول على امتيازات وليست وسيلة للقيام بالتزامات تجاه المواطنين. ومما زاد الطين بلة حجم الفساد الهائل الذي ينخر أجهزة الدولة العراقية، وطبيعته المتماسكة حيث أن الجهات والأشخاص القائمين عليه عابرين للطوائف والقوميات، ويحمي بعضهم بعضا بما يجعلهم حلقات منسجمة ومتراصة على نحو مغاير تماما لما عليه الساحة السياسية العراقية من تشرذم طائفي وعرقي.

    والإدراك الجمعي المشار إليه سابقا ربما سيتسبب في إحجام المواطن وامتناعه عن الذهاب إلى الصندوق الانتخابي، ولا شك أن أمام القوى السياسية مهمة عسيرة في دفع الناخب إلى المشاركة في هذه الانتخابات التي من المتوقع أن لن تزيد عن 50%، إذا لم تتم تعبئة سياسية وإعلامية مقنعة للناخب العراقي.





  3. تجري الانتخابات في ظل هيمنة فعلية للأكراد على القرار السياسي العراقي، فوحدهم يمتلكون مشروعا واضحا، في حين أن الأطراف الأخرى منشغلة عن ذلك بما تواجهه من تحديات وصراعات.
    تطغي صفة اقتسام الكراسي على معظم التحالفات والكيانات السياسية القائمة، وبالتالي هي ائتلافات كراسٍ أكثر منها ائتلافات قائمة على الأفكار أو البرامج السياسية، وبالتالي فالمشهد السائد هو غياب الإيديولوجية لصالح إعادة تكوين النخب المحلية والتقليدية والدينية، حيث نجد تحالفات لجهات متقاطعة لا يجمعها جامع إلا هدف الوصول إلى السلطة، وبالتالي فإن هذه الكيانات مهددة بأي وقت من الأوقات بالانفراط لعدم وجود الرابط أو اللاصق الذي يجمعها.


  4. تسيطر ست قوى رئيسية على المشهد الانتخابي وهي الكتلة العراقية وائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي والائتلاف الكردي وتجمع الوحدة الوطنية وجبهة التوافق العراقي.


  5. هنالك تدهور ملحوظ في الوضع الأمني في البلاد، ويرى نائب القائد العام لعمليات الجيش الأميركي في العراق الميجور جنرال جون جونسون أن القوات الأميركية العاملة هناك "تستعد لمواجهة تصاعد العنف قبل الانتخابات العراقية" مؤكدا في الوقت ذاته أن "الوضع الأمني مرشح للاستقرار بحلول منتصف العام المقبل".

    هذا التدهور انعكس سلبا على الحكومة العراقية الحالية وأدخلها في حرب استنزاف سياسي من شأنها أن تقوض الحكومة على الصعيدين المحلي والدولي، كما أن الملف الأمني أصبح محل جذب وخلاف ما بين القوى السياسية ليتحول إلى ورقة انتخابية سيكون لها دور مهم في سلوك الناخب التصويتي.


  6. هنالك تخوف حقيقي من عمليات تزوير كبيرة ستشهدها هذه الانتخابات، أولا لهيمنة قوى سياسية معينة على مفوضية الانتخابات التي وجهت لها تهمة من الآن بأنها هي أول من بدأت بالتزوير عن طريق إتاحة تسجيل كيانات سياسية مجيرة صالح الأكراد. وثانيا لعدم وجود الضمانات القانونية والإجرائية الكافية لإجراء انتخابات نزيهة. وثالثا. تمرس القوى المهيمنة على أساليب مبتكرة في عمليات التزوير، ورابعا التجارب السابقة من حيث رفض القبول بالطعون المقدمة أو ضعف الرقابة وغيرها من الشبهات كلها تصب في خانة التخوف الموضوعي من حدوث عملية التزوير.


  7. تجري الانتخابات في ظل هيمنة فعلية للأكراد على القرار السياسي العراقي، فوحدهم يمتلكون مشروعا واضحا، في حين أن الأطراف الأخرى منشغلة عن ذلك بما تواجهه من تحديات وصراعات.

سيناريوهات واحتمالات
أما فيما يخص النتائج التي سيسفر عنها المشهد الانتخابي فيمكن رسم الاحتمالات والمشاهد الآتية:



  1. المشهد الأول: تمكن كيان من الحصول على أغلبية مطلقة تؤهله لتكوين حكومة لوحده، والأمر الراجح أن هذا السيناريو يتجسد في الكتلة العراقية التي تضم قوى متنوعة بعضها يتنافس على معظم الدوائر الانتخابية مثل (الوفاق الوطني برئاسة إياد علاوي، جبهة الحوار برئاسة صالح المطلك، والتجديد برئاسة طارق الهاشمي أو تيار المستقبل برئاسة رافع العيساوي)، وبعضها قوى محلية تستطيع أن تكتسح المحافظة بمعظمها (قائمة الحدباء في نينوى التي يقودها أسامة النجيفي)، أو قوى محلية أخرى تستطيع أن تنال أصوات مؤثرة (قائمة إسكندر وتوت في بابل أو العبادي في البصرة). لكن مع هذا يبقى العارض الرئيسي لها المشهد هو التحالف الكردستاني.


  2. المشهد الثاني: توزيع الأصوات أفقيا على الكتل الرئيسة المنافسة مما يستدعي قيام تحالف عريض لتشكيل الحكومة، وهو ما يدخل البلاد في فترة سبات طويلة من أجل تحقيق التوافق على توزيع المناصب فيما بينها لفترة طويلة، وبما يقود إلى ترسيخ فكرة المحاصة على نحو كبير. ويتوقع عدد من الخبراء أن هذا المشهد هو أكثر ترجيحا من المشاهد الأخرى.


  3. المشهد الثالث: حصول كيان على أغلبية لكنها أغلبية لا تمكنه من تشكيل الحكومة لوحده، لذا يتم اللجوء إلى التحالف مع كيان أو أكثر لتشكيل الحكومة، وهذا الأمر متوفر للكتلة العراقية وكذلك لائتلاف دولة القانون أو الائتلاف الوطني العراقي.


  4. المشهد الرابع: حصول كيانين على أغلبية لكنها ستكون أغلبية لا تؤهل أي أحدا منهما من تشكيل الحكومة، فيتم إما التحالف مع بعضهما البعض أو محاولة أي منهما إلى البحث عن كيانات أخرى مع بقاء الأخر في المعارضة.

ورغم كل هذا فلا شيء يمنع في عالم السياسة، حدوث تغيير غير متوقع على المشهد الانتخابي بحيث يقلب جميع التوقعات.


الاختبار الانتخابي والمرحلة المقبلة 





يلعب المتغير الأمريكي دورا مهما في مسار العملية السياسية، ويبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية لا زالت تنظر إلى المحاصصة السياسية وسيلة مثلى لحل الإشكال العراقي.
ومن الواضح أن هذا المشهد الانتخابي، سيظهر مدى قدرة الصندوق على إحداث التغيير في العراق، أو أن تثبت الانتخابات نفسها بأنها مجرد عملية تزكية للنظام القائم وشخوصه، فالتغيير المنشود هو صعود قوى تهدف إلى بناء مؤسسات قائمة على هوية المواطنة والكفاءة بدلا من الهويات الجهوية والفئوية، وإن حدث ذلك فإنه سيشكل انقلابا على المفاهيم التي استقرت في المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد الاحتلال والتي اعتمدت مبدأ المحاصة التي جلبت البلاء للشعب العراقي في كافة الصعد.

كما أنه سيؤدي إلى قبول عربي ودولي أكبر للعراق ودوره في المنطقة. لكن هذا الأمر ليس بالسهل فالقوى السياسية المضادة لن ترضخ بسهولة وهي غالبا ما تستخدم الديمقراطية كمطية للوصول إلى السلطة، لكن في حال فشلها ليس من المتوقع أن تقبل باللعبة الديمقراطية وربما ستسعى إلى تقويض هذه النتائج، وهي لديها القدرة على تحقيق بما تمتلكه من إمكانات مادية ودعم إقليمي.


أما إذا ما أسفرت هذه الانتخابات عن إعادة إنتاج القوى السياسية المهيمنة شكلا ومضمونا فإن العراق سوف يشهد مزيدا من الأزمات والكوارث والانقسامات، كما أنها ستمهد إلى تكريس مفهوم المحاصة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بمختلف تنوعاتها وعلى نحو يصعب معه التخلص منه أو من تبعاته السيئة مستقبلا.


ويلعب المتغير الأمريكي دورا مهما في مسار العملية السياسية، ويبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية لا زالت تنظر إلى المحاصصة السياسية وسيلة مثلى لحل الإشكال العراقي. إذ أكد وزير الدفاع الأمريكي غيتس إنه تحدث إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أثناء زيارته الأخيرة لبغداد بشأن الحاجة إلى تشكيل حكومة تشمل كل فئات الشعب بسرعة عقب الانتخابات العامة بهدف تضييق فرص السقوط مرة أخرى في دائرة العنف. وبالتالي فإن هذا المطلب يلغي نتيجة الانتخابات مسبقا ويفترض وصول قوى طائفية إلى قبة البرلمان، بما يدفع إلى تبني نظرية مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية ربما قد أعدت مسبقا نتائج الانتخابات، عن طريق تقسيم المقاعد أفقيا ما بين القوى الخمس الرئيسة المتنافسة على المقاعد البرلمانية بحيث لا يستطيع أي تحالف بمفرده من أن يحوز على الأغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة.


ولا شك أن فكرة الانسحاب المسئول تتضمن من بين ما تتضمنه تحقيق الاستقرار السياسي ولو على نحو سلبي، ولذا نرى انغماس الولايات المتحدة في تفاصيل المفاوضات حول الانتخابات التشريعية التي جرت ما بين الأطراف السياسية العراقية، ومارست الضغط على المسؤولين العراقيين من أجل تفادي تأجيل الانتخابات وهذا ما أكدته مساعدة وزير الدفاع الأمريكي لشئون السياسة ميشيل فلورنوي حينما أشارت إلى أن الولايات المتحدة مارست ضغوطا على بغداد حتى لا يتم تأجيل الانتخابات البرلمانية. موضحة في حديث أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب إلى أن إرجاء الانتخابات قد يكون له تأثير على انسحاب القوات الأمريكية من العراق حسب الخطة الموضوعة. وأضافت أن على القوات الأمريكية التنسيق مع الحكومة العراقية من أجل تأمين هذه الانتخابات وأن تأجيلها سيؤثر على تلك الاستعدادات.


وتجسد هذا الضغط في صور عدة منها حضور السفير الأمريكي وطاقمه في المفاوضات، وكذلك حضور جلسات البرلمان من أجل ضبط إيقاع المفاوضات وعدم خروجها عن الخطوط الأساسية التي رسمتها الإدارة الأمريكية، بالإضافة إلى الاتصالات التي أجراها الرئيس أوباما لاسيما مع مسعود البرزاني، التي قيل إنها بقصد إعطاء ضمانات للأكراد في قضية كركوك، وكذلك الاتصالات التي قام بها نائب الرئيس الأمريكي بايدن مع قادة الكتل السياسية بهدف دفعهم نحو الوصول إلى اتفاق بشأن قانون الانتخابات.


إن الإدارة الأمريكية تعد فترة ما بعد الانتخابات، وهي الفترة الحقيقية لمعرفة مدى هشاشة أو قوة النظام السياسي الذي بنته، وبالتالي ستأخذ القرار المناسب لها سواء بتعجيل الانسحاب أو تأجيله أو ربما حتى إعادة النظر فيه.


وبهذا الشأن يشير أنتوني كوردسمان خبير الدراسات الإستراتيجية بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن إلى أن الولايات المتحدة سوف تواجه بعد الانتخابات تحديات رئيسة:






  1. الإدارة الأمريكية تعد فترة ما بعد الانتخابات، وهي الفترة الحقيقية لمعرفة مدى هشاشة أو قوة النظام السياسي الذي بنته، وبالتالي ستأخذ القرار المناسب لها سواء بتعجيل الانسحاب أو تأجيله أو ربما حتى إعادة النظر فيه.
    تحدي الانسحاب، إذ ينبغي تكييف الانسحاب على نحو يضمن شراكة إستراتيجية طويلة الأمد، لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن على الولايات المتحدة أن تحاول البقاء في العراق كقوة احتلال، أو وقف برنامجها لتخفيض عدد القوات.


  2. التحدي الكردي، إذ سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى جهد مستمر دبلوماسي وعسكري لإقناع الأكراد بأن يكونوا أكثر واقعية في النظر إلى المكاسب التي تم تحقيقها بعد عام 2003، لأن الجانب العربي في ذلك الوقت كانت ضعيفا جدا. ولذا فمهمة الدبلوماسية الأمريكية ينبغي أن تنصب في مساعد الأكراد في إيجاد حلول مقبولة وواقعية والقيام بذلك في أسرع وقت ممكن. ويشير كوردسمان إلى أنه من الواضح أن التوترات بين العرب والأكراد بدأت تتصاعد، وأن الصبر بدأ ينفد على كلا الجانبين. وأن التصعيد بين العرب والأكراد في كركوك ونينوى، وجميع المناطق المتنازع عليها هي شاهد حقيقي على الوضع المتأزم الذي سيحتاج إلى جهد غير عادٍ من قبل الدبلوماسية الأمريكية والأمم المتحدة معا. وسوف يتطلب ما لا يقل عن سنة من عناية فائقة قبل شروع القوات الأمريكية في خفض قواتها بشكل مطرد وعلى الولايات المتحدة أن تفعل كل شيء ممكن للتقليل من حدة هذا التوتر الذي يمكن أن يشتعل في أية لحظة.


  3. التحدي الطائفي، إذ يرى كوردسمان أن التوتر بين "السنة والشيعة" لا يزال يشكل تحديا جديا وخطيرا. ومع أن معظم العراقيين العرب قد سئموا العنف والتطرف، وأظهروا رغبة عارمة في أنهم يريدون السلام، والحكم الرشيد والتنمية والتقدم، فإنه ومع ذلك، لا يزال هذا التحدي قائما بوجود بنى سياسية واجتماعية واقتصادية تعمل على إثارة الفتنة.


  4. تمكين العراق من تحمل نفقات الإعمار والأمن والتنمية عن طريق تنشيط قطاع النفط، وتشجيع أنماط الاستثمار الخارجي.


  5. التحدي الأمني المتعلق بجماعات العنف المسلح على مختلف تنوعاتها.


  6. التحدي المتعلق بالتدخلات الإقليمية بالشأن العراقي، وإقناع دول الجوار بقبول بالنظام السياسي الذي شكل بعد عام 2003.

العامل الإقليمي في المرحلة المقبلة
ويلعب العامل الإقليمي دورا مهما في الساحة السياسية العراقية، فالدول العربية وإن اختلفت في تكيفها السلبي أو الإيجابي مع الشأن العراقي إلا أنها تكاد تجمع بضرورة إجراء تغييرات في المنظومة السياسية العراقية، لأنها تشعر أن العراق القائم الآن لا ينسجم مع المنظومة العربية، ومن ثم فإنها بلا شك سترحب بأي تغيير باتجاه يتناغم مع ما تريده من النظام السياسي في العراق، وثمة أقوال كثيرة داخل العراق بشأن دعم بعض البلدان العربية لبعض القوى السياسية.


وتتجه الأنظار عادة إلى سوريا والسعودية، وتظهر دراسة أعدها معهد السلام الأمريكي بالتعاون مع مركز هنري ستيمسون والتي جاءت تحت عنوان "العراق ودول الجوار، وإدارة أوباما: منظور سوري/سعودي" أن دول الجوار العراقي، لا سيما سوريا والمملكة العربية السعودية، في صدد مراجعة سياساتها تجاه العراق وإعادة النظر في مواقفها إزاء قضاياها المشتركة معها، في وقت يتصاعد فيه الحديث عن سياسة جديدة للولايات المتحدة الأمريكية تجاه العراق في عهد أوباما، قائمة على سحب القوات الأمريكية من العراق. وأن الاحتمالات المفتوحة بعد تحقيق هذا الانسحاب يحتم على دول الجوار أن تلعب دول الجوار دورًا هامًّا ومؤثرا من أجل تحقيق مصالحها في المنطقة في ظل هذا الزخم من التحديات السياسية والأمنية.


وتشير الدراسة إلى أن العلاقات السورية-العراقية يتحكم في مسارها عدة قضايا على قدر كبير من الأهمية والتشابك لعل أبرزها ما أطلقت عليها الدراسة مسألة الطائفية ورد فعلها السلبي، قضية تصدير المحاربين، مشكلة اللاجئين العراقيين، استضافة المعارضة، وأخيرًا الموضوعات التجارية والاقتصادية.





السعودية قد صدمت وأصيبت باستياء شديد من الموقف الأمريكي المتمثل في تجاهل نصائحها، أو بالأحرى فشلت في التشاور معها بشان الأمور الحرجة المتعلقة بالعراق.
أما فيما يتعلق الأمر بالسعودية فقد أكدت الدراسة على أن السعودية قد صدمت وأصيبت باستياء شديد من الموقف الأمريكي المتمثل في تجاهل نصائحها، أو بالأحرى فشلت في التشاور معها بشان الأمور الحرجة المتعلقة بالعراق وذلك من منطلق الشراكة الوطيدة التي تجمع بينهما، بحيث أشارت الدراسة إلى أن إدارة بوش لم تكن على استعداد أن يملي عليها أي طرف مهما كان ما يجب أن تفعله في العراق، كما أنها لم تكن راغبة في عقد أي شراكة نزيهة فيما يتعلق بالأمور الحيوية في العراق. وفى هذا الإطار وصفت مختلف الأوساط السعودية الإدارة الأمريكية بأنها تتعامل مع المسألة العراقية بصورة منفردة بعيدة عن مصالح دول الجوار، ذلك على الرغم من التداخل الشديد بينها و بين الأزمات الأخرى التي تعانى منها المنطقة.

وفى إطار استعراضها لأهم القضايا التي تحكم العلاقات السعودية-العراقية، أشارت الدراسة إلى عدد من القضايا لعل أبرزها الموقف السياسي من الحكومة العراقية، مسألة تأمين الحدود، تحرير العراق من العزلة، وأخيرًا الموضوعات التجارية والاقتصادية لاسيما مسألة تخفيف الديون.


وليس بالأمر الخافي أن العلاقات السعودية العراقية في ظل حكومة المالكي لم تتطور على النحو الايجابي بل على العكس شهدت توترا كبيرا، إذ ترى السعودية أن المالكي لم يلتزم بوعوده التي قطعها من أجل إجراء مصالحة حقيقية، وبالتالي كان هنالك دوما مجال للشك والريبة تجاه شخصية المالكي نفسه، وللنهج الذي اختطه حكومته. فيما تتهم الحكومة العراقية برئاسة المالكي أن السعودية لم تتفاعل مع رغبة الحكومة بتطوير العلاقات السعودية العراقية.


وليس من قبيل المبالغة القول، إن إيران من أكثر دول الجوار تدخلا في الشأن العراقي، لأنها وجدت في المشهد السياسي في العراق ساحة مثلى للامتداد والهيمنة الإقليمية، وبابا خلفيا للسياسة الخارجية الإيرانية في صراعاتها مع الولايات المتحدة أو مع دول الجوار كالدول الخليجية أو مصر أو حتى تركيا.


ويخطئ الظن من يعتقد أن إيران تتحرك وفقا للهوى المذهبي أو الإيديولوجي فحسب، لأن إيران أكثر من ذات مرة أثبتت بأن سياستها براغماتية إلى حد ما وأنها مستعدة للوصول إلى اتفاقات مصلحية بما يخدم مصالحها القومية، فعلى سبيل المثال عندما حدث الصراع بين أرمينيا المسيحية وأذربيجان الشيعية وقفت إيران مع أرمينيا المسيحية بالضد من أذربيجان الشيعية لأنها رأت أن مصالحها تتحقق من خلال دعم أرمينيا.


وبالتالي فإنه على الرغم من الخطاب السائد ما بين الولايات المتحدة وإيران، والمغلف بالأيدولوجيا، فإنه في الواقع ينم عن صراع مصالح في المنطقة، وحينئذ يسهل علينا فهم التوقعات التي تقول بإمكانية حدوث صفقة أمريكية إيرانية طالما الصراع هو على المصالح لا على الإيديولوجيات، ولا ريب أن العراق سيكون إحدى القضايا الرئيسة لأي اتفاق أمريكي إيراني.


وتمتلك إيران أدوات متعددة من حيث الشكل والمضمون لتأكيد نفوذها داخل العراق بدءا بمؤسسة صنع القرار السياسي العراقي وانتهاء بعلاقتها مع جميع القوى الموجودة داخل العراق كي تؤمن لها حرية واسعة من المناورة وتحقيق المصالح المرجوة.


لذا فان إيران ترغب إلى حد ما باستمرار الوضع السياسي عما هو عليه من اجل إدامة المشهد العراقي على ما هو عليه من انقسام داخلي وفوضى وتشتت يتيح لها ممارسة دورها بسهولة. وربما هو ما يتفق أيضا بما تريده الولايات المتحدة الأمريكية كما أشرنا إليه سابقا.





على الرغم من الخطاب السائد ما بين الولايات المتحدة وإيران، والمغلف بالأيدولوجيا، فإنه في الواقع ينم عن صراع مصالح في المنطقة.
وفي الختام يمكن القول، إن الانتخابات تعد إحدى الأدوات الرئيسة لتسوية الاختلافات بين الجماعات الاجتماعية داخل حدود الدولة الواحدة، ووسيلة للتحكيم بين الأفكار والاختيارات، وأن السلوك التصويتي في مجمله هو تجسيد لفكرة القبول بالآخر والعيش المشترك. لكن هذا الوصف لا يمكن تعميمه على التجربة العراقية، لأن البناء السياسي قد شكل وفقا لأهواء وصور هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية الحقة، بحيث وصلنا إلى مشهد ديمقراطي يفتقر إلى ديمقراطيين.

وبالتالي لا يمكن الحديث عن الانتقال السلمي للسلطة في غياب انتخابات حقيقية تعبر عن إرادة الشعب العراقي أو تؤكد مصداقية العمل السياسي، ولا زالت العملية الانتخابية بعيدة كل البعد عن تحقيق اشتراطات النزاهة، بسبب وجود الكثير من الشوائب والشبهات.


وعليه لا يمكن توقع حدوث تغيير جذري في المشهد السياسي العراقي بعد الانتخابات المقبلة، إلا أن ذلك لا يعني بأي شكل من الإشكال على عدم جدوى الانتخابات، لأنها لا تزال أقل الخيارات سوءا من بين عدة خيارات سيئة، ولعلها تكون بداية لتغيير حقيقي في مسار العملية السياسية.
_______________
باحث عراقي

ABOUT THE AUTHOR