انتخابات السودان: البحث عن الوحدة والسلام

بإنجاز الانتخابات هناك قدر من التفاؤل يحمل على الاعتقاد بأن التغيير في السودان قد بدأ، دون التقليل من التحفظات والملاحظات والاتهامات التي ساقتها القوى السياسية على التجربة الانتخابية. وتنتظر الحكومة المقبلة تحديات عديدة، في مقدمها سلام دارفور والاستفتاء ووحدة البلاد.







 

الصادق الفقيه





تدل المؤشرات والأحداث المتلاحقة، أن السودان يمر في الوقت الراهن بمرحلة مخاض تكتنفه صعاب جمّة على الصعيد الداخلي، والإقليمي والدولي.
انتهى جدل الانتخابات ومنافساتها التعددية في السودان في وقت تقف فيه البلاد عند مفترق طرق؛ إذ ستعيد هذه العملية الانتخابية -التي جرت في الفترة بين 11 و15 أبريل/نيسان 2010، وأُعلنت نتيجتها يوم الاثنين 26 أبريل/نيسان2010- تركيب البنية السياسية للسودان بأكمله، رغم اكتساحها شبه الكامل من قبل شريكي الحكم السابقين؛ حيث سيطر حزب المؤتمر الوطني في الشمال، ونالت الحركة الشعبية لتحرير السودان كامل السلطة في الجنوب؛ فهذه الانتخابات، التي اعتُبرت الأولى من نوعها منذ نحو ربع قرن، وأضخم وأعقد عملية سياسية جرت في البلاد منذ الاستقلال؛ حيث قضى نظام الانتخابات بالتصويت لثماني بطاقات للمواطن الشمالي، واثنتي عشرة بطاقة للمواطن الجنوبي، ومثَّلت كل واحدة من هذه البطاقات مستوى من مستويات الحكم التشريعي أو التنفيذي، وشهدت إقبالاً وحماسًا جماهيريًا غير مسبوق، رغم تردد وانسحاب قوى سياسية وأحزاب، كانت تُعد رئيسية في البلاد.

ورغم كل ما تناقلته تصريحات السياسيين، وتعليقات وسائل الإعلام من اتهامات بالتزوير، وأحاديث عن الخروقات، وأخطاء فنية وإجرائية صاحبت البدايات الفعلية لعملية التصويت، إلا أنها -أي هذه الانتخابات- تمثل نقلة سياسية نوعية في تاريخ السودان، خاصة بعد أن شهدت البلاد وقفًا للحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، ورتبت صراعات الإقليم الشرقي، وتتصل المساعي لإيجاد حل عادل للأزمة في دارفور.


وهذا التقرير يقدم قراءة حول ما يمكن أن يحدث لقضيتين أساسيتين، يُعتبر التعامل معهما في غاية الأهمية، هما مسألة الوحدة والانفصال بالنسبة لجنوب السودان، ومسألة مفاوضات السلام في دارفور. وهذه القراءة مبنية على معارف مستقاة من مصادر مطلعة، ومستخلَصة من تجارب معتبرة، إلا أنها لا قد تخلو من تحيزات لإنها في النهاية مقاربات للحقيقة الخاصة.


فالمستقبل بالنسبة لهاتين القضيتين واعد مثلما هو غامض إلى حد كبير. وتدل المؤشرات والأحداث المتلاحقة، أن السودان يمر في الوقت الراهن بمرحلة مخاض تكتنفه صعاب جمّة على الصعيد الداخلي، والإقليمي والدولي.


ومما لاشك فيه أن النخبة السياسية الحاكمة في الخرطوم، تُدرك تمامًا أنها في وضع سياسي حرج لا تُحسد عليه مطلقًا، رغم مظاهر الفرح بالفوز الكبير؛ فما التردد والمقاطعة والانسحاب الذي طبع مواقف الأحزاب السياسية، والتشكيك الكبير الذي شاب العملية الانتخابية من جهة، والتصريحات المتناقضة لرموز النظام باستيعاب الآخرين في العملية السياسية من عدمه، إلا دليل على هذا الإدراك لحجم التحديات والصعوبات، يعكس مدى الحيرة حول مستقبل هاتين القضيتين بالذات، والمشاركة السياسية برمتها.


وفي ظلّ التطورات السياسية التي تحقّقت بعد الانتخابات، والأخبار المتلاحقة حول ما ستكون عليه سياسة الحكومة الجديدة في الأعوام المقبلة، وما سوف تشهده علاقة الشمال والجنوب من تقلّبات قد تبدو في أحيان مثيرة وفي أخرى خطيرة، وما يحتمل أن تنتهي إليه قضية دارفور في ظل التحولات الجديدة للمشهد السياسي، يتساءل المرء إن كان في المستقبل ما يُطمئن على واقع أفضل، وهل يمكننا -استنادًا إلى المقدمات- أن نتوصَّل إلى وضعِ تصوّر، يكون قريبًا من الواقع لما سوف يكون عليه مستقبل هاتين القضيتين؟ وإلى أيّ مدى يمكن الوثوق بما يستخلصه الحادبون من نتائج الآن؟


ويمكن أن نستند في استنتاجاتنا المستقبليّة إلى مؤشرات نستخلصها من معاينة التصريحات المعلنة، ونحاول أن نبني عليها أحكاما قد تصحّ، وقد تتغيّر بتغيّر تلك المؤشرات. رغم اعتماد تقييم توقّعاتنا على ثوابت ومتغيرات نستمدّها من ملاحظات الحاضر، وكثير من تجارب الماضي، ونحاول فيها رصد الثوابت والمتغيّرات، ومعاينة التحولات الراهنة، في خضم الممارسة السياسية.


تحديات
الاستفتاء
سلام دارفور
ضوء نهاية النفق


تحديات 





تأتي قضية سلام دارفور والاستفتاء والمحافظة على وحدة البلاد ضمن أولويات المرحلة المقبلة، وتمثل أهم التحديات التى ستواجه الحكومة الجديدة.
تحديات عديدة تنتظر الحكومة المقبلة بعد أن اكتملت العملية الانتخابية وظهرت النتائج، التي أكدت على سيطرة المؤتمر الوطني في الشمال، والحركة الشعبية في الجنوب على كافة المستويات. وتأتي قضية سلام دارفور والاستفتاء والمحافظة على وحدة البلاد ضمن أولويات المرحلة المقبلة، وتمثل أهم التحديات التى ستواجه الحكومة الجديدة، كما أن هنالك العديد من التحديات الماثلة؛ منها معالجة مشكلة البطالة، والفقر، وإحداث التنمية المتوازنة فى الريف والمدن. الأمر الذي يتطلب وضع برنامج تنفيذي يحوي الجوانب الاقتصادية والسياسية، التي تتمثل فى استكمال المشروعات القومية الكبيرة، وتعويض المناطق الطرفية المهمشة عن سنوات التخلف، وإزالة الاحتقان السياسي باستيعاب القوى الحية في المجتمع لتعزيز الوحدة. علمًا بأن كل هذه التحديات والإشكالات المحلية تتطلب تنسيقًا جادًا بين القطاعات المختلفة في هياكل الدولة للوصول بالبلاد إلى بر الأمان من خلال برامج مدروسة، وخطط علمية، وإستراتيجية إعمار طويلة المدى، وأن هناك أهمية بالغة للقيام بعمل دبلوماسي، على المستويين الإقليمي والعالمي، وأن يكون هنالك دور خاص مطلوب من القوى السياسية المختلفة، والأحزاب الشريكة في الحكومة القادمة، وحزبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، بصفة خاصة.

الاستفتاء 


تتفاوت التقديرات حول تأثير هذه الانتخابات على العلاقة بين الشمال والجنوب تفاوتًا كبيرًا، فبينما تتفاءل تصريحات بأن ما حققه طرفا الحكم: المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، كل في عرينه، قد يزيد من درجة التعاون بينهما، وصولاً إلى لحظة الاستفتاء، التي قد تكون فاصلة في تاريخ السودان، واحتمالات فصله إلى دولتين، تتشاءم تصريحات أخرى من أن سلوك الحركة الشعبية وانكفائها على الجنوب بمقاطعتها للانتخابات في الشمال، إلا من ولايات التَّماس الجغرافي، قد أرسل إشارة قاطعة بأن الانفصال قائم، وما الاستفتاء إلا لحظة إجرائية لتدشين الدولة الجديدة في جنوب السودان؛ لأن العملية الانتخابية برمتها عززت أزمة الثقة المستفحلة أصلاً بين الشمال والجنوب، ليبقي الانفصال هو الاحتمال (الخيار) المحتوم. رغم أن الرئيس السوداني المنتخب عمر حسن أحمد البشير كان قد أعرب -في أكثر من مناسبة خلال الفترة الأخيرة- عن إقراره بما يتراضى عليه الجنوبيون في الاستفتاء القادم، وعن التوجه نحو تبني نهج تصالحي، وأكثر مرونة في تعامله مع الجنوب. هذا، مع إصراره -الذي صرَّح به قبل الانتخابات- على أنه يريد للسودان أن يظل موحدًا، مؤكدًا أنه في حال ما إذا قرر الجنوبيون الانفصال، فإنه سيكون أول من يعترف باستقلال الدولة الجارة الجديدة.


وتُعزى هذه البراجماتية والمرونة السياسية للتساهل الغربي، فيما اعتُبِر أخطاء وتجاوزات في العملية الانتخابية الأخيرة، وذلك بعد أن توصل عدد من العواصم الغربية إلى حقيقة أن الرئيس البشير أقدر من غيره على عبور مأزق الاستفتاء، خاصة بعد أن أثبت في السنوات الخمس الأخيرة نجاحًا كبيرًا في إدارة تفلُّت الحركة الشعبية، واحتمال ازدواجية أدوارها بين الحكم والمعارضة؛ ومن ثَمَّ الحيلولة دون خروج الأمور عن السيطرة. الأمر الذي أدى إلى تخفيف الضغط الغربي على الخرطوم حتى تتمكن من استكمال الفترة الانتقالية بسلام وتهيئة الرأي العام السوداني لتقبُّل نتائج الاستفتاء في وقت استمرت فيه رهانات الحركات المتمردة والمعارضة السياسية على نجاح هذا الغرب في الإطاحة بالبشير، رغم أن المصالح السياسية الغربية اقتضت غير ذلك، مع بقاء الأمل في الاستفادة من السنوات الأربع المقبلة لإعادة تنظيم وتأهيل المعارضة الشمالية بما يمكِّنها من معاودة  تصدر المشهد السياسي في الانتخابات المقبلة، وتشكيل حكومة موالية للغرب لا يكون من ضمنها حزب المؤتمر الوطني.


ومثلما تبدو مواقف القوى السياسية السودانية متباينة حول ما يمكن أن تتمخض عنه نتيجة الاستفتاء، تتأرجح نظرة الموقف الغربي من قضية الوحدة والانفصال؛ ففي حين يرى البعض أن مصالح الغرب تقتضي بقاء السودان موحدًا لاعتبارات محلية وإقليمية عديدة، تتعلق أولاها بسعي الغرب لإيجاد حكومة موالية في بلد بسعة السودان تتهدده مخاطر الانهيار، وذلك بدعم الحركة الشعبية وقوى المعارضة الشمالية للوصول إلى الحكم بعد أربع سنوات. ويتخوف ثانيها من احتمالات عدم استقرار دولتي الشمال والجنوب -في حال الانفصال- وما يمكن أن يفرزه ذلك من تداعيات لا تحمد عقباها، وليس في مقدور أحد السيطرة عليها، وستتعدى حدود السودان إلى جواره. وهذه نظرة قد لا يتفق معها المتعجلون لفصل جنوب السودان في الغرب، والذين يبررون مواقفهم بأن تجربة (الخرطوم) و(جوبا) السابقة غير مشجعة على الاستمرار في الشراكة بينهما؛ ولهذا، يعملون على دفع المواقف الأميركية لتبني فصل الجنوب رغمًا عن الرغبة الداخلية في الوحدة، ورغما عن التخوف الإفريقي من انفراط عقد السودان، والتداعيات الخطيرة المترتبة على هذه الخطوة، وفي مقدمتها تهديد دول الجوار باحتمالات التفتت والانقسام. فهل شكلت الانتخابات الأخيرة فرصة للعودة إلى المسار الطبيعي للوحدة, من خلال فوز المؤتمر الوطني الكاسح، وتجديد شرعيته للسنوات الأربع المقبلة بالتوجه الجدي للاهتمام بالتنمية والعدالة والرفاهية، ومن ثَمَّ العمل الجاد لصالح تعميق مفهوم الوحدة الجاذبة باعتبارها آخر أسباب الإبقاء على وحدة البلاد، وتأمينها من التمزق والاحتراب، وإبعاد شبح الانفصال؟


إن كل الاحتمالات تتبدى بشكل أكثر وضوحًا بعد الانتخابات عمّا كان قبلها، ومثلما تُرجح الانفصال مؤشرات قوية، تبقى للوحدة أسبابها الموضوعية، التي هي في مصلحة جميع الأطراف. وقد يكون في وعد حزب المؤتمر الوطني الداعي لإيجاد صيغة جديدة للحكم تكون أكثر توازنًا وعدالة, وما يتطلبه ذلك من توسيع لقاعدة الحكومة المقبلة لتشمل أغلب ألوان الطيف السياسي -وما يقتضيه ذلك من تراض وتوافق وطني، يعلى الاهتمام بالمستقبل، ويتكاتف لرسم أبعاد المشروع الوطني، ووضع إستراتيجية واضحة المعالم لإنجاز مهام الخروج من أزمات الاختناق السياسي، وتجنب مأزق الانفصال, بإعلاء كل ميزات الوحدة الحافظة لأصل العلاقة بين الجنوب والشمال- قد يكون في ذلك الوعد سبيل للمساعدة في إتمام الوحدة.


سلام دارفور 





عقّدت الانتخابات العملية التفاوضية، خاصة في ملف السلطة؛ حيث أمست المواقع التي يحتلها المنتخبون الجدد خارج دائرة التفاوض، وأضحى من المستحيل البحث في إمكانية إحلال أحد من منسوبي الحركات، أو من يتم الترشيح بواسطتها مكان من تمّ انتخابه.
لا يشك أحد في أن للانتخابات السودانية -التي جرت في أبريل/نيسان 2010 الجاري- آثارًا على العملية السلمية في دارفور، فبينما تتخوف وجهات النظر المتشائمة من أن يؤدي انشغال المؤتمر الوطني بانتصاره الساحق في الانتخابات إلى تعطيل العملية التفاوضية في الدوحة، بدولة قطر، وأن يعمد إلى تأجيلها إلى ميعاد غير معلوم، أو يضعف استعداده لدفع استحقاقات السلام، ويركن إلى الحسم العسكري، الأمر الذي ينذر بعواقب وخيمة على المسار السلمي في دارفور؛ يرى متفائلون أن الاعتراف الدولي المتوقَّع لنتائجها، الذي سيحصل عليه المؤتمر مقابل التزامه بإجراء استفتاء تقرير مصير جنوب السودان، سيؤدي حتمًا إلى تخفيف الضغط الدولي على المؤتمر الوطني، ويسعى للمحاججة بذلك أمام المحافل الدولية؛ مما يرفع من احتمالات مساعدة المجتمع الدولي له لتحقيق السلام في دارفور، ولو بمقايضة قضية دارفور بإجراء استفتاء جنوب السودان في موعده.

وبالنظر إلى المواقف التي صدرت عن الحركتين الرئيسيتين؛ فقد أكدت حركة العدل والمساواة وحركة التحرير والعدالة مسبقًا موقفهما الرافض لإجراء الانتخابات حسب الموعد المقرر، لاعتقادهما بأن إجراء انتخابات حرة ونزيهة ضرورة حتمية لحل أزمة الحكم في السودان، لكنهما ربطتا ذلك بتحقيق السلام العادل والشامل في كافة أرجاء البلاد، وعودة اللاجئين والنازحين طوعًا إلي مناطقهم الأصلية، وتعويضهم. وتشترك الحركتان مع بقية القوى السياسية السودانية في المطالبة بإلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات، ووضع قوانين جديدة تنظم العملية الانتخابية، بما في ذلك قانون الصحافة والمطبوعات، وقانون الأمن، وإعادة إجراء الإحصاء السكاني في كافة أنحاء السودان، وإعادة توزيع الدوائر الانتخابية، أو استيعاب المستوطنات الجديدة في دارفور كدوائر انتخابية.


وتعتقد الحركتان أن تداعيات هذه الانتخابات ستكون خطيرة علي عملية الحل السلمي لقضية دارفور، خاصة إذا وجدت النتيجة اعترافًا إقليميًا ودوليًا، واعتبر المؤتمر الوطني نفسه فائزًا، ولديه تفويض من الشعب لإدارة شئون البلاد، وبالتالي يصبح غير مستعد لتقديم تنازلات لمصلحة السلام؛ مما سيجعل من الحرب خيارًا أوحدَ. فقد عقّدت الانتخابات العملية التفاوضية، خاصة في ملف السلطة؛ حيث أمست المواقع التي يحتلها المنتخبون الجدد خارج دائرة التفاوض، وأضحى من المستحيل البحث في إمكانية إحلال أحد من منسوبي الحركات، أو من يتم الترشيح بواسطتها مكان من تمّ انتخابه.


وتخشى الحركتان أن يعيد المؤتمر الوطني النظر في عملية التفاوض مع المقاومة برمّتها بحجة أن لأهل دارفور ممثلين منتخبين منهم، وأنهم أولى بالحديث عن حقوق الشعب الذي انتخبهم بدلاً من الحركات التي لم ينتخبها أحد، أو قد يلجأ الحاكمون إلى عقد بعض الاتفاقيات الشكلية، التي لا تخاطب جذور مشكلة السودان في دارفور، ولا تستجيب لمطالب النازحين واللاجئين، مع أطراف لا تملك قرار الحرب والسلام، ولا تملك أدوات التفاوض؛ مما يفاقم الأوضاع في الإقليم بدلاً من حلها. كما تخشى أن يصيب الفوز الكاسح -الذي حقّقه المؤتمر الوطني في هذه الانتخابات- بعض أهل دارفور والحركات باليأس من إمكانية تحقيق سلام عادل وشامل مع المؤتمر الوطني؛ مما يضعف الحركات، ويطيل أمد الحرب، ويزيد معاناة المواطنين.


أما الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، مستشار الرئيس والمسؤول الذي يمسك بملف مفاوضات دارفور في الحكومة السودانية، فله رأي وتبرير آخر للانتخابات، وما يمكن أن ينجم عنها من معادلات جديدة؛ إذ يقول: إن اكتساح حزب المؤتمر الوطني للانتخابات هو نصر مستَحَق؛ لأن المؤتمر الوطني كان الحزب الأكفأ والأكثر أهلية من جميع النواحي: التنظيم، والتشبيك، والحركية، ووضوح الرؤية، وفاعلية القيادة. بمقابل ذلك، عانى منافسوه من مشكلات في جميع تلك النواحي، وكانت أسوأ إخفاقاتهم متعلقة بوضوح الرؤية، والإشارات التي أرسلوها إلى أتباعهم بصفة خاصة، والساحة السياسية بصفة عامة؛ فالحركة الشعبية مثلاً، بقرارها عدم خوض الانتخابات في الشمال، خذلت أنصار مشروع السودان الجديد، وأقرَّت إقرارًا عمليًا بكونها حركة إقليمية محدودة الأفق والتطلعات؛ أما الأحزاب التقليدية فظلَّت تصدر إلى آخر لحظة إشارات مربكة حول مشاركتها في السباق. ولا شك أن انتصار المؤتمر الوطني معزُوّ –جزئيًا- إلى إخفاق تلك الأحزاب في أن تقدم بديلاً مقنعًا؛ فالسيكولوجية الجمعية تفضل -أمام الخيارات المرتبكة- أن تتعامل مع ما تعرفه وتفهمه لا مع ما لا تعرف هويته ولا تأمن مقاصده.


لكن الانتصارات، سواء أكانت لحزب بعينه أم للبلاد عامة -كما يقول العتباني- يمكن أن تتحول إلى هزائم على المدى الطويل والمتوسط إذا لم يصحبها مجهود فكري وتنظيمي لتعزيز مكاسبها واجتناء عطاياها؛ فالبطر والغرور هما أعدى أعداء النصر، وكذاك الإخفاق في تحليل النتائج واستقراء دلالاتها، وإعادة ترتيب الأولويات والمهام.


إن أول ما ينبغي أن ينصرف إليه التفكير في هذا الصدد هو الفرز الدقيق للمسؤوليات، التي طرحتها الانتخابات ونتائجها في ثلاثة أصعدة: الصعيد الذاتي، أي الخاص بالمؤتمر الوطني باعتباره الحزب الذي سيحدد مسلكُه صورةَ السياسة السودانية لسنوات خمس قادمة، والصعيد الوطني العام الذي يشكله توارد جملة من القضايا الوطنية الكبرى في الأعوام التالية، وأخيرًا الصعيد الخارجي، أي ما تطرحه النتائج السياسية للانتخابات من معطيات تعيد تشكيل علاقات السودان الرسمية والشعبية بجواره وبالعالم. ولهذا، جَدّدَت الحكومة تأكيداتها حول إشراك القوى السياسيّة في المفاوضات المرتقَبة لإكمال السلام بدارفور. وقالت: إن موقف الحكومة الثابت في مفاوضات الدوحة هو أهمية استكمالها وفق الاتفاقيات الإطارية التي وقعت من قبل، مُشيرة إلى تفاؤل بالتوصل إلى اتفاق مع كل الأطراف، وقال الدكتور أمين حسن عمر -كبير المفاوضين من جانب الحكومة-:


"نعتقد أن موقف حركة العدل والمساواة حتى الآن لا يجعل عملية التفاوض سهلة"، ولكنه يؤكد هو الآخر أن الحكومة جادة في مواصلة التفاوض معها ومع غيرها، وأشار إلى أنّ القيادات التي أفرزتها الانتخابات سيكون لها دورٌ رئيسيٌ وفَعّالٌ في دعم مشروعات السلام بدارفور، وسيستمر التشاور مع المجتمع المدني بدارفور، كشريك أصيل في الحل.


ضوء نهاية النفق 





غير أن الحقيقة تكمن -بلا شك- في مكانٍ ما بين الروايتين: المتفائلة والمتشائمة؛ فالتوتر الذي أوجدته نتيجة الانتخابات الأخيرة محسوس، إلا أنه يمكن تلمُّس ما يمكن أن يُحدث تحولاً إيجابيًا في القضايا الشائكة، خاصة الاستفتاء ودارفور.
وفي نهاية هذه القراءة، يمكن القول باطمئنان: إن الأيام القادمة تحمل كثيرًا من التطورات، التي يمكن وصفها بالمصيرية بالنسبة لمستقبل السودان. ورغم تشاؤم الكثيرين، الذين لا يرونها مدخلاً لهدوء العواصف السياسية في البلاد، باعتبار أنها يمكن أن تضيف تعقيدًا جديدًا لعناصر تأزمها؛ إذ وضعت هذه الانتخابات الناس في حالة عامة من عدم اليقين، إلا أن هناك قدرًا من التفاؤل يحمل على الاعتقاد بأن التغيير المنشود قد بدأ، وأن عملية التحول الديمقراطي قد خطت خطواتها الأولى، دون التقليل من التحفظات والملاحظات والاتهامات التي ساقتها كل القوى السياسية على التجربة الانتخابية؛ فالمفارقة تبقى في أن السير نحو سلام في الجنوب، أو معه، وفي دارفور هو الأمل الوحيد الذي يُخرج الجميع من هذه الوضع المتأرجح؛ فاستقرار الوضع للمؤتمر الوطني في الشمال، والحركة الشعبية في الجنوب، أدعى للتعاون على إنفاذ ما تبقى من استحقاقات اتفاق السلام الشامل "نيفاشا"، بين الطرفين الشريكين. وفيما بلغت عملية السلام في دارفور خطوات متقدمة في الدوحة، ومراحل حسّاسة، ينبغي أن يكون واضحًا الآن أي طريق سوف تسلكه الحكومة السودانية الجديدة.

ورغم أن نقطة الإجماع الوحيدة في السودان الآن هي أن البلاد في مفترق طرق، وأن هنالك مخاوف جدية من تجدّد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، واستمرار الأزمة في دارفور، واستمرار الاحتقان السياسي الداخلي، والإقصاء من المجتمع الدولي، يشير المتفائلون إلى أن السودان سيعيش في حالة سلام، رغم كل المؤشرات السلبية، التي يحاجج بها المتشائمون وتدعمها مظاهر الأزمات الماثلة. غير أن الحقيقة تكمن -بلا شك- في مكانٍ ما بين الروايتين: المتفائلة والمتشائمة؛ فالتوتر الذي أوجدته نتيجة الانتخابات الأخيرة محسوس، إلا أنه يمكن تلمُّس ما يمكن أن يُحدث تحولاً إيجابيًا في القضايا الشائكة، خاصة الاستفتاء ودارفور. وليس اتفاقا الدوحة الإطاريان سوى خطوة في هذا الاتجاه، يُنتظر أن تدفع عملية السلام نحو الأمام. كما يُنتظر أن تتحقق المشاركة السياسية الواسعة الضرورية كي يترسّخ السلام.


فالمقياس الآخر للتفاؤل في السودان هو تعهد حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بالاستمرار في تطبيق اتفاق السلام الشامل، وغلبة الحديث عن الوحدة في تصريحات كثير من المسئولين بعد إعلان نتائج الانتخابات، وإمكانية حدوث وحدة حقيقية قائمة على التراضي بين الشمال والجنوب. كما أن حاجة الحكومة في الشمال لموازنة استحقاقات هذه الوحدة -إن هي تمت- أو أخفقت، تتطلب أن تكون دارفور ضمن المعادلة الوطنية الصحيحة، التي لا يمكن أن تتحقق إلا بشروط السلام العادل والدائم، الذي يستصحب كل الكيانات والقوى الفاعلة ضمن إطار التسوية الشاملة، وفي مقدمتهما حركتا العدل والمساواة، والتحرير والعدالة. ومثلما هناك حاجة لتكريم أهل دارفور على ما أظهروه من إيجابية ومشاركة فاقت كل التوقعات في العملية الانتخابية، ينبغي أن تُبدي الحكومة اهتمامًا وجدية أكبر لاستكمال ما تبقى من مسيرة سلام منبر الدوحة مع هاتين الحركتين؛ لأن الحاجة لهذا السلام الآن أكبر مما كانت قبلُ؛ من أجل مواجهة تحديات الوحدة، أو تداعيات الانفصال، أو إذا كانت إستراتيجية التمكين للمشروع الوطني هي هدف هذا التحول الديمقراطي.
_______________
باحث متخصص في الشؤون السودانية

ABOUT THE AUTHOR