المواجهات في نيجيريا، الأسباب والحلول المقترحة

يقف على العموم عاملان رئيسان وراء ظاهرة العنف المتكررة في مدينة جوس النيجيرية: أولهما الطائفية، ثم القبلية التي أضفت على نفسها سمة أخرى ألا وهي الأقلية العرقية، والتي جاءت كنوع من أوراق الضغط الأكثر جذباً لنيل التعاطف الداخلي أو الخارجي.







 

الخضر عبد الباقي محمد


تؤكد الأحداث والتطورات المتلاحقة على الساحة المحلية النيجيرية أن الأوضاع في البلاد قد بلغت مرحلة متقدمة من التدهور والفوضى، بدء من المواجهات الطائفية المتجددة بين الفينة والأخرى ومروراً بالاضطرابات المتأججة في منطقة دلتا النيجر، وصولاً لحالات الاحتقان السياسي المتفاقمة.


المسألة الطائفية في نيجيريا: الجذور والتقاطعات
الصراع الطائفي في مدينة جوس
الرؤى والحلول مطروحة


المسألة الطائفية في نيجيريا: الجذور والتقاطعات


عند الحديث عن أسباب تفجر الأوضاع المتكرر في نيجيريا لا بد من الوقوف على العوامل الرئيسية الثلاث، التي تشكل المنبع الرئيسي لتوالد وتناسل بقية الأزمات والمشاكل في هذا البلد، وهي: العامل الإقليمي المحلي(الجهوي)، العامل القبلي، والعامل الطائفي الديني.


تكمن الإشكالية الكبرى في أنّ هذا المثلث يحمل كل عنصر من عناصره فيه دلالات تقترب من القداسة ويتقرّر على أساسه فروق  سياسية واقتصادية ومدنية بين فئات الشعب، كما أنّ هذه الدوائر الثلاث ليست حدوداً فاصلة تماماً، بل هناك تقاطع وتداخل فيما بينها.


العامل الإقليمي



عند الحديث عن أسباب تفجر الأوضاع المتكرر في نيجيريا لا بد من الوقوف على العوامل الرئيسية الثلاث، التي تشكل المنبع الرئيسي لتوالد وتناسل بقية الأزمات والمشاكل في هذا البلد، وهي: العامل الإقليمي المحلي(الجهوي)، العامل القبلي، والعامل الطائفي الديني.
فالأقاليم الثلاثة (الإقليم الشمالي المنطبع بالطابع الهوساوي الفولاني، والإقليم الغربي لقبيلة اليوروبا، والإقليم الشرقي لقبيلة الإيبو) الموروثة من الاحتلال البريطاني كرّست نظريات التجزئة والتفكيك ولم تدعم الوحدة والتقارب على الرغم من رحيل الاستعمار.

فعلى الرغم من أنّ كل مجموعة قد تمكنت من تحقيق قدر لا بأس به من الاندماج الإثني داخل إقليمها، إلا أنها عملت على تصنيف نفسها باعتبارها "نحن" في مواجهة الجماعات الأخرى، وقد أوجد هذا الأمر حالة من الصراع بين الأقاليم تعززت بفعل خطابات النشطاء الاجتماعيين والقوى السياسية فيها، فظهرت الثنائيات المتضادة (الجنوب مقابل الشمال/ والشمال مقابل الشرق)، وقد ترتب على هذا الواقع الجيوسياسي ظهور نظام سياسي إقليمي قبلي عمل بدوره على تعزيز هذا الاتجاه من خلال اعتبار الفدرالية تقوم على أساس التعايش لا على أساس الانصهار الكامل.


وتشير المصادر المتخصصة في دراسة الإثنيات العرقية والقبلية في نيجيريا إلى وجود أكثر من 600 مجموعة قبلية قومية على أرض نيجيريا، وتأتى في مقدمة القبائل الأكثر شهرة ونفوذاً قبيلة الهوسا والفولاني اللتان يشكلان حوالي 29 % من السكان وتتمركز عناصرهما في مناطق شمال البلاد. فهناك قبيلة اليوربا التي تسكن عناصرها في مناطق الجنوب الغربي للبلاد وتشكل حوالي 21% من السكان. وقبيلة إيبو التي يسكن أفرادها في مناطق شرق البلاد وتبلغ نسبتها حوالي 18%، وقبيلة الكانوري وتشكل نسبة 4% ويسكن أفرادها في منطقة شرق شمال البلاد ثم قبيلة إبيوبيو وتشكل 3.5% من السكان ويتمركز معظم عناصرها في الشرق الجنوبي لولايات جنوب الشرق، وأخيرا قبيلة التيف وتشكل عناصرها 2.5% من السكان ويعيشون في منطقة الجنوب الشرقي من البلاد.


كما توجد عدة لغات في نيجيريا تزيد عن 515 لغة ما بين منطوقة مكتوبة، ومنطوقة فقط، وغالبيتها قليلة الشهرة ويقل المتكلمون بها عن المليون، أما أكثرها شيوعاً وانتشاراً فهي لغة الهوسا وبجانبها الفولانية، ثم لغة اليوربا ولغة الكانوري ولغة الإيبو.


العامل الطائفي
وأما الإشكالات المرتبطة بالعامل الطائفي فهي الأكثر تعقيداً بسبب طبيعة امتداداتها الإقليمية والعالمية، فعلى الرغم من أنّ نيجيريا تعتبر دولة علمانية من الناحية القانونية إلا أن الدين والانتماء الطائفي ما زالا يلعبان لدى مواطنيها دوراً محورياً في الحياة السياسية والاجتماعية فضلاً عن تقاطعاتهما الإقليمية والقبلية.


وتشير خريطة التوزيع الطائفي والديني لسكان نيجيريا إلى أنّ المسلمين  يشكلون الأغلبية وتصل بحسب بعضها إلى 65%، ولكن بعض المصادر والإحصاءات تجنح إلى التقليل من أعدادهم لأسباب ودوافع سياسية وقبلية وغيرها. وحسب الإحصاءات المتداولة من المصادر الرسمية فإن نسبة المسلمين 50%، والمسيحيين 40%، فيما تمثل نسبة 10% أصحاب الديانات التقليدية المحلية. وتتوزع النسبة الكبيرة من المسلمين في مناطق شمال البلاد التي تقطنها قبائل الهوسا والفولاني حيث تبلغ نسبة المسلمين هناك 95%، وأما قبيلة اليوربا فنسبة المسلمين فيها 50% والمسيحيين 45% والوثنيين 5%. والإيبو أغلبهم مسيحيون بنسبة 65% فيما تشكل نسبة 43% أتباع الوثنية، ونسبة 2% مسلمون.


وتعد المشكلة الطائفية واحدة من المشكلات المتفرعة من أزمة المواطنة والتداعيات التي أفرزتها ظاهرة عدم الاندماج الوطني والتداعيات التي أفرزتها على صعيد الدولة، والحساسية المفرطة التي تجلبها الانقسامات الطائفية على الصعيد المحلي، فعلى سبيل المثال، ولكون نيجيريا تعد أكبر الدول الأفريقية سكانًا، تحظى بكثافة كبيرة من المسلمين؛ إذ تضم أكثر من ثلث المسلمين في أفريقيا، ويرون أنّ نسبتهم تتجاوز 60% من بين ما يزيد عن 160 مليون نسمة، يطالب المسلمون انطلاقًا من هذه المعطيات بأحقيتهم في التأثير والحضور الواضح في شؤون البلاد، سواء ما يتعلق منها بالداخل أو الخارج، كما  يسعون ويطالبون بتعديل الإجازة الأسبوعية من يومي السبت والأحد ليومي الخميس والجمعة أو لأيام محايدة غير منحازة لأصحاب أي ديانة.


وفي ظل مثل هذه الأجواء الطائفية ترزح القيادة السياسية تحت ضغوط كبيرة وتتعرض لاتهامات بالتحيز ضد طائفة أو محاباة أخرى إذا رجحت كفة إحدى الديانتين على الأخرى في بعض المشاريع أو التعيينات، وقد تعرض الرئيس العسكري الأسبق إبراهيم بابانغيد لسلسلة اتهامات من المسيحيين بمحاولته أسلمة نيجيريا على خلفية ظهوره المكثف في تجمعات المسلمين واستفتاحه لخطاباته بالمقدمة العربية المعروفة (البسملة والحمدلة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم). كما تعرض الرئيس النيجيري السابق المسيحي الكاثوليكي (أولوسيغو أوباسيجو) للعديد من الانتقادات من هذا النوع لاسيما خلال فترة ولايته الثانية، فوجهت له تهمة تهميش المسلمين والتحيّز السلبي ضدهم، وذلك على خلفية استبعاده لعدد من المسلمين المرشحين لتولي مناصب وزارية في إدارته، الأمر الذي فسّره المسلمون بمحاولة متعمدة من الرئيس لتأكيد في التحيز إلى المسيحيين وتهميشه للأغلبية من المسلمين.


وبالمقابل هناك احتجاجات من المسيحيين على بعض القرارات والخطوات التي تتخذها الدولة والتي تعتبرها الأوساط المسيحية محاباة للمسلمين على حساب المسيحيين، كانضمام نيجيريا لعضوية منظمة المؤتمر الإسلامي ومجموعة الثماني الإسلامية، ووجود اللغة العربية على العملة النيجيرية باعتبارها لغة تخص المسلمين، وقبل ذلك كله قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل منذ فترة السبعينات من القرن الماضي، وغيرها من القضايا التي تثير الكثير من الحساسية لدى الطوائف وأتباع الديانات الأخرى في البلاد.


الصراع الطائفي في مدينة جوس 


تمثّل مشكلة مدينة جوس واحدة من الأزمات المزمنة في نيجيريا وتأتي الاشتباكات الطائفية الأخيرة فيها كواحدة من سلسلة اضطرابات تشهدها نيجيريا بعد تلك التي عانت منها طويلا في منطقة دلتا النيجر، وكلها تعتبر من العوامل المهددة والمعوّقة كبير للوحدة الوطنية ولمستقبل الاتحاد الفدرالي للبلاد.


ويقف على العموم عاملان رئيسان وراء ظاهرة العنف المتكررة في مدينة جوس: أولهما الطائفية، ثم القبلية التي أضفت على نفسها سمة أخرى ألا وهي الأقلية العرقية، والتي جاءت كنوع من أوراق الضغط الأكثر جذباً لنيل التعاطف سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.





يقف على العموم عاملان رئيسان وراء ظاهرة العنف المتكررة في مدينة جوس: أولهما الطائفية، ثم القبلية التي أضفت على نفسها سمة أخرى ألا وهي الأقلية العرقية، والتي جاءت كنوع من أوراق الضغط الأكثر جذباً لنيل التعاطف سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
فالمواجهات الطائفية جزء من السيناريوهات المعدّة لتنفيذ مخططات التفكيك للبيت الشمالي الكبير والتي تستهدف ضرب الكثافة الإسلامية في نيجيريا من عمقها، حيث انطلقت قبل خمس سنوات  تقريباً دعوات من رموز سياسيّة وزعامات قبليّة من ولايات الحزام الأوسط المحسوبة على الإقليم الشمالي المسلم، تدعو وتطالب بضرورة استقلال منطقة جديدة تسمى "إقليم الحزام الأوسط" للأقليات العرقيّة المسيحيّة، وكانت تلك الدعوة قد تلونت وتسترت تحت عباءة المؤتمر الوطني للإصلاح السياسي الذي نادت به أوساط وقوى سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة، وقد حّركت تلك الدعوة الكثير من المياه السياسيّة في اتجاهات متباينة وتصدرت أولويات أجندة هذا التيار التفكيكي مراجعة وضع الاتحاد الفدرالي للدّولة المركزيّة، بحيث يعطى التداول القبلي للسلطة الأولويّة في الاعتبار، إضافة إلى نقاط أخرى وضعت على أجندة البحث، مثل موقف الدولة من الدين وحدود علاقته بالسياسة والحكم في نيجيريا وحدود تأثيره في صنع القرارات السياسيّة بالتّحديد، مع حسم مسألة علمانيّة الدولة في ظل التصارع الطائفي المتنامي على الحكم ومراكز النفوذ، وفي ظل تصاعد موجات أعمال العنف بين المسلمين والمسيحيّين.

ووجد دعاة التفكيك والانقسام الفرصة متاحة ليؤكدوا مطالبهم من جديد مع تجدد موجات العنف الطائفي والقبلي في أنحاء متفرقة من البلاد، مدعين أنّها نتيجة مباشرة لعدم قدرة العناصر القبليّة المكونة للاتحاد الفدرالي على تحقيق اندماج وطنيّ حقيقيّ وتعايش سلميّ فيما بينها، وليقولوا إنّ الاتجاه الوحدويّ والمركزيّة قد تمّت تجربتهما وفشلتا بشكل صارخ، وأنّهما لم يدعما في الحقيقة الوحدة المنشودة بل دعما الفرقة والرغبة في الانشقاق.


وكانت ردود الأفعال تجاه مسألة إعادة النظر في وضع الاتحاد الفدراليّ والدولة المركزيّة قد اتسمت بتباين كبير بين مواقف القوى والمؤسّسات والتنظيمات الوطنيّة المختلفة ما بين مؤيّد ومعارض ومتحفّظ، وأعلنت إدارة الرئيس "أوباسيجو" حينها رفْضها المطلق لأيّ محاولة أو دعوة لعقد مؤتمر وطنيّ يؤسس لتقسيم البلاد، بل تعاملت مع رموز هذا الرأي بحزم وقمع واعتقال بتهمة خرق الأمن الوطنيّ وتعريض المصلحة الوطنيّة للخطر.


وللوقوف على طبيعة هذه المطالب يمكن الإشارة إلى التصريحات النارية المفجرة للوضع التي أدلى بها "أنبروس علي"، وهو جنرال عسكريّ متقاعد وزعيم سياسي بارز من جماعات الأقلية القبلية المسيحيّة في شمال البلاد، وذلك عقب مذبحة جماعية تعرضت لها مجموعة من عناصر قبيلة الهوسا الفولاني المسلمة قبل ثمان سنوات، وأعلن فيها بكل وضوح "أنّ إقليم شمال نيجيريا لن يذوق الأمن والاستقرار حتى تستقل منطقة "الحزام الأوسط" عن البيت الشمالي الذي تسيطر عليه الأغلبيّة الهوساوية المسلمة" مضيفاً أنّ سكان منطقة الحزام الأوسط "قد أخذوا على غِرة ليعيشوا داخل البيت الشمالي قهراً على الرغم من وضوح التباين في هويّتهم المسيحيّة، واختلاف أسلوب حياتهم الثقافيّة، ولذا؛ يجب عليهم الآن التحرك لتحرير أنفسهم وتولي قيادة نيجيريا".


ومنطقة الحزام الأوسط المطالب بها ستضم ست ولايات(بلاتو وعاصمتها مدينة جوس، وولاية بنوي وغنغولا وكوغي ونيجر وترابا ونصراوا) من أصل 19 ولاية يتكوّن منها إقليم شمال نيجيريا، والذي يشكل بدوره أكبر الأقاليم السياسية الثلاثة. وتتبع ست ولايات للإقليم الغربي وعشر ولايات للإقليم الشرقي، وتوجد الأغلبيّة والكثافة الإسلاميّة في الإقليم الشماليّ بنسبة كبيرة، لهذا فإن المحاولات الرامية لتفتيت الإقليم الشمالي تستهدف إضعاف القوّة التأثيريّة والنفوذ القوي اللذين يتمتع بهما الشمال، وتتكئ الأقلية المسيحية في جهودها لتحقيق هذا الهدف على دعاوى التهميش ومحاولة المسخ ثقافي لهُويتها لتكسب التعاطف المحلي والإقليمي والدولي.


وتجدر الإشارة إلى أن تداعيات خطيرة ستخلفها فكرة الاستقلال على المسلمين، ذلك أنّ الولايات التي سيضمها الحزام الأوسط تسكنها الأغلبيّة المسلمة من قبائل الهوسا والفولانى وغيرهما ممن ينتمون للثقافة الإسلاميّة، والذين تعتبرهم الأقليّة المسيحيّة(الذين يرون أنفسهم السكان الأصليين) عناصر مهاجرة ومواطنين من الدرجة الثانية، فماذا سيكون الشأن معهم؟.


الرؤى والحلول المطروحة 


لا شكّ أنّ هذه التحولات الجديدة على درجة كبيرة من الأهميّة في منظومة الحسابات السياسية سواء تلك التي تتعلق بمسألة الاتحاد الفدرالي أو تلك التي تتعلق بوضع الكثافة الإسلاميّة من جهة أخرى، حيث انطوت على إشارات في غاية من الحساسية، وكشفت أنّ كل الاحتمالات مفتوحة الآن في نيجيريا على جبهات مختلفة على الرغم من تناقضات الواقع، والمؤشّرات كلّها تدل على إمكان ظهور ترتيبات جديدة ومغايرة لما هو موجود في الوقت الحالي.





لا يمكن إغفال بعض الحلول المطروحة في الساحة لمعالجة الأزمة والتي من بينها: العمل على الفصل بين العناصر القبائلية المتناحرة بإنشاء المزيد من الولايات والوحدات السياسية، وتضم عناصر قبلية متجانسة طائفيا أو ثقافيا.
وفي هذا السياق لا يمكن إغفال بعض الحلول المطروحة في الساحة لمعالجة الأزمة والتي من بينها: العمل على الفصل بين العناصر القبائلية المتناحرة بإنشاء المزيد من الولايات والوحدات السياسية، وتضم عناصر قبلية متجانسة طائفيا أو ثقافيا.

غير أنّ إنشاء مزيد من الولايات سيزيد من الأعباء الاقتصادية وسيزيد من حالات التضخم الإداري المثقل به كاهل الاقتصاد الوطني أصلا. فنيجيريا بدأت رحلتها في التقسيم الإداري بثلاثة أقاليم فقط منذ عام 1951 هي: الإقليم الشمالي والإقليم الغربي والإقليم الشرقي، ثم تم إنشاء إقليم الغرب الأوسط عام 1963. وشهدت حالة توسع إلى نظام الولايات عام 1967 عقب حادث انقلاب عسكري أطاح بعدد من الرموز السياسية ذات الوزن والثقل الإقليمي والقبلي، حيث قسمت البلاد إلى اثنتي عشرة ولاية، ثم إلى تسع عشرة ولاية عام 1976 بعد انقلاب عسكري آخر، واستمرت حالة التوسع منذ ذلك الحين حتى وصلت إلى 63 ولاية و774 إدارة محلية.


وعلى الرغم من تأكيد الرؤساء المسؤولين عن تلك التوسعات على صدق النوايا والدوافع التي تقف وراء هذه التطويرات، ومن ذلك القول إنها تهدف لتقريب الحكومة إلى الشعب وتضييق الخناق على الفروقات القبلية التي تضغط على الحياة السياسية، إلا أن النتيجة النهائية أضرت بالوضع الاقتصادي والسياسي معا، حيث ولدت الكثير من الولايات الضعيفة التي تعتمد على الحكومة الفدرالية في معظم شؤونها وأمورها، لأنها لا تمتلك المقومات الأساسية الكافية التي تضمن لها مصادر دخل وإيرادات معقولة تعتمد عليها، لهذا ذهب بعض الخبراء في هذا الشأن إلى أنّه لا ينبغي أن يكون لنيجيريا أكثر من ثماني ولايات أو أقاليم، بحيث تكون هذه الولايات قوية وتتمتع بمصادر دخل مرتفعة ومتعددة تمكنها من التمتع بحكم ذاتي حقيقي.


ويرى آخرون من أصحاب التيار التوفيقي بين الضرورات والمقوّمات الاقتصادية الأساسية لقيام الإدارة السياسية ومتطلبات الأمن الاجتماعي الداخلي لمكونات الدولة: أنّ إنشاء أقاليم على أساس مجموعات عرقية متقاربة هو الحلّ الأنسب، بحيث يكون كلّ إقليم متمتعاً بنظام فدرالي مصغّر في داخله، ويقترحون على أساس ذلك أن يكون لنيجيريا ثمانية عشر إقليم على شكل فدراليات مصغّرة، اثني عشر منها تخصّ القبائل الكبيرة (إبيوبيو، إيجو، إغبو،أوروبو، إيدو، يوربا، نوبي، تيف، غباغي، هوسا، فولاني، كانوري) فيما تخصص الست الباقية لمجموعات من الأقليات، مثل فدرالية للأقليات في ولايتي بياليبسا وريفاز، وفدرالية للأقليات في دلتا، وأخرى للأقليات في منطقة غربي الحزام الأوسط، وفدرالية في منطقة الحزام الأوسط، وآخرها فدرالية في منطقة شرق الحزام الأوسط.


وهناك حل آخر مقترح يتمثل باعتماد آليات جديدة ومقننة لاحتواء كافة العناصر القبلية المختلفة داخل العملية السياسية والمراكز والمناصب القيادية عن طريق العمل بنظام الحصص (المحاصصة القبلية)، وهذا الحل قد يكون الأنسب والأقرب للتطبيق على السلطات الفدرالية من الحل الأول، حيث ينطوي الحل التقسيمي على عدة مخاطر أبرزها تكريس الانقسامات القبلية والطائفية وتشجيع النظام الإقليمي القائم على أسس قبلية، وهو يتعارض مع منطق الدمج الاجتماعي الذي اعتمدته السلطات الفدرالية في نيجيريا وعليه وضعت إستراتيجياتها وسياساتها الداخلية منذ الاستقلال.


وبالإضافة إلى ما يكرسه الحلّ التقسيمي من عزل للقبائل بعضها عن بعض، وسد لفرص التآلف والتقارب بين طوائف الشعب النيجيري، فإنّ أي إجراء من هذا النوع سيعطي المشروع التفكيكي مباركة وشرعية، في وقت تؤكد الحكومة المركزية في أبوجا أن ليس لديها استعدادا لتكرار التجارب المريرة التي خبرتها في منطقة شرق البلاد والتي فتحت لها أبواب جهنمية من التوتر الدائم في منطقة دلتا النيجر، حيث تصاعدت أزماتها وبرزت قوى سياسية واجتماعية متعددة عقب إنشاء ولايات جديدة في تلك المنطقة.


لذا؛ أعتقد أن الدولة ستستمر في العمل بالنظام القائم حاليا (تعايش الجميع تحت سقف واحد)، مع تكثيف الإجراءات والبحث عن آليات ووسائل جديدة ومناسبة لتأكيد مبدأ التعايش السلمي بين تلك القبائل وأتباع الديانات المختلفة خاصة الإسلام والمسيحية.
_______________
مدير المركز النيجيري للبحوث العربية