إفريقيا الشرقية:أهمية استراتيجية وآفاق مستقبلية

لابد أولا من تحديد الإطار الجغرافي لإفريقيا الشرقية التي هي موضوع هذا النص. وبالنظر إلى تسيب الحدود وانسياب حركات الأشخاص والبضائع على أراض بهذا الاتساع فإنه من الصعوبة بمكان وضع تحديد مضبوط لهذا الفضاء الجغرافي.
201172173730611734_2.jpg

لابد أولا من تحديد الإطار الجغرافي لإفريقيا الشرقية التي هي موضوع هذا النص. وبالنظر إلى تسيب الحدود وانسياب حركات الأشخاص والبضائع على أراض بهذا الاتساع فإنه من الصعوبة بمكان وضع تحديد مضبوط لهذا الفضاء الجغرافي. وعليه يمكن أن نعتبر أن إفريقيا الشرقية تغطي منطقتين متمايزتين إلى حد ما: منطقة البحيرات الكبرى: كيفو شرقي الكونغو، بوروندي، رواندا، أوغندا من جهة؛ والقرن الإفريقي: جيبوتي، إريتريا، أثيوبيا والصومال من جهة ثانية. وتعتبر كل من كينيا وتنزانيا بوابة بحرية لمنطقة البحيرات الكبرى، ومصدرا لقوتها الاقتصادية، ومرجعا للغتها السواحيلية، ومقصدا وموئلا للاجئيها السياسيين. ويشكل البلدان دعامتين للمنطقة، وكانا فيما يبدو بمعزل عن الاضطرابات والمذابح التي عاشها جيرانهما خلال العقود التي أعقبت الاستقلال؛ غير أنه ينبغي أن يصنفا ضمن إفريقيا الشرقية. وأخيرا فإن جنوب السودان الذي أصبح مستقلا هذا الشهر يشكل دون أدنى شك، بالنظر إلى تحالفاته السياسية وسكانه جزءا من إفريقيا الشرقية.

فنحن إذن بصدد منطقة تغطي أكثر من 6 ملايين كلم مربع، وتؤوي نحو 300 مليون شخص ثلثاهم تقل أعمارهم عن 30 عاما، وهم شباب عاطل عن العمل، ولا أمل له في تحصيل فرص عمل في المستقبل القريب؛ فهو في الوقت ذاته فرصة للتنمية أو عوامل تهديد للاستقرار.

أهمية إستراتيجية مؤكدة

تتسم إفريقيا الشرقية بالاتساع الشديد والثراء لكنها مع ذلك تواجه مخاطر وتهديدات كبيرة. وهي تحتضن غابات كبرى، بينها غابة حوض نهر الكونغو التي يعتبرها العلماء وخبراء البيئة بمثابة ثاني أكبر رئة في العالم بعد غابة الأمازون. وهذا يعتبر عامل قوة بالنظر إلى الأهمية الممنوحة في الوقت الحالي للبيئة. كما أن المنطقة، إذا استثنينا القرن الإفريقي، تعتبر غنية بالأراضي الخصبة الصالحة للزراعة والمروية بشكل جيد. وقد ظلت هذه الأراضي الزراعية غالبا غير مستصلحة أو قليلة الاستصلاح لكنها بدأت تُستثمر بشكل متزايد من خلال عقود استغلال مع دول أجنبية بطريقة تخدم السكان المحليين والسوق الدولي.

ويُنتقد هذا الخيار السياسي خارجيا أكثر مما ينتقد داخل بلدان يطمح فلاحوها إلى ظروف عيش ودخول أكثر استقرارا. ومن شأن استثمار هذه الأراضي أن يوفر عوائد إضافية للحكومات المحلية كما كان الشأن بالنسبة للمناجم. وستنضاف هذه العزائد إلى عوائد منتجات التصدير التقليدية الكبرى في المنطقة كالقهوة والشاي. وهناك ثروات منجمية متعددة بينها معادن نادرة وإستراتيجية كالكوبالت والنحاس والذهب تشكل الثروة التقليدية للكونغو. كما بدأ استغلال المحروقات، وخاصة في أوغندا، وهو نشاط واعد. وأخيرا يجدر التذكير بأنه في الطرف المقابل لليمن تسيطر إفريقيا الشرقية على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وهو ما يجعلها مسلكا من أهم المسالك التجارية في العالم خاصة فيما يتعلق بنقل المحروقات ومشتقاتها.

وتعتبر هذه المنطقة التي تلتقي فيها طرق الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا منطقة تهريب واسع للمخدرات والأسلحة والمهاجرين غير الشرعيين...إلخ. وقد أدى تنامي القرصنة مؤخرا، ودفع فديات مضطردة الارتفاع للقراصنة إلى زيادة مخاطر الإجرام وعدم الأمن في المحيط الهادي، كما أعاق تماما نشاطات اقتصادية مهمة كالسياحة، والملاحة التجارية القريبة من الشواطئ، والصيد التقليدي، واستيراد المواد الأساسية إلى المنطقة. كما أن غياب الأمن المزمن في الصومال أفرز نشاطات إجرامية أخرى؛ كالصيد غير الشرعي، وكبّ النفايات السامة على سواحل هذه البلدان. وقد مكَّن وجود أسطول دولي كبير على السواحل الصومالية لمكافحة القرصنة من الحد من هذه الخسائر دون أن يفضي الأمر إلى القضاء على هذا الوباء.

والحقيقة أن أمن صادرات الشرق الأوسط ودول أخرى آسيوية وأوربية كثيرة يرتبط ارتباطا كبيرا بأمن البحر الأحمر وبالتالي بأمن واستقرار إفريقيا الشرقية. وتعتبر الهجمات الإرهابية على السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998، وبعد عام من ذلك على مدينة مومباسا السياحية في كينيا أدلة ملموسة على المخاطر والتهديدات المحدقة بالمنطقة. كما أن هجمات يوليو/تموز 2010 على حانة في كمبالا بأوغندا أثناء تظاهرات الفيفا تعيد إلى الأذهان مجددا استمرار غياب الأمن في إفريقيا الشرقية.

غياب الأمن: هم أساسي

كما هو الحال في بقية العالم فإن الأمن في إفريقيا يرتبط بعدة شروط، في طليعتها: العدل وحسن التسيير. وليس هناك أمن مستدام لا للشعوب ولا للحكام دون حكامة رشيدة تقوم على نظام قضائي يحترم القوانين المصادق عليها، ويتمتع باستقلالية مؤكدة عن السلطة التنفيذية. كما أن الفقر، عكس ما تروج له الأفكار المسبقة، لا يجر بالضرورة إلى العنف إلا في الحالات التي يصاحبه فيها ظلم فادح في معاملة السلطات العمومية للمواطنين وفي إعادة توزيع الثروة الوطنية؛ فالعنف وغياب الأمن يبرزان دائما كلما ظهر الفساد بشكل صارخ في النخب الحاكمة، وكلما تحول إقصاء الأقليات العرقية أو الدينية أو الجغرافية إلى قاعدة سياسية. كما يغيب الأمن أيضا عندما يقرر قادة الدول ذات الدساتير الجمهورية الخلود في الحكم بل وتوريثه على أسس عائلية أو فئوية. وإذا كانت مخاطر الإقصاء السياسي وتوريث الأحكام الأسرية قائمة في كثير من الدول الإفريقية فإن القادة والرأي العام على وعي بتلك المخاطر. وحتى اليوم فإن تنزانيا تكاد تكون الدولة الوحيدة في المنطقة التي نجحت في إرساء واحترام قواعد للتداول السياسي ضمنت لها الاستقرار والأمن. وينحدر الرؤساء بالتناوب من القارة (تنجانيقا القديمة) وزنجبار ولا يمكن لأي منهم أن يبقى في الحكم أكثر من 10 سنوات أي ولايتين كلتاهما من 5 سنوات.

ويبقى التهديد الأخطر لأمن إفريقيا الشرقية مرتبطا بآثار النزاعات الدامية والمذابح الأخرى التي حدثت في التسعينيات؛ فمخلفات مذابح رواندا -أكثر من ثمانمائة ألف قتيل- ما تزال حية، وما تزال بوروندي تعاني معاناة مميتة من ماضيها الدامي، وكذلك الأمر بالنسبة لشرق الكونغو -وخاصة مناطق كيفو الغنية- حيث تحول العنف إلى وباء مزمن منذ أكثر من خمسين عاما. ولا شك أن الأزمة الكونغولية مرتبطة بالمصاعب التي واجهت الحكام في تسيير بلد تضاهي مساحته تلك المساحة من الولايات الأميركية الواقعة شرقي المسيسبي وتزيد على مساحة أوربا الغربية برمتها. وتعتبر الثروات الهائلة لهذه المنطقة وخاصة المعدنية منها مصدرا لتنافس محموم لا يساعد على الاستقرار. وأخيرا فإن الأمن يظل غائبا في أوغندا نتيجة العنف والدمار المرتبطين بالمواجهة التي يخوضها جيش الرب في هذا البلد.

وبعد مجازر حرب الحدود فإن الحرب الخفية والتنافس على الزعامة الإقليمية يسمم باستمرار العلاقات بين إريتريا وأثيوبيا، ويعوق بالتالي استقرار القرن الإفريقي. وبشكل عام فإن الأمن يظل غيابه مرتبطا أساسا بالحروب الأهلية الطويلة في الكونغو وجنوب السودان والصومال ومن المنتظر أن يتوطد شيئا فشيئا. وقد باتت الصومال في نظر الجميع مثالا للدولة المفلسة. والغريب أن الصومال بلد يملك كل عوامل الاستقرار والوحدة: تجانس عرقي وديني ونفس اللغة ونفس الامتداد الجغرافي. لكن حربا أهلية لا نهاية لها تعصف به منذ عشرين عاما.

ومهما يكن تأثير التدخلات الخارجية فإن هذه الحرب في نظري تقع مسؤوليتها على النخب الوطنية التي فشلت في التوصل إلى اتفاق أو تعنتت في تقديم تنازل رغم أن الرسول محمدا صلّى الله عليه وسلّم ضرب في صلح الحديبية أسطع مثال لذلك. فقد حوّلت نخب صومالية تعيش بأمان في الخارج بلدها إلى منطقة يستحيل حكمها وتثير شفقة الجميع. فهي اليوم فضاء للعنف وكل أنواع التهريب بما فيها القرصنة. والصومال حاليا هو مريض إفريقيا الشرقية الكبير. وهو يشكل في ظل غياب القانون خطرا على نفسه وعلى المنطقة وعلى جزء كبير من المجتمع الدولي.

السلم والاستقرار يظلان مُمكنيْن

تظل التحديات الأمنية كبيرة على جميع الأصعدة؛ فخطر الإرهاب لم يختف وما يزال يشكل تهديدا حقيقيا رغم أنه تم احتواؤه بفضل فاعلية الأجهزة الأمنية للبلدان المعنية، والتعاون الإقليمي. وعلى هذا الصعيد تنتظم دول المنطقة في منظمة الإيغاد. ويوجد مقر المنظمة في جيبوتي وتنتمي إليها كل من جيبوتي وأثيوبيا وكينيا وأوغندا والسودان. وقد انسحبت منها إريتريا عام 2007. وهناك منظمة أخرى تدعى لجنة إفريقيا الشرقية يوجد مقرها في نيروبي وتمنح الأولوية للقضايا الاقتصادية وأعضاؤها خمسة: بوروندي وكينيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا.وتشهد المنطقة الآن تغييرات عميقة. ومما يسرع عجلة التقدم الاقتصادي والسياسي: مشاريع البنى التحتية الكبرى التي تربط أثيوبيا وجنوب السودان بالموانئ الكينية، والمواصلات العصرية التي تربط موانئ دار السلام ومومباسا بعمقها بشرق الكونغو وبوروندي ورواندا وأوغندا وجنوب السودان، وتعدد الرحلات الجوية بين مختلف العواصم الإقليمية. وهناك اليوم رحلات جوية منتظمة تربط إفريقيا الشرقية بباقي القارة وأوربا، وبشكل متزايد بالشرق الأوسط وآسيا. وتسهم الاستثمارات العربية والصينية والهندية واليابانية في مجال البنى التحتية في تسريع التبادلات بين بلدان المنطقة واندماجها الاقتصادي. وتشهد روابط الإنترنت ذات السرعات الفائقة نموا ملحوظا على طول الساحل وخاصة في كينيا.

الخاتمة

بفضل جدية سكانها وقربها الجغرافي من آسيا والشرق الأوسط فإن لإفريقيا الشرقية مستقبلا واعدا. ولا شك أن مآسي الماضي شكلت درسا بليغا للنخب الوطنية يحفزها على مزيد من الحداثة والتعايش السياسي. وتترسخ الحريات أكثر فأكثر في الذاكرات الجمعية؛ فبلدان كأثيوبيا، 85 مليون نسمة، وتنزانيا، 42، وكينيا ،40، وأوغندا، 32، تشكل اقتصادات مستقبلية صاعدة. كما أن جيبوتي ورواندا، وكلتاهما تمنح الاقتصاد كامل الأولوية، تطمحان إلى أن تصبحا هونغ كونغ أو سنغافورة إفريقيا.
_______________________
المبعوث الخاص السابق للأمين العام للأمم المتحدة في منطقة البحيرات، والمبعوث الدولي إلى الصومال.
رئيس مركز 4s بنواكشوط.

ABOUT THE AUTHOR