انطلقت في منتصف شهر مايو/أيار 2011 في الجزائر مرحلة جديدة من الحوار الوطني، في إطار عملية إصلاح أعلن عنها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وقد حدد الرئيس بوتفليقة الأهداف الرئيسية لعملية الإصلاح؛ حيث أكد أنها ستشمل تغييرا للدستور الحالي، إلى جانب تعديل قوانين أساسية مثل قانون الأحزاب والجمعيات وقانون الإعلام.
ويقول أصحاب مبادرة الإصلاح الجديدة: إنهم يريدون إحداث تغييرات تشبه تلك التي عرفتها الجزائر بعد أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988، رغم اختلاف الظروف السياسية والاجتماعية والتغييرات الجذرية التي عرفتها العلاقات الدولية؛ فبعد مظاهرات 1988 التي خلّفت 189 ضحية، قرر الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد وضع حد لنظام الحزب الواحد، وقام بتغيير الدستور وفتح الحياة السياسية أمام الأحزاب والجمعيات، إلى جانب تعددية الساحة الإعلامية. وقد تم في 23 فبراير/شباط 1989 تنظيم استفتاء حول دستور جديد يكرس التعددية السياسية، ثم جاء بعده قانون الأحزاب وقانون الإعلام الذي ما زال يعتبر من أكثر القوانين تفتحا في البلدان العربية.
وتختلف إصلاحات ما بعد أكتوبر/تشرين الأول عن الإصلاحات الحالية في عدة جوانب أساسية، نذكر منها أن إصلاح نهاية الثمانينيات جاء بمبادرة من السلطة التي أظهرت إرادة سياسية قوية في التغيير، مع وجود مشروع سياسي منسجم ومتكامل، ووجود خبرة في مؤسسات الدولة. أما العوامل السلبية، فإنها تتمثل في الوضع الدولي الصعب الذي كان سائدا عندما قامت الجزائر بأول محاولة للإصلاح في الثمانينيات، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت البلاد تعاني منها آنذاك، إلى جانب المخاوف من تنامي قوة التيار الإسلامي علاوة على قلة خبرته.
الإرادة السياسية أساس الإصلاح
لما انفجرت أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988، كانت الجزائر قد دخلت مرحلة إصلاحات عميقة تهدف إلى الخروج من الاقتصاد البيروقراطي والدخول في الاقتصاد الحر، والتحضير لمرحلة التعددية، رغم أن الخطاب لم يكن واضحا وصريحا فيما يتعلق بالتعددية السياسية. وكان الخطاب الرسمي يركز على "تجنيد كل الطاقات السياسية" و"فتح المجال لكل الجزائريين"، دون التطرق صراحة إلى مشروع التعددية الحزبية.
وعكس ما يشاع، فإن تطبيق الإصلاحات لم يكن نتيجة أحداث أكتوبر، إنما سبقها؛ حيث بدأ تطبيق الإصلاحات سنة 1987 في الميادين الاقتصادية، وتمت المصادقة على القوانين الاقتصادية في يناير/كانون الثاني 1988، قبل مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول؛ مما دفع البعض إلى اعتبار أحداث أكتوبر/تشرين الأول نتيجة للصراع الذي كان يدور في قمة السلطة بين أنصار التفتح وأنصار النظام القديم.
ورغم أن نظام الحزب الواحد كان سائدا في تلك المرحلة، إلا أن التيار المسيطر على السلطة كان يميل إلى الإصلاحات، بينما كان جهاز الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني) يظهر معارضا للإصلاحات، بمساندة فئات في الجيش وأجهزة الأمن وبعض المنظمات مثل المركزية النقابية. واستطاع التيار المطالب بالإصلاحات أن يفرض نقاشا اقتصاديا ثم سياسيا واسعا شارك فيه بقوة أهل الفكر والثقافة. وأثار هذا النقاش اهتمام النخبة السياسية والاقتصادية، وفي نهاية المطاف تقبّله الرأي العام. ثم أعطت أحداث أكتوبر/تشرين الأول دفعة قوية إلى الأمام لمسار الإصلاحات، وأصبحت التعددية واقعا ميدانيا لا تستطيع السلطة أن تتراجع عنه.
وارتكز الرئيس الشاذلي بن جديد عندها على ما يسمى بتيار "الإصلاحيين" في جبهة التحرير الوطني، وكان هؤلاء ملتفين حول السيد مولود حمروش الذي كان يشغل منصب أمين عام رئاسة الجمهورية قبل أن يتم تعيينه على رأس الحكومة في سبتمبر/أيلول 1989. واستطاع مولود حمروش أن يجمع حوله نخبة من رجال القانون والاقتصاد، كما التفت حوله مجموعات من الشخصيات الفاعلة في ميدان الثقافة والإعلام والفن، إلى جانب تيار في جبهة التحرير الوطني استطاع بفضله أن يدفع مشروع الإصلاحات إلى الأمام.
أما الإصلاحات التي يريدها السيد بوتفليقة اليوم، فإنها لا تأتي من إرادة سياسية واضحة، وإنما جاءت نتيجة لضغط من جهتين: ضغط داخلي على إثر المظاهرات العنيفة التي اجتاحت البلاد في بداية السنة، والتي شملت كل مناطق البلاد، من جهة. ومن جهة أخرى، ضغط خارجي سواء من القوى الكبرى التي تتعامل مع الجزائر أو ضغط ريح الثورات العربية الذي يشكِّل هاجسا حقيقيا في البلاد.
أي مشروع من وراء الإصلاحات؟
يعترف منشطو التيار الذي قاد الإصلاح في نهاية الثمانينيات أنهم لم يسطروا مشروعا من بدايته إلى نهايته، لكنهم كانوا يعرفون أين سيؤدي بهم مشروع الإصلاح على المدى البعيد. وكانوا يعتبرون أن المهم هو احترام الهدف الأساسي المتمثل في تحرير المجتمع وتحرير الاقتصاد، وأن كل المبادرات التي يتم اتخاذها يجب أن تصب في هذا الاتجاه. وفعلا جاءت قوانين الإصلاح منسجمة يكمل بعضها البعض في سياق دستور 1989، وكانت القوانين متبوعة بتطبيق فوري؛ حيث تم فتح مجال الإعلام وتشجيع الأحزاب السياسية، كما تعاملت السلطة مع الأحزاب على أساس أنها مؤسسات يجب احترامها لا كتنظيمات يجب محاربتها. ولما جاءت مواعيد الانتخابات، تم تنظيمها بطريقة شفافة، واحترم الإصلاحيون نتائجها رغم أنها لم تكن في صالحهم، وساعد هذا التصرف على زرع الثقة بين المتعاملين السياسيين، واقتنعت المعارضة أن هذا التيار الإصلاحي كان جادا وصادقا في مشروعه الإصلاحي.
هذه النقطة تمثل بدورها فرقا واضحا مع الوضع الحالي؛ حيث إن السلطة تتكلم اليوم عن إصلاحات شاملة لكن لم يتضح بعد ماذا تقصد من خلالها. وما زالت السلطة تفرض ضغوطات كثيرة على الأحزاب والجمعيات وعلى مختلف وسائل الإعلام؛ حيث لم تسمح بإنشاء أي حزب جديد منذ اثنتي عشرة سنة، كما منعت التظاهرات السياسية في العاصمة، وتقول في نفس الوقت: إنها تريد إقامة دولة القانون؛ مما يحول خطابها إلى كلام عشوائي لا يوجد فيه منطق ولا يصدقه المواطن.
وتتكلم السلطة اليوم عن تعديل قانون الأحزاب، مع العلم أنه لم يتم اعتماد أي حزب جديد منذ اعتلاء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة السلطة قبل اثني عشر عامًا؛ لذا يحق التساؤل عن الفائدة اليوم من تغيير قانون الأحزاب إذا كانت السلطة في نهاية المطاف لا تعترف بالقانون؟ إن هذا التناقض يؤكد في نهاية المطاف أن السلطة الحالية لم تحدد مشروعا واضحا تريد تطبيقه، إنما تتصرف السلطة حسب الظرف وميزان القوى؛ فإذا كثرت الضغوط الخارجية وتضاعف ضغط الشارع، تتصرف السلطة وكأنها مستعدة لإصلاحات كبيرة، لكن ما إن تنخفض حدة الضغوط إلا ويعود النظام إلى سلوكه التقليدي الذي يسوده التسلط.
الإصلاح عملية معقدة
وساهم في تنظيم النقاش السياسي الذي رافق إصلاحات الثمانينيات مستوى التأطير الذي كانت تتميز به مؤسسات الدولة الجزائرية في ذاك الوقت. وكانت الإدارة والمؤسسات العمومية تشمل نخبة من الإطارات التي لم تعرف إلا ثورة التحرير والمرحلة الأولى من الاستقلال، عندما كانت تسيطر في البلاد قيم سياسية وأخلاقية تضمن حدا أدنى من النزاهة والانضباط والفعالية في العمل.
وبما أن أهل الخبرة كانوا ينحصرون أساسا في الإدارة وفي المؤسسات العمومية، فإنه كان من السهل دفعهم للمشاركة في النقاش الذي كان يدور آنذاك وفي تطبيق مشاريع الإصلاح. أما في الوقت الحالي، فإن مستوى التأطير في الإدارة والمؤسسات تراجع بصورة مذهلة بسبب عوامل مختلفة، مثل الإرهاب. وقد رفض أحسن الإطارات العمل في جو سياسي متعفن، وانهيار الأخلاق في الإدارة ومؤسسات الدولة. وقد غادر العديد من أهل الخبرة البلاد ليستقروا في أوربا وأميركا؛ حيث هاجر أكثر من 70 ألف جزائري من حاملي الشهادات العليا، بينما غادر آخرون الإدارة والشركات العمومية لينضموا إلى شركات خاصة، وتراجع أداء الإدارة الجزائرية إلى مستوى يجعل من تطبيق أي مشروع معجزة. أما عملية الإصلاح، فهي معقدة وتتطلب مشاركة أطراف كثيرة؛ مما يجعلها خارج متناول الإدارة الحالية. وقد سُئِل وزير جزائري سابق ينتمي إلى حزب الوزير الأول أحمد أويحيى عن نتائج اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوربي؛ فقال صراحة: إن الإدارة الجزائرية غير قادرة على تطبيق هذا الاتفاق...
محيط دولي غير ملائم
جرت الإصلاحات التي عرفتها الجزائر قبل عشريتين في ظرف يتميز بثلاثة عوائق سياسية، أولها: المحيط الدولي، وكانت الجزائر وقتها تنتمي إلى بلدان عدم الانحياز، كما كانت معادية للخط الأميركي وتعتبر مقربة من الاتحاد السوفيتي. أما على الساحة العربية، فإن مساندتها لمنظمة التحرير الفلسطينية ولجبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء الغربية جعلت علاقاتها صعبة مع البلدان العربية الفاعلة مثل مصر والمملكة العربية السعودية.
وعندما بدأت الإصلاحات، كانت كل هذه الأطراف تنتظر آثارها على السياسة الخارجية للجزائر، وضغط كل طرف ليدفع في الاتجاه الذي يخدم مصالحه، ولم يبق للجزائر إلا هامش ضيق جدا حاولت أن تحافظ عليه باتخاذ سياسة متوازنة ترتكز أساسا على المصالح الاقتصادية، خاصة وأن البلاد كانت تعيش أزمة اقتصادية خانقة.
وكانت الولايات المتحدة في ذاك الوقت تساند الأنظمة العربية المحافظة التي تعتبرها صديقة، وكانت البلدان الغربية بصفة عامة تحافظ على الأنظمة القائمة ولا تقبل التغيير الذي لا تتحكم فيه.
وكانت الولايات المتحدة وفرنسا تنظران إلى التغيير في الجزائر بطريقة سلبية، خاصة وأن مشاركة الشارع الجزائري في الحياة السياسية بقوة أكد أنه سيكون من الصعب جدا الضغط على أية سلطة تنبع من هذه التجربة لأن شرعية السلطة ستكون قوية. هذا عن الجانب العلني، أما ما كان يحدث في الخفاء فهو رفض قاطع من الولايات المتحدة وفرنسا لمساندة التجربة الديمقراطية في الجزائر، إلى جانب إقامة قنوات اتصال مع القوى التي كانت ترفض المشروع الديمقراطي سواء في صفوف السلطة أو بين الإسلاميين.
وبعد الثورات العربية، أعلنت الدول الغربية عن تغيير موقفها، وقالت: إنها ستساند التغيير. ويشكِّل هذا الجو الدولي الملائم للإصلاح نقطة أساسية يمكن أن تساهم اليوم في عملية التغيير، خاصة وأن الدول الغربية لا تكتفي بالقول: إنها تساند التغيير في العالم العربي، وإنما بدأت توفر المال والسلاح من أجل ذلك، حتى لو أن الدول الغربية تعمل قبل كل شيء لحماية مصالحها.
أزمة اقتصادية خانقة
ومن أهم العناصر التي أثّرت كذلك على عملية الإصلاحات في الثمانينيات نذكر الأزمة الاقتصادية؛ فبعد حرب الأسعار التي شنتها العربية السعودية ابتداء من سنة 1985، وانهيار أسعار المحروقات التي ترتبت عنها، وجدت الجزائر نفسها في وضعية مالية صعبة جدا؛ حيث لا تسمح صادراتها من النفط بتغطية ستين بالمائة من واردات البلاد. وقد بلغت ديون الجزائر آنذاك 24 مليار دولار بينما تراجع مخزون البلاد من العملة الصعبة إلى أقل من ثلاثة أشهر من الواردات.
وكانت تلك الأزمة دافعا أساسيا للدخول في الإصلاحات، واعتبرها عدد من السياسيين فرصة لا تعوض لتغيير شامل في البلاد؛ حيث كانوا يقولون: إن المحروقات أعطت الجزائر دخلا مضمونا جعل البلاد عاجزة عن العمل والإبداع. وذهب البعض إلى القول: إن الأزمة الاقتصادية فرصة تاريخية ستخسر الجزائر الكثير إذا لم تستغلها لتغيير الاقتصاد الوطني بشكل كامل. وفعلا، ما إن عادت أسعار النفط إلى الارتفاع حتى عادت طرق التسيير القديمة مع انتشار التبذير والفساد واستعمال الأموال بطريقة عشوائية.
الإسلام السياسي: قوة دون رؤية
وواجهت تجربة الإصلاح في الجزائر نهاية الثمانينيات موجة الإسلام السياسي التي كانت تعم البلدان العربية. وسمح الخطاب الشعبوي الراديكالي الذي كانت تتبناه الجبهة الإسلامية للإنقاذ، سمح لها باكتساب شعبية واسعة؛ مما جعل منها القوة السياسية الأولى في البلاد. واستطاعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ أن تفوز في الانتخابات المحلية في يونيو/حزيران 1990، ثم في الانتخابات التشريعية في ديسمبر/كانون الأول 1991؛ مما دفع قيادة الجيش إلى وضع حد للتجربة الديمقراطية، ونتج عن هذا القرار عشرية من العنف خلّفت ما يقارب 200 ألف ضحية.
وكانت جبهة الإنقاذ تتبنى خطابا غير منسجم، بين تيار سلفي يريد تطبيق الشريعة فورا، وتيار "وطني" يتبنى خطابا أكثر ليونة، وتيار تكفيري يعطي وعودا بالثأر والدخول في حروب ضد الغرب. وكانت الأصوات المتطرفة هي الأكثر رواجا، حتى فلتت الأمور من بين أيدي قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي ظهرت ضعيفة أيديولوجيا، كما أنها برهنت على أنها لا تعرف أهمية الدولة، وليس لها وعي بأهمية المؤسسات.
إجماع ضد الإصلاح
وإذا كانت جبهة الإنقاذ هي العنصر البارز الذي أضاع فرصة التغيير، فإن تجربة الإصلاح في الجزائر فشلت بسبب وجود إجماع ضدها، خاصة لما اتضح أن الإصلاحيين كانوا يعملون فعلا لتحويل السلطة إلى الشعب. وفي الداخل، كانت تيارات داخل الجيش وأجهزة الأمن تعتقد في بداية الأمر أن الإصلاحات ستسمح بإعادة الاعتبار للنظام دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير جذري. ولما اتضح أن المشروع الإصلاحي كان يهدف إلى تنظيم انتخابات شفافة يتم من خلالها تسليم السلطة إلى الفائز فيها، انقلبت الدنيا وبدأت الحرب.
أما الإسلاميون فكان فريق منهم يعتقد أنه من الممكن الوصول إلى السلطة بواسطة الانتخابات قبل فرض نظام إسلامي. وفي الخارج، كانت الولايات المتحدة وفرنسا تنظران إلى التجربة بحذر شديد، وتحرك كل طرف من جهته لوضع حد للتجربة.
وكانت هناك شبكات اقتصادية قوية تتحرك من جهتها لرفض القواعد الجديدة التي جاء بها الإصلاح. وقد تم وضع حد لاحتكار الدولة للتجارة الخارجية، وفتح الاقتصاد لمتعاملين جدد، واكتشفت الجزائر اقتصاد الصين وكوريا وغيرها بعد أن كانت فرنسا تسيطر بصفة شبه كاملة على التجارة الخارجية الجزائرية. كل هذه التغييرات في التعاملات الاقتصادية أدت إلى تحالف الأضداد ضد الإصلاحات.
بقايا الإصلاح
ورغم وأد تجربة الإصلاح، فإنها خلّفت عددا من الظواهر السياسية التي لم تتمكن السلطة من القضاء عليها رغم محاولات متكررة منذ عشرين سنة؛ فقد استطاعت السلطة أن تمنع بعض الأحزاب وأن تدجن معظم التنظيمات الباقية، لكن التعددية السياسية ما زالت قائمة، وتوجد في البلاد أحزاب مثل جبهة القوى الاشتراكية التي تتبنى مواقف ديمقراطية واضحة، ورفضت منذ البداية دخول دواليب السلطة، وتمكنت من أن تصمد أمام محاولات الرشوة السياسية، رغم أنها دفعت ثمنا غاليا لذلك؛ حيث إن إطارات وقادة الحزب وجدوا أنفسهم في الهامش، وهم مجبرون على استعمال أغلب طاقاتهم من أجل بقاء الحزب قبل كل شيء.
واستطاعت الصحافة الجزائرية الخاصة أن تفرض نفسها، ولو أن السلطة استعادت الجزء الأكبر منها ومنعت الجرائد التي لا ترضيها. ومع أن الصحافة اختارت في كثير من الأحيان مساندة السلطة بسبب عمليات الاغتيال التي تلقاها الصحفيون من طرف المجموعات الإرهابية؛ فإن الساحة الإعلامية توفر دائما جرائد وصحفيين مستقلين يساهمون في صنع الرأي العام رغم أنهم يتبنون أفكارا مستقلة عن النظام.
أجمل التجارب تنتهي بمأساة!
وتبقى التجربة الإصلاحية في نهاية الثمانينيات تشكل واحة في تاريخ الجزائر المستقلة، وقد عاشت البلاد خلال سنتين جوا من الحرية لا مثيل له في تاريخها، واستطاعت كل التيارات السياسية أن تعبر عن رأيها بحرية تامة وتشارك في الانتخابات، وعادت شخصيات بارزة من المنفى واستُقبلت باحترام وتقدير كبيرين، وتعلمت الإدارة الجزائرية كيف لا تنحاز لصالح حزب على حساب الآخرين، وعرفت البلاد نقاشا سياسيا على مستوى عال جدا. وفجأة خرجت البلاد من هذا الجو الديمقراطي إلى حرب أهلية.
وأعطت الجبهة الإسلامية للإنقاذ فرصة للنظام ليضع حدا للإصلاح، ويفرض نظاما متسلطا. وفي نفس الوقت، انتشر الفساد مثلما هو معتاد في زمن الحرب، وظهر رجال سياسة جدد لا يعرفون الأفكار السياسية والنضال، بل يكتفون بنصرة السلطة مهما فعلت. وأدى هذا السلوك إلى ابتعاد الجزائريين عن النشاط السياسي؛ حيث إن السياسة أصبحت ترمز إلى الانتهازية وانعدام المواقف، والسعي وراء السلطة.
ورغم ذلك، فإن الإصلاح ترك نتائج كبيرة؛ فقد أصبحت فكرة التعددية السياسية عادية في المجتمع الجزائري، وتقبلتها الأغلبية الساحقة من المواطنين. وبنفس الطريقة، يعتبر المجتمع الجزائري أن تعيين المسؤولين عن طريق الانتخابات يشكل أحسن طريقة لاختيار القادة.
ومن الناحية النظرية، توجد سلسلة من العوامل التي من الممكن أن تشجع اليوم على نجاح تجربة التغيير. ومن ضمن هذه العوامل، نذكر مثلا وجود دستور يكرس التعددية، وقوانين تضمن حرية الأحزاب والإعلام وحرية الفكر، وممارسة سياسية صعبة علمت الكثيرين معنى النضال منذ عشرين سنة، ومناخ دولي ملائم للإصلاح. لكن كل المؤشرات تؤكد أن عملية الإصلاح التي أعلن عنها الرئيس بوتفليقة ستؤدي إلى الانسداد لأسباب بسيطة، من أهمها غياب الإرادة السياسية، وغياب مشروع سياسي واضح الملامح.
وتشير كل المعطيات أن ما تم الإعلان عنه يشكل طريقة للتجاوب مع الضغوط الخارجية التي تضاعفت بعد الثورات العربية، ولمواجهة الضغط الداخلي المتزايد. ويبقى الهدف الأساسي للسلطة الجزائرية هو الحفاظ على النظام القائم، مما يدفع إلى تقديم بعض التنازلات وتنظيم لقاءات مع "المعارضة" لربح الوقت.
ومن المحتمل أن يتواصل هذا التعامل مع المعارضة إلى غاية الوصول إلى إجماع جديد حول الطريقة التي سيتم من خلالها تنظيم خلافة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وعندها ستعود السلطة إلى تصرفاتها المعتادة، وسينتهي الكلام عن الإصلاح. وهذا ما يؤكد أن السلطة ما زالت تعتبر أن الرأي العام ليس له وزن، ويمكن التلاعب به بكل بساطة، وكأن الثورات العربية لم تحدث أبدا.
__________________
عابد شارف، خبير في الشؤون الجزائرية.