آفاق المسيرة السياسية في بوروندي

يعيش الشعب البوروندي الفترة الرئاسية الثانية للنظام الديمقراطي الذي تأسس بعد عقود من الصراع المرير بين قبيلتي الهوتو والتوتسي. وهذا النظام جاء نتيجة مفاوضات السلام والمصالحة الشاقة بين البورونديين التي امتدت قرابة خمس سنوات...
201181183213610734_2.jpg

يعيش الشعب البوروندي الفترة الرئاسية الثانية للنظام الديمقراطي الذي تأسس بعد عقود من الصراع المرير بين قبيلتي الهوتو والتوتسي. وهذا النظام جاء نتيجة مفاوضات السلام والمصالحة الشاقة بين البورونديين التي امتدت قرابة خمس سنوات. والمصالحة عبارة عن تقنين حق المشاركة السياسية، وبالتالي، اجتثاث النزعة العدائية بين أبناء الشعب الواحد.

ترتكز عوامل تطبيق النظام الديمقراطي في بوروندي على استراتيجية الترقب والتوازن من حيث الهيمنة، حتى لا تكون هناك مجموعة قبلية تنفرد بحكم البلاد دون غيرها. وبالتالي، هذه الاستراتيجية أوحت بأن النظام الديمقراطي في بوروندي، عبارة عن النظام الانتقالي المقنن الذي لجأ إليه استراتيجيو التوتسي بعد أن واجهوا الهزيمة النكراء في أول انتخابات ديمقراطية حرة جرت عام 1993، حيث استدركوا أن التطبيق هذا النظام، قد يبعدهم إلى خط اللاعودة، وبالتالي لن يتولوا أي منصب الحكومي في بوروندي.

إن الإشكالية الديمقراطية في بوروندي تكمن في مؤسسية الدستور، الذي يرعى مصلحة كل مجموعة قبلية بغض النظر عن كونها أغلبية أو أقلية. ولكن بحكم الواقع المعيش لمستقبل هذا البلد فقبول هذا النوع من الديمومة الانتقالية للحكم، كان ضروريا من أجل تطهير اسم بوروندي من دنس الثنائية "الهوتية/التونسية" المتصارعة وكأنهما الأوس والخزرج قبل ظهور نور الإسلام في الجزيرة العربية.

خصوصيات الانتخابات العامة الثانية في 2010

تمكن خصوصية الانتخابات الماضية في كونها كرست التركيز على الجو التنافسي الذي ساد فيه منذ بداية الانتخابات المجالس المحلية، وذلك بمشاركة كل القوى السياسية بما فيها حزب جبهة التحرير الوطنية، التي ظلت حتى وقت قريب واجهة حركات الهوتو المتمردة المتشددة، التي ترفض الجلوس في المفاوضات مع الأقلية التوتسية

يرى بعض المحللين، أن الحكومة التي كان يرأسها بيير نكورونزيزا منذ عام 2005، كان مطلوبا منها أن تسير على خط تحديد أولوية المرحلة. خاصة أنها تتمتع بالأغلبية الساحقة في مجلسي النواب والشيوخ. وهذه الأولوية كانت من المفروض أن تعتمد مبدأين:

 

1- إجراء تقييم عام حول التطور الذي حدث في ميثاق الوفاق الوطني. والغرض منه، والتدرج نحو التخلي عن نظام التمثيل النسبي في الحياة العامة للدولة، وذلك حسب النتائج الإجمالية للأصوات في الانتخابات العامة.

 

2- دمج جدول الانتخابات بحيث تجرى كلها في يوم واحد. فإبقاء النظام الحالي لإجراء الانتخابات على مدى شهرين، له تداعيات خطيرة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ومهما يكن، فقد تم تنظيم الانتخابات الديمقراطية الثانية في بوروندي في العام الماضي، وكان الشعب البوروندي قد تمنى أن يرى هذه الانتخابات تصب في خانة تعزيز الوحدة الوطنية، ومن ثم انطلاق نحو التنمية والرقي ورفع مستوى المعيشة للمواطنين الذي ظل مترديا طيلة أربعة عقود مضت.

 

وتمكن خصوصية الانتخابات الماضية في كونها كرست التركيز على الجو التنافسي الذي ساد فيه منذ بداية الانتخابات المجالس المحلية، وذلك بمشاركة كل القوى السياسية بما فيها حزب جبهة التحرير الوطنية، التي ظلت حتى وقت قريب واجهة حركات الهوتو المتمردة المتشددة، التي كانت ترفض أي محاولة لجلوس على طاولة المفاوضات مع الأقلية التوتسية. وقد تم تحويل هذه الحركة إلى حزب السياسي بعد مفاوضات شاقة رعتها وساطة دولة جنوب إفريقيا.

التداعيات السياسية في بوروندي عقب الانتخابات عام 2010

 أصبح جو المنافسة بعد الانتخابات بين الأحزاب: الحزب الحاكم من جهة وحزب أوبرونا الذي كان يسعى للحفاظ على موقعه في السلطة حسب ما ينص اتفاق أروشا للسلام والمصالحة من جهة أخرى

كما أشرنا آنفا، فانتخابات العام الماضي، كانت لها ميزة خاصة من حيث الدفء السياسي والتنافس الانتخابي اللذان شهدتهما الساحة البوروندية. لقد ظهر حزب جبهة التحرير الوطنية بزعامة أغطون غواسا، منافسا حقيقيا للحزب الحاكم: المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطية-القوى من أجل الدفاع عن الديمقراطية (CNDD-FDD) بزعامة الرئيس بيير نكورونزيزا. وتميز المشهد الانتخابي بما آنذاك يلي:

1- تمتع حزب جبهة التحرير الوطنية بتأييد كبير من قبيلة الهوتو، مثله مثل الحزب الحاكم.

2- ينحدر رئيس حزب جبهة التحرير الوطنية من نفس الولاية نغوزى التي ينحدر منها الرئيس بيير نكورونزيزا.

3 - تم دمج بعض محاربي حزب جبهة التحرير الوطنية ضمن القوات المسلحة والشرطة.

ويرى كثير من المراقبين أن قادة حزب جبهة التحرير الوطنية قد أخطأوا في قراءة الموقف السياسي لحزبهم بناء على النتائج الافتراضية على هذا النحو:

- إيمانهم بأن الحزب يمثل طموح الأغلبية في بوروندي.

- إيمانهم بأن حزبهم يمثل وجوها جديدة في الساحة السياسية في بوروندي.

- اعتقاد جازم بأن الفوز سيكون لصالحهم، نظرا للانقسامات التي هزت أركان الحزب الحاكم.

- إفراط في تقدير الموقف بأن شعبية الحزب الحاكم في تقهقر عقب الكشف عن ملفات الفساد المالي الكثيرة.

وفى ظل وجود مثل هذا اليقين السياسي، لم يكن من السهل أن نجد صانعي القرار داخل حزب جبهة التحرير الوطنية سيتقبلون بنتائج انتخابات المجالس المحلية بمجرد إعلان عن النتائج الأولية. فالانتخابات المحلية، هي التي كانت ستعطى الصورة العامة لقوة كل حزب ومن سيخرج منتصرا في نهاية المطاف.

فما كان على حزب جبهة التحرير الوطنية إلا أن رفض نتائج هذه الانتخابات بشكل قاطع، واتهم الحزب الحاكم بتزويرها بل وبسرقة بعض الصناديق أثناء فرزها. وقد أعلن حزب جبهة التحرير الوطنية وبعض الأحزاب القليلة الحظ مقاطعة كل الانتخابات القادمة، ما لم تقبل المفوضية القومية للانتخابات إعادة فرز الأصوات أو إعادة الانتخابات نفسها. الشيء الذي رفضته اللجنة وحكمت أنه ضرب من الخيال. فتسرعت الأحزاب المقاطعة إلى إنشاء تحالف سياسي عرف باسم التحالف الديمقراطي من أجل التغيير.

أما الحزب الحاكم، فقد نفى بشدة حدوث أي تزوير أو سرقة، واعتبر أن الانتخابات جرت في جو من الشفافية والنزاهة كما أكدت على ذلك المفوضية. ولم يكتف الحزب الحاكم بهذه المقاطعة فحسب، بل استغل فرصة تذبذب موقف حزب أوبرونا "UPRONA" ذي الأغلبية التوتسية، وحليفه في إدارة البلاد منذ 2005، بإعلان أنه سيواصل مشاركته في كل الانتخابات حتى النهاية. فأصبح جو المنافسة بعد ذلك بين الأحزاب: الحزب الحاكم من جهة، وحزب أوبرونا الذي كان يسعى للحفاظ على موقعه في السلطة حسب ما ينص اتفاق أروشا (بتنزانيا) للسلام والمصالحة من جهة أخرى.

المشهد السياسي في بوروندي عقب الرفض النتائج الانتخابات

 تباينت مواقف الشعب البوروندي بين مؤيد لقرار المعارضة بالمقاطعة ومؤيد قرار مفوضية الانتخابات بتزكية ما جرى. وبين هذا وذاك، اتجه الموقف نحو التصعيد على النحو التالي:

- ضعف عدد الناخبين المشاركين في الانتخابات التي تلت المجالس المحلية.

- اتهام الحكومة لقادة المعارضة بالسعي على قلب النظام.

- مغادرة بعض قادة المعارضة البلاد، وخاصة الرئيس حزب جبهة التحرير الوطنية أغطون غواسا، والذي يعتقد أنه مختبئ في الغابات شرقي الكونغو الديمقراطية.

- تذبذب موقف حزب أوبرونا بين الاعتراف بنتائج الانتخابات وبين رفضها.

ومن الواضح، أن مقاطعة أحزاب المعارضة باقي الانتخابات، أعطت الحزب الحاكم فرصة ثمينة لضمان فوزه في جميع الانتخابات، وخاصة بعد عدول حزب أوبرونا عن موقفه الأول وإعلانه المضي قدما في المشاركة في جميع الانتخابات.

والآن، وبعد مضي عشرة أشهر على تولى الرئيس بيير نكورونزيزا فترة رئاسته الثانية، فما فتئت صورة المشهد السياسي البورندي تزداد ضبابية يوما بعد يوم أكثر من السابق، وآمال البورونديين في مشاهدة بلدهم يتجه نحو السلم الأهلي والديمقراطي في المنطقة بدأت تتبدد وذلك للأسباب التالية:

1- يبدو أن السياسيين الذين فروا من البلاد، يخططون لزعزعة الأمن والاستقرار. ودليل على ذلك زيادة معدل أعمال القتل والعنف السياسي.

2- انعدام الأمن والاستقرار بصورة كبيرة في كل مناطق ريف بوجمبورا وبعض الأحياء في العاصمة، حيث يكثر سماع إطلاق النار خاصة في الليل.

3- زيارات متكررة من كبار مسؤولين الدولة إلى هذه المناطق، وحثهم المواطنين على حفظ الأمن والاستقرار وعدم استماع إلى الأقوال المخربين.

4- الإثبات ثم النفي من مسؤولي الجيش بأن هناك تنسيقا أمنيا بين الجيش البوروندي والجيش الكونغولي.

5-رسالة رؤساء البعثات الدبلوماسية المقيمين في بوروندي إلى وزير الخارجية بوروندي، يطالبون فيها الحكومة الحد من مسلسل القتل والعنف الجاريين الآن في البلد.

6- اتهام جناح شباب الحزب الحاكم بأنه يقود عمليات تصفية أنصار حزب جبهة التحرير الوطنية بطريقة ممنهجة والعكس تماما

و هناك أمران جديران بالذكر:

1- إن المعارضة استطاعت حتى هذه اللحظة أن تحاصر حكومة بيير نكورونزيزا، دبلوماسيا وإعلاميا وسياسيا وأصبحت الحكومة تجد نفسها في قفص الاتهام خصوصا فيما يتعلق بتدهور حالة الأمن والاستقرار. وأكثر من ذلك، فقد أصبحت الظروف لصالح المعارضة نظرا للاتهامات المتكررة حول ملفات الفساد والمتهمين فيها ليسوا سوى بعض صانعي القرار في الحكومة وفى الحزب الحاكم. وهذا الأمر في غاية الأهمية حيث إن الدول المانحة رفضت تقديم أي مساعدة مالية لبوروندي ما لم تتخذ خطوات جدية لمحاربة عناصر الفساد داخل الحكومة وخارجها. والمعروف أن 50% من ميزانية بوروندي العامة تأتى من الدول المانحة، فامتناع هذه الدول عن تقديم هذه القروض سيشد عضد المعارضة في موجهتها لحكومة بوجمبورا.

2- والأمر الثاني، يتعلق بموقف اليأس الذي يعيشه أغلب أنصار الحزب الحاكم، عقب ورود المعلومات بشكل يومي عن الفساد المالي وكثرة سماسرة الحكومة ممن يعملون بصالحهم خاصة، والصمت المريب من قبل الرئيس بيير نكورونزيزا، حيال اتخاذ الإجراءات العقابية ضد هؤلاء رغم علمه بهذه القضايا.

وقد أدى هذا الموقف الضبابي خاصة من قبل الحزب الحاكم، إلى ظهور بعض الأصوات في أوساط بعض أركان الحزب الحاكم، تندد علنا بتفشي الرشوة والمحسوبية في جسم الدولة والحزب الحاكم.

ومن ضمن هؤلاء، الكولونيل ماناسى نزوبونيمبا، أحد أبرز قادة الحزب الحاكم وعضو برلمان شرق إفريقيا. وقوبلت انتقاداته العلنية بامتعاض شديد من قبل مسؤولي الحزب الحاكم، وقرروا لذلك السبب عقد مؤتمر استثنائي حضره الرئيس بيير نكورونزيزا نفسه للنظر في تصرفه حيال الحزب والحكومة. ولم يدم ذلك المؤتمر سوى بعض دقائق، حيث قرر المشاركون فصله عن الحزب وقطع أي اتصال أو أي علاقة به.

ومثل هذه التطورات والأحداث صارت جزءا من سياسات حكومة نكورونزيزا وقد زادت من هشاشتها بعد انتخابات العام الماضي.

تتعاطى دول الجوار مع الواقع السياسي البوروندي

تعيش دول جوار بوروندي تشابها حقيقيا مع بوروندي من حيث تنوع البنية العرقية والقبلية تنوعا قابلا للانفجار والاستقطاب، ولم تستطع دول الجوار حتى الآن وضع خطة مستقبلية لإنهاء هذه الصراعات على غرار النموذج البوروندي عندما نتعمق في تحليل الواقع السياسي البوروندي، ومراحل تطوره بناء على ماضيها المؤلمة، نجد أن هذه الدولة وبمساعدة دول أفريقية والمجتمع الدولي، استطاعت أن تطوى صفحاتها الصراع الطائفي السوداء بين الهوتو والتوتسي، وقد قدمت نموذجا حقيقيا للتعايش السلمي والوفاق الوطني في إطار ممارسة النظام الديمقراطي ورعاية مصلحة كل مجموعة بغض النظر على كونها أغلبية أو أقلية. تعيش دول جوار بوروندي تشابها حقيقيا مع بوروندي من حيث تنوع البنية العرقية والقبلية تنوعا قابلا للانفجار والاستقطاب، ولم تستطع دول الجوار حتى الآن وضع خطة مستقبلية لإنهاء هذه الصراعات على غرار النموذج البوروندي.

إلا أنها بالمقابل، وحسب رأى كثير من المراقبين، لا ترغب في القيام بخطوة من شأنها إحداث انفتاح سياسي أو إطلاق الحرية لكل أبناء شعبها.  ويؤكد هؤلاء المحللون، أن الاضطرابات السياسية في بوروندي قد تجد من الترحيب من قبل دول الجوار ما لا يجده تنظيم انتخابات ديمقراطية، ففي أغلب هذه الدول حكومات تتسم بأحادية الحزب وإن كانت تمارس في الظاهر ديمقراطية "مزيفة". ويعزز هؤلاء المحللون تحليلاتهم بمبررات كثيرة أهمها برودة في تعامل الدبلوماسي ما بين بوروندي وجيرانها. فقد قام كبار المسؤولين في بوروندي بزيارات رسمية للكونغو الديمقراطية ولرواندا من أجل تعزيز وتجسيد العلاقات مع دول الجوار، شارحين لهم آخر مستجدات الوضع في الساحة البوروندية ومقدرين ومثمنين لسلطات البلدين لما بذلوه من جهد لمساعدة بوروندي على الخروج من المأزق السياسي. والشعب البوروندي ما زال ينتظر من مسؤولي هذه الدول زيارات مماثلة لبوروندي إلا أنها زيارات لما تحدث بعد، فلم تقتصر مقاطعة هؤلاء المسؤولين لزيارة بوروندي بشكل رسمي فقط بل امتدت لتشمل امتناعهم عن حضور الدعوات الخاصة بالمناسبات الوطنية.

الواقع السياسي للمنطقة البحيرات

 في ظل اشتعال الأزمة السياسية في بوروندي، وتنامي الدعوات للحكومة لبدء الحوار مع المعارضة، ينبغي علينا أن نتطلع للسياق العام في المنطقة، والذي يؤثر حتما على المستقبل السياسي في بوروندي سلبا أو إيجابا. لاسيما مع بروز مؤشرات قوية توحي بان المعارضة تلعب بالورقة الخارجية ضغطا على الحكومة. فالواقع السياسي للمنطقة يرتكز على معطيين: سياسي وأمني: لقد عاشت الدول الثلاثة، بوروندي، الكونغو الديمقراطية ورواندا، نفس الظروف السياسية الصعبة منذ عام 1990.

 فرواندا، شهدت أولى حروبها عام 1990، عندما قاد لاجئون من التوتسي بأول هجوم لهم ضد حكومة كيغالى ذات الغالبية الهوتية. وانتهت الحرب بعد أربع سنوات بصورة مأساوية بإبادة جماعية، راح ضحيتها ما يقارب مليون شخص أغلبهم من قبيلة التوتسي. ولكن تبنى الرئيس بول كاغامى النظام الاستبدادي للحكم، وتلاعبه بقضية الإبادة الجماعية لكسب التعاطف الدولي لدعمه سياسيا واقتصاديا وأمنيا، جعله لا يلتفت إلى الأصوات التي تدعوه إلى اتخاذ خطوات نحو الإصلاح السياسي، ومن ثم التحول إلى بناء دولة رواندا الجديدة التي تسود فيها المصالحة والوفاق الوطني بين قبيلتي الهوتو والتوتسي. فالدعوات للإصلاحات السياسية في رواندا، لم تأت من قبل قادة المعارضة الهوتية فحسب، بل جاءت حتى من قبل مقربي بول كاغامى، ومعظمهم من كبار الجنرالات في الجيش الرواندي. وهذه الدعوات ما هي إلا مطالب مشروعة لأي الشعب، ولكن الرئيس الرواندي اعتبرها تهديدا لوحدة البلاد ومخاطرة بمستقبل الحكومة القائمة في كيغالى. فبدأ مسلسل الاعتقالات والاتهامات لكبار ضباط الجيش، واتهموا بالتواطؤ مع المعارضة الهوتية لقلب النظام في رواندا. فسجن من سجن وفر من فر، وبدأت بوادر الانشقاقات في مؤسسة الحكم في رواندا. وما قضية محاولة اغتيال للجنرال فوستين كيومبا نيامواسا في جنوب أفريقيا، حيث يقيم هناك كاللاجئ منذ سنتين إلا دليل على خطورة هذه الانشقاقات الحاصلة في صفوف المسؤولين الروانديين. وقد تقلد الجنرال كيومبا عدة مناصب في الجيش حيث كان قائدا للقوات المسلحة الرواندية، ثم رئيسا لجهاز المخابرات الرواندية وغيرها من المناصب العسكرية الإستراتيجية.

 وقد عكرت محاولة الاغتيال هذا الجنرال في جنوب أفريقيا، صفو العلاقات بين البلدين. حيث اضطرت جنوب أفريقيا إلى استدعاء سفيرها في كيغالى للتشاور. وقد حثت الشرطة البريطانية مؤخرا بعض المعارضين لكاغامى والمقيمين هناك على أن يأخذوا الحيطة والحذر أثناء وجودهم في بريطانيا. إن المشهد السياسي في رواندا يتجه نحو التصعيد ويكفى أن نشير إلى إمكانية التحالف بين هؤلاء الضباط السابقين المتهمين بزعزعة الأمن والاستقرار والمعارضة الهوتية النشطة في الشرق الكونغو الديمقراطية والمتهمة بارتكاب إبادة جماعية في رواندا.

وقد قامت السلطات الرواندية مؤخرا بمصادرة قطعة أرض بداخلها منزل لجنرال كايومبا نيامواسا، بحجة أنها لم تثبت أي وثيقة قانونية لملكية هذه قطعة من الأرض. ولا يلوح في الأفق ما يشير إلى جاهزية الرئيس الرواندي للسماع إلى الأصوات التي تدعوه إلى الإصلاح السياسي والتحول نحو دولة الوفاق والمصالحة. وفى الكونغو الديمقراطية، تصاعدت المشكلة في عام 1996، عندما نصبت القوات الرواندية واليوغندية، لوران كابيلا في الحكم في الكونغو الديمقراطية. فقد استطاع لوران كابيلا قيادة الحركة التمرد التي انطلقت من شرق الكونغو الديمقراطية، وخلال أسابيع فقط، تمكنت قواته من الوصول إلى العاصمة الكونغولية كينشاسا، وأطاحت بنظام الدكتاتور موبوتو سيسيسيكو، في مشهد وصفه كثير من المراقبين بأنه يعكس السعي الأمريكي لتقليص النفوذ الفرنسي في المنطقة.

ولكن شخصية لوران كابيلا، لم تكن من الضعف بالقدر تجعله يستجيب لإملاءات قوات أجنبية؛ فقرر طرد كل القوات التي ساعدته الوصول إلى السلطة في كينشاسا، الأمر الذي أدى إلى نشوب التمرد من جديد ضد حكومته. وعندما عجز التمرد عن القضاء على نظام كابيلا، إثر التدخل قوات من أنغولا وناميبيا وزيمبابوي لصالح قوات حكومية، تم التخطيط لتصفيته جسديا.

وعلى الرغم من تولى جوزيف كابيلا حكم البلاد خلفا لأبيه، وتمكنه من تنظيم أول انتخابات ديمقراطية في الكونغو، إلا أن المشاكل السياسية والاقتصادية والأمنية طفت بصورة كبيرة على مستقبل هذا البلد. زد على ذلك، هشاشة حكومة كابيلا نفسها بعد الانشقاقات التي حصلت في الحزب الحاكم، والسباق المحموم للشركات المتعددة الجنسيات للاستفراد باستغلال الموارد الطبيعية للكونغو. كل هذه الأمور جعلت حكومة كينشاسا تعمل وكأنها لا تبسط سيطرتها على بعض الأماكن في الكونغو خاصة إقليم كيفو بشرق البلاد.

وقد ظل شرق الكونغو، ملجأ كل الحركات المسلحة والقوات المعادية لحكومات دول المنطقة. فقد كاد يكون مصدر كل الأخبار المقلقة في أفريقيا: عمليات اغتصاب النساء، عمليات القتل والثأر العشوائي، الصراعات القبلية، وأكثر من ذلك، فوضوية عمل أجهزة الأمن وعدم انضباطها في عمليات ضبط النظام العام. ولعل وفرة المناجم والثروات المعدنية بهذا الإقليم من ذهب، وفضة، وكوبالت، وخشب وغيرها من الموارد الثمينة، جعلته مثابة لحركات التمرد التي تجد فيه مصادر التمويل خصوصا أن هذه الجماعات المسلحة اشتهرت ببيع المجوهرات وغيرها في السوق السوداء.

الدروس المستفادة من الظروف الراهنة في المنطقة

 يفرض فهم الواقع السياسي للمنطقة على المسؤولين في بوروندي أن يبنوا عليه إستراتيجيتهم خصوصا مع وجود معلومات مؤكدة لدى قيادة الجيش البوروندي، بأن أغطون غواسا ومعه بعض معارضي حكومة بوجومبورا، يتواجدون في شرق الكونغو وينظمون أعمالا التخريبية في بوروندي. فالدراية بمعلومات كهذه، تساعد المسؤولين على تحديد جوهر المشكلة، وبالتالي السعي نحو بسط البدائل السياسية والأمنية للحد من إعطاء هؤلاء المعارضين مزيدا من الوقت. فبقاء هؤلاء مدة طويلة في الشرق الكونغو، قد يحولهم إلى التجار الحرب بالإنابة بعد أن جردتهم أصحاب السوق السوداء بما بقى منهم من روح الوطنية وحب المصالحة على أساس العيش الكريم. وهذا النقطة مهمة جدا، نظر لوجود شخصيات في المنطقة أصبحوا أثرياء بسبب تعاملهم في أمور ذات شأن أمني وسياسي مرتبط بدول المنطقة. ومن حيث البدائل الأمنية، فقد يطرح الجيش البوروندي مبادرة لعملية التنسيق الأمني بينه وبين الجيش الكونغولي وهو ما كان قد حدث بالفعل حسب مصادر مطلعة. ولكن مثل هذه الخطوات من شأنها أن تعقد الأمور:

ففي جانب حكومة بوروندي: حتى هذه اللحظة ما تزال الحكومة ترفض الاعتراف بوجود جماعة سياسية مسلحة على الرغم من وجود أدلة دامغة بوجود مثل هذه الجماعات المسلحة والمنظمة والتي تقوم بعدة عمليات داخل البلاد. إلا أننا مع ذلك لم نسمع أي شخص يعلن مسؤوليته عن هذه العمليات أو يعترف بأنه قائد لمجموعة معينة تقوم بهذا العمل المسلح أو ذلك. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الخطأ بمكان أن يعترف الجيش البوروندي بأن هناك تعاونا وتنسيقا أمنيا مع الجيش الكونغولي. ولو سعى الجيش لمثل هذا العمل التعاوني مع جيرانه، فهذا يعنى زيادة في ميزانية العسكرية، وهي ميزانية لم تكن مدرجة ضمن الميزانية العامة للقطاع الأمني، خاصة وأن الشعب البوروندي يعيش مرحلة ديمقراطية يفترض أنها تتسم بشفافية التسيير، وأن الشعب هو من يدفع فاتورة هذه الميزانية. أما في جانب حكومة الكونغو: فيبدو أن حكومة كينشاسا غير متحمسة لخطوة كهذه. فقد حدث أن سمح الجيش الكونغولي لبعض الوحدات من الجيش الرواندي بعبور حدود الكونغو لملاحقة عناصر متمردة من الهوتو. كما سمح أيضا لبعض الوحدات من الجيش اليوغندى بعبور حدوده لملاحقة عناصر من متمردي جيش الرب بزعامة جوزيف كوني، ونتيجة لهذا التعاون الأمني بين الكونغو وجيرانها كادت تسقط حكومة كابيلا حيث ندد الشعب الكونغو موقف الحكومة واتهمها بالتخاذل والركون لدول صغيرة على حد وصفهم.

وجوهر القضية أن الكونغوليين لن ينسوا التداخل العسكري في بلدهم والذي ساهمت فيه جيوش دول جارة كثيرا كانوا ينظرون إليها على أنها دول شقيقة وصديقة. لذلك يكثر عند المثقفين الكونغوليين التصريح علنا بأن التاريخ لن يرحم الدول التي غزاها جيش أجنبي مهما كانت دوافعه. فموقف هؤلاء المثقفين هو أن لكل دولة مشاكلها داخلية، وعليها حسن إدارتها والبحث عن حلولها في إطار البيت الداخلي.

 أما الأمر الثاني فيتعلق بخيبة أمل حكومة الكونغو وفقدانها الثقة في دول الجوار في قضية تسليم معارضي حكوماتها. فقد حدث أن قامت كينشاسا بإيقاف معارضي حكومات الدول المجاورة لها، وقامت بتسليهم لهذه الدول. ولكن بالمقابل، لم ترد هذه الدول ردا جميلا وموازيا. فقضية زعيم المتمردين الكونغوليين في الشرق لوران نغودا الذي تم اعتقاله في رواندا قبل سنتين شاهدة على ذلك. فقد رفضت كيغالى تسليم هذا الرجل لكينشاسا رغم عدة لقاءات دارت بين مسؤولي البلدين بهذا الصدد. وغياب الثقة لدى الساسة في الكونغو لا تقتصر فقط على الحكومة، بل ربما شمل المعارضة أيضا. فقد عبر ذلك قبل أيام فيتالى كاميرى، زعيم المعارضة. وكان إلى وقت قريب الرجل الثاني في الكونغو، حيث كان رئيس البرلمان، قبل انشقاقه عن معسكر الحزب الحاكم. فقد قال كاميرى خلال حملة الانتخابية الأخيرة: "نرجو من دول الجوار احترام سيادة بلدنا، وأن تفهم أن لكل الدولة مشاكلها خاصة، وهذا هو الموقف كل الكونغوليين".

وقد علق بعض الدبلوماسيين في بوجمبورا على كلام فيتالى كاميرى، بقولهم: إن الوقت قد حان لكي تعمل كل دولة على حل مشاكلها الداخلية أو على الأقل أن تفهم أن زمن إسناد المشاكل الداخلية لدولة أخرى قد ولى". وتساءل هؤلاء الدبلوماسيون عما إذا كانت السلطات في بوروندي تعمل ما فيه كفاية لمعرفة التطورات السياسية لدول الجوار، مما قد يساعدها على تعزيز المرحلة الديمقراطية التي وصلت إليها بوروندي.

آفاق الخروج من الأزمة السياسية الراهنة

 تبقى الديمقراطية التوافقية -وإن خالفها السياسيون في حساباتهم- الحل الوحيد الذي تولد من توقيع اتفاقية أروشا للسلام والمصالحة والتي تعنى "لا غالب ولا مغلوب في العمل السياسي في بوروندي لا يستطيع أحد أن ينكر وجود مشكلة سياسية في بوروندي، ومع ذلك فمن الصعب أن ترفض شرعية حكومة بيير نكورونزيزا، كما أنه من التبسيط أن نقول إن الانتخابات لم تجر في بوروندي.

القضية ليست في أن تقبل هذا وترفض ذاك، ولكنها قضية كلية تتعلق بشكل جذري بمستقبل الشعب، الذي عانى من المشاكل السياسية كثيرا في الماضي. ورغم أنها كانت مشاكل بين الهوتو والتوتسي، قبيلتين كانتا متصارعتين على السلطة، إلا أن التجربة المستفادة من مبدأ الحوار والمحادثات السياسية لا بد أن تكون قد علمت كل البورونديين دروسا واسعا لكيفية إدارة الأزمات مستقبلا.

وبعيدا عن إجراء حسابات الربح والخسارة، وعن طرح سيناريوهات المتوقعة، فإن المخرج للأزمة الراهنة في بوروندي يكمن في أذهان ساسة البورونديين باسترجاع وقائع تاريخهم المعاصر. فطريق الحوار هو الطريق الأمثل لمجابهة أي غيوم السياسية. والحكومة حاليا تقع على عاتقها مسؤولية عظيمة لاستتباب الأمن والاستقرار، ألا وهي مسؤولية التنمية والرفاهية للمواطنين، مسؤولية رسم التحديات الكبرى، فلتكن تحديات بناء الدولة الحديثة التي تغاير دولة البوروندي بتاريخها الماضي القريب (العداوة بين الهوتو والتوتسي).

وعندما تصبح الحكومة عاجزة عن توفير المتطلبات المذكورة وتحت أي غطاء حتى ولو كان متطلبات الديمقراطية والإصلاح السياسي، فإن هذه الحكومة مطالبة بالتفكير عن خيارات أخرى إستراتيجية طموحة: فالبورونديون بحاجة إلى الأمن والاستقرار في ظل حكومة ديمقراطية تحمل في طياتها معاني كثيرة. والبورونديون بحاجة كذلك للحوار السياسي من أجل تجزئة كعكة "خليني أعيش"، وخاصة إذا كان تذلك الحوار بين الحكومة ذات أغلبية من الهوتو ومعارضة بنفس المعايير، على غرار حوار بين الهوتو والتوتسي من أجل الوصول إلى النتيجة الآنفة الذكر. فالشعب البوروندي ومنذ عام 2005، على وعي تام بأن الديمقراطية التوافقية بدأ تطبيقها في بلادهم، وهو الخيار الأمثل والوحيد لضمان استقرار هذا البلد. وهذا المبدأ وإن خالفه السياسيون في حساباتهم، إلا أنه الحل الوحيد الذي تولد من توقيع اتفاقية أروشا للسلام والمصالحة والتي تعنى "لا غالب ولا مغلوب في العمل السياسي في بوروندي".

إن إستراتيجية شاملة تتبنى دفع الضرر عن المواطن البوروندي وإبعاده من كابوس الخوف من الخطر على نفسه وعياله وماله، هي أفضل وأجدر من ديمقراطية انتخابية قد تخيب آمال المواطنين في عيش كريم ولا تصنع لهم آفاق مستقبلية ضامن.
_______________
كاتب ومحلل من بوروندي

ABOUT THE AUTHOR