تمر منطقة اليورو بأخطر مرحلة اقتصادية على الإطلاق منذ إنشاء العملة الموحدة عام 1999، وتشير بيانات الوظائف في كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا -أي الدول المتصدرة للاقتصاد الأوربي- لشهر أوت الأخير، إلى وضعية قريبة من الهشاشة في سوق الشغل بينما تلامس أسواق دول أخرى مثل أيرلندا وإسبانيا والبرتغال وضعية الهشاشة الكاملة.
كانت بيانات الاقتصاد الكلي في منطقة اليورو للسدس الأول من العام الجاري أكدت تباطؤ الاقتصاد الفرنسي إلى مستوى الصفر في النمو والاقتصاد الألماني إلى 0.5 بالمائة؛ مما انعكس سلبًا على وضعية أسواق المال وعلى بيانات أكبر البنوك في أوربا. وبالفعل تتعرض بورصات منطقة اليورو حاليًا إلى تراجعات يومية مستمرة لامست شهر سبتمبر/أيلول 2011 الـ4 بالمائة في بورصة باريس، وأعادت وكالة التصنيف "موديس" تصنيف بنكي "سوسيتيه جنرال" و"كريدي أجريكول" بنقطة واحدة، وفقد مصرف أسكتلندا "يو إس بي" 9 مليار دولار من أرباحه.
فإلى أين تتجه الأسواق في منطقة اليورو المعروفة بـ "اليوروزون"؟ وكيف تستجيب الاقتصاديات العربية -وخاصة في الدول التي تعرف تحولاً ديمقراطيًّا والتي وُصِفت بدول الربيع العربي- لتلك الاتجاهات على المديين القريب والمتوسط؟ وهل يعزز ذلك من موقع المنافسين الرئيسيين لأوربا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟ وما قدر الربح أو الخسارة لأطراف الأداء الاقتصادي والتجاري في المنطقة؟
اليوروزون: منطقة التراجع الاقتصادي
سجَّلت جميع دول منطقة اليورو تراجعًا حادًّا في تحقيق فرص شغل جديدة في الفترة التي أعقبت الأزمة المالية العالمية 2007-2008؛ مما رفع من مستوى البطالة إلى حدود مقلقة تبلغ في المتوسط 10.5 بالمائة، وتتراوح بين 6.5 بالمائة في ألمانيا و20.5 بالمائة في إسبانيا، وتصل إلى حدود 46 بالمائة في إيطاليا حسب إحصائيات نشرها مكتب الإحصاء الأوربي "أوروستات" شهر أغسطس/آب الماضي. ويعود تراجع سوق الشغل في منطقة اليورو إلى وضعية تباطؤ النمو في الاقتصاد الكلي والناجم هو الآخر عن شُح السيولة في أسواق النقد جرّاء أزمة الائتمان وتراجع ثقة المودعين في الجهاز المصرفي وأسواق المال، وهروب الرساميل نحو أسواق منافسة وخاصة سوق الذهب وأسواق المعاملات قصيرة المدى أي المضاربة على المكشوف، وهو ما دفع بسعر الأوقية من المعدن الأصفر لتخطي عتبة 1900 دولار خلال أشهر وإلى إغراق البورصات في عمليات المضاربة حتى شُرع في العمل بوقف "التداول على المكشوف" في بورصات العالم ولو لفترة قصيرة لا تتجاوز 15 يومًا.
وما يؤكد وضعية شح السيولة في المناطق الاقتصادية الكبرى ومنها منطقة اليورو هو بكل تأكيد اللجوء إلى تمويل الخزينة من مصادر خارجية تتجاوز إمكانيات الناتج الداخلي الخام؛ حيث استثمرت الحكومات في آلية "طرح سندات الخزانة" ولكن بشكل واسع وغير مدروس حتى تجاوزت نسبة الدين العام إلى الناتج الداخلي الخام الحدود المسموح بها فوصلت في دولة مثل اليونان إلى 150 بالمائة، وفي إيطاليا إلى 120 بالمائة بحجم قدره 1.9 تريليون دولار، وفي فرنسا إلى 80 بالمائة، وفي نفس الوقت تفاقم العجز في موازنات دول منطقة اليورو تحت ضغط الطلب الداخلي والتحويلات الاجتماعية وتراجع الجباية على خلفية وضعية الركود.
وهكذا لامس العجز في ميزانية إيطاليا 9.2 بالمائة العام الجاري، وفي ميزانية اليونان 12.5 بالمائة، وفي فرنسا 5.7 بالمائة، وفي المتوسط يتجاوز العجز في منطقة اليورو 6.3 بالمائة في حين تحدد اتفاقية "ماستريخت" المنظمة لسير وتطور الاتحاد الأوربي سقف العجز في موازنات دول الاتحاد بـ 3 بالمائة.
وضعية المؤشرات المالية للاقتصاد في منطقة اليورو تعكس بالضبط وضعية الاقتصاد الكلي؛ حيث تراجع النمو إلى نسبة الصفر في المائة خلال النصف الأول من العام الجاري 2011، وألمانيا فقط هي التي سجَّلت نموًّا فوق الصفر ولكنه نمو طفيف لم يتعدَّ 0.5 بالمائة الشيء الذي رفع من حدة القلق لدى هيئات الاتحاد ومنها البنك الأوربي الذي أطلق مؤشرًا جديدًا هو مؤشر "المعنويات" الذي يدرس درجة ثقة مؤسسات الضبط النقدي والمالي للاتحاد في نجاعة السياسات الاقتصادية للدول العضوة، وقد تراجع المؤشر المذكور في شهر واحد من مستوى 103 نقطة في شهر يوليو/تموز 2011 إلى مستوى 98.3 نقطة شهر أغسطس/آب من نفس السنة. ومن المنتظر أن يشرع خلال الشهر الجاري -بدءًا من 14 سبتمبر/أيلول 2011- في اختبار مدى استجابة الاقتصاد اليوناني لتدابير الحفز المالي التي قدمها لها الاتحاد الأوربي منذ شهر مايو/أيار 2011 وحجمها 317 مليار دولار في شكل خطتين للإنقاذ: الأولى بحجم 160 مليار دولار في شهر مايو/أيار والثانية 157 مليار دولار في شهر يوليو/تموز، وعلى ضوء الاختبار المذكور سيتم تحديد موقف الاتحاد من خطة إنقاذ منطقة اليورو من شبح الركود. وجاءت أولى التصريحات عن هيئة التفتيش المذكورة في صف الناقدين للأداء الاقتصادي في اليونان ولكن التحالف الفرنسي-الألماني ما يزال يعمل على طمأنة الأسواق من خلال تأكيد الدعم المالي لليونان.
مرافقة التحول الديمقراطي في البلاد العربية
تمر منطقة اليورو حاليا -فيما له علاقة بجسور التدخل في المنطقة العربية- بمفترق طرق؛ فالمؤشرات المالية تدل على عجز حقيقي تجاوز حدود اتفاقية "ماستريخت"، و قد توقفت الاستثمارات الصناعية عند عتبة الركود بسبب شح السيولة، وفقد اليورو العملة الأوربية الموحدة 20 بالمائة من قيمته أمام الدولار في 6 أشهر، وجرَّاء ذلك تراجعت تحويلات المهاجرين العرب من النقد الأجنبي بنحو 40 بالمائة منذ 2008، وطالت البطالة قطاعًا واسعًا من الجالية العربية في منطقة اليورو ما عجَّل بعودة المهاجرين لبلدانهم. وتشكو منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من بطالة مقنَّعة سببها سوء التخطيط لسوق الشغل مما خفض من معدل الأجر الحقيقي للعمل وزاد من عبء التحويلات الاجتماعية على حساب الاستثمارات في المؤسسات المنتجة. ونفس المنطقة تشكو من وضع ديمقراطي هش بسبب هشاشة وضعية الانتقال في الدول الثائرة واستمرار الحكم المبني على النظام السياسي التقليدي في الدول الأخرى.
وفي كل الحالات فإن انتقال الثورة من حيز "اللاوعي" إلى منطقة "الوعي" تحت ضغط العوامل الاجتماعية سيربك مراكز صناعة القرار الاقتصادي في دول "الأوروزون" التي تُعتَبر الشريك الرئيس لمنطقة "مينا" وربما يؤدي ذلك إلى فقدان موقعها الإستراتيجي هناك؛ ولذا لا تجد الدول الصناعية خيارًا آخر للحفاظ على موقعها وحفز الشركات الصناعية لولوج الأسواق العربية من جديد سوى الالتزام بتعهداتها ضمن برنامج المساعدات والاستجابة لنداءات الاستغاثة التي ما زالت الحكومات العربية الجديدة تطلقها مع العلم أن الاستثمار في حفز النمو عربيًّا يخدم الشركات الصناعية الرأسمالية بالدرجة الأولى في المدى المتوسط.
لذلك انعقد منتصف الأسبوع الثاني من سبتمبر/أيلول الجاري بمرسيليا الفرنسية مؤتمر كبير بزعامة باريس للمساعدات التي تخطط مجموعة الثماني الصناعية الكبرى لتقديمها لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تمر بمرحلة التحول الديمقراطي أو ما عُرف بالربيع العربي، وقد سبق لـ"البنك الأوربي للاستثمار" التابع للاتحاد الأوربي أن وعد بإطلاق برنامج للمساعدات يخص منطقة الدول العربية المذكورة التي هي نفسها منطقة "مينا" للعامين المقبلين 2012 و2013 بعد أن نفَّذ في المنطقة برنامجًا بحجم 2.6 مليار يورو العام 2010، وفي برنامجه للسنتين المقبلتين والعام الحالي 3.8 مليار يورو. وأغلب تلك الاعتمادات كانت موجهة لمشاريع "الطاقات المتجددة"، ولأجندة قمة الأرض "كوبنهاجن" بخصوص رعاية البيئة، ولأهداف الاتحاد الأوربية الخارجية. ولكن مؤخرًا جرى تحول لافت في توجهات البنك؛ حيث بات يركز على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وعلى جهود التحول الديمقراطي ومرافقة الحكومات الناشئة عن اختيارات الثورة في كل من تونس ومصر وليبيا، ودعم البِنى القاعدية ذات العلاقة بالتنمية المستدامة وتوفير الخدمات الأساسية للسكان.
وعلى الرغم من تواضع حصة المساعدات الخارجية إلى إجمالي تمويلات البنك الأوربي والتي لم تتعد نسبة 12 بالمائة العام 2010 إلا أن ثلثي تلك التمويلات تصب في المنطقة المذكورة ما يعني أنها هدف إستراتيجي للاتحاد الأوربي كما هي كذلك في منظور "الاتحاد من أجل المتوسط".
ويُنتظر أن تفي الدول الصناعية الكبرى بوعودها إلى جانب الهيئات المالية الدولية -مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والبنك الأوربي للاستثمار- والتزامها بمساعدة الدول العربية الثائرة بحزمة مالية تصل إلى 38 مليار دولار فضلاً عن تحرير الودائع الليبية المجمدة في الشركات والمصارف الكبرى تحت غطاء الأمم المتحدة تحريرًا قد يصل في نهاية المطاف مبلغًا لا يقل عن 200 مليار دولار يسمح لدول مجموعة السبع زائد روسيا بفتح منافذ لشركاتها المتوقفة للاستثمار في كل القطاعات تقريبًا ولاسيما قطاعات المحروقات أي الطاقة والخدمات والصناعة.
حقيقة، تمثل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سوقًا مهمة لمنطقة اليورو من جانبين، الأول: تزايد الطلب على الاستيراد بسبب ارتفاع العائدات من تسويق النفط، وتحول السياسات الاقتصادية فيها إلى جانب التدخل الحكومي المتزايد في إدارة الاقتصاد. والثاني: أنها دول مرشحة لأن تلعب دورًا محوريًّا في مشروع "ديزرتك" للطاقات النظيفة ما يعني طلبًا إضافيًّا على مشروعات "الطاقات المتجددة"؛ ولذلك باشرت كل من المغرب والجزائر برنامجًا طموحًا للطاقات المتجددة من خلال تشريع جديد في الرباط واستثمارات بالشراكة في الجزائر مع كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا أفضت إلى إطلاق مصنع للغازات الهجينة في مدينة "حاسي الرمل" الصحراوية، ومصنع للألواح الشمسية بالجزائر العاصمة، ومصنع ثالث لتوربينات الرياح في مدينة "مستغانم" الساحلية بالغرب الجزائري. وبالتالي فإن أي اهتزاز سياسي أو اجتماعي في المنطقة قد يرهن مشاريع أوربا الصديقة للبيئة أو يؤخرها ما لم تتم إدارته على نحو يخدم مصالح دول الاتحاد ومنها دول اليورو التي تمر هي الأخرى باهتزازات ولكن من نوع مختلف.
وبالتالي فإن أي اهتزاز سياسي أو اجتماعي في المنطقة قد يرهن مشاريع أوربا الصديقة للبيئة أو يؤخرها ما لم تتم إدارته على نحو يخدم مصالح دول الاتحاد ومنها دول اليورو التي تمر هي الأخرى باهتزازات ولكن من نوع مختلف.
من مصلحة الاتحاد الأوربي الحفاظ على مستوى للنمو في منطقة "مينا" حول نقطة 3 بالمائة بما يسمح باستقرار الطلب الداخلي وتوفير فرص العمل للشباب وخريجي التعليم بدل الاستمرار في سياسات مكافحة "الهجرة السرية"، وتمويل برامج الإدماج في الداخل الأوربي، ولكن تداعيات أزمة الدين الخارجي في كل من الولايات المتحدة الأميركية ومنطقة اليورو تشكل قيدًا إضافيًّا على هذا الهدف وهو ما تم بحثه في مؤتمر مرسيليا المذكور، وهو ما يؤكد أيضًا حزم المساعدات للعالم العربي والتي تبدو في ظاهرها مساعدات للتنمية ولكنها في جوهرها تمويل لواردات تلك البلدان من المناطق الصناعية في العالم وعلى رأسها منطقة اليورو في صورة أشبه ما تكون بـ"خطوط الإقراض" في بداية الثمانينيات والتي كلَّفت الجزائر شبه إفلاس كامل في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
مفترق طرق ولاعبون جدد
في الدول التي اجتازت المرحلة الأولى من التحول الثوري أي إسقاط الأنظمة الحاكمة التقليدية مثل تونس ومصر وليبيا أخيرًا؛ فإن تراجع النمو تحت ضغط التحولات الجارية سيكلف دول الاتحاد الشريكة معها خسائر إضافية على مستوى الاستثمار الرأسمالي والصناعي للشركات الأوربية وربما يفقدها موقعها التنافسي أمام الولايات المتحدة الأميركية التي أبدت استعدادها لدعم التحول الديمقراطي في تلك البلدان؛ حيث من المنتظر أن تخصص واشنطن حزمة أخرى للمساعدات لصالح المجلس الانتقالي الليبي خلال مؤتمر "أصدقاء ليبيا" المزمع تنظيمه في نيويورك في العشرين من شهر سبتمبر/أيلول الجاري. وكانت أميركا نهاية 2010 أطلقت مبادرة "الشراكة مع دول المغرب العربي" وفي أجندتها في المرحلة الأولى تمويل ومرافقة 20 ألف مشروع استثماري لفائدة شباب المنطقة ما يؤكد التزاحم الرأسمالي بين الولايات المتحدة الأميركية وأوربا على أسواق حبلى بالفرص وخاصة في الدول المعنية بالربيع العربي أو الانتقال الديمقراطي أو التحول نحو تكريس الحريات وخاصة الحريات الاقتصادية. ونفس الشيء بالنسبة للبنان الذي يشهد حاليًا حراكًا سياسيًّا وأمنيًّا على خلفية ملف "اغتيال الحريري" وما قد ينجم عن ذلك من تداعيات على حليف إستراتيجي للاتحاد الأوربي في منطقة الشرق الأوسط هو إسرائيل.
هناك ترابط قوي ومباشر بين الأوضاع السياسية -في دول الربيع العربي- وأداء الاقتصاد على صعيد الأسواق -كل الأسواق- بسبب الترابط الشديد بين القرارين السياسي والاقتصادي، ويكون من الأنجع أوربيًّا تجنب سيناريو الانفجار والفوضى الخلاّقة لصالح التحول السلمي للأنظمة ومرافقة الأنظمة الجديدة التي تكون دائمًا في حاجة إلى عوامل الاستقرار وعلى رأسها "التمويلات" اللازمة لتلبية مطالب السكان على المديين القصير والمتوسط. ولكن -وفي نفس الوقت- تواجه المصالح الأوربية في المنطقة العربية المعنية بالانتقال الثوري تحديًا من نوع جديد أي دخول لاعبين جدد وبقوة أكبر -تحت ضغط الطلب الكلي الداخلي لتلك البلدان وإعمار الاقتصاد- وعلى رأسهم العملاق الصيني ومجموعة دول "البريكس" أي كل من البرازيل وروسيا وكوريا وإلى حدٍّ ما جنوب إفريقيا، وهي الدول التي تملك جسور تعاون سابق ولو محتشمًا مع دول الربيع العربي ولكنها غير منافسة على سلم التكنولوجيا والجودة، وهو ما يفسر بالضبط التسابق الفرنسي-البريطاني-الألماني نحو جنوب المتوسط، وكانت آخر جولات التسابق الزيارة المشتركة لكل من ساركوزي ودافيد كاميرون إلى طرابلس وسط سبتمبر/أيلول الجاري، وربما تحمل أجندة الرجلين زيارة إلى القاهرة مدفوعة بالسعي التركي نحو منطقتي الشرق الأوسط انطلاقًا من مصر ووصولاً إلى المغرب الأقصى.
التاريخ يعيد نفسه
ساد الخوف عند الكشف عن مؤشرات النمو في منطقة اليورو للنصف الأول من العالم الجاري -والتي عكست زيادة في الناتج الداخلي الخام لم تتعدَّ عتبة 0.2 بالمائة، من تراجع الدول الصناعية عن التزاماتها التمويلية تجاه دول الربيع العربي. وزادت الاحتجاجات العمالية في كل من اليونان وإيطاليا وإسبانيا، وتشدد المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" في التعاطي مع الأزمة اليونانية من حدة قلق البلدان العربية التي تربطها مع دول اليورو برامج مشتركة للنمو والتعاون؛ فلكل من الأردن ولبنان وتونس ومصر برامج للتنمية مع البنك الأوربي للاستثمار، وللمغرب مصالح اقتصادية في إسبانيا ومع فرنسا من جانب التحويلات والجذب السياحي وصناعة السيارات، وتعوِّل الجزائر على برنامج طموح مع ألمانيا في مجال الطاقات المتجددة والطاقة الشمسية يأتي على رأسه مشروع "ديزرتك" وحجمه 560 مليار دولار على آفاق العام 2050. وزادت بيانات النمو المتشائمة للسنوات القليلة القادمة من مخاوف الدول العربية النفطية بشأن إمدادات النفط إلى الدول الصناعية على خلفية العلاقة المباشرة بين أسواق الاقتصاد الكلي في منطقة اليورو وسوق الطاقة؛ حيث بيَّنت أرقام نشرها بنك الجزائر شهر سبتمبر/أيلول الجاري تراجع صادرات البلاد من النفط تحت ضغط تراجع النمو في الدول الصناعية بنسبة 25 بالمائة منذ الأزمة المالية الأخيرة.
ولكن سرعان ما زاد الأمل في تعاون مستقبلي مشترك بين الدول العربية ومنطقة اليورو عندما احتضنت باريس في الفاتح من سبتمبر/أيلول الجاري مؤتمرًا شعاره دعم الثورة الليبية ولكن باطنه يعني استباق التنافس على الأسواق العربية الشرهة للاستثمار والغنية بالموارد الخام والسكان والطلب الداخلي، ومما زاد في الأمل الإعلان عن مؤتمر "مارسيليا" لمجموعة الثماني والهيئات المالية الدولية لنفس الغرض، وعن مؤتمر آخر ستحتضنه نيويورك في العشرين من سبتمبر/أيلول الجاري تشارك فيه دول منطقة اليورو ومعها دول الاتحاد الأوربي.
ولعقد هذه المؤتمرات كلها في ظرف قياسي دلالة اقتصادية مهمة في سياق البحث الرأسمالي عن حلول ناجعة لأزمته الاقتصادية، وهو تكرار لما حدث عند نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945 عندما اقترح وزير خارجية أميركا -آنذاك- الجنرال جورج مارشال في يونيو/حزيران 1947 فكرة الدفع بالشركات الأميركية للاستثمار في الدول التي خرجت من الحرب مفككة البنى، مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا وفرنسا، وكانت فرصة للولايات المتحدة الأميركية كي تعيد إعمار أوربا على خلفيتين اثنتين: الأولى: اقتصادية وتعني تمكين الشركات الأميركية من صفقات البناء، وتحريك رأس المال الأجنبي المباشر، وضخ الدولار خارج الحدود الأميركية كعملة دولية تربعت -بعدئذ- على عرش التداولات خلفًا للذهب. والخلفية الثانية كانت محاصرة المد الثوري الذي بدأ في البروز في أوربا بسبب مسؤولية البرجوازية الرأسمالية عن تفكيك البنى التحتية الأوربية جرَّاء الحرب.
وها هو المشهد يعيد نفسه ولنفس الأهداف أي: تمكين الشركات الرأسمالية في كل من أوربا وأميركا من صفقات الإعمار في الدول العربية، ومحاولة فك الخناق عن الميزانيات في الدول الأوربية المهددة بأزمة الديون من خلال تدفق الجباية الضريبية عن الصفقات المحققة في الساحات الجديدة، وبالتالي محاصرة أي مد ثوري قد يطول شعوب تلك الدول تحت ضغط مسؤولية حكوماتها عن تفاقم البطالة والتضخم لديها مثلما حدث في كل من اليونان وبريطانيا وإسبانيا مؤخرًا.
لن تجد دول منطقة اليورو أفضل من الأسواق العربية التي تمر بلدانها بمرحلة التحول الديمقراطي لتحقيق الأهداف المذكورة؛ فالبلدان العربية تمثل حجمًا سكانيًّا يزيد قليلاً عن 360 مليون نسمة، وتختزن في مجموعها 60 بالمائة من الاحتياطي العالمي من النفط، وهي دول هيكلها الإنتاجي والتكنولوجي ضعيف وتستورد 90 بالمائة من احتياجات السكان فيها، ويدها العاملة تقع جغرافيًّا ضمن منطقة العمالة الرخيصة، وبعضها مثل –ليبيا- ظلَّ مغلقًا أمام الاستثمارات الأوربية لمدة زادت عن 40 سنة وهو الآن يملك فرصًا واسعة يعرضها أمام الشركات الصناعية وخاصة أمام "توتال" الفرنسية و"إيني" الإيطالية، وليس مستبعدًا أن تتحول المساعدات الأوربية لتلك البلدان سريعًا إلى أصول استثمارية جديدة وإلى طلب متزايد على التكنولوجيا وعلى التجهيزات الصناعية ما يتيح لدولة مثل ألمانيا فرصة ذهبية لحفز شركاتها الصناعية التي تمر بمرحلة ركود.
لقد بينت وقائع التاريخ الاقتصادي بين الأمم أن الأزمات تتحول من منطقة لأخرى وأن مفاتيح حلها تكمن في استثمار التحولات والحروب وفي نسج علاقات دولية جديدة، وهو المشهد نفسه الذي نعيشه اليوم ولكن على خلفية التحولات في العالم العربي هذه المرة.
_______________
خبير اقتصادي