العلاقات الجزائرية الليبية بعد القذافي: الاستقرار أولا

العلاقات بين الجزائر والنظام الليبي الجديد متوترة، لكن حاجة كل منهما للاستقرار ستجعل كفة التصالح أرجح.
20119673537467734_2.jpg

يبدو من المشهد المتردي حاليا أن وضع العلاقات الجزائرية-الليبية هو نفسه بالأمس وفي الحال والمآل؛  كان متوترا أو غير مستقر في أحسن الأحوال في عهد القذافي، وشهد توترا طوال الأشهر الستة للانتفاضة الليبية المسلحة/التدخل الغربي-الأطلسي. وعلى هذا الأساس فقد تسير الأمور على المنوال نفسه ولكن ليس لنفس الأسباب. بيد أن التحليل المعمق يبين أن المرجح هو تطبيع العلاقات الثنائية في وقت ليس بطويل، رغم موقف الجزائر السلبي حيال الثوار واتهامات المجلس الانتقالي بدعمها لنظام القذافي.

النظام الجزائري والثوار: الحياد السلبي

يبدو من الوهلة الأولى أن الجزائر ستكون"الخاسر الأكبر" بعد سقوط نظام القذافي ليس لكون هذا الأخير حليفها ولكن لموقفها السلبي حيال الثوار من البداية حتى النهاية. فهي مُنتَقدة في الخارج (المجلس الانتقالي الليبي وبعض الأطراف الدولية) والداخل (أوساط سياسية، أكاديمية وصحفية). تنتقد أحزاب من المعارضة الموقف الرسمي حيال الأزمة الليبية وترى أن الجزائر ليست في منأى عما يحدث في سوريا، ليبيا واليمن، بينما تساند أحزاب معارضة أخرى الانتفاضة الليبية لكنها تنتقد التدخل الدولي. على عكس ذلك تدافع أحزاب السلطة وحلفاؤها على الموقف الرسمي وتقول بأن لكل بلد سياقه السياسي.

والواضح أن الموقف الرسمي من الثورة الليبية مطية للصراع والتموقع تحسبا لما هو قادم (محليا) لأن المسالة مرتبطة أيضا بمصير النظام الجزائري. والواضح أن التدخل الغربي-الأطلسي حال دون مساندة بعض التيارات للثوار. أما الأوساط الأكاديمية والصحفية فتركز على الاعتبارات الأخلاقية والسياسية منتقدة الدبلوماسية الجزائرية التي بقيت حبيسة عقلية الحرب الباردة تاركة المجال لدول مثل المغرب (اعترف في 23/08/2011 بالمجلس الانتقالي وأوفد في نفس اليوم وزير خارجيته إلى بنغازي) وفرنسا تسجل نقاطا جيوساسية على حسابها.

لكن هل كان لزاما على الجزائر مساندة الثوار؟ لو اكتفينا بالمستلزم الأخلاقي، فالجواب لا غبار عليه. لكن سلوك الدول لا تحكمه الأخلاق فقط وإنما المصالح. على أن في بعض الأحيان يكون الارتباك والتريث والحذر دلالة على غياب رؤية إستراتيجية. فمثلا لو قارنا الموقف الجزائري بمواقف تونس ومصر والمغرب للاحظنا أن هذه الدول التزمت الحياد الإيجابي لصالح الثوار بإبقائها على قنوات الاتصال مفتوحة مع طرفي الصراع، ولم تناد برحيل القذافي لكنها دعمت المجلس الانتقالي، خاصة مصر وتونس حيث فسحتا له المجال للتحرك رغم أنهما لم تعترفا به رسميا إلا في وقت متأخر جدا (22/08/2011). سايرت هذه الدول الثلاث الثوار في مسعاهم لقلب النظام. أما الجزائر فلم تطالب برحيل القذافي ولم تطرد السفير الليبي لديها، لكن حيادها كان سلبيا في غير صالح الثوار. وحتى وإن لم تدعم النظام، فإن مجرد رفضها مساندة الثوار أو على الأقل الاعتراف بصواب مسعاهم وإقامة قنوات اتصال معهم رأى فيه هؤلاء وحلفاؤهم دعما للنظام. وهذا طبعا استنتاج ليس بالضرورة صحيحا.

بيد أن غياب قنوات اتصال معهم والتمسك بخريطة طريق إفريقية يسوَّقها رؤساء وصلوا للسلطة بواسطة الانقلاب – باستثناء رئيس جنوب إفريقيا - ، فضلا عن الاتهامات للسلطة الجزائرية بإرسال مرتزقة وأسلحة لدعم القذافي، أعطى كل هذا مصداقية لهذا الحياد السلبي المناوئ للثوار. ورغم تأكيد الجزائر مرارا على أنها تضررت من سياسة القذافي وبالتالي فليس من المنطقي أن تدعمه، وعلى التزامها الحياد وتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة (وضحت موقفها هذا في مراسلة رسمية بعثت بها إلى الأمين العام للأمم المتحدة وإلى مجلس الأمن في 24/08/2011 نشرت وكالة الأنباء الجزائرية مقتطفات منها)، إلا أن ذلك لم يشفع لها عند المجلس الليبي الانتقالي.

نلاحظ هنا كيف أن الدول العربية الإفريقية الثلاث (تونس ومصر والمغرب) أبقت على قنوات الاتصال مع النظام وأقامت أخرى مع الثوار متجنبة التصريح علنا بترجيحها كفة الثوار في ميزان المساندة، بينما عزفت الجزائر عن أي اتصال معهم وتمسكت بحل سلمي إقليمي يقضي بالتفاوض مع القذافي في وقت وصل فيه الصراع المسلح نقطة اللاعودة. وهنا مكمن الخلل في الموقف الجزائري، فالحذر المعقول في بداية الأمر فقد مصداقيته مع تطور الأوضاع.

يبدو أن موقف الجزائر يقوم على إدراك سياسي مفاده أنها لن تتضرر لا في حال بقاء القذافي ولا في حال رحيله، وبالتالي لا توجد مكاسب سياسية متوقعة تبرر دعم أحد طرفي الصراع. ثم إنها معنية أساسا بهموم الداخل، فالنظام في وضعية صعبة بسبب تنوع وتعدد الاحتجاجات الداخلية. وهو بين المطرقة الخارجية والسندان الداخلي: أي دعم لنظام القذافي مصدر متاعب مع الفواعل الدولية النافذة، وأي دعم للمعارضة المسلحة مصدر متاعب مع الشعب، لأن من يدعم الانتفاضة في ليبيا لا يمكنه أن يقمعها في عقر داره. ومن هنا يأتي الاتساق في موقف النظام الجزائري، أما الأنظمة العربية التي ساندت التدخل في ليبيا فهي متسامحة في الخارج – دعم المطلب الديمقراطي خارج حدودها – لكنها غير متسامحة مع ذات المطلب في عقر دارها.

بيد أنه مع الإطاحة بالنظام الليبي فقد هذا الموقف اتساقه وظهر التناقض بين المقدمات والنتائج. حيث تقول الجزائر أن الاعتراف بالمجلس الانتقالي مرهون بموقف "جماعي" في إطار الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي. يدل هذا التناقض على حالة الارتباك السائدة على أعلى مستويات هرم السلطة في الجزائر وعلى قصور الرؤية الإستراتيجية. إذا كانت الجزائر تربط موقفها بموقف "جماعي" إقليمي، فلماذا رفضت مساندة القرار – الجماعي - للجامعة العربية المتعلق بإقامة منطقة حظر جوي في ليبيا؟ إنها محاولة يائسة لحفظ ماء الوجه، أكثر منه إستراتيجية محكمة البنيان ومحسوبة النتائج.

الموقف الجزائري: حسابات الربح والخسارة

يمكن تفسير الموقف الجزائري بأسباب من أربع فئات. تكمن الأولى في تخوف النظام الجزائري من أن يلق نفس المصير في حال اندلاع انتفاضة ديمقراطية في الجزائر تأخذ بعدا مسلحا بعد قمعها، مما يقود إلى تدخل دولي مماثل لما حدث في ليبيا. فمن المحتمل أن يكون النظام قد راهن على فشل التدخل الدولي وعلى مقاومة القذافي للتغيير – كما راهن الغرب على مقاومة بن علي ومبارك لقوى التغيير– حتى يثبت صواب رؤيته ومصداقية مخاوفه. وتكمن الثانية في المخاوف الأمنية المباشرة التي قد تترتب على الصراع في ليبيا: تهريب الأسلحة من وإلى ليبيا وانتقالها إلى الساحل وإلى القاعدة؛ توسع رقعة الإرهاب في المنطقة وتحول ليبيا إلى أحد معاقله؛ تخبطها في حرب أهلية؛ وصول جحافل من اللاجئين الليبيين والأجانب المقيمين في ليبيا إلى التراب الجزائري. وتكمن الثالثة في التدخل العسكري الغربي وتداعياته الأمنية على الجزائر؛ فوجود قوات غربية على حدودها يسمح لها بالتجسس على خطط تحرك وانتشار الجيش الجزائر والعتاد الذي بحوزته، خاصة وأن برامج تسلحه في السنوات الأخيرة تثير تساؤلات في الغرب. فيما تكمن الفئة الأخيرة في المبادئ التي تقوم عليها السياسة الجزائرية مثل عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة وعدم تغيير الأنظمة بالقوة.

وكانت هذه الفئة الأخيرة من المبادئ هي واجهة الموقف الجزائري دوليا، لكنها لم تكن في واقع الحال العامل الحاسم في هذا التموقع الفريد من نوعه في المنطقة.

على أنه يمكن حصر التغييرات التي طرأت على العلاقات الثنائية في ثلاثة عناصر:

  1. تخلص الجزائر دون جهد من نظام سبب لها متاعب أمنية على مدار عقود من الزمن لكنها لم تربح بعد ود سلفه.
  2. اكتمال سلسلة "الديمقراطيات الناشئة" في شمال إفريقيا وتحديدا في الجوار الشرقي للجزائر التي أصبحت تتعامل مع دول (تونس، مصر وليبيا) تخلصت شعوبها أو هي قيد التخلص من أنظمتها التسلطية.
  3. عكس التغيير "الهادئ" والمحلي المنشأ والتنفيذ في تونس وفي مصر، فإن التغيير في ليبيا كان محلي المنشأ إلا أن تنفيذه كان هجينا محليا/دوليا، ولهذا تحولت الحدود الجزائرية مع ليبيا إلى أكثر حدودها حساسية أمنيا. وهذا ما يفسر تضاعف إجراءات مراقبتها وضبطها برا وجوا، حيث تشهد حشدا غير مسبوق لقوات الجيش والأمن الجزائرية. والمفارقة أنه رغم التوتر بين الطرفين، فإن تشديد الجزائر مراقبتها للحدود تخدم مصالح الثوار أيضا، لأنها تسمح لهم بتأمين حدودهم الشرقية دون أي جهد يذكر، كما تحول دون فرار أنصار النظام البائد خارج ليبيا عبر الحدود مع الجزائر.

بيد أن من المرجح أن تكون علاقة النظام الليبي الجديد مع الجزائر متوترة، على المدى القصير. ونفس الشيء يقال عن العلاقة بينه وبين موريتانيا لأن هذه الأخيرة محسوبة في نظره على القذافي لعضويتها في وفد الوساطة الإفريقي. في المقابل، ستكون العلاقة مع المغرب عادية إن لم نقل جيدة ومع تونس أيضا. هذا يعني أن المنطقة قد تدخل سياسة المحاور مجددا: محور ليبي-مغربي يقابله محور جزائري-موريتاني، بينما ستسعى تونس للحفاظ على مسافة معقولة من المحورين تفاديا لاستعدائهما. إن ظهرت مجددا سياسة المحاور فإنها ستزيد وضع الاتحاد المغاربي تعقيدا. من هذا المنطلق يبدو أن العلاقات المغاربية البينية لن تخرج سليمة من المحنة الليبية. لكن من المرجح أن تكون حالة الاستقطاب هذه ظرفية لأن استتباب الأمن في ليبيا مصلحة مشتركة لعدد من الأطراف الرئيسية (مجلس انتقالي ودول مغاربية وعربية وغربية). وعليه يبقى هذا المشهد ضعيفا لأسباب أخرى أيضا سنأتي عليها لاحقا.

لكن هل سيؤثر هذا على مكانة الجزائر في المغرب العربي؟ يجب هنا مراعاة ميزان الربح والخسارة. هل خسرت الجزائر برحيل القذافي؟ الشيء المؤكد أنها لم تخسر لِما كان يتسبب فيه من متاعب سياسية وأمنية، لكن هل ربحت؟ الإجابة بالقطع مستعصية، لأنها على الأقل "ربحت" – سلبيا – استعداء، ولو مؤقتا، المجلس الانتقالي حاكم ليبيا اليوم. لكن ضعف هذا الأخير وأهمية دور دول الجوار في إحلال السلم والاستقرار في ليبيا فضلا عن ثقل الجزائر في المنقطة يجعل حسابات الخسارة مهملة الثقل.

المرحلة الجديدة: إشارات التقارب

رغم التوتر الذي ميز العلاقات بين المجلس الانتقالي والجزائر طوال الستة أشهر الماضية، فإن هناك إشارات متبادلة للتطبيع. فعلى المستوى الرمزي، تم رفع علم الثوار فوق مبنى السفارة الليبية بالجزائر (في 23/08/2011) رغم عدم اعترافها بالمجلس الانتقالي. أما على مستوى التصريحات الرسمية، فرغم التزام الصمت، فإن مصدرا من الخارجية الجزائرية، أكد أن الجزائر " لم تدعم لا سياسيا ولا عسكريا ولا بأي شكل آخر نظام القذافي"، مضيفا أنه "ليس لها تحفظات بخصوص المجلس الانتقالي".

من جانبهم، أكد ممثلون عن المجلس الانتقالي، رغم أسفهم لموقف الجزائر، على ضرورة تجاوز الخلافات وفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية. وواضح أن الإدلاء بهذه التصريحات لصحف جزائرية عملية اتصال محسوبة. ومن أبرزها تلك التي أدلى بها محمود جبريل، رئيس المجلس التنفيذي للمجلس الانتقالي، في حوار ليومية الشروق الجزائرية (23/08/2011): "أريد أن أؤكد أنه خلال الستة أشهر الماضية شاب هذه الفترة الكثير من اللغط وعرفت العلاقات الكثير من التقارير، البعض منها صحيح والآخر غير صحيح، لكن ما أريد قوله أن العلاقة بين البلدين تاريخية ولا يمكن أن تنفصم بسبب أمور طارئة، شئنا أم أبينا، وليس من حقنا كمسئولين في هذه المرحلة أن نعيق حركة التاريخ بين هذين الشعبين الأكثر اقترابا في الطباع في شمال إفريقيا". وعن تحقيقات بشأن مرتزقة الجزائر، قال بأنه "ليس من صالح العلاقات بين البلدين الاستناد إلى هذه النتائج أو النظر إليها، فإذا كانت هناك تحقيقات فليس من اللائق أن تنشر في الوقت الحالي، هذه نظرتي الشخصية، وسألقي بكامل ثقلي في المجلس حتى لا تؤثر هذه التحقيقات على العلاقة بيننا، ولا أعتقد أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بما يكنه من حب للشعب الليبي يسمح بممارسة هذه التجاوزات. وما يهمنا اليوم ليس الأمس أو اللحظة بل الغد، ولا يفيد الطرفين التدقيق فيمن أخطأ أو أصاب، ويجب طي هذه الصفحة نهائيا".

لكن من غير المستبعد أن تكون المسألة مرهونة باعتذارات متبادلة. فالجزائر تنتظر أن يعتذر عن اتهاماته لها. من جانبه، ينتظر الانتقالي من الجزائر أن تعتذر له عن عدم مساندته. ونظرا لوقع الاتهامات المنسوبة للجزائر فإن هذه الأخيرة قد تتريث قبل الاعتراف بالمجلس الانتقالي، ولما تفعل ذلك فإنها ستشترط البت في قضية الاتهامات إضافة إلى ملفات أخرى - كما سنرى - قبل التطبيع.

وقد بدأ "مسلسل" الاعتذارات. فبعد اقتحام مجموعة من الثوار السفارة الجزائرية في طرابلس والتعرض لموظفيها والاستيلاء على بعض أملاكها المنقولة (سيارات، حواسيب...)، عبر محمود الشمام، الناطق باسم المجلس الانتقالي، في تصريح ليومية الخبر الجزائرية (23/08/2011) عن "اعتذارات المجلس للجزائر" مؤكدا على "استعداد المجلس لفتح صفحة جديدة مع الجزائر".

يبدو أن مسألة التطبيع مع السلطة الليبية الجديدة مرهونة، من منظور جزائري، بالبت في ملفات بعضها جديد وبعضها قديم. أولها الحسم في قضية الاتهامات بدعم نظام القذافي (الجهة التي بادرت إليها وأدلتها). ثانيها، موقف المجلس الانتقالي من بعض المسائل الأمنية: وضع جهاديين ليبيين – ضمن الثوار تعتبرهم الجزائر من فلول تنظيم القاعدة؛ موقفه من مكافحة الإرهاب داخليا وإقليميا (الساحل) ومن قضية الأزواد شمالي مالي والنيجر؛ التعاون الأمني لاسيما تأمين الحدود ومراقبة وضبط الأسلحة (معظمها قضايا خلافية بين الجزائر والنظام البائد). ثالثها، قضايا الحدود البرية: هناك حوض للمياه الجوفية عابر للحدود بدأ نظام القذافي في استغلاله دون اتفاق مع الجزائر مما سبب توترا بين البلدين، فضلا عن حقل نفطي عابر للحدود هو الآخر. زيادة على ذلك، هناك قضية تخص ليبيا الجديدة لكن لها تداعيات إقليمية من منظور جزائري، وهي قضية الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا على مقربة من الحدود الجزائرية. وما يؤكد حساسية هذه المسألة إعلان المجلس الانتقالي أنه لن يسمح بإقامة قواعد عسكرية غربية في ليبيا.

المستقبل: أولوية الاستقرار

انطلاقا مما سبق يمكن رصد ثلاثة مشاهد للمنحى الذي قد تأخذه العلاقات الثنائية.

المشهد الأول، هو فتح صفحة جديدة بالكامل بين البلدين وهو مستبعد حاليا، لأنه لن يتحقق إلا إذا حدث  تحول في الجزائر نحو نظام انتقالي ديمقراطي، إما عبر انتفاضة شعبية تقود إلى إسقاط النظام الحالي وإما عبر إصلاحات جذرية داخل النظام تسمح بميلاد نظام جديد على أسس ديمقراطية. وفي هذه الحالة، لن يتحمل النظام الجديد إرث سلفه، ونفس الشيء بالنسبة لنظيره الليبي، فيسارعا إلى فتح صفحة جديدة تماما في العلاقات الثنائية. بيد أن هذا المشهد مستبعد على الأقل في المدى القريب، وذلك لعدة أسباب:

  1. المطلب الديمقراطي في الجزائر ليس مطلبا شعبيا – ذي قاعدة شعبية عريضة – ملحا وحازما في الوقت الراهن بسبب (من بين أسباب أخرى) وقع العشرية السوداء في المخيال الجمعي للشعب – وهو ما يراهن عليه النظام -، بل هو مطلب أحزاب وجمعيات مفتقرة للدعم الشعبي العريض.
  2. مداخيل النفط الضخمة وإعادة توزيع جزء منها يسمح بامتصاص الغضب الشعبي وتأجيل الاحتجاجات الاجتماعية لأجل غير مسمى.
  3. تراجع الحكومة عن تطبيق بعض القوانين مسايرة للشعب وتجنبا لصب الزيت السياسي-الاقتصادي على نار الاحتقان الاجتماعي.
  4. عدم وجود إرادة  للإصلاح من الداخل، لأن الإصلاحات المعلن عنها لا تسير نحو البناء الديمقراطي بل هي محاولة من النظام لتحسين الجزء الظاهر من سلطته التسلطية.

أما من جهة المجلس الانتقالي فله سجل سلبي مع الجزائر التي تعرضت بعض مصالحها لاعتداءات. فلقد تعرضت استثمارات شركة سوناطراك بحقول غدامس النفطية إلى التخريب في بداية الأزمة، فكان أن جمدت سوناطراك استثماراتها هناك. كما اقتحم ثوار السفارة الجزائرية بطرابلس. هذا التوتر الموروث عن الستة أشهر الأخيرة قد تستغله بعض القوى الأجنبية لتزيد الأمور تعقيدا ولتجعل المجلس الانتقالي يقبل على تنازلات لهذه القوى بحجة حمايته من الجزائر.

كما أن الصراع داخل الانتقالي بين "صقوره" و"حمائمه" بشأن العلاقة مع الجزائر قد يحتدم وقد تكون الغلبة للرافضين للصلح.

بيد أن مشهد "القطيعة" الكاملة (وهو المشهد الثاني) هذا غير مرجح لعدة أسباب: المشهد السياسي الليبي ما بعد القذافي لم يتشكل ولم تتضح معالمه بعد؛ انكشاف ليبيا وحاجة السلطة الجديدة لمساعدة الجيران لاستعادة الأمن وتأمين الحدود؛ مصلحة الجزائر في استقرار الوضع في ليبيا بغض النظر عن طبيعة العلاقة مع النظام القائم فيها؛ سعي القوى الغربية للتهدئة وتعاضد جهود كل دول الجوار لضمان سلاسة الانتقال الديمقراطي في ليبيا ولتخفيف أعبائها أيضا (تقاسم أعباء إعادة الاعمار وتوجيه الهجرة المحتملة نحو دول الجوار بدل دول الاتحاد الأوروبي) خاصة في سياق الأزمة الاقتصادية الذي تمر به القوى المتدخلة في ليبيا.

أما المشهد الثالث، فهو مشهد التطبيع التدريجي وهو وارد للغاية. إذ أن التطبيع قادم لا محال، والمثال العراقي خير دليل على ذلك. فكل الدول العربية التي عارضت الغزو الأمريكي للعراق اعترفت بحكومته الانتقالية وساعدتها سياسيا وماليا. ولازالت تفعل. فالجزائر مثلا مسحت منذ أسابيع فقط ديون العراق. ثم لن نبالغ إن قلنا بأن العامل الحاسم في تحديد منحى العلاقات الجزائرية-الليبية لن يكون موقف ورغبات المجلس الانتقالي والسلطة المنبثقة عنه وإنما إدراك القوى الغربية الفاعلة في التحالف الدولي لدور الجزائر إقليميا، فهي تعي أن التوتر بين الجزائر والمجلس الانتقالي ليس في صالح الاستقرار في ليبيا. كانت تلك القوى توظف هذا التوتر للضغط على الجزائر لتدعم الثوار، لكن بعد الإطاحة بالنظام، فإن التطبيع مع الجزائر أصبح ضروريا لتأمين حدود ليبيا والمساعدة في إحلال السلم والاستقرار فيها. وبحكم التجربة العراقية فهي تقدر أهمية دور دول الجوار.

الحقيقية أن ليبيا والجزائر جميعا في الهم مغرب. فالمجلس الانتقالي كيان لم يستقر أمره بعد، والوضع في ليبيا غامض وهامش حرية سلطتها الجديدة سيكون ضيقا بفعل تداعيات التدخل العسكري الغربي، الذي قد يتسبب لاحقا في صراعات داخلية بين تيارات إسلامية (سلفية وجهادية) وعلمانية. وتكرار المشهد العراقي (بعد احتلاله) وارد كأحد الاحتمالات. أما الجزائر فمشكلتها ليست في تجاوز علاقة متوترة ظرفية مع كيان (الانتقالي الليبي) غير مستقر ومهمل الثقل في المرحلة الحالية تماما مقارنة بثقلها هي، وإنما في تجاوز حالة الاستعصاء الديمقراطي البنيوي بطريقة سلمية في هذا الظرف العسير من مخاض التحول السياسي في العالم العربي. هذا هو الرهان السياسي الحقيقي لأن توقيت وطريقة حسمه ستؤثران على البلد داخليا وعلى علاقته ببيئته الإقليمية والدولية.
___________________
خبير في العلاقات الدولية

ABOUT THE AUTHOR