قراءة في وضع أميركا والمعادلة الدولية

تبدو أميركا في ميزان القوى ومعادلة التنافس غير قادرة على فرض إرادتها، وإن لم تفقد القدرة على شنّ الحروب. لهذا اتسّم الوضع العالمي بحالة اللانظام المائلة أكثر للفوضى، ما يسمح باختراقات سواء لصعود دولة إقليمية قوّية، أو نجاح ثورات ومقاومات.
29 April 2010







 

منير شفيق





ما هو قائم في الوضع العالمي الراهن هو حالة من اللانظام التي هي أقرب ما يكون إلى الفوضى، أو حالة انتقالية تتسّم بمحاولة إرساء نظام عالمي تتحكم فيه مجموعة 5+1، وتكون فيه أميركا في الموقع الأول بين أنداد.
إذا كانت أميركا قد فشلت في إقامة نظام عالمي أحاديّ القطبية، وإذا كانت قد فشلت في إقامة نظام عالمي متعدّد القطبية بقيادتها، أو في إيجاد معادلة محددة تحكم حالة نظام عالمي جديد، فإن ما هو قائم في الوضع العالمي الراهن هو حالة من اللانظام التي هي أقرب ما يكون إلى الفوضى، أو حالة انتقالية تتسّم بمحاولة إرساء نظام عالمي تتحكم فيه مجموعة 5+1، وتكون فيه أميركا في الموقع الأول بين أنداد. ولكن هذه المحاولة تتسّم بالتعثر، لأن ميزان القوى فيما بين الدول الكبرى لم يحسم وضعه بعد، ولم يتم التوصل حتى الآن إلى معادلة جديدة تضبط حركته.

ضمن هذه الحالة من اللانظام الأقرب إلى الفوضى يسود خوف، بدرجات متفاوتة، من تداعياتها من قِبَل الدول الكبرى، ولهذا ستظلّ تحاول الوصول إلى معادلة بينها تسمح بإيجاد نوع من الضبط للوضع العالمي، وهو ما تفعله في الموضوع الإيراني بشكل خاص.


أما في القضايا الأخرى فليس لمجموعة 5+1 أي دور فيها، ومن ذلك إن أميركا انفردت -وما زالت- منفردة بمعالجة أو مواجهة القضية العراقية التي نجمت عن غزو العراق واحتلاله، وهنا ثمة غياب واضح لمجموعة 5+1. وكذلك في قضية أفغانستان حيث من خلال حلف الأطلسي (بمشاركة أوروبية ضعيفة أساسها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا) تسعى أميركا إلى الحسم العسكري حتى الآن، مع تغييب للدوريْن الروسي والصيني بصورة عامة، ولكن مع عقد صفقات جزئية مع كل منهما، وهي صفقات أو مساومات  لا تصل حد المشاركة أو اعتماد مجموعة 5+1 لإدارة الوضع الدولي، كما هو الحال في قضية إيران. أما في حالة باكستان فإن السمة الغالبة هي التفرّد الأميركي-الفاشل أو الذي في طريقه إلى الفشل على ما يظهر الآن من مؤشرات قوية في هذه الساحة.


وفي موضوع القضية الفلسطينية أو ما يسمّى بتسوية الصراع "الفلسطيني-الإسرائيلي"، فإن أميركا تنفرد في معالجته بصورة كاملة تقريبا، كما عبرّت عن ذلك في مشروع ميتشل الأول خلال العام 2009 والثاني الذي هو في طور التشكل.


أما على مستوى حل الأزمة الاقتصادية العالمية أولاً، ثم محاولة إرساء قواعد للنظام الاقتصادي العالمي بعد الأزمة ثانياً، فقد اتجهّت أميركا إلى معادلة الدول العشرين متجاوزة معادلة الدول الصناعية السبع زائد روسيا، كما مجموعة 5+1.


من هنا يمكن الاستنتاج أن أميركا تخلت عن نظرية الانفراد كما تجلت في عهدَيْ كلينتون، أو تبدّت بصورة صارخة في العهد الأول لإدارة جورج دبليو بوش. وقد عُبِّّر عنها صراحة بإستراتيجية "تحالف الراغبين" بدلاً من إستراتيجية حلف الأطلسي أو إستراتيجية القطبيْن، أو إستراتيجية الأقطاب الخمسة في مجلس الأمن أو من خلاله.


الوضع العالمي الراهن يتشكل الآن من المعادلة أو المعادلات الناتجة عن فشل الإستراتيجية الأميركية التي عبرّت عنها إدارة بوش الابن. وقد أدّى هذا الفشل إلى سقوط نظرية إقامة نظام عالمي أحاديّ القطبية إذ تبين أن أميركا غير قادرة على فرض شروطه وسماته كما تصوّر البعض في حينه.





يمكن الاستنتاج أن أميركا تخلت عن نظرية الانفراد كما تجلت في عهدَيْ كلينتون، أو تبدّت بصورة صارخة في العهد الأول لإدارة جورج دبليو بوش.
طبعاً ما كان لهذا الفشل أن يحدث إلاّ بفضل ما واجهته تلك الإستراتيجية من مقاومات وممانعات ومعارضة، وبرز هذا الفشل بصورة خاصة في غزو العراق واحتلاله، حيث تشكلت مقاومة عرقلت بقوّة وبسرعة عملية بسط الهيمنة العسكرية وجعلت الاحتلال يبحث عن تحالف دولي يتجاوز "تحالف الدول الراغبة"، وقد راح يتخبّط أمام خسائره البشرية.

وهنا يجب تقدير أهمية الفشل في فرض الشروط التي حملها كولن باول إلى سورية، لأن استجابة سورية لتلك الشروط في ذلك الوقت كان سيقلب المعادلة رأساً على عقب ولمصلحة الهجمة الأميركية على المنطقة، فالصمود السوري في رفض الشروط الأميركية كان له دوره المقدّر في ذلك الفشل.


ثم كان الفشل في إخضاع السلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات للشروط الجديدة، مما أدّى إلى اغتياله ثم إلى نجاح حماس في الانتخابات التشريعية بعد ذلك. الأمر الذي كان إحباطاً آخر لمشروع الشرق الأوسط الكبير، ثم جاء الفشل المدّوي لحرب إسرائيل على لبنان في يوليو/تموز 2006، أمام المقاومة بقيادة حزب الله وبدعم سوري-إيراني مباشر وشبه مباشر. ثم تكرّس الفشل نفسه في حرب 2008-2009 في قطاع غزة.


وأخيراً وليس آخراً جاء انفجار الأزمة المالية التي أضعفت بصورة خاصة الدور الاقتصادي الأميركي وأفشلت عملياً مشروع إقامة النظام الاقتصادي العالمي على أساس العولمة. فها هنا حدث تغير في ميزان القوى الاقتصادي لاسيما في أساسه الاقتصادي الإنتاجي لغير مصلحة أميركا، بل سارت الأمور  لمصلحة الصين والهند ودول أخرى صاعدة مثل البرازيل وغيرها. وذلك إلى جانب انهيار ما يسمّى حريّة السوق المطلقة، خصوصاً في البورصات والمضاربات.


بيد أن الفشل الأميركي المذكور وكيفية محاولة أميركا معالجته أبقى لها القدرة على لعب الدور الأكبر بين الدول الكبرى في السلب وليس الإيجاب (بمعنى الهدم وليس البناء)، فأميركا قادرة فعلا على إفشال إقامة نظام متعدّد القطبية على نحو ما ترغب روسيا والصين وعدد من الدول الإقليمية الصاعدة، وقادرة على إفشال حلّ عدد من الأزمات المحلية. وذلك إلى جانب قدرتها على عقد الصفقات مع كل من روسيا والصين لتمرير بعض القرارات الدولية، كما حدث في مرحلة العقوبات الأولى على إيران مثلاً. ولكنها مع ذلك ليست قادرة إقامة نظام دولي بالشروط والمواصفات التي ترغب فيها.


والقدرة على التخريب أو الهدم أو الإعاقة والعرقلة، تختلف نوعياً عن القدرة على بناء نظام عالمي تحت قيادة أميركية، فالمحصلة هنا هي حالة اللانظام الأقرب إلى الفوضى.


وعندما تُسقط أميركا من أولوياتها مواجهة روسيا والصين وهما الدولتان المرشحتان لمنافستها عالمياً على المستويين العسكري (روسيا) والاقتصادي (الصين)، فهذا يعني القبول الاضطراري بعقد الصفقات معهما. وعلى هذا الأساس ثمة قضايا أصبحت خاضعة فعلا لصفقات ثنائية أميركية-روسية، وأميركية-صينية إذا أرادت أميركا أن تتجنب انفراط الوضع الدولي إلى حد الفوضى الواسعة، أو إذا أرادت أن تحافظ على دور قيادي ظاهرياً فيما الحقيقة ليست كذلك. ومن أمثلة ذلك الموضوع النووي على مستوى عالمي.





عندما تُسقط أميركا من أولوياتها مواجهة روسيا والصين وهما الدولتان المرشحتان لمنافستها عالمياً على المستويين العسكري (روسيا) والاقتصادي (الصين)، فهذا يعني القبول الاضطراري بعقد الصفقات معهما.
ولكن هذه الصفقات الثنائية إن ساعدت أميركا في قضية النووي الإيراني مثلاً أو في إنجاح مؤتمر دولي ما، أو في  تمرير قرار لمجلس الأمن، إلاّ أن مكسبها يظلّ وقتياً وجزئياً فيما المكسب في المدى البعيد والمتوسط وحتى القريب فعائد لروسيا والصين. لأن تلك الصفقات -وإن أضرّت بسمعتهما بسبب المقايضة في القضية الجزئية المحدّدة، والبعيدة عن مجالهما الحيوي- تعزز دورهما وقوّتهما في القضايا الأكثر أهمية بالنسبة إليهما، ومثال ذلك الصين في قضية تايوان والقضايا الاقتصادية، وروسيا في مجالها الأوروبي أو في حديقتها الخلفية الآسيوية. وهذا فضلاً عن مكاسبهما في تعزيز النظام داخلياً ورفع قدراتهما التنافسية العسكرية والاقتصادية.

أما أوروبا في مرحلتها الجديدة المتمثلة في عهد ميركل في ألمانيا وساركوزي في فرنسا، وبرلسكوني في إيطاليا، فقد أصبحت شبه ملحقة بالسياسات الأميركية. ولكن هذا الإلحاق الراهن لا يعود السبب فيه إلى قوّة أميركا كما كان الحال بعد الحرب العالمية الثانية، وإنما لضعف القيادة في هذه الدول، ووقوعها تحت ضغط إبقاء أميركا قويّة لتجنب صعود القوى الدولية الأخرى.


هذه المعادلة الجديدة أضعفت دور أوروبا في العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، كما أضعفت دورها حتى في الحلف الأطلسي وفي مدى التأثير في السياسات الأميركية. ولهذا فإن أوروبا في حالة ارتباك عام بسبب ما أصاب الغرب عموماً من ضعف وبسبب عدم اهتمام أميركا بإشراكها في اتخاذ القرارات الدولية عموماً إلاّ في حالات محدودة، كحالة النووي الإيراني أو أفغانستان. ومع ذلك لا تعرف متى تعقد أميركا الصفقات من وراء ظهرها في القضايا المختلفة.


فأوروبا ليست معدومة الدور، ولكن مرتبكة الدور بسبب حرصها على عدم الابتعاد عن أميركا لئلاّ يؤدي الابتعاد إلى تزعزع نفوذ الغرب عموماً. ولهذا تجد نفسها تسير في سياسات لا تربحها، أو غير مقتنعة بها، والأهم حين يُحجَّم دورها حيث ترغب في أن تلعب دوراً أكبر. لكن بالرغم من ذلك لا تستطيع أن تطابق سياساتها في كل الحالات مطابقة تامة مع أميركا، ولاسيما في معالجة الأزمة المالية.


إلى هنا يجب الأخذ بالاعتبار المبدأ الأساسي في العلاقات الدولية المتمثل في قانون التنافس والتدافع الذي يحكم المصالح في ما بين الدول الكبرى، إلى جانب القانون الذي يدفع الدولة الإمبريالية الأقوى إلى أن تذهب بحصّة الأسد أو الحصّة الأكبر، إن لم يكن بكل الحصّة حيثما تستطيع. ولهذا ليس من مصلحة الدول الكبرى بما فيها أوروبا، أن تترك أميركا تنفرد أو تتحكم في النظام العالمي أو في مصائر القضايا العالمية المختلفة، فكل منها يريد حصّته أو أكبر حصّة ممكنة، ولا يستطيع أن يقبل بالفتات. لأن القبول بالفتات يعني الإضرار بمصالحه العليا ودوره ومن ثم استفحال أزمته الداخلية.


إن عدم إدراك هذا المبدأ هو الذي جعل البعض يستسهل اعتبار الدول الكبرى قد استسلمت لأميركا وتركتها تقرّر مصير النظام العالمي وقضايا العالم كما يحلو لها، بل إن "عدم الإدراك" نفسه بأن الانفراد الأميركي -مع كل ما تتمتع به أميركا من أنانية وأطماع هيمنة إمبريالية- يتعارض مع مصالح الدول الكبرى خاصة، والدول الوسطى والشعوب بعامّة، إذ لا بدّ من تحقيق درجة من التوازن في المصالح.


وهو ما حكم سلفاً بعدم إمكان إقامة نظام عالمي أحاديّ القطبية إن لم يتضمن احتراماً لتعدّد القطبية داخله -وتحقيق الأخيرة بدوره يتعارض مع أحاديّته- وهذا لا يتأتى إلاّ عبر الصراع والمدافعة والتنازع ظاهراً أو خفيّاً، خشناً أو ناعماً.





إن أميركا في ميزان القوى وفي معادلة التنافس والتدافع في ما بين الدول والشعوب، غير قادرة على الفرض والبناء، وإن لم تفقد القدرة على تعطيل إقامة نظام عالمي لا تقبل به، أو على التخريب والتشويش وحتى على شنّ حروب الغزو والاحتلال.
ولقد صحب عدم الإدراك هذا سوء تقدير لميزان القوى العام. فإذا كان من الصحيح أن أميركا بعد انتهاء الحرب الباردة في السنوات العشر الأولى كانت الدولة الكبرى الأقوى عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وبهوّة واسعة قياساً مع كل دولة على حدة. ولكن قوّتها تلك لا تستطيع أن تواجه محصّلة قوى معارضة لها موضوعياً على مستوى الدول الكبرى بما فيها أوروبا، ولا تستطيع أن تكون أقوى من كل الدول والشعوب والمقاومات في العالم.

ولهذا عندما حاولت أميركا أن تفرض نظاماً أحاديّ القطبية تبيّن أنها أصبحت عملياً أضعف وليس أقوى مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكر وارسو، لأن السيطرة المنفردة على كل العالم فوق طاقتها، الأمر الذي جعلها أضعف مما كانت عليه في مرحلة المعسكريْن. ففي مرحلة المعسكرين تمكنت واشنطن وموسكو من أن ترسيا، بالتوافق، نظاماً عالمياً ذا أبعاد محدّدة وإن اخترقته بشكل أو بآخر حركة عدم الانحياز وبعض ثورات الشعوب.


إن قانون التنافس في ما بين الدول الكبرى بحثاً عن المصالح العليا لكل منها والممتدّ إلى تناقض الهيمنة الدولية مع المصالح العليا للدول والشعوب بعامّة، أسهم في وصول الوضع العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة إلى ما وصله إليه الآن، وهو ما أتاح ويتيح للثورات والمقاومات إنجازات كبرى، في الوقت الذي ظن فيه البعض أن عهدها انتهى مع انتهاء الحرب الباردة. فالتناقضات بين الدول والمقاومات ضد العدوان والاحتلال، كانت وراء ما تغيّر في ميزان القوى العالمي والإقليمي. فمحصّلة ميزان القوى العالمي وعلى مستوى إقليمي في كل منطقة كانت تنفي -وقد نفت بالفعل- إمكانية قيام نظام عالمي أحاديّ القطبية كما سعت إليه الإدارات الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة.


وهذه المحصّلة هي التي راحت تحدّد الآن أدوار كل دولة في الوضع الراهن بما في ذلك الدور الأميركي حجماً وفعاليةّ، إذ دخل الأخير في وضع من الضعف والارتباك النسبييْن بشكل لم يسبق له مثيل منذ انتهاء الحرب الباردة.


وبكلمة، إن أميركا في ميزان القوى وفي معادلة التنافس والتدافع في ما بين الدول والشعوب، غير قادرة على الفرض والبناء، وإن لم تفقد القدرة على تعطيل إقامة نظام عالمي لا تقبل به، أو على التخريب والتشويش وحتى على شنّ حروب الغزو والاحتلال.


ولهذا اتسّم الوضع العالمي بحالة اللانظام المائلة أكثر للفوضى ،وهو ما يفتح فرجات أو يسمح باختراقات لقيام دولة إقليمية قوّية، كما لنجاح ثورات ومقاومات وانتفاضات شعبية.
_______________
كاتب إستراتيجي