الرؤية الإستراتيجية الأميركية للثورات العربية

الثورات العربية أصابت الإدارة الأمريكية بالدهشة والارتباك، وجعلتها تعيد حساباتها للحفاظ على مصالحها بالمنطقة.
1_1053627_1_34.jpg







 

محمد المنشاوي


حافظت الإدارات الأميركية المتعاقبة، سواء جمهورية كانت أم ديمقراطية، على مجموعة ثابتة من الأهداف الإستراتيجية في المنطقة العربية، واعتمدت في سبيل تحقيق ذلك على عدة وسائل وآليات، من أهمها توفير الدعم لنظم سياسية تؤيد السياسات الأميركية؛ وذلك بغض النظر عن درجة شرعية هذه الأنظمة أو مستوى شعبيتها. وصنّفت واشنطن الدول العربية إلى معسكرين: الاعتدال والممانعة؛ بحسب تأييد كل منهما للإستراتيجية الأميركية وسياساتها في المنطقة.





صنّفت واشنطن الدول العربية إلى معسكرين: الاعتدال والممانعة؛ بحسب تأييد كل منهما للإستراتيجية الأميركية وسياساتها في المنطقة.
وقد مثلت الثورات العربية التي تشهدها العديد من الدول العربية حاليا صدمة لأركان الحكم في الولايات المتحدة وذلك لفجائية هذه الثورات وعدم القدرة على توقعها بهذه السرعة وبهذا الحكم والاتساع. ولهذا لم يكن مستغربا وصف نيكولاس بيرنز، نائب وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ما يشهده الشرق الأوسط حاليا على أنه زلزال كبير، يراه الأهم منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ونصح الإدارة الأميركية أن تعيد حساباتها بصورة كاملة بما يتواءم مع هذه التغيرات الجارية.

المصالح الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط
الارتباك بين صراع المصالح والمبادئ


المصالح الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط 


تشكلت وتشابكت المصالح الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط حول مجموعة من الأهداف شبه الثابتة، فأقرت وثيقة "إستراتيجية الأمن القومي" التي صدرت من البيت الأبيض في شهر مايو/ أيار 2010 -في الجزء الخاص بالشرق الأوسط تحت عنوان "تدعيم السلام والأمن والتعاون في الشرق الأوسط الكبير"- هذه الأهداف، والتي كان من بينها:



  • التعاون الواسع في العديد من القضايا مع الحليف القريب، إسرائيل، وتأكيد الالتزام غير المحدود تجاه أمنها.
  • استمرار تدفق النفط.
  • العمل على حل صراع الشرق الأوسط بما يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة بجوار إسرائيل.
  • التعاون في مجال مواجهة الإرهاب.
  • دفع إيران بعيدا عن السعي لاقتناء أسلحة نووية ودعم الإرهاب الدولي.

وتزدحم حاليا واشنطن بالعديد من الندوات والجلسات العلنية وغير العلنية للبحث في مستقبل العلاقات الأميركية العربية بسبب ما تعرضت وتتعرض له المنطقة من تطورات سريعة غير مسبوقة وغير متوقعة. وتجري هذه الأنشطة في أروقة الإدارات المعنية بوزارة الخارجية والبيت الأبيض ووزارة الدفاع، إضافة لعدد من الجامعات الأميركية المرموقة، ومراكز الأبحاث المهمة. ومحور كل هذه النقاشات ينصب على بحث ما يجب على الولايات المتحدة القيام به في هذه الفترة الحرجة، وهل يجب أن تتبنى واشنطن سياسة واحدة تتبعها مع كل الأنظمة، أم أنها يجب أن تتبع سياسة خاصة مع كل دولة بصورة منفصلة.


الارتباك بين صراع المصالح والمبادئ 


تاريخيا اعتمدت الولايات المتحدة على دعم نظم حكم عربية، ملكية أو جمهورية، لتحقيق أهدافها الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط. وطالما اتهمت الشعوب العربية الولايات المتحدة بالازدواجية وتناقض المواقف، فمن ناحية كانت واشنطن تدعي دعمها للحريات والديمقراطية إلا أنها في الواقع كانت تدعم حكومات تسلطية ديكتاتورية كما هي الحال بالنسبة لمصر وتونس وغيرهما من الدول العربية.


وقد حاولت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الضغط على بعض الأنظمة العربية من أجل إحداث إصلاح ديمقراطي بعد أن أعلنت هذه الإدارة أن غياب الديمقراطية عن الشعوب العربية هو سبب تفريخ الإرهابيين، وأكدت كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية السابقة ومستشارة الأمن القومي، مرارا أن الولايات المتحدة كانت تختار دعم الاستبداد من أجل تحقيق الاستقرار إلا أنها لم تحصل عليه؛ لذا رأت إدارة بوش أن حصول العرب على الديمقراطية كفيل بحماية أمنها الوطني، إلا أن فوز قوى إسلامية في انتخابات فلسطين ومصر ولبنان والعراق أدى لتراجع واشنطن عن المناداة بالديمقراطية العربية.


ولم تمثل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما أي استثناء عما سبقها غير أنها تغلف موقفها بمزيد من الدبلوماسية العامة؛ فمن ناحية، تعلن أنها تؤيد مطالب الثوار في الديمقراطية لكنها من ناحية ثانية لم تخاطر بعلاقاتها القوية مع نظم الحكم الاستبدادية في الدول العربية، ولقد اتبع أوباما بوضوح هذا النمط في حالتي تونس ومصر، فرغم مطالب الكثيرين من أوباما بأن يتخلى عن تحالفه مع النظام المصري من أجل تحالف جديد مع الشعب المصري، إلا أن إدارته انتظرت حتى تيقنت من رحيل مبارك، قبل أن تعلن وقوفها مع مطالب الشعب المصري، والحال نفسه تكرر قبلا مع نظام بن علي.


غير أن اتساع نطاق الثورات العربية وامتدادها لليمن والبحرين وسوريا وليبيا، أجبر واشنطن على ضرورة إعادة النظر في موقفها، خاصة بعدما امتدت هذه الثورات والاحتجاجات إلى دول حليفة ومهمة مثل البحرين التي تحتضن الأسطول الخامس الأميركي، واليمن باعتبار نظام علي عبد الله صالح حليفا لها في محاربة الإرهاب.


على هذه الخلفية، يمكن تصنيف الإستراتيجية الأميركية من الثورات العربية إلى ثلاث فئات:



  1. الفئة الأولى: موجهة أساسا إلى مصر وتونس، حيث نجحت الثورتان هناك بطرق سلمية، رغم وقوع بعض الضحايا، وتم القضاء على النظم الحاكمة، والبدء في اتخاذ خطوات تجاه بناء دولة ومجتمع ومؤسسات ديمقراطية، ففي هذه الحالة تحاول الولايات المتحدة من جهة دعم بناء الديمقراطية الناشئة فيهما، ومن جهة المحافظة على نفوذها التقليدي هناك، إلا أن أهم ما يميز أهداف واشنطن هو احتواء هذه النظم الديمقراطية الوليدة، وعدم السماح بتغيير كبير في السياسات، والاكتفاء بتغيير بعض رموز نظم الحكم.





  2. طالما اتهمت الشعوب العربية الولايات المتحدة بالازدواجية وتناقض المواقف، فمن ناحية كانت واشنطن تدعي دعمها للحريات والديمقراطية إلا أنها في الواقع كانت تدعم حكومات تسلطية ديكتاتورية.
    الفئة الثانية:
    موجهة لليبيا واليمن؛ إذ أقرت واشنطن فيهما بضرورة تغيير النظام بعدما بدا لها أن حاكمي الدولتين معمر القذافي وعلي عبد الله صالح قاما بعمليات عنف منظم وغير مبرر ضد شعبيهما، وأن بقاءهما أصبح جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل؛ فتدخلت واشنطن عسكريا ضد القذافي وتضغط حاليا بشدة من أجل تنحي عبد الله صالح.


  3. الفئة الثالثة: دول لا تزال واشنطن تأمل في الإبقاء على نظم الحكم فيها مع إدخال بعض الإصلاحات الضرورية؛ ومن هذه الدول: البحرين والمغرب والأردن، وركزت واشنطن في حديثها مع هذه الدول على أهمية التعامل بجدية مع الإصلاحات، وتجنب نشوب صراعات ونزاعات داخلية حادة.

تبقى سوريا غير الحليفة للولايات المتحدة، فتعتمد الإستراتيجية الأميركية في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية هناك على عدم المطالبة برحيل نظام بشار الأسد في المرحلة الأولى والاكتفاء فقط بإدانة استخدام العنف، والتأكيد على حق السوريين في التظاهر السلمي، مع انتظار تبدل موازين القوى بين السلطة والمحتجين.


وتجب الإشارة إلى أن الإستراتيجية الأميركية سابقة الذكر في التعامل مع الثورات العربية تستند إلى عدة مبادئ؛ من أبرزها:


مبدأ الترقب والانتظار
إذ فضلت الإدارة الأميركية مبدأ الانتظار والترقب قبل التسرع بإعلان موقف صريح من كل ثورة، وتبعت ذلك محاولات أميركية جادة لتقليل أضرار التغيير؛ فلم تعلن واشنطن على سبيل المثال موقفا صريحا من ثورة تونس إلا مع تنحي الرئيس بن علي، ومباركتها للشعب التونسي على حصوله على الحرية، ووعودها بتقديم المساعدات لبناء تونس الجديدة.


وفي الحالة المصرية، تطور الموقف الأميركي ببطء كرد فعل على تطورات الأوضاع داخل مصر؛ فمن التأكيد على الثقة في نظام مبارك خلال أيام الثورة المصرية الأولى، إلى المطالبة بتبني إصلاحات حقيقية في مرحلة لاحقة. وقبل نجاح المتظاهرين في إسقاط الرئيس المصري حسني مبارك، عملت واشنطن على ضمان عدم إسقاط النظام المصري كله، وقبلت -بل وشجعت- صيغة "انتقال منظم للسلطة" يسمح بتولي نائب الرئيس، اللواء عمر سليمان، زمام الأمور في مصر، وعدم حدوث تغير حقيقي في السياسات المصرية في الملفات المهمة للولايات المتحدة، مثل: التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين، والموقف من حركة حماس وحزب الله، والعلاقات مع إيران.


كذلك كانت العلاقة بين واشنطن وكبار قادة الجيش المصري ضرورية ومستمرة في فترة الثورة، فوجود وفد عسكري كبير بقيادة اللواء سامي عنان، رئيس هيئة الأركان المصرية، في واشنطن أثناء إرهاصات الثورة، وبقاؤه لعدة أيام، وإجراؤه عدة لقاءات مهمة مع أهم أركان الإدارة الأميركية، ثم عودته لمصر مع تدهور الأوضاع، ثم سيطرة الجيش على شؤون الحكم في مصر، وقيام عنان شخصيا بدور بارز داخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة يترك انطباعا بأن هناك قنوات كثيرة مفتوحة بين العسكر في مصر ونظرائهم في الولايات المتحدة، وأن هذه القنوات لم تُغلق في أي وقت ورغم أي ظروف. ووفَّر عنان والجيش المصري فرصة جيدة للتواصل مع واشنطن، في حين افتقدت واشنطن وسيلة للاتصال بشباب الثورة بسبب غياب أية قيادة مركزية لهم، أو شخصيات محورية.


مبدأ الفصل بين الثورات
كان من الصعب على الإدارة الأميركية إعلان مبدأ واحد للتعامل مع ثورات العرب وتطبيقه في جميع الحالات، فبعد سقوط النظام المصري، واتساع نطاق التظاهرات في عدد من الدول العربية، عمدت دوائر صنع القرار في واشنطن إلى التعامل مع كل ثورة أو حالة احتجاج على حدة كما سبق القول.


تغير الأساليب مع ثبات الأهداف الإستراتيجية



واشنطن تتوهم أنها ستصل لقلوب وعقول العرب بمجرد وصول الديمقراطية والحرية إليهم، إلا أن هذا الود وذلك الوصال لن يحدث ما لم تغير الولايات المتحدة حقيقة وصدقا من سياساتها في المنطقة.
ورغم ما تتيحه الثورات العربية من فرصة نادرة للولايات المتحدة للتصالح مع شعوب العرب عن طريق تحالف جديد يستبدل تحالفاتها السابقة مع نظم الحكم غير الديمقراطية، ترى دوائر الحكم الأميركية أن ثورات العرب الجارية عرَّضت المصالح الأميركية في الشرق الأوسط للخطر، وحتى يتم انتهاء هذه الثورات، سيكون من الصعب حماية هذه المصالح، وقد عبّرت عن ذلك وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، التي ذكرت مؤخرا للراديو القومي الأميركي في أعقاب زيارتها الأخيرة للقاهرة وإجرائها عدة لقاءات مهمة، أنها تعتقد أن الولايات المتحدة سيكون لها "شكل مختلف من النفوذ في مصر، إننا نتعامل الآن مع ديمقراطية آخذة في التطور". وذكرت كلينتون أنها تعتقد أنه ستكون هناك قرارات مختلفة في سياسة مصر الخارجية الجديدة عما كانت عليه أيام نظام حكم الرئيس السابق حسني مبارك.

ورغم أن العالم العربي لم يعد جغرافيا بعيدا عن الولايات المتحدة، فقد قربت مشاهد الثورة المصرية، ومن قبلها التونسية، صورة الشارع والمواطن العربي من المشاهدين الأميركيين، إلا أن أحدا لم يتخيل أن تكون ثورات العرب هي المحدد الأهم للحكم على نجاح أو فشل سياسات أوباما الخارجية. وتنشغل الإدارة الأميركية الآن ببحث كيفية التحكم والتعامل مع منطقة الشرق الأوسط الجديد، وتتضمن هذه التصورات الجديدة العمل من خلال وجود دعم ومشاركة دولية (أوروبية خصوصا)، ودعم مالي عربي (خليجي) لأية مبادرة أميركية.


غير أن واشنطن تتوهم أنها ستصل لقلوب وعقول العرب بمجرد وصول الديمقراطية والحرية إليهم، إلا أن هذا الود وذلك الوصال لن يحدث ما لم تغير الولايات المتحدة حقيقة وصدقا من سياساتها في المنطقة.
_________________
كاتب وباحث سياسي متخصص في الشؤون الأميركية