بالرغم من أجواء الشك التي تحوم حول القوات المسلحة الليبية منذ ثورة الفاتح أكتوبر سنة 1969، إلاّ أنها يمكن أن تلعب دوراً رئيساً في الثورة الشعبية التي اشتعلت شرارتها يوم 16 فبراير/شباط من هذا العام. ومن بين الأسئلة الكثيرة المطروحة، يبقى ولاء الجيش، الذي يُقدّر عدد أفراده بحوالي 76.000 جندي، لنظام القذافي أهمها على الإطلاق. وربما يكون بعض عناصر الجيش الليبي تعمدوا إطلاق الرصاص على المتظاهرين من أجل قتلهم، أو قصفوا الحشود في طرابلس وبنغازي، ولكن هناك آخرين كذلك رفضوا إطلاق النار على مواطنيهم أو انضموا إلى المتظاهرين أو حتى هربوا بطائراتهم إلى مالطا. وإلى جانب ما قيل، هناك أسئلة أخرى يجب طرحها: من هي القوات المسلحة الليبية؟ لماذا اعتُبِرت لسنوات طويلة فاعلاً هامشياً على الساحة السياسية الداخلية؟ وما هو الدور المستقبلي الذي يمكن للجيش أن يلعبه في ليبيا ما بعد القذافي؟
القوات المسلحة الليبية: تهميش وتصفيات
الجهاز شبه العسكري: القيادة عائلية والمهمات داخلية
عقدة الجيش والقبائل في ليبيا
أي دور للقوات المسلحة النظامية؟
القوات المسلحة الليبية: تهميش وتصفيات
بالرغم من خطابات القذافي اللاذعة المعادية للقبلية، باعتبارها "قوات رجعية" ووثيقة الصلة بالنظام القديم، إلا أن العامل القبلي لم يختف أبداً من المشهد الليبي. |
ورغم أن البلاد عرفت في السابق انقلاباً عسكرياً قاده القذافي، فلا يمكن اعتبار الجيش الليبي سيد البلاد أو الحاكم الآمر الناهي فيها. فهو مجبر على أن يتقاسم تسيير الساحة السياسية الداخلية مع فاعلين آخرين رسميين وغير رسميين. فقلب النظام يتمركز في اللجان الثورية والمؤتمر الشعبي العام اللذين تأسسا سنة 1977، وهما يحظيان بدعم باقي الفاعلين السياسيين مثل منتدى رفاق القذافي، وحركة الضباط الوحدويين الأحرار، ومؤخراً منظمة جديدة تُدعى لجان القيادة الشعبية الاجتماعية.
وفي الواقع، ومنذ تأسيس النظام الجديد، ما فتئ الزعيم الليبي يتعرض لمحاولات انقلابية للإطاحة بنظامه، كان أولها محاولة وزير الدفاع العقيد آدم الحواز يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1969. وفي سنة 1975، أُعدِم عضوان من مجلس القيادة الثورية بعد محاولة انقلاب فاشلة، وهما الرائد بشير هوادي والنقيب عمر المحيشي. بعد ذلك، أُعدم عدد آخر من الضباط يوم 22 أبريل/نيسان 1977، قبل أن يجيء دور القائد الأعلى لمنطقة سرت العسكرية، حسن إشكال (صهر القذافي)، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1985، والذي حامت حوله شكوك تتعلق بإعداد انقلاب آخر. وفي سنة 1993، فشلت انتفاضة عسكرية بدعم من قبيلة "ورفلة"، أدّت إلى قمع وحشي للمتمردين. هذه الأمثلة القليلة عن محاولات الانقلاب العسكرية تُفسّر انعدام الثقة تجاه المؤسسة العسكرية والسبب الذي دفع بالقائد الليبي إلى إبعاد العسكريين عن دائرته. إضافة إلى ذلك، تأثرت القوات المسلحة كثيراً وضَعُفت أركانها بسبب جهود النظام الجديد الرامية إلى خلق جيش شعبي أساسه المواطنون (التجنيد والميليشيات الشعبية)، وذلك من خلال إلغاء الرتب العسكرية التقليدية وتشجيع قيام نظام شبه عسكري.
الجهاز شبه العسكري: القيادة عائلية والمهمات داخلية
تتمثل مهمة هذه القوات في القمع والمراقبة الداخليين، فيما يبقى الهدف من إنشائها هو تحقيق التوازن في مواجهة القوات المسلحة النظامية. وحسب البيانات والتقارير القليلة المذكورة أعلاه، فإن أهم القوات شبه العسكرية في البلاد هو فيلق الحرس الثوري والجيش الإسلامي الأفريقي (عبارة عن مرتزقة أفارقة جُنّدوا للحملات الأفريقية خلال سنوات السبعينات والثمانينات)، حيث يتكونان من 3000 و1000 عنصر على التوالي. وهناك أيضاً جهازان آخران شبه عسكريين هما الميليشيات الشعبية البالغ تعداد أفرادها 40.000، والمخصصة للدفاع الإقليمي، وسلاح الفرسان الشعبي. إلى جانب ذلك، هناك عدة وحدات عسكرية (سبعة في المجموع) مخصصة لحماية قلب النظام وقادته، مثل اللواء الـ32 الذي يقوده خميس القذافي، نقيب في الجيش. ثم هناك اثنان من أبناء القذافي، المعتصم وسعدي، مسؤولان عن أجهزة أمنية أخرى، وإن كانت قوة ومدى تنظيم هذه الفرق الأمنية غير واضحة المعالم. ومقارنة بالقوات المسلحة النظامية، تبدو هذه الأجهزة الأمنية وشبه العسكرية أفضل تجهيزاً وتحديثاً في العتاد. غير أنه من الصعب تأكيد مدى فعاليتها على الميدان وقدرتها على الصمود أمام نزاع داخلي قد يستغرق وقتا.
أصبحت القوات الموالية للنظام ضعيفة، بحيث لم يبق إلى جانب القذافي سوى المتشددين وعائلته وحلفاؤهم. |
بالرغم من خطابات القذافي اللاذعة المعادية للقبلية، باعتبارها "قوات رجعية" ووثيقة الصلة بالنظام القديم، إلا أن العامل القبلي لم يختف أبداً من المشهد الليبي. ولا أدل على ذلك من قبائلية القوات المسلحة كما ذكرنا أعلاه، ما يعني أن العنصر القبلي يبقى عاملاً رئيساً في فهم طريقة الحكم في ليبيا القذافي. فجميع الضباط الأحرار لسنة 1969 جاؤوا من قبائل صغيرة، وكان معظمهم من أصول قروية. بل أكثر من ذلك، أصبح للقبلية دور كبير خلال العشرية الأخيرة، خصوصاً مع السيطرة شبه الكاملة لقبيلة القذاذفة على القوات الجوية، بينما حُرم منها الضباط المنتمين لقبيلة "ورفلة". وقد عرف مسلسل القبائلية الذي لا ينتهي للقوات النظامية المزيد من الاتساع، ليصبح كما سماه أحد الكتاب "إعادة القبائلية" في المجتمع من خلال إعادة إشراك القبائل في اللعبة السياسية عن طريقة الشعبيات ولجان القيادة الشعبية الاجتماعية. ولا شك أن السماح للقبائل بالظهور مرة أخرى يبقى وسيلة لتعزيز المراقبة الاجتماعية من خلال هذه القنوات القبلية.
أي دور للقوات المسلحة النظامية؟
منذ بدء الاحتجاجات التي تحولت إلى ثورة، كان هناك انقسام في الرأي بشأن دور القوات المسلحة الليبية. هل سيبقى هذا الجيش الضعيف، والذي كان الزعيم الليبي يمعن في إذلاله بسبب إخفاقاته في الحملات الأفريقية، على ولائه لنظام القذافي؟ بعبارة أخرى، هل ستبقى القوت المسلحة مخلصة لزعيم الثورة، وفي نفس الوقت موحَّدة؟ أبعد من ذلك، يُطرح السؤال أيضاً عن مستقبل ليبيا كدولة موحدة رغم وجود العوامل العسكرية القبلية التي ذكرنا.
وحتى إذا ما بقي النظام يتحكم في العاصمة طرابلس وحدها، فإن المستقبل يبقى غير واضح الملامح، فيما ستعتمد النتيجة على التوازن العسكري القبلي في الميدان. وفي الواقع، فإن الانشقاق وسط القوات المسلحة الموالية للنظام والجهازين شبه العسكري والأمني ظهرت مع رفض العسكريين وغيرهم قصف الحشود أو قتل مواطنيهم. كما أن انسحاب قبيلة ورفلة من التحالف، وتخلي المئات، إن لم يكن الآلاف، من العسكريين عن الخدمة أو التحاقهم بالثورة الشعبية، كلها دلائل تشير إلى أن جزءاً كبيراً من الجيش النظامي قد تخلى عن النظام.
وفي نفس الوقت، هناك عناصر في الدوائر المقربة للنظام تخلت عنه هي الأخرى، مثل أحمد قذاف الدم، الذي تربطه قرابة الدم بمعمر القذافي، أو لواء الجيش عبد الفتاح يونس وزير الداخلية، أو اللواء سليمان محمود القائد الأعلى لمنطقة طبرق (المنطقة الشرقية)، إلى جانب عدد من الضباط الكبار (برتبة عقيد أو لواء) الذين خدموا النظام حتى بداية قمع الثورة. بعبارة أخرى، أصبحت القوات الموالية للنظام ضعيفة، بحيث لم يبق إلى جانب القذافي سوى المتشددين وعائلته وحلفاؤهم. وبالرغم من محاولات النظام ترهيب المتظاهرين، إلا أن الحركة المناهضة للحكومة تبدو وشيكة الوصول إلى العاصمة طرابلس. وفي نفس الوقت، يظهر من إعادة تنظيم وإدارة شرق البلاد، وإعلان تشكيل حكومة انتقالية أو مجلس وطني ليبي ليكون "مرآة للثورة" في بنغازي، أن هناك نوعاً من النضج السياسي لدى الثّوار. ويبقى الخطر الرئيسي، على المدى القريب، هو التسبب في مذبحة بطرابلس، بينما يكون البديل الأفضل هو استسلام تفاوضي. ولكن، وفي ظل الإرادة القوية للموالين للقذافي، تبقى هذه الفرضية متفائلة.
بالرغم من محاولات النظام ترهيب المتظاهرين، إلا أن الحركة المناهضة للحكومة تبدو وشيكة الوصول إلى العاصمة طرابلس. |
ومع ذلك، يبدو من المستبعد جداً أن تصل الأمور إلى حالة من الفوضى على الطريقة الصومالية، وذلك بالرغم من خطر انتشار الأسلحة في البلاد. فبالرغم من محاولات القذافي السابقة، فإنه لا توجد دلالات توحي باحتمال ظهور الفتنة والانفصالية داخل ليبيا. بل من الضروري، أن يظهر نظام أكثر توازناً فيما بين الأقاليم الثلاثة وأكثر عدالة في توزيع الثروات. ويمكن لحل الدولة الاتحادية أن يكون الأمل في هذا الخصوص، وهو حل تمت تجربته من قبل خلال الملكية السنوسية. وحتى في حال أراد من تبقى من جنود الجماهيرية (الذين نجوا سياسياً وعسكرياً، وحتى جسدياً) اللجوء إلى حرب العصابات (وهي فرضية لا يمكن استبعادها تماماً)، فإن السيناريو الصومالي يبقى بعيداً، خصوصاً إذا أضفنا إليه مشهد أمراء الحرب المرتبطين بتنظيم القاعدة. وفي مرحلة ما بعد القذافي، هناك السلطة الانتقالية في بنغازي والقبائل والقوات المسلحة النظامية، يوحدون الجهود (إلى جانب المواطنين العاديين طبعاً) من أجل الانطلاق نحو مرحلة أكثر سلاماً وأمناً من تاريخ بلادهم.
_______________
سعيد حداد، أستاذ محاضر في علم الاجتماع بمدرسة سان سير كوتكيدان-فرنسا.