أي دور للجيش الليبي في الثورة على نظام القذافي؟

الجيش النظامي الليبي مبعد عن السلطة ومضعضع في بنيته، لكن تخلي عدد كبير من قادته وأفراده عن نظام القذافي سيرجح نجاح الثورة ويجعل منه ركيزة يقوم عليها النظام الليبي الجديد.







 

سعيد حداد


بالرغم من أجواء الشك التي تحوم حول القوات المسلحة الليبية منذ ثورة الفاتح أكتوبر سنة 1969، إلاّ أنها يمكن أن تلعب دوراً رئيساً في الثورة الشعبية التي اشتعلت شرارتها يوم 16 فبراير/شباط من هذا العام. ومن بين الأسئلة الكثيرة المطروحة، يبقى ولاء الجيش، الذي يُقدّر عدد أفراده بحوالي 76.000 جندي، لنظام القذافي أهمها على الإطلاق. وربما يكون بعض عناصر الجيش الليبي تعمدوا إطلاق الرصاص على المتظاهرين من أجل قتلهم، أو قصفوا الحشود في طرابلس وبنغازي، ولكن هناك آخرين كذلك رفضوا إطلاق النار على مواطنيهم أو انضموا إلى المتظاهرين أو حتى هربوا بطائراتهم إلى مالطا. وإلى جانب ما قيل، هناك أسئلة أخرى يجب طرحها: من هي القوات المسلحة الليبية؟ لماذا اعتُبِرت لسنوات طويلة فاعلاً هامشياً على الساحة السياسية الداخلية؟ وما هو الدور المستقبلي الذي يمكن للجيش أن يلعبه في ليبيا ما بعد القذافي؟


القوات المسلحة الليبية: تهميش وتصفيات
الجهاز شبه العسكري: القيادة عائلية والمهمات داخلية
عقدة الجيش والقبائل في ليبيا
أي دور للقوات المسلحة النظامية؟


القوات المسلحة الليبية: تهميش وتصفيات 





بالرغم من خطابات القذافي اللاذعة المعادية للقبلية، باعتبارها "قوات رجعية" ووثيقة الصلة بالنظام القديم، إلا أن العامل القبلي لم يختف أبداً من المشهد الليبي.
تم اعتماد مبدأ التجنيد العام الإلزامي سنة 1984. وعليه، فإن كل ليبي يصل سن الرشد، سواء كان ذكراً أم أنثى، يتلقى تدريباً عسكرياً نظامياً مادام قادراً على تحمله من الناحية الصحية والجسدية. ويعمل المجندون والمتطوعون في الجيش البالغ عدد عناصره 45.000، والبحرية (8000 عنصر)، والقوت الجوية (23.000 عنصر). وحسب البيانات والتقارير القليلة المتوفرة (دائرة الاستخبارات الأمنية الكندية CSIS، جهاز ISS، مكتبة الكونغرس الأمريكي)، فإن ليبيا تمتلك "موارد عسكرية كبيرة"، ولكن الإدارة الليبية المتهورة جعلت من البلاد "أكبر مستودع عسكري في العالم". كما أن الجيش يعاني من غياب وحدة المقاييس الخاصة بمعداته، إلى جانب مشاكل اليد العاملة ورداءة خدمات الصيانة. وبالرغم من تعليق العقوبات الدولية سنة 1999 (رفعت الدول الأوروبية الحظر عن الأسلحة سنة 2004 للسماح لليبيا بمكافحة الهجرة غير الشرعية)، يبقى الجيش الليبي عديم الكفاءة أو غير قابل للتشغيل.

ورغم أن البلاد عرفت في السابق انقلاباً عسكرياً قاده القذافي، فلا يمكن اعتبار الجيش الليبي سيد البلاد أو الحاكم الآمر الناهي فيها. فهو مجبر على أن يتقاسم تسيير الساحة السياسية الداخلية مع فاعلين آخرين رسميين وغير رسميين. فقلب النظام يتمركز في اللجان الثورية والمؤتمر الشعبي العام اللذين تأسسا سنة 1977، وهما يحظيان بدعم باقي الفاعلين السياسيين مثل منتدى رفاق القذافي، وحركة الضباط الوحدويين الأحرار، ومؤخراً منظمة جديدة تُدعى لجان القيادة الشعبية الاجتماعية.


وفي الواقع، ومنذ تأسيس النظام الجديد، ما فتئ الزعيم الليبي يتعرض لمحاولات انقلابية للإطاحة بنظامه، كان أولها محاولة وزير الدفاع العقيد آدم الحواز يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1969. وفي سنة 1975، أُعدِم عضوان من مجلس القيادة الثورية بعد محاولة انقلاب فاشلة، وهما الرائد بشير هوادي والنقيب عمر المحيشي. بعد ذلك، أُعدم عدد آخر من الضباط يوم 22 أبريل/نيسان 1977، قبل أن يجيء دور القائد الأعلى لمنطقة سرت العسكرية، حسن إشكال (صهر القذافي)، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1985، والذي حامت حوله شكوك تتعلق بإعداد انقلاب آخر. وفي سنة 1993، فشلت انتفاضة عسكرية بدعم من قبيلة "ورفلة"، أدّت إلى قمع وحشي للمتمردين. هذه الأمثلة القليلة عن محاولات الانقلاب العسكرية تُفسّر انعدام الثقة تجاه المؤسسة العسكرية والسبب الذي دفع بالقائد الليبي إلى إبعاد العسكريين عن دائرته. إضافة إلى ذلك، تأثرت القوات المسلحة كثيراً وضَعُفت أركانها بسبب جهود النظام الجديد الرامية إلى خلق جيش شعبي أساسه المواطنون (التجنيد والميليشيات الشعبية)، وذلك من خلال إلغاء الرتب العسكرية التقليدية وتشجيع قيام نظام شبه عسكري.


الجهاز شبه العسكري: القيادة عائلية والمهمات داخلية 


تتمثل مهمة هذه القوات في القمع والمراقبة الداخليين، فيما يبقى الهدف من إنشائها هو تحقيق التوازن في مواجهة القوات المسلحة النظامية. وحسب البيانات والتقارير القليلة المذكورة أعلاه، فإن أهم القوات شبه العسكرية في البلاد هو فيلق الحرس الثوري والجيش الإسلامي الأفريقي (عبارة عن مرتزقة أفارقة جُنّدوا للحملات الأفريقية خلال سنوات السبعينات والثمانينات)، حيث يتكونان من 3000 و1000 عنصر على التوالي. وهناك أيضاً جهازان آخران شبه عسكريين هما الميليشيات الشعبية البالغ تعداد أفرادها 40.000، والمخصصة للدفاع الإقليمي، وسلاح الفرسان الشعبي. إلى جانب ذلك، هناك عدة وحدات عسكرية (سبعة في المجموع) مخصصة لحماية قلب النظام وقادته، مثل اللواء الـ32 الذي يقوده خميس القذافي، نقيب في الجيش. ثم هناك اثنان من أبناء القذافي، المعتصم وسعدي، مسؤولان عن أجهزة أمنية أخرى، وإن كانت قوة ومدى تنظيم هذه الفرق الأمنية غير واضحة المعالم. ومقارنة بالقوات المسلحة النظامية، تبدو هذه الأجهزة الأمنية وشبه العسكرية أفضل تجهيزاً وتحديثاً في العتاد. غير أنه من الصعب تأكيد مدى فعاليتها على الميدان وقدرتها على الصمود أمام نزاع داخلي قد يستغرق وقتا.


عقدة الجيش والقبائل في ليبيا 





أصبحت القوات الموالية للنظام ضعيفة، بحيث لم يبق إلى جانب القذافي سوى المتشددين وعائلته وحلفاؤهم.
في مقابل الشك في ولاء القوات المسلحة النظامية، يُوفّر محيط القذافي العائلي، وباقي أعضاء قبيلة القذاذفة والقبائل الأخرى المتحالفة معهم، أهم مكونات القيادة العسكرية في البلاد. وعليه، نجد في العميد أحمد قذاف الدم، القائد الأعلى السابق لمنطقة برقة وإلى حين استقالته من مهمة العلاقات مع مصر، أو العميد سيد محمد قذاف الدم، المنسق العام للجان القيادة الشعبية الاجتماعية ، مثالين واضحين عن علاقات القرابة التي تربط المسؤولين بزعيم الثورة الليبية الذي يُنصّب المقربين منه فقط في المناصب الحساسة من الجهاز العسكري وجهاز المراقبة. وهناك أيضاً العقيد عبد الله السنوسي (الذي أقاله القذافي في الأسبوع الثاني من الثورة) من قبيلة المقارحة، المتزوج من إحدى شقيقات الزوجة الثانية للقذافي، والمسؤول عن منظمة أمن الجماهيرية منذ سنة 1992. هذا الأخير يمثل نوعاً ثانياً من دوائر الولاء المحيطة بالقذافي، والتي تتمثل في مزيج من التحالف القبلي والعلاقات الخاصة بـ"العائلة الحاكمة" (دائرة المصاهرة). أما الدائرة الثالثة، فتمثلها قبيلة القذاذفة التي تحظى بامتياز تنصيب أفرادها المخلصين في المناصب الرفيعة من أجل حماية النظام، ومنهم مثلاً العميد مسعود عبد الحفيظ أحمد، القائد السابق للجيش الليبي في تشاد ثم أمين اللجنة الشعبية في شعبية (بلدية) سبها في منطقة فزان منذ سنة 1998. أما آخر دائرة ولاء للزعيم الليبي، فتخص حلفاء قبيلتي المقارحة والورفلة. وإلى جانب العقيد عبد الله السنوسي، هناك عبد السلام جلود الذي كان الشخصية الثانية في البلاد قبل أن يقوم القذافي بتنحيته سنة 1993، وهما معاً ينتميان إلى هذه الدائرة من المقربين للنظام.

بالرغم من خطابات القذافي اللاذعة المعادية للقبلية، باعتبارها "قوات رجعية" ووثيقة الصلة بالنظام القديم، إلا أن العامل القبلي لم يختف أبداً من المشهد الليبي. ولا أدل على ذلك من قبائلية القوات المسلحة كما ذكرنا أعلاه، ما يعني أن العنصر القبلي يبقى عاملاً رئيساً في فهم طريقة الحكم في ليبيا القذافي. فجميع الضباط الأحرار لسنة 1969 جاؤوا من قبائل صغيرة، وكان معظمهم من أصول قروية. بل أكثر من ذلك، أصبح للقبلية دور كبير خلال العشرية الأخيرة، خصوصاً مع السيطرة شبه الكاملة لقبيلة القذاذفة على القوات الجوية، بينما حُرم منها الضباط المنتمين لقبيلة "ورفلة". وقد عرف مسلسل القبائلية الذي لا ينتهي للقوات النظامية المزيد من الاتساع، ليصبح كما سماه أحد الكتاب "إعادة القبائلية" في المجتمع من خلال إعادة إشراك القبائل في اللعبة السياسية عن طريقة الشعبيات ولجان القيادة الشعبية الاجتماعية. ولا شك أن السماح للقبائل بالظهور مرة أخرى يبقى وسيلة لتعزيز المراقبة الاجتماعية من خلال هذه القنوات القبلية.


أي دور للقوات المسلحة النظامية؟ 


منذ بدء الاحتجاجات التي تحولت إلى ثورة، كان هناك انقسام في الرأي بشأن دور القوات المسلحة الليبية. هل سيبقى هذا الجيش الضعيف، والذي كان الزعيم الليبي يمعن في إذلاله بسبب إخفاقاته في الحملات الأفريقية، على ولائه لنظام القذافي؟ بعبارة أخرى، هل ستبقى القوت المسلحة مخلصة لزعيم الثورة، وفي نفس الوقت موحَّدة؟ أبعد من ذلك، يُطرح السؤال أيضاً عن مستقبل ليبيا كدولة موحدة رغم وجود العوامل العسكرية القبلية التي ذكرنا.


وحتى إذا ما بقي النظام يتحكم في العاصمة طرابلس وحدها، فإن المستقبل يبقى غير واضح الملامح، فيما ستعتمد النتيجة على التوازن العسكري القبلي في الميدان. وفي الواقع، فإن الانشقاق وسط القوات المسلحة الموالية للنظام والجهازين شبه العسكري والأمني ظهرت مع رفض العسكريين وغيرهم قصف الحشود أو قتل مواطنيهم. كما أن انسحاب قبيلة ورفلة من التحالف، وتخلي المئات، إن لم يكن الآلاف، من العسكريين عن الخدمة أو التحاقهم بالثورة الشعبية، كلها دلائل تشير إلى أن جزءاً كبيراً من الجيش النظامي قد تخلى عن النظام.


وفي نفس الوقت، هناك عناصر في الدوائر المقربة للنظام تخلت عنه هي الأخرى، مثل أحمد قذاف الدم، الذي تربطه قرابة الدم بمعمر القذافي، أو لواء الجيش عبد الفتاح يونس وزير الداخلية، أو اللواء سليمان محمود القائد الأعلى لمنطقة طبرق (المنطقة الشرقية)، إلى جانب عدد من الضباط الكبار (برتبة عقيد أو لواء) الذين خدموا النظام حتى بداية قمع الثورة. بعبارة أخرى، أصبحت القوات الموالية للنظام ضعيفة، بحيث لم يبق إلى جانب القذافي سوى المتشددين وعائلته وحلفاؤهم. وبالرغم من محاولات النظام ترهيب المتظاهرين، إلا أن الحركة المناهضة للحكومة تبدو وشيكة الوصول إلى العاصمة طرابلس. وفي نفس الوقت، يظهر من إعادة تنظيم وإدارة شرق البلاد، وإعلان تشكيل حكومة انتقالية أو مجلس وطني ليبي ليكون "مرآة للثورة" في بنغازي، أن هناك نوعاً من النضج السياسي لدى الثّوار. ويبقى الخطر الرئيسي، على المدى القريب، هو التسبب في مذبحة بطرابلس، بينما يكون البديل الأفضل هو استسلام تفاوضي. ولكن، وفي ظل الإرادة القوية للموالين للقذافي، تبقى هذه الفرضية متفائلة.





بالرغم من محاولات النظام ترهيب المتظاهرين، إلا أن الحركة المناهضة للحكومة تبدو وشيكة الوصول إلى العاصمة طرابلس.
في المقابل، هناك أيضاً المرحلة الانتقالية الحرجة، والتي ستلي الإطاحة المحتملة بالقذافي وما تبقى من حلفائه. فبعد انهيار النظام مباشرة، من سيتحمل مسؤولية الجرائم التي ارتُكِبت على مدى 42 عاماً وخلال الأسابيع القليلة الماضية؟ كيف ستعمل السلطات الليبية الجديدة والمواطنون على صياغة إجراءات قانونية لمتابعة قادة النظام السابق وإحقاق العدالة من دون اللجوء إلى حمام دم جديد؟ هذا بالضبط هو ما سيعطينا فكرة عن الطريق الذي سيسلكه الشعب الليبي في المرحلة الجديدة من تاريخه.

ومع ذلك، يبدو من المستبعد جداً أن تصل الأمور إلى حالة من الفوضى على الطريقة الصومالية، وذلك بالرغم من خطر انتشار الأسلحة في البلاد. فبالرغم من محاولات القذافي السابقة، فإنه لا توجد دلالات توحي باحتمال ظهور الفتنة والانفصالية داخل ليبيا. بل من الضروري، أن يظهر نظام أكثر توازناً فيما بين الأقاليم الثلاثة وأكثر عدالة في توزيع الثروات. ويمكن لحل الدولة الاتحادية أن يكون الأمل في هذا الخصوص، وهو حل تمت تجربته من قبل خلال الملكية السنوسية. وحتى في حال أراد من تبقى من جنود الجماهيرية (الذين نجوا سياسياً وعسكرياً، وحتى جسدياً) اللجوء إلى حرب العصابات (وهي فرضية لا يمكن استبعادها تماماً)، فإن السيناريو الصومالي يبقى بعيداً، خصوصاً إذا أضفنا إليه مشهد أمراء الحرب المرتبطين بتنظيم القاعدة. وفي مرحلة ما بعد القذافي، هناك السلطة الانتقالية في بنغازي والقبائل والقوات المسلحة النظامية، يوحدون الجهود (إلى جانب المواطنين العاديين طبعاً) من أجل الانطلاق نحو مرحلة أكثر سلاماً وأمناً من تاريخ بلادهم.
_______________
سعيد حداد، أستاذ محاضر في علم الاجتماع بمدرسة سان سير كوتكيدان-فرنسا.