انقسام السودان: إعادة تشكل موازين القوى

جنوب السودان انفصل، وتبدو من الآن تداعياته، فأعظم المخاطر تلوح في الجانب العربي، والفرص في الجانب الإفريقي المجاور للسودان سابقا، وللقوى الخارجية التي رعت الانفصال.







 

الصادق الفقيه


شاءت الأقدار أن تمنح السودان هذه الوضعية الجاذبة للاهتمام، وتخصه بهذا الموقع المتفرد بحجمه وجواره، وتهبه هذه المساحة الكبيرة، التي تفوق المليون ميل مربع، فيجعله هذا الاتساع الأول إفريقيا وعربيا والعاشر عالميا، أو هكذا كان، ويمنحه تنوعا بشريا ومناخيا داخليا، وجوارا إقليميا مع عدد من الدول هو الأكبر في إفريقيا، الأمر الذي جعله يقف قويا وضعيفا في مواجهة محاسن ومساوئ هذا التنوع والتعدد، وحكم عليه أن يتحمل أعباء ما طرأ من تنافر وصراعات الداخل، ويحمل عبء تعقيدات وتوازنات علاقات الخارج في أغلب سنوات تاريخه المكتوب.


الدولة الجديدة: ولادة من رحم الصراعات
الاعتراف: التصويت بالانفصال
تبدل الاتجاهات: مخاطر الشرخ بين العرب والأفارقة
رصيد العرب يتناقص والمخاطر تتزايد
ما بعد الانفصال: استباق المخاطر


الدولة الجديدة: ولادة من رحم الصراعات 





وعلى غير المتوقع، فإن دولة الجنوب الجديدة أخذت شرعيتها دوليا قبل أن تولد، بما في ذلك من الحكومة السودانية، التي لم تخف استعدادها للاعتراف بالدولة الجديدة وفاء بعهد قطعته على نفسها في اتفاقية السلام الشامل، التي وقعتها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في التاسع من يناير/كانون الثاني 2005 بـ"نيفاشا"، بكينيا.
لقد ارتبط الجنوب باستمرار بوضع خاص في الذاكرة السودانية؛ عززته قوانين الحكم الاستعماري، التي أغلقت حدود الجنوب في وجه الشمال، فيما عرف بـ"قانون المناطق المقفولة، الذي صدر في العام 1922"، ومن بعده التمرد الذي اندلع عام 1955 قبيل نيل السودان استقلاله في عام 1956، فاتسعت المسافة أكثر بين الجنوبيين والشماليين. غير أن مسمى "الجنوبي"، الذي يطلق على مواطني الجنوب وترتبت عليه عملية الاستفتاء، التي أدت لإقرار الانفصال، لم يكن يحمل أية دلالة قانونية، وإنما كان مجرد إشارة تعريفية لانتماء لجهة جغرافية من جهات السودان. ولكن أصبح الآن حالة فصل جغرافي وثقافي واقتصادي واجتماعي وسياسي، وتولدت عنه دولة. إلا أن الذي ينبغي أن يؤخذ في الحسبان هو أن جنوب السودان ليس على قلب رجل واحد، فالقبيلة فيه هي دائرة الانتماء الأولى، وستظل حاضرة بتأثيراتها إلى أمد بعيد. وربما يزداد الأمر تعقيدا إذا لم يتم التعامل الحصيف مع التركيبية المعقدة للجنوب، الذي يتكون من فسيفساء عرقية وثقافية ودينية شديدة التنوع، فتتصادم فيه المصالح القبلية في إطار الخريطة الجديدة لتوزيع ثروات الجنوب داخليا، ومطامع الجوار الأفريقي وحتى الدولي، مع عدم وجود سجلات رسمية لإثبات هوية المستحقين.

ويشغل جنوب السودان حوالي 700 ألف كيلو متر مربع من مساحة السودان البالغة 2.5 مليون كيلومتر مربع تقريبا، أي أنه يعادل 28% من المساحة الكلية للسودان. وبالإضافة للحدود الطويلة جدا التي تفصل جنوب السودان عن شماله، التي ستكون حدود الجوار الجديد بين الشطرين، فإن للجنوب حدودا تمتد إلى 2000 كيلو متر تقريبا مع خمس دول هي إثيوبيا، وكينيا، ويوغندا، والكونغو، وأفريقيا الوسطى.


الاعتراف: التصويت بالانفصال 


وفقا للنتائج الأولية، التي نشرتها المفوضية التي أشرفت على الاستفتاء، فقد بلغت نسبة الذين صوتوا في جنوب السودان لصالح الانفصال عن شماله 99.57%. ورغم أن النتائج النهائية للاستفتاء الذي جرى في الفترة بين 9-15 يناير/كانون الثاني 2001 لن تعلن إلا في السابع أو الخامس عشر من فبراير، حسب وجود طعون أو عدمها، فإن جنوب السودان قد ضمن التفويض الكامل ليصبح أحدث دولة في العالم.


وعلى غير المتوقع، فإن دولة الجنوب الجديدة أخذت شرعيتها دوليا قبل أن تولد، بما في ذلك من الحكومة السودانية، التي لم تخف استعدادها للاعتراف بالدولة الجديدة وفاء بعهد قطعته على نفسها في اتفاقية السلام الشامل، التي وقعتها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في التاسع من يناير/كانون الثاني 2005 بـ"نيفاشا"، بكينيا. ومرجع ذلك أن القوى الكبرى في العالم لديها رغبة أكيدة في ذلك، لأن انفصال جنوب السودان يتوافق ومشروع تقسيم المنطقة من جديد، ويحقق رغبات القوى ذات النفوذ العالمي. وقد مهد التحرك الإقليمي والعالمي الفعال، الذي قامت به قيادات نافذة في الحركة الشعبية، لقبول هذه الدولة الجديدة.


والواقع إن نجاح الدولة الجديدة في الوجود والاعتراف، وتأمين الدعم المحلي والإقليمي والدولي، يعني حفز الكثير من القوى السياسية، والمناطق المهمشة في السودان، لاتخاذها نموذجا في دعوات تقرير المصير، أو حتى الانفصال، وهو ما يجد صدى عاليا وعالميا لدى جماعات وأطراف محلية وإقليمية وعالمية، تحركها مصالح ذاتية، ولها رغبة خاصة في اشتعالها؛ داخلية كانت أم خارجية.


تبدل الاتجاهات: مخاطر الشرخ بين العرب والأفارقة 


لا شك أن دولة الجنوب الجديدة ستتعامل من منطلقات أفريقية لا ازدواج فيها، بخلاف الشمال العربي الإفريقي. حيث تتجه جوبا (عاصمة الجنوب) الآن اتجاها قويا نحو عواصم الجوار الإقليمي، وتتحرك من خلالها داخل إفريقيا والعالم للإعلان عن نفسها وإبلاغ توجهاتها المستقبلية. وهو ما يؤكد أن هناك تغيرا قادما فيما يتعلق بالوضع الإستراتيجي للمنطقة، وخاصة دول حوض النيل، إذ تمثل دولة الجنوب إضافة جديدة فيه من حيث العدد، مما يدفع إلى إعادة تشكيل نوع جديد من العلاقات والتعاملات، وربما التعقيدات بين دول الحوض.


فعلى المستوى الداخلي، تعمل الحركة الشعبية على محاولة إشراك القوى الجنوبية الأخرى في عمليات اتخاذ القرار. ويجري في الوقت نفسه، العمل الآن بجد لتحديد الهوية، بدءًا باستبدال المناهج الدراسية بنظام جديد هو أقرب للمناهج الأوغندية من السودانية، وإحلال الانجليزية بدلا عن العربية، كما منعت اللغة العربية في جامعة جوبا، وغيرها من الجامعات الجنوبية. وينشط القائمون على الأمر في استكمال مظاهر الدولة المستقلة وتحديد ملامح سياساتها وتوجهاتها، التي ستعزف على شرفها، بعد التاسع من يوليو/تموز القادم، سلام الحركة الشعبية بدلا من السلام الجمهوري السوداني.


فانفصال الجنوب عن الشمال سيغير محددات التوازنات السياسية، التي يقف عليها السودان في وضعه الموحد، وستكون إعادة صياغة الخارطة الجغرافية في هذه المنطقة خصما من مكانته ومن قدرته على التأثير والتدخل لحماية مصالحه الحيوية، لصالح قوى وأطراف إقليمية ودولية أخرى، تسعى بقوة لتوسيع نفوذها في هذه المنطقة. حيث سيعيد الانفصال قولبة الترتيبات الإستراتيجية، التي كانت سائدة في الإقليم برمته. وربما تتمدد إلى أبعد من جوار السودان المباشر، وما سيتلو ذلك من مخاض ولادة إستراتيجية جديدة في المحيط العربي والأفريقي؛ ستبدأ في التبلور بعد ميلاد الدولة الجديدة، وتستمر في التشكل والتغيير فيما سيليه من أعوام.


رصيد العرب يتناقص والمخاطر تتزايد 





يمكن القول إن استفتاء تقسيم السودان إلى دولتين سيرسم الخريطة الجديدة للإقليم، ومن شأنه أن يؤدي إلى إعادة صياغة التوازنات الإستراتيجية في كل المنطقة الممتدة من الحدود الشمالية للسودان مع مصر وليبيا، مرورا بتشاد وأفريقيا الوسطى، وصولا إلى منطقتي البحيرات العظمى من ناحية، ومنطقة القرن الإفريقي من الناحية الأخرى.
يجمع المراقبون أن لدول الإقليم ارتباطا وثيقا بقضايا مياه النيل، والاستقرار في غرب أفريقيا، وأمن البحر الأحمر، وقناة السويس، ومن شأن هذا الأمر أن يؤثر على مجمل القضايا، حيث أن ظهور دولة جديدة في جنوب السودان، أو استمرار عدم الاستقرار في الشمال، سوف يؤدي إلى خلق الكثير من التعقيدات فيما يتعلق بتقسيم المياه، كما سوف يفسح المجال لخلق أدوات جديدة للضغط على مصر والسودان معا، عبر استغلال الأوضاع في الجنوب وفي أنحاء أخرى من السودان.

ولهذا، تبدو القاهرة أكبر الخاسرين من انفصال الجنوب، إذ لا تتعلق خسارتها بمياه النيل فقط، وإن كانت هذه هي الأهم، إنما أيضاً بمصالح أخرى، مثل تقليص مجال أمنها الإستراتيجي جنوباً، فضلا عن تأثر أمنها المباشر ودورها ومكانتها في الإقليم، مع احتمالات انتقال عدوى الانفصال إلى مناطق أخرى في الشمال، أقرب إليها جغرافياً وثقافياً، وربما تقع داخلها.


في حين تبدو الجماهيرية الليبية مرتبكة الآن، وهي التي ظلت تنشط في صراعات السودان، من دون تحديد واضح لمصالح أو أهداف إستراتيجية تبتغيها، فقد دعمت الحركة الشعبية لسنوات طويلة، وربما تطمع في الحصول على مقابل لهذا الدعم. رغم أن الرأي الغالب يقول إنه لا يُتوقع أن تنال ليبيا شيئاً من دولة الجنوب، إلا إذا كانت لديها طموحات في دارفور وتسعى لإضعاف حكومة الخرطوم بفصل جنوب السودان.


أما إريتريا التي انخرطت في نزاع الجنوب من دون أن يكون لها حدود مباشرة معه، فمن المتوقع أن تخسر بانفصال جنوب السودان إحدى أدوات الضغط على كل من الحكومة المركزية في الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان في جوبا. فتفقد أسمرا الجولة لصالح غريمتها أديس أبابا. إذ يتوقع أن تذهب الحركة الشعبية أبعد في تحالفها مع إثيوبيا في القضايا الإقليمية كافة، بعد أن تكون قد تخلصت من حساسية العلاقة التي تربط بين الحكومة الإريترية والخرطوم.
أما الدولتان اللتان لهما تأثير خاص على المستوى الإستراتيجي، ويمكن أن تخضعا لمتغيرات إستراتيجية في علاقتهما بالجنوب أو داخلهما، هما يوغندا وكينيا. وتعد يوغندا من أوائل الدول التي دعمت الحركة الشعبية لتحرير السودان، سياسيا وعسكريا. وبعد اتفاق السلام، حققت كمبالا مكاسب تجارية كبيرة من علاقاتها مع جنوب السودان. وكانت الهواجس الأمنية والمنطلقات الإيديولوجية من بين أسباب الحماس اليوغندي لانفصال الجنوب. إذ يعتقد اليوغنديون أن دولة الجنوب المستقلة ستكون حاجزاً يمنع عن بلادهم تأثيرات الثقافة العربية الإسلامية، كما يتوقعون أن يؤدي ميلاد هذه الدولة إلى إضعاف جيش الرب للمقاومة، الذي ينشط في شمال يوغندا وفي بعض مناطق جنوب السودان.


ورغم أن نيروبي كانت باستمرار المكان المفضل لحركة قيادات لحركة الشعبية، ومركز نشاطاتها التجارية والإعلامية، إلا أن لكينيا أيضا أطماعها ومشاكلها الحدودية مع الجنوب، خاصة مثلث أليمي المتنازع عليه. وقد سبق أن وقعت صدامات بين قبيلتي التوبسا السودانية والتوركانا الكينية، في منطقة متنازع عليها. ومع أن الحكومتين حاولتا السيطرة والتقليل من الخلاف إلا أنه يمكن أن ينفجر في أي وقت ويكون أشمل. كما أن هناك خلافات حدودية أيضا بين يوغندا وجنوب السودان، وهناك قبائل مشتركة كالمادي، والكاكوا، والأشولي، وهي جميعا على خلاف مع النظام اليوغندي، وقد تتسبب في مشاكل بين كمبالا وجوبا.


ما بعد الانفصال: استباق المخاطر 


إن الذي تقدم توضيحه يعني أن دولة الجنوب قد حددت بالفعل أين تقف وأين تتجه. ويمكن القول إن استفتاء تقسيم السودان إلى دولتين سيرسم الخريطة الجديدة للإقليم، ومن شأنه أن يؤدي إلى إعادة صياغة التوازنات الإستراتيجية في كل المنطقة الممتدة من الحدود الشمالية للسودان مع مصر وليبيا، مرورا بتشاد وأفريقيا الوسطى، وصولا إلى منطقتي البحيرات العظمى من ناحية، ومنطقة القرن الإفريقي من الناحية الأخرى.


ولتثبيت الأوضاع في السودان نفسه، فالمطلوب هو خلق توازن في العلاقات العربية والإسلامية مع الشمال والجنوب، وتدخل واضح ومحدد في قضية دارفور، ودعم منبر الدوحة وما يتمخض عنه، وعدم السماح بتكرار خطأ جعل الخرطوم تقف وحدها في مغالبة مشكلاتها، وتركها وسط ضغوط أمريكية وغربية شديدة، كما يجب أن تتحرك منظمات الإغاثة والهيئات الخيرية العربية والإسلامية بقوة في كل أنحاء السودان، خاصة دارفور، وإعادة كفة التوازن مع عشرات منظمات الإغاثة العالمية.
_______________
باحث سوداني في القضايا الدولية

ABOUT THE AUTHOR