حركة 14 فبراير في البحرين: الوجهة والمسار

تتميز انتفاضة البحرين بأنها ليست منحصرة في الطائفة الشيعية دون السنية بل إنها ذات طابع وطني، وبارتفاع سقف مطالبها فوق الملكية الدستورية.







 

عبد الجليل زيد المرهون


فرضت الأحداث المتسارعة في البحرين نفسها على الصعيدين المحلي والإقليمي، كما حظيت باهتمام عالمي كبير وغير متوقع. فكيف بدأت هذه الأحداث؟ وكيف تطوّرت؟ وما هي مواقف القوى السياسية المختلفة منها؟ وإلى أين تتجه البحرين اليوم؟


أولاً: بيئة عربية محفزة
ثانياً: البدايات الأولى للحدث البحريني
ثالثاً: من هم شباب 14 فبراير؟
رابعاً: سقف المطالب السياسية
خامساً: الاحتمالات والآفاق المستقبلية


أولاً: بيئة عربية محفزة 





في المجمل، نحن بصدد وضع غير معهود، لم تشهد له البحرين والمنطقة مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية، على أقل تقدير.
لم يكن الحدث البحريني الراهن استلهاماً للتجربتين التونسية والمصرية وحسب، بل بدا ملتصقاً بهما، على مستوى المقولات والأفكار، وآليات التحرّك.

وبالطبع، فإن للبحرين خصوصيتها، باعتبارها جزءاً من إقليم تتنافس عليه القوى العالمية المختلفة، ويمثل شريان الطاقة النفطية للعالم، كما يتحكم بطرق التجارة الدولية.


هذا في المدلول الاستراتيجي، أما في المدلول السياسي، فإن هذا الإقليم، أي الخليج العربي، يُعرّف بأنه ذو بيئة سياسية محافظة على نحو مجمل، لا عهد له بالثورات والخيارات الراديكالية. والاستثناء هنا هو العراق وإيران، بطبيعة الحال.


وعلى الرغم من ذلك، ثمة أمور كثيرة قد تغيّرت في هذا العالم، على مستوى البيئتين الأمنية والجيوسياسية، كما جرى في الوقت ذاته إعادة تعريف دور الدولة ووظائفها، ومبدأ السيادة الوطنية وحدودها. وظهر مفهوم المجتمع المدني العالمي، أو المعولم، الذي أخذ يتشكل بعيداً عن الاستغراق فيما هو محلي، لمصلحة ما هو كوني ومشترك بين البشرية.


على الصعيد العربي، بدا واضحاً أن الثورة التونسية خلقت مناخاً عربياً جديداً، تجلت أبرز معالمه في بروز رغبة جامحة نحو التغيير، وإمساك قوى شابة وفتية بزمام الحركة التغييرية، وغياب الأطر الأيديولوجية الجامدة عن هذه الحركة، والتماثل الكبير بين مطالبها في مختلف أقطار الوطن العربي، وهي مطالب تجسدت أساساً في الدعوة إلى دولة العدالة الاجتماعية.


في البحرين، على وجه الخصوص، يُمكن القول إن المشهد أقل تعقيداً بالمعنى السياسي مما قد يبدو لأول وهلة، إذ أن "ثورة 14 فبراير" الشبابية (سوف نشير لها لاحقاً باسم حركة 14 فبراير) قد رفعت في بداية انطلاقتها شعارات نص عليها صراحة ميثاق العمل الوطني، الذي صوّت له البحرينيون في العام 2001 بنسبة 98.4%، في استفتاء شهد العالم على نزاهته وشفافيته.


وبالطبع، فإن الأحداث تسارعت سياسياً وأمنياً بوتيرة شديدة، الأمر الذي رفع سقف مطالب حركة 14 فبراير، التي باتت تمسك عملياً بزمام حركة الشارع البحريني، أو لنقل بزمام الاعتصامات والمسيرات التي تشهدها البلاد.


ثانياً: البدايات الأولى للحدث البحريني 


بدأت الأحداث الأخيرة في البحرين بمسيرة انطلقت باتجاه ميدان اللؤلؤ في العاصمة المنامة، يوم الاثنين الرابع عشر من فبراير/ شباط 2011، في الذكرى العاشرة للتصويت على ميثاق العمل الوطني. وقد انطلقت المسيرة بدعوة من شباب 14 فبراير، وانضمت إليها الجمعيات السياسية المعارضة، أو ما يعرف بالجمعيات السبع. 
 في اليوم التالي، وقع الحدث الأبرز، حينما خرج عشرات الآلاف لتشييع الشبان الذين سقطوا في تظاهرة يوم الاثنين.


تطوّرت الأحداث على نحو متسارع، حينما أصرت الحشود على العودة إلى دوار اللؤلؤ والسيطرة عليه. وهو ما حدث بالفعل، حيث صدرت أوامر رسمية لقوات الأمن بالانسحاب من المكان، تجنباً على ما يبدو لمزيد من التوتر في ذلك اليوم.


في فجر الخميس، السابع عشر من فبراير/ شباط، حدث ما لم يكن بحسبان المعتصمين، الذين كانوا نياماً في ميدان اللؤلؤ، حيث صدرت الأوامر لقوات الجيش والشرطة بفرض وضع جديد، كانت نتيجته سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، فضلاً عن عشرات الأشخاص الذين اعتبروا في عداد المفقودين، ولم يعلم مصيرهم إلا بعد أيام.


هنا، دخلت الأوضاع في البحرين مرحلة جديدة بالكثير من المعايير، حيث تجلت إحدى التداعيات السياسية الفورية للحدث في إعلان الكتلة البرلمانية لحركة الوفاق الوطني الإسلامية عن انسحابها من مجلس النواب. وهذه الكتلة تضم 18 نائباً، وتمثل المعارضة النيابية في البلاد. وقد قدمت الاستقالة بصورة رسميةً، وفقاً لما أعلن يوم السابع والعشرين فبراير/ شباط. علماً بأن مجلس النواب البحريني يضم 40 نائباً.


في اليوم التالي لأحداث الخميس، شهدت البحرين مسيرات وتظاهرات في مناطق مختلفة، أسفرت بدورها عن سقوط ضحايا جدد. وبدت البلاد وكأنها تسير نحو المجهول، واحتلت في ذلك اليوم الخبر الأول في كافة قنوات التلفزة العالمية.


وفي السياق، كانت هناك دعوة لمسيرة مركزية يوم السبت، التاسع عشر من فبراير/ شباط، إلا أن الجمعيات السياسية أعلنت عن نيتها تأجيل المسيرة حتى يوم الثلاثاء، ريثما تنتهي مراسم العزاء التي أقيمت لضحايا الأحداث، في قرى ومدن مختلفة. هذا الموقف لم يتطابق مع تقييم حركة 14 فبراير، التي دعت لانطلاق المسيرة في موعدها. وهو ما حدث بالفعل، حيث انطلقت المسيرة من ثلاثة مداخل باتجاه ميدان اللؤلؤ، بهدف إعادة السيطرة عليه.


حدث اشتباك في محيط الميدان مع قوات الأمن التي فرضت سيطرتها عليه لبعض الوقت، قبل أن تأتيها الأوامر بالانسحاب، تزامناً مع انسحاب الجيش من عموم العاصمة، وإنهاء حالة التأهب على الأرض التي دامت ثلاثة أيام.


في المحصلة، عاد المعتصمون إلى ميدان اللؤلؤ، الذي بات مقراً لحركة 14 فبراير.


وبين مساء السبت، وظهر يوم الثلاثاء، 22 فبراير/ شباط، كان ثمة انعطافة جديدة قد حدثت في مسار الوضع البحريني بانطلاق مسيرة، وصفت بأنها الأكبر في تاريخ البحرين عامة، حيث بلغ التقدير الوسطي للمشاركين فيها نحو أربعمائة ألف شخص، وفقاً لتقارير وكالات الأنباء ومحطات التلفزة العالمية.


في المجمل، نحن بصدد وضع غير معهود، لم تشهد له البحرين والمنطقة مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية، على أقل تقدير. وضع يتسم بغلبة طابعه الشعبي غير الموجه، واستلهامه تجربة محيطه العربي، وارتكازه إلى وسائل الاتصال الحديثة، وارتفاع سقف مطالبه.


ثالثاً: من هم شباب 14 فبراير؟ 





إن القضايا المثارة اليوم في البحرين ذات طبيعة مركبة، تتداخل أبعادها المختلفة على نحو وثيق، وليس هناك من يمكنه التقليل من حساسية الظرف وتاريخية المرحلة.
تتكون حركة 14 فبراير من شباب لا ينتمون في المجمل إلى جمعيات سياسية، أو على الأقل لم ينتظموا فيما بينهم وفقاً لتوجيه مسبق من جمعية سياسية.

انتظم هؤلاء الشباب فيما بينهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت، وخاصة موقع فيس بوك. وكثير من شباب 14 فبراير هم في مرحلة التعليم الثانوي والجامعي، وكان لتواصلهم في المدارس والجامعات دوراً لا يقل أهمية عن  مواقع التواصل على شبكة الانترنت.


ومن خلال ما يمكن رؤيته اليوم، فإن هؤلاء الشباب لا ينتمون إلى طائفة بعينها، فهم سنة وشيعة على نحو سواء. وهذا الأمر لا يمثل عامل قوة لهم وحسب، بل كذلك للجهات التي قد تحاورهم في يوم ما.
وقد كانت هناك فكرة لانتخاب قيادة خاصة لهؤلاء الشباب، حددت فيها سلفاً حصة كل من الشيعة والسنة، وكذلك نسبة حضور المرأة. ويبدو أن هذه الفكرة قد استوحيت من تجربة الهيئة التنفيذية العليا، التي تشكلت خلال انتفاضة مارس/ آذار الشهيرة عام 1956.


وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الفكرة قد يجري استبعادها من قبل حركة 14 فبراير، وفقاً لبعض المصادر، وذلك خشية الوقوع في محاصصة طائفية، على الطريقتين اللبنانية والعراقية. وقد يتقرر عوضاً عن ذلك تشكيل قيادة تفرزها الانتخابات، دون النظر إلى أية تعريفات طائفية.


وقد يكون لكل خيار مواطن قوة وضعف، إلا أن فكرة النظر إلى شباب الوطن بما هم بحرينيون وحسب، ربما يبدو أرجح من إضافة أية تعريفات أخرى لهم.


وبعد تشكيل القيادة الشبابية المرتقبة، سيكون من السهل على كافة القوى والشخصيات التعرف المباشر على تصورات الشباب، وطريقة تفكيرهم، ورؤيتهم للخيارات والمشاريع المتداولة في الساحة.


وقد فهمت من الحوارات، التي أجريتها لغايات هذا التقرير، أن بعض الجمعيات السياسية غير المصنفة في المعارضة، بما فيها قوى رئيسية في التيار الإسلامي السني، على استعداد للجلوس مع قيادة الشباب، بعد تشكيلها، والإطلاع المباشر على رؤيتها ومطالبها الوطنية المختلفة.


وثمة قضية قد لا تبدو بارزة لدى المراقبين للوضع الراهن في البحرين، وهي أن شباب حركة 14 فبراير لديهم مستوى ملحوظ من التفاعل، وتبادل الخبرات، مع شباب الثورة التونسية، وشباب ثورتي 25 يناير المصرية، و17 فبراير الليبية. وهذا بالطبع وفقاً لبعض المصادر الأهلية.


رابعاً: سقف المطالب السياسية 


أما مستوى سقف المطالب المطروحة من قبل حركة 14 فبراير، فيمكن الإشارة إلى أنه عندما انطلقت التظاهرة الأولى في الأحداث الأخيرة، كان شعارها الأساسي هو الدعوة إلى الملكية الدستورية، كما نص عليها ميثاق العمل الوطني.


هذا السقف من المطالب لم يكن جديداً على القوى السياسية البحرينية، ولم يكن الحديث عنه بالأمر المحظور أو الممنوع في البلاد. وكان الخلاف بين الفرقاء ينحصر حول التوقيت، وربما الطرق والآليات أيضاً.


التطوّر الجديد في سقف المطالب حدث في مساء يوم الرابع عشر من فبراير/ شباط، مع وقوع أول ضحايا الأحداث في قرية الديه، غربي العاصمة المنامة، إذ ارتفع على نحو فوري إلى الشعار القائل بـ" إسقاط النظام". وقد تكرس ذلك بعد أحداث فجر الخميس، السابع عشر من فبراير/ شباط، التي جرت في ميدان اللؤلؤ. وهنا، دخلت البلاد برمتها مرحلة سياسية جديدة.


لقد تمسكت حركة 14 فبراير بهذا الشعار، رافضة أية مساومة عليه، ومعتبرة أن أي مقاربة لا تصل إليه هي مقاربة لا تمثلها، وليست معنية بها من قريب أو بعيد.


وعندما تحدث أحد قادة الجمعيات السياسية عن الملكية الدستورية في ميدان اللؤلؤ، بادر المعتصمون بسحب الميكرفون منه، لينهي حديثه ويخرج من الميدان. وحين تحدث رئيس جمعية سياسية أخرى عن الموضوع نفسه، انتظره المعتصمون حتى ينهي حديثه ليطلقوا الهتافات المناقضة تماماً لما ورد فيه.


عند هذه النقطة، أصبحت المعارضة السياسية أمام سقفين متفاوتين من المطالب، واحد لحركة 14 فبراير، التي تمسك عملياً بزمام الشارع البحريني، والآخر للجمعيات السياسية المعارضة، التي لها هي الأخرى جمهورها، وتجربتها السياسية المديدة.


في ضوء هذه التطورات المتسارعة، ائتلفت أربع جمعيات سياسية وخيرية، من خارج المعارضة، في إطار جديد حمل اسم "تجمع الوحدة الوطنية"، رأسه الشيخ عبد اللطيف المحمود.


هذا الائتلاف، الذي مثل عملياً قوى التيار الإسلامي في الشارع السني، وبعض الوجهاء والشخصيات المستقلة، سعى لتبني معظم مطالب الجمعيات السياسية المعارضة، مع اختلاف في التفاصيل والتفسيرات، إن لم نقل التأويلات. بل يمكن القول إن خيطاً رفيعاً وحسب يفصل اليوم بين جمعيات المعارضة والائتلاف الجديد.


وترى القوى الإسلامية الفاعلة في "تجمع الوحدة الوطنية" أن الباب مفتوح لبلورة المطالب المطروحة وتطويرها، على نحو يقرب المسافة بين كافة الأطراف السياسية، وصولاً إلى بلورة ورقة مطالب مشتركة.


كذلك، وكما سبقت الإشارة، ترى هذه القوى أن لا مانع لديها من الذهاب لمحاورة شباب 14 فبراير والاستماع إليهم، متى جرى تشكيل قيادتهم الخاصة وتعيين متحدث باسمها.


ويرى الدكتور صلاح علي، عضو مجلس الشورى، والقيادي في جمعية المنبر الوطني الإسلامي، التي تمثل خط الأخوان المسلمين، أن لا حواجز أو قيود أمام الحوار بين أبناء الوطن الواحد. وأن لا شيء أبداً يفرق بين البحرينيين، بغض النظر عن تفاوت الرؤى والاجتهادات السياسية السائدة.


خامساً: الاحتمالات والآفاق المستقبلية 





يُمكن القول إن نجاح جمعيات المعارضة في الوصول إلى نتائج سياسية متقدمة من شأنه، بحسب بعض المراقبين، التأثير على القناعات السائدة في عموم الساحة الوطنية، بمختلف قواها وأطرافها الفاعلة.
إن القضايا المثارة اليوم في البحرين ذات طبيعة مركبة، تتداخل أبعادها المختلفة على نحو وثيق، وليس هناك من يمكنه التقليل من حساسية الظرف وتاريخية المرحلة.

وإذا توقفنا عند فرضية الملكية الدستورية، التي قال بها ميثاق العمل الوطني، فإن أول ما يواجه المراقب هو غياب تفسير محلي للمدى الذي يُمكن أن يذهب إليه هذا المبدأ أو المفهوم على الصعيد التطبيقي. فهل المقصود هو أن تتحول البحرين إلى دولة على شاكلة السويد والدنمرك وإسبانيا والمملكة المتحدة أم تكتفي بالنموذج المغربي؟


وأياً يكن الأمر، فقد أطلق ولي عهد البحرين الأمير سلمان بن حمد آل خليفة دعوة رسمية للحوار، تجاوب معها عدد من الجمعيات السياسية والشخصيات المستقلة، إلا أن  جمعيات المعارضة ربطت تجاوبها بجملة من الشروط، أبرزها حل الحكومة الحالية، ووجود طرف ثالث يضمن تنفيذ أي اتفاق يجري التوصل إليه.


وفي الخامس والعشرين من فبراير/ شباط، أصدر عاهل البلاد، الملك حمد بن عيسى آل خليفة، مرسوماً أقال بموجبه أربعة وزراء، هم: وزير شؤون مجلس الوزراء أحمد بن عطية الله آل خليفة، ووزير الصحة فيصل الحمر، ووزير الإسكان إبراهيم بن خليفة آل خليفة، ووزير شؤون الكهرباء والماء فهمي الجودر.


وكان قد سبق هذه الخطوة إطلاق سراح عدد من المعتقلين السياسيين، غالبيتهم ممن تم اعتقاله في صيف العام 2010.


وقد دخل عدد من دول الخليج العربي على خط النداءات التي تدعو المعارضة البحرينية لقبول عرض الحوار. وصدرت بيانات بهذا الخصوص من كل من الكويت والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الخليج التي تتحرك فيها دوله على هذا النحو. ولا ريب أن في هذه الخطوة تحوّلا يحمل الكثير من الدلالات.


إن تطوّراً ما قد يحدث على المستوى السياسي المحلي، ويكون دافعاً لجمعيات المعارضة للدخول في الحوار. وهي حينها ستمثل نفسها، وليس حركة 14 فبراير.


وعلى الرغم من ذلك، يُمكن القول إن نجاح  جمعيات المعارضة في الوصول إلى نتائج سياسية متقدمة من شأنه، بحسب بعض المراقبين، التأثير على القناعات السائدة في عموم الساحة الوطنية، بمختلف قواها وأطرافها الفاعلة. وبهذا المعنى، فإن الأفق السياسي في البحرين لا يبدو أفقاً مسدوداً. والمطلوب هو التمسك بالأمل.
_______________
باحث بحريني





ABOUT THE AUTHOR