شارك قطاع من المتصوفة في ثورة 25 يناير/كانون الثاني المصرية كغيرهم من جموع الشعب، وكان بعض شبابهم يعتصمون بميدان التحرير مع أقرانهم، لكنهم لم يظهروا بالقدر نفسه الذي ظهر به شباب جماعة الإخوان أو السلفيين، لسببين رئيسيين، الأول: هو قلة خبرة المتصوفة في ممارسة السياسة، لاسيما في جانبها الاحتجاجي المنظم؛ ولذا لم يتمكنوا من أن يعطوا أنفسهم مذاقا خاصا، أو صورة متفردة، كغيرهم من الحشود التي اكتظ بها الميدان على مدار ثمانية عشر يوما، مثّلت الموجة الأولى للثورة، والتي انتهت بإجبار الرئيس المخلوع حسني مبارك على ترك السلطة. أما الثاني: فهو تماهي المتصوفة من حيث الأداء والطقوس وتكيفهم مع الثقافة المصرية أكثر من غيرهم. وعدم تمايز الصوفية هذا جعلهم يذوبون بين الجموع، ولا يكاد أحد يراهم أو يشعر بهم، على النقيض من المنتمين للجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي الذين يحرصون دوما على التمايز عن غيرهم في الشعارات وطريقة الاحتجاج، ليس فقط لرغبتهم في التعبير عن هويتهم السياسية إنما أيضا لاستعراض القوة في مواجهة الآخرين.
عاملان حددا موقف الصوفية من الثورة
وضع الصوفية بين القوى "الإسلامية المسيسة"
الطريق إلى "حزب التحرير" و"ائتلاف الصوفيين المصريين"
عاملان حددا موقف الصوفية من الثورة
ومع الثورة كان هناك عاملان رئيسيان ساهما بطريقة ملموسة في تحديد موقف المتصوفة من الثورة، هما:
- جبهة الإصلاح الصوفي: وتم تكوينها من قبل بعض المشايخ ردا على قيام السلطة السياسية في عهد الرئيس المصري السابق حسني مبارك بكسر الأعراف والتقاليد والقواعد المرعية في اختيار شيخ مشايخ الطرق عبر الانحياز إلى شيخ طريقة حديثة، وهو عبد الهادي القصبي، الذي كان عضوا في "الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم -وهو الحزب الذي تم حله عقب الثورة- ليكون شيخا للمشايخ، وذلك في إطار خطة النظام للاستيلاء على كافة مؤسسات الدولة في سياق تجهيز المسرح السياسي لتوريث نجل مبارك. وقد جرت العادة على أن يتولى الأكبر سنا من بين أعضاء المجلس الأعلى للطرق الصوفية المنتخبين من مشايخ الطرق منصب شيخ المشايخ، لكن السلطة دهست هذا التقليد في سعيها اللاهث وراء التوريث. وقد قامت "جبهة الإصلاح الصوفي" برفع دعاوى قضائية لإبطال وضع القصبي، وقدمت شكاوى إلى الجهات المختصة في السلطة تعلن فيه رفضها تعيينه، لكن القضاء تأخر في البت، وراوغت السلطة في الاستجابة، بل إن مبارك قد استغل ملف الصوفية في إظهار تحكمه بمقاليد الأمور حين شاعت أخبار تدهور صحته -عقب إجرائه عملية جراحية في مستشفى هايدلبرج الألمانية في مارس/آذار 2010- وذلك عبر إصداره قرارا بتعيين القصبي في مايو/أيار من العام نفسه، ليبين للمصريين وقتها أنه لا يزال يزاول عمله. وقد قطع هذا القرار "شعرة معاوية" مع "جبهة الإصلاح الصوفي" التي راحت تغذي المخالفة والاحتقان داخل صفوف الطرق الصوفية، وهو الأمر الذي بلغ مداه بتهديد الشيخ علاء أبي العزايم، شيخ الطريقة العزمية، بخوض الانتخابات ضد رئيس مجلس الشعب، الذي تم حله عقب الثورة، الدكتور فتحي سرور، في دائرة السيدة زينب، وقال وقتها: "أعرف أن حظوظي في الفوز ضئيلة، لكنني أريد بترشحي هذا أن أبعث رسالة احتجاج إلى السلطة التي لا تلتفت إلى اعتراضنا على تدخلها السافر في شؤون المتصوفة".
- تصاعد نفوذ التيار السلفي: فأتباع هذا التيار كانوا مختبئين خلف جدران القمع والتجبر الذي مارسه نظام مبارك؛ فلما قامت الثورة انطلقوا من عقالهم، وطفت أفكارهم المتداولة بينهم إلى السطح وراحت تغزو المجال العام بلا هوادة. وفي هذا السياق أطلت الخلافات والتوترات القديمة بين السلفيين والصوفيين برأسها، وتحولت إلى مخاوف وهواجس كبيرة من جانب التيارات الصوفية من تولي السلفيين أو الإخوان المسلمين مقاليد الحكم في البلاد، لاسيما بعد إقدامهم على تكوين أحزاب سياسية، على رأسها حزبا "الحرية والعدالة" و"النهضة" بالنسبة للإخوان، وحزبا "النور" و"الفضيلة" اللذان خرجا من رحم الجماعات والتجمعات السلفية، وفي ظل سعي هؤلاء الدؤوب إلى الفوز بأغلبية في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
وضع الصوفية بين القوى "الإسلامية المسيسة"
وحتى نقف بوعي وفهم لدور الصوفية عقب الثورة المصرية لا بد أن نوضح الخريطة العامة للقوى الإسلامية النازعة إلى ممارسة السياسة بإفراط في هذه الآونة. وكيف يمكن لبعضها أن يؤثر على المتصوفة سلبيا أو إيجابيا، وكيف يمكن للدخول في معترك السياسة أن يغير من أفكار وتصورات وممارسات "الإسلاميين" بمن فيهم المتصوفة.
والإجابة التي تتهادى للوهلة الأولى هي أن دخول الإخوان إلى الحياة السياسية من بابها القانوني قد أدى إلى تجدد أفكارهم السياسية بشكل لافت؛ فمن يقارن بين ما أنتجته قريحة الإخوان من رؤى حول الحكم قبل أن يتحالفوا مع حزب الوفد الليبرالي في انتخابات مجلس الشعب عام 1984 وبعد هذا التاريخ إلى قيام الثورة يكتشف حجم التغير الإيجابي المستمر في الخطاب السياسي الإخواني، الذي خطا خطوات واسعة نسبيا منذ أن طرح المرشد الأسبق مأمون الهضيبي برنامجه في الانتخابات البرلمانية عام 1995 وحتى برنامج "حزب الحرية والعدالة" الذي يعد أرقى وثيقة سياسية قدمتها الجماعة في تاريخها.
فالسياسة التي تقوم على "لغة المصالح"، وتعرف المساومات والمواءمات والحلول الوسط وفنون التفاوض، لا شك أنها تهشم باستمرار الخطاب المتجمد أو المتحجر، الذي يظن أصحابه أنه "مطلق" وغير قابل للدحض، قبل أن يدخلوا إلى غمار السياسة، ويفرض عليهم الواقع بمشكلاته المتراكمة شروطا قاسية لا فكاك منها؛ فما هو موجود على الأرض نسبي، وتنسحب نسبيته، من دون شك، على أقوال وأفعال كل من يتفاعل معه سلبيا أو إيجابيا.
مثل هذا المدخل سينطبق على الجماعات السلفية التي سارعت بتشكيل حزبي "النور" و"الفضيلة"؛ فهي وإن كانت حديثة عهد بالممارسة السياسية المباشرة التي تتم عبر القنوات القانونية للدولة، فإنها ستجد نفسها، كلما أوغلت راحلة في دهاليز السياسة، مضطرة إلى التخلي عن بعض مقولاتها الوثوقية المغلقة تدريجيا، حين تدرك أن الواقع المعيش له متطلبات غير تلك التي يمكن أن تدون في الكتب أو تقال على المنابر أو داخل حلقات الدرس، من دون اختبار عملي لها. وقد تشكل هذه الجماعات عبئا في البداية على الحياة الديمقراطية، لاسيما أنها تريد من الديمقرطية الجانب الإجرائي فقط لتستخدمه في الوصول إلى السلطة دون أن تلزم نفسها أبدا بالجانب القيمي الذي يمثل جوهر الحريات السياسية العامة؛ فهي هنا تخلق نمطا يمكن أن نسميه "ديمقراطية الكلينكس (المحارم الورقية)" التي يتم استعمالها لمرة واحدة. لكن بمرور الوقت فإنها قد تكتسب هذه القيم، لاسيما أنها لا تمتلك مشروعا سياسيا حديثا، أو نظرية سياسية متكاملة الأركان، الأمر الذي يجعلها تقع في تناقض مستمر، يربك خطابها ويفقده التماسك، ويضعفه في مواجهة خطاب سياسي أكثر اكتمالا.
ومن يتابع تطور الخطاب السياسي للجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي يكتشف أنها هي التي تأتي على أرضية التيار الإصلاحي أو المدني، وليس العكس. ومن هنا فإن الاعتقاد بأن الإسلاميين سيظلون معضلة أمام الديمقراطية إلى الأبد يبدو اعتقادا خاطئا، بدليل قدرة هؤلاء على تطوير أفكار سياسية عصرية كما تجلى في التجربة التركية، وبشكل أقل في التجربة المغربية.
لكن هذه الجماعات والتنظيمات ليست على قدم سواء من الامتلاء بالديمقراطية قيما وإجراءات، فجماعة الإخوان أقرب بحكم انغماسها في الحياة السياسية مبكرا، وتفاعلها المستمر مع الخطابات المدنية، وتأتي بعدها الجماعة الإسلامية التي غيرت الكثير من أفكارها في سياق عملية "المراجعات" التي أعقبت "مبادرة وقف العنف"، فبعد أن كانت ترفض الحياة الحزبية تماما، وتقول: إنه لا يوجد سوى حزبين "حزب الله" و"حزب الشيطان"، وبعد أن كانت تعتبر البرلمان "مؤسسة كافرة لأنها تشرع بغير ما أنزل الله"، وترى في الديمقراطية "رجسا من عمل الشيطان" ها هي تُقبل بنهم شديد على تأسيس حزب سياسي، وتطمح في الوصول إلى البرلمان، ويجري مصطلح الديمقراطية على ألسنة قادتها سخيا رخيا.
أما السلفيون فقد تواجدوا على قيد الحياة الاجتماعية المصرية عبر جمعيات للنفع العام أو مسالك مدرسية فقهية من خلال طريقين أساسيين، الأول: تمثل في "الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة"، والثاني هو "جماعة أنصار السنة المحمدية" وكلتاهما ظهرت في عشرينيات القرن العشرين، ثم ظهرت في السبعينيات من القرن ذاته "سلفية الإسكندرية"، وتبعتها "جماعة التبليغ والدعوة" في الثمانينيات.
وظل هذا الخط الخيري-الدعوي هو أساس عمل السلفيين، لكنهم عقب الثورة سارعوا إلى الانخراط في معترك السياسة، دون أن يمتلكوا بعد الفكرة والخبرة التي تؤهلهم لهذه العملية التي قامت على أكتاف ثورة رفعت شعار "الحرية والعدالة والكرامة"، ودون إبداع رؤى سياسية تطمئن المحيط الاجتماعي بأن الديمقراطية قولا وفعلا قد رسخت في أذهانهم. لكن هذا لا يعني أبدا حرمانهم من ممارسة السياسة، وإنما يعني دفعهم إلى القبول بشروط اللعبة السياسية كما يضبطها الدستور والقانون، وفي هذا ما سيقود حتما إلى ترشيد أفكارها الاجتماعية والسياسية، وهذا من فضائل ثورة 25 يناير/كانون الثاني على الجميع، بما في ذلك الطرق الصوفية.
الطريق إلى "حزب التحرير" و"ائتلاف الصوفيين المصريين"
وإذا كان المتصوفة يختلفون عن "الإخوان" وبعض "السلفيين" في عدم وجود عداء مزمن بينهم وبين نظام مبارك، إلا أن هذا النظام لم يكن متقبلا أبدا لفكرة دخول الصوفية إلى الحياة السياسية الطبيعية كمنافس على مقاعد البرلمان وكراسي الحكم، وإنما كان متشبثا باستخدام المتصوفة كرصيد اجتماعي مهم لصالح الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وقتها. وقد أدى موقف السلطة الصارم إلى حرمان المتصوفة من حيازة التنظيمات والمسارات السياسية التي تعبر عنهم، واستسلموا في كل الأحوال إلى إقحام السلطة التنفيذية نفسها في بنيتهم التنظيمية؛ حيث إن المجلس الأعلى للطرق الصوفية يضم ممثلين عن وزارات الداخلية والإعلام والثقافة والتنمية المحلية والأوقاف إلى جانب ممثل للأزهر الشريف.
ومن زاوية التخوف من سيطرة القوى الإسلامية الأخرى على الساحة السياسية والمجال العام، سعى المتصوفة، عقب ثورة يناير/كانون الثاني، إلى تكوين حزب سياسي أطلقوا عليه اسم "حزب التحرير المصري" والذي بدأ في ركاب الطريقة العزمية، وقد يضم ممثلين عن طرق صوفية أخرى. والدليل على أن هذا الحزب وُلد من رحم مقارعة الصوفية للأحزاب الإسلامية الأخرى، هو ما جاء على لسان أحد قيادات الحزب وهو الدكتور إبراهيم زهران: "ما من شك أن الطوفان الإسلامي القادم يخيفهم، وأي تحرك سياسي واضح يمثل خروجا عن مسلك الصوفيين المصريين الذين مالوا للإذعان لإرادة القادة السياسيين منذ زمن طويل". ويؤكد شيخ الطريقة العزمية علاء أبو العزايم نفسه هذا التصور إذ يقول بشكل أكثر وضوحا: "مساعي جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية للانخراط في العمل السياسي الرسمي تهدد التسامح الديني، وتلزم الصوفيين بأن ينحوا نفس المنحى... في حال تقلد السلفيون أو الإخوان زمام الحكم قد يلغون المشيخة الصوفية، مشيرا إلى أنه ينبغي أن يكون هناك حزب للصوفيين لهذا السبب".
وهذا يعني أن الصوفية لم يبادروا إلى التفكير في إنشاء حزب سياسي لهم، وما أقدموا عليه هو رد فعل على قيام الإخوان والسلفيين باتخاذ هذه الخطوة. ويتم هذا في جو مشحون بإلقاء الاتهامات والنبذ والاستهجان المتبادل بين الجانبين؛ ففي الوقت الذي يتهم فيه الصوفيون السلفيين وفقيههم المفضل ابن تيمية بالكفر، وبأنهم يسعون لتأصيل الفكر الوهابي في مصر، يتهم السلفيون الصوفية بارتداء عباءة التشيع، وممارسة طقوس ذات طابع فلكلوري لا علاقة لها بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. ولم يقتصر الأمر على الأقوال بل امتد إلى الأفعال حين حمّل المتصوفة بعض السلفيين مسؤولية الهجوم على بعض أضرحة الأولياء، وقاموا بتشكيل لجان شعبية لحماية تلك الأضرحة، وتنظيم وقفات احتجاجية أمام مسجد الحسين رضي الله عنه.
وقد انحاز المتصوفة شأنهم شأن القوى الإصلاحية، اليمينية واليسارية، في مصر إلى مسار "الدستور أولا" في وجه مسار "الانتخابات أولا" الذي تبنته كافة القوى السياسية المحافظة، من الأحزاب والجماعات والتنظيمات التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: أي نموذج حزبي يريده المتصوفة؟ والإجابة هي بوضوح: نموذج حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا؛ فالمتصوفة المصريون ينظرون إلى هذا الحزب التركي الفتي باعتباره ملهما، نظرا لأنه وُلد من رحم التصوف الحركي. ولأجل هذا سافر أبو العزايم إلى تركيا للوقوف على تجربتها السياسية عن كثب، والأمل يحدوه بأن يجعل للمتصوفة كتلة تنظيمية وسياسية تكافئ قوتهم العددية وقدراتهم التصويتية، التي كانت تذهب قبل الثورة إلى مرشحي الحزب الحاكم في الغالب الأعم. ويركز برنامج الحزب على مبادئ عامة، مثل: الحرية والعدالة والمساواة، وتتلخص رؤيته فى "إن