كان ولا يزال تفرق شمل "الأشقاء" المغاربة خاصية بنيوية لعلاقاتهم البينية، وقد زادت الانتفاضة التونسية والأزمة الليبية خصوصا، من تعكير "الأجواء" السياسية الإقليمية المتلبدة أصلا. فعوضا من أن تتوحد الجهود المغاربية لاحتواء الأزمة والحيلولة دون تحول المنطقة إلى مسرح لعبث الصغار والكبار ولبؤرة توتر، تركت الدول المغاربية الثلاث (الجزائر، المغرب وموريتانيا) أطرافا عربية ودولية تتصرف، ليغيب الدور المغاربي في أول محنة من هذا النوع تعرفها المنطقة، ولتصبح الأزمة الليبية مصدر خلاف جديد بين الجزائر والمغرب.
الأزمة الليبية: تداعيات كبيرة
الدول المغاربية: محك العوامل الطارئة
مواقف بين المسايرة والإجهاض
تداعيات على التوازن البنيوي السائد
حسابات جزائرية ومغربية
مواقف متضاربة وتحميل الآخر إدارة/تسوية الأزمة
الجزائر والمغرب والحسابات الأمريكية
إذا كانت الانتفاضة التونسية قد هزت عرش الأنظمة المغاربية بإطاحتها برأس السلطة التونسية، فإنه لم يكن لها ذلك الوقع الذي أحدثته الأزمة الليبية على العلاقات المغاربية. |
فرضت الانتفاضة التونسية على الأنظمة المغاربية تبني موقف دفاعي، واعدة بإصلاحات تهدئة للوضع الاجتماعي وتفاديا لاحتجاجات اجتماعية متواصلة ومنظمة، أما الأزمة الليبية فقد منحتها مجددا تلك "العافية" السياسية التي كادت تفقدها بفعل الانتفاضة التونسية، فقد سمحت لها بمواصلة اللعبة السياسية التقليدية من خلال حرب المواقف السياسية والتحالفات الخارجية، دعما وتحصينا للأنظمة داخليا.
الدول المغاربية: محك العوامل الطارئة
يمكن تلخيص أهم العوامل الطارئة على العلاقات المغاربية البينية نتيجة الانتفاضة التونسية والأزمة الليبية في العناصر التالية. أولا، حدوث التغيير من الأسفل ولأول مرة في تاريخ العالم العربي، حيث قادت انتفاضة شعبية إلى تغيير في هرم السلطة بينما تعوَّد المشهد السياسي العربي على التغيير من الأعلى إما بالموت الطبيعي للحكام أو بالانقلابات العسكرية. ثانيا، خروج النظام التونسي ولو جزئيا عن إجماع الأنظمة المغاربية، بموجب معاهدة مراكش (المادة 15) المؤسسة للاتحاد المغاربي، على مراعاة كل واحد منها أمن الآخر. ثالثا، بخروجه عن هذا الإجماع عمليا فإن النظام التونسي الانتقالي يراجع قاعدة أساسية في العالم العربي وهي غلبة أمن النظام الحاكم (أمن العائلة الحاكمة في الأنظمة الملكية وأمن الأقلية الإستراتيجية الحاكمة في الأنظمة الجمهورية والهجينة –خليط جمهوري- ملكي بفعل توريث السلطة). رابعا، التدخل الأجنبي في ليبيا حول المغرب العربي إلى بؤرة توتر ومسرح لعبث الكبار والصغار من الفاعلين الدوليين والإقليميين بأمن المنطقة وبمستقبلها. وربما يعد هذا العامل الطارئ هو العامل الرئيس والأخطر على العلاقات المغاربية البينية نظرا لانعكاساته على العلاقات بين الدول المغاربية، حيث أصبح موضوع خلاف جديد. ومن ثم يمكن القول أن الأنظمة المغاربية دخلت مرحلة جديدة تتميز بالصراع من أجل البقاء بالاعتماد على الخارج – السير في فلك الائتلاف المتدخل في ليبيا- لتحصين الداخل بالنسبة للمغرب، وبتوظيف التموقع المتردد أو المحايد لتحصين الداخل كما هو شأن الجزائر وموريتانيا. وبما أن الشعوب المغاربية ضد أنظمتها وضد التدخل الأجنبي في المنطقة، فإن أي معارضة لهذا الأخير هي تقرب من هذه الشعوب أو على الأقل محاولة لتهدئتها.
انقسمت الدول المغاربية حيال الحالة التونسية، فمنها من عمل على مسايرة الأحداث والتعبير عن "احترام إرادة الشعب التونسي" – رغم أنها لا تحترم إرادة شعوبها – ومنها من ساند النظام منذ الوهلة الأولى وحتى اللحظات الأخيرة التي سبقت فرار الرئيس بن علي، ومنها من التزم الحذر والتريث – شأنه شأن القوى الغربية – حتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ليتعامل في النهاية مع الأمر الواقع. ولم تدعم الدول المغاربية صراحة الانتفاضة الديمقراطية في تونس لسبب منطقي: إن هي فعلت فذلك سيكون بمثابة دعوة رسمية لشعوبها للسير على خطى الشعب التونسي.
في خضم الانتفاضة التونسية، كانت القيادات العربية تعول على احتواء النظام التونسي لهذه الانتفاضة، لثقتها الكبيرة في قدرة أنظمتها التسلطية على احتواء كل الأحداث وتجديد نفسها بعد كل محنة سياسية. ولم تكن تنتظر حدوث شروخ داخل النظام باتخاذ الجيش موقفا مساندا للمنتفضين. ولهذا، فالتوقيت الحاسم لإجهاض التحول في تونس قد يكون خلال المرحلة الانتقالية. فقد يحدث احتواء للحالة التونسية تدريجيا وبهدوء بالدعم السياسي والمالي للفريق الحاكم الجديد-القديم بطريقة تسمح لـ "الأشقاء" العرب بمراقبة تطور الأوضاع في تونس عن كثب وتوجيهها. ومشكلة الأطراف العربية مع تونس، هي أن أي بيئة تسلطية لن تسمح بميلاد ديمقراطية في وسطها لما تمثله من خطر على استقرار أنظمتها، لأنها تطرح بديلا لها. فدولة عربية ديمقراطية هي بمثابة خنجر في خاصرة الأنظمة التسلطية العربية الأخرى.
ومن الطبيعي أن يتمنى الحكام العرب فشل التجربة التونسية بتخبطها في فوضى عارمة جراء العجز عن الانتقال الهادئ إلى نظام جديد، أو باستيلاء تيار إسلامي متشدد على السلطة ديمقراطيا ثم الانقلاب عليها. وفي الحالتين تصدق مقولة الفوضى، أو منطق الموازنة التعيس الذي قال به بن علي ومبارك: إما أنا وإما الفوضى، على طريقة المقولة الأموية إما "يزيد وإما السيف" التي تفوه بها معاوية ليورث الحكم لابنه مدشنا بذلك أسوء مقاربة إسلامية للسلطة في التاريخ.
بحكم حجم تونس وموقعها فإنه لن يكون بوسعها في حال تحولها إلى ديمقراطية حقيقة، أن تصبح قبلة الديمقراطيين المغاربة والعرب –في حال بقاء الوضع على حاله في الدول الأخرى- وملاذهم الآمن ومقرا جديدا للإعلام العربي الحر، لأن ذلك سيجعلها مستهدفة من "الأشقاء" المغاربة والعرب الذين سيعتبرونها ساحة خلفية لقوى معارضة لأنظمتهم. وستعمل الدول المغاربية الأخرى على فرض احترام البند الإستراتيجي لمعاهدة مراكش المشار إليه أعلاه. وبما أن هناك وحدة عربية فحواها عدم السماح لمعارضة البلد "الشقيق" بتعكير صفو العلاقة الثنائية، فإن الديمقراطية التونسية –إن تمت فعلا– ستكون مجبرة على احترام هذه القاعدة تجنبا لاستعداء الجوار العربي، وإن هي فعلت فستكون ديمقراطية مبتورة، لأن الديمقراطيات لا تطرد معارضين أجانب وإعلام أجنبي حر إن هم احترموا قوانينها. ومن هنا فالخط الأحمر من منظور الأنظمة العربية عموما هو استقبال تونس الديمقراطية ودعمها للمعارضين العرب.
تداعيات على التوازن البنيوي السائد
لم تدعم الدول المغاربية صراحة الانتفاضة الديمقراطية في تونس لسبب منطقي: إن هي فعلت فذلك سيكون بمثابة دعوة رسمية لشعوبها للسير على خطى الشعب التونسي. |
ومن ثم فإن الأزمة الليبية زادت من تعقيد العلاقات المغاربية البينية لاسيما بين الفاعلين الأساسيين، الجزائر والمغرب. أما مستقبلا، فالمسألة مرهونة طبعا بالمنحى الذي ستأخذه الأحداث. ففي حال نجاح التحول السياسي في تونس وليبيا فمن المرجح أن تنخفض حدة التنافس بين الجزائر والمغرب لخروج تونس وليبيا من دائرة الزبائن المحليين وسعيهما لإرضاء القوتين وتفادي الصدام معهما، ما يجعلهما يتبنيان الحياد حفاظا على التحول السياسي. أما في حال فشل أو تعثر الانتقال فيهما، فإن التوتر سيزداد لا محالة، خاصة وأن المغرب يحدد مواقفه بالتناغم مع مواقف حلفائه الغربيين والعرب (لحسابات دقيقة تخصه)، فيما تتبنى الجزائر موقفا مستقلا عن المواقف الخارجية. وهذا ما يجعل المغرب العربي مسرحا لصراع نفوذ وتعارض المواقف بين الجزائر والمغرب كما هو الحال منذ سنوات الاستقلال.
بحكم الجوار وطول الحدود مع ليبيا، تعتبر الجزائر ما يحدث في ليبيا، من صراع مسلح وتدخل غربي-أطلسي، تهديدا لأمنها القومي وتتخوف من انتقال الأسلحة إلى عناصر إرهابية في منطقة الساحل. ومن هنا أصبحت هذه الأزمة مناسبة لتدعيم التعاون والتنسيق مع مالي والنيجر وموريتانيا لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة. والجزائر التي لا تشارك في الاجتماعات الدولية بشأن الأزمة الليبية تعمل على عقد اجتماع في سبتمبر/ أيلول المقبل حول تداعيات هذه الأزمة على الإرهاب وتهريب الأسلحة في الساحل والذي ستشارك فيه مجموعة دول الساحل، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الصين، روسيا والأمم المتحدة. أما حيال الأطراف المتصارعة في ليبيا، فتقول أنها تلتزم الحياد. لكن ما سر هذا الموقف؟
- أولا، الجزائر كانت دائما ضد أي تدخل أجنبي مهما كانت الذريعة.
- ثانيا، دعم الثوار في ليبيا يعني منطقيا دعم مطلب التغيير السريع محليا.
- ثالثا، بحكم الحدود المشتركة فإن دعم أي طرف ضد آخر يقحمها مباشرة في الصراع ويعرض حدودها وترابها لتداعيات أمنية جمة.
- رابعا، يبدو أن موقفها يقوم على إدراك سياسي مفاده أن الجزائر لن تتضرر لا في حال بقاء القذافي ولا في حال رحيله، وأنه لا توجد مكاسب سياسية متوقعة تبرر دعم أحد طرفي الصراع لجني الثمار فيما بعد.
- خامسا، يبدو أن الجزائر معنية أساسا بهموم الداخل – فالنظام في وضعية صعبة بسبب تنوع وتعدد الاحتجاجات- ولا مصلحة لها في إقحام نفسها في صراع على حدودها الشرقية.
أما المغرب فبحكم الجغرافي لا يعتبر الوضع في ليبيا تهديدا مباشرالأمنه القومي، وبالتالي له هامش حرية أكبر من الجزائر، كما