الحدث التاريخي الذي مثّله أسطول الحريّة في توجهّه لكسر الحصار عن قطاع غزة وردّة الفعل الصهيونية عليه جاءا بنتائج يفوق بعضها كل ما كان متوقعاً، سواء أكان من جانب الذين حملهم أسطول الحريّة أم من جهة الذين شنوا الهجوم العسكري الإجرامي عليه.
لعل من أبرز النتائج المتولّدة عن هذا الحدث وضعه لعملية حصار قطاع غزة ومَن وراءَها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في الزاوية، وفي مواجهة الاستنكار شبه الشامل من قِبَل الرأي العام العالمي. الأمر الذي فرض على الدول الكبرى كافة أن تطالب برفع الحصار، وإن بلغة متفاوتة من حيث القوّة، ودرجة التراجع أمام الحدث. ولم تفلت حتى حكومة نتنياهو من الإعلان عن تخفيفه. وقد فقدت القدرة على الدفاع المقنع حتى أمام أشدّ أنصارها.
فقدَ الحصار "شرعيته الدولية" ودخل في عزلة خانقة. وقد أضيف هذا الجانب إلى عامل حاسم أشدّ أهمية وهو فقدانه لهدفه السياسي نتيجة صمود أهل القطاع في وجهه لأكثر من ثلاث سنوات، ونتيجة عدم رضوخ حماس لشروطه المعلنة وغير المعلنة. وقد جاء العدوان الإجرامي في حرب 2008/2009 وإفشاله بالصمود والمواجهة ليحسم سقوط الهدف السياسي من ورائه |
فمن هذا الجانب فقدَ الحصار "شرعيته الدولية" ودخل في عزلة خانقة. وقد أضيف هذا الجانب إلى عامل حاسم أشدّ أهمية وهو فقدانه لهدفه السياسي نتيجة صمود أهل القطاع في وجهه لأكثر من ثلاث سنوات ونتيجة عدم رضوخ حماس لشروطه المعلنة وغير المعلنة. وقد جاء العدوان الإجرامي في حرب 2008/2009 وإفشاله بالصمود والمواجهة ليحسم سقوط الهدف السياسي من ورائه. ومن ثم تحويله إلى حصار من أجل الحصار، مما راح يعود على الكيان الصهيوني وكل من شارك فيه وتواطأ معه أو سكت عليه، بالخسائر السياسية يومياً.
لا شك في أن حماقة قرار الهجوم وارتكاب المجزرة عَمَّما عالمياً، أكثر فأكثر، الوجه العدواني الإجرامي للكيان الصهيوني. ولكن الحماقة التي حملها هذا القرار كانت حتمية، إذ لم يكن من الممكن لحكومة نتنياهو تجنبّها.
فهي في مأزق لا يسمح لها باتخاذ أي قرار لا يرتدّ عليها بنتائج تكاد تكون متساوية من حيث سلبيتها.
وهذا هو القانون الحاكم بالنسبة إلى القوى المسيطرة حين تبدأ رياح موازين القوى والظروف السياسية تهبّ في غير مصلحتها، ويأخذ وضعها بالإدبار. فمهما تفعل لا بدّ من الخسارة السياسية والمعنوية وهو ما لا تستطيع ابتلاعه. مما يدفعها إلى العناد الطفولي المتسّم بالحماقة.
ومن هنا، فإن ظاهرة أسطول الحريّة التي تحوّلت إلى معركة يمكن اعتبارها من حيث نتائجها، الحرب العدوانية الثالثة التي يرتكبها الجيش الصهيوني ويخسرها بعد حربيْ 2006 ضدّ لبنان و2008/2009 ضدّ قطاع غزة.
على أن التدقيق في المناخ السياسي والمعنوي العام الذي تولدّ في أثناء هذه الحرب الثالثة وبعدها مباشرة، بل ما زال مستمراً بما يشبه التفجير المتسلسل، أخذ يشكل ظاهرة هامّة متعدّدة الأبعاد. وقد عبّر جزئياً عن هذا المناخ اندفاع الآلاف من المتطوّعين والمتطوّعات ومن عشرات البلدان العربية والإسلامية والعالمية للمشاركة المباشرة في حملات جديدة. بل فتح باب التبرّع لشراء عشرات السفن، فيما كان توفير المال لشراء مركب واحد متواضع عزيزاً قبل ذلك.
هذا المناخ زاد صمود قطاع غزة تصميماً، وانتقل إلى الضفة الغربية الرازحة تحت الاحتلال والاستيطان وإرهاب الاتفاق الأمني، الذي تمارسه أجهزة دايتون-سلام فياض وتغطية سلطة رام الله، ليُعبّر عن نفسه بعملية عسكرية في منطقة الخليل وهَبَت اسمها لأسطول الحريّة.
بكلمة، لقد دخل الوضع الفلسطيني والوضعيْن الإقليمي والعالمي، من الناحية الشعبية، في مرحلة جديدة مع أسطول الحريّة ونتائجه. طبعاً
حدث أسطول الحريّة كشف بالرغم من ضآلة حجمه، عما يتسّم به الوضع العالمي من اضطراب وفوضى ولا توازن على مستوى الدول الكبرى، ومن نهوض شعبي فلسطيني وعربي وإسلامي، ومن تقدّم بارز في حراك الرأي العام عالمياً |
كما يجب أن يلحظ، أيضاً، الاختلال في مواقف الدول التي راهنت على السياسات الأميركية وانحنت أمام الضغوط الصهيونية، أو تواطأت مع الحصار أو سكتت عليه.
على أن هذه المعادلة أخذت تفرض، لاسيما على المستويين الأميركي والأوروبي، ظاهرة التحرّك بالاتجاه المضاد بعد الانحناء المؤقت أمام عاصفة أسطول الحريّة.
فقد أخذت إدارة أوباما ومجموعة من الدول الأوروبية العمل على إنقاذ الكيان الصهيوني من التضعضع إذا استمرّت عزلته الدولية وتراجعت قدرته على شنّ حروب ناجحة عسكرياً. وهذا ما تعبّر عنه تصريحات جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، في تبرير الهجوم على أسطول الحريّة.
وعبر عنه خوسيه ماريا أزنار رئيس وزراء إسبانيا الأسبق: "نهاية إسرائيل تعني نهاية أوروبا"، وكذلك مشروع طوني بلير ممثل الرباعية لإعادة إنتاج حصار قطاع غزة من خلال "تخفيفه"، ثم ما زيد أميركياً وأوروبياً على قرار 1929 من عقوبات إضافية على إيران.
وذلك إلى جانب تدخل اللوبي اليهودي الأميركي ضدّ تركيا والذي عبّر عنه بعض النواب حين طالبوا حكومة أردوغان بتحديد موقفها إن كانت مع أميركا والغرب أم مع قطاع غزة.
الاتجاه الذي راح يتحرك في كواليس الحكومات الغربية يتلخص في إظهار الخطورة التي أخذت تحيط بالكيان الصهيوني في ظروف ما بعد حدث أسطول الحريّة. ومن ثم ضرورة التحرك ضدّ تكرار ظاهرة أسطول الحريّة |
فالاتجاه الذي راح يتحرك في كواليس الحكومات الغربية يتلخص في إظهار الخطورة التي أخذت تحيط بالكيان الصهيوني في ظروف ما بعد حدث أسطول الحريّة. ومن ثم ضرورة التحرك ضدّ تكرار ظاهرة أسطول الحريّة. وذلك من خلال الضغط على كل الدول الشاطئية وفي مقدّمتها تركيا لمنع إقلاع السفن المتجهّة لكسر الحصار من موانئها.
ولكن هذه المحاولة الأميركية-الأوروبية قابلة للانهيار لأن المنقذين أنفسهم في وضع يحتاج إلى إنقاذ ابتداء من أميركا وانتهاء بإسبانيا.
فأقوياء الأمس لم يعودوا أقوياء اليوم. ومستضعفو أمس أخذت سواعدهم تشتدّ اليوم، وكفى دليلاً متواضعاً على هذه الحقيقة التأمّل جيداً في معركة أسطول الحريّة. في هذا الحدث التاريخي ونتائجه.
فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم لم يسبق لحدث بمثل هذا التواضع أن يؤثر في الوضع الدولي ويلزم الدول الكبرى بتغيير مواقفها، ولو مؤقتاً.
_______________
باحث في الشؤون الاستراتيجية