تطورات الأحداث السورية.. وجهة نظر تركية

تتفاعل تركيا مع ما يحدث في جارتها سوريا بشكل مستمر خصوصا وأن النازحين السوريين طرقوا الأبواب، ويتصف ذلك التفاعل بالهدوء إذ تتسم الرؤية التركية بالرغبة في عدم إفساد علاقات البلدين بيد أن استمرار سوريا في انتهاج سياسة القمع سيجعل رؤية أنقرة تتغير.
1_1073299_1_34.jpg

 

د. برهان كور أوغلو

بدأت تركيا منذ عام 2002 بتوجيه رسائل إيجابية إلى دول المنطقة مبتدئة بأقرب جيرانها، وذلك في موضوعات شتى، مثل الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، والتعاون الاقتصادي المبني على أسس سليمة، والدعوة إلى نشر قيم الديمقراطية، فضلا عن أنها كانت تعمل على أن تكون سبَّاقة في مضمار إيجاد وتطوير موقف مشترك في هذا الاتجاه من خلال علاقاتها الثنائية مع دول المنطقة من ناحية، واجتماعاتها الإقليمية وأنشطة المؤسسات التعاونية الخاصة بها من ناحية أخرى.

كان يتردد في تركيا أن بشار الأسد حَسَنُ النية وعازمٌ على القيام بإصلاح وتطبيق الديمقراطية في بلده، إلا أن المحيطين به وعائلته والمسئولين بحزب البعث لا يشاركونه هذه النية الحسنة ولا يدعمونه فيها.
وفي هذه الأُطر بدأت بالأقرب من دول الجوار؛ إذ عملت على تطوير علاقة جيدة مع سوريا، من خلال انتهاجها لسياسة تصفية المشاكل، واتباعها لإستراتيجية دبلوماسية فعالة في تخطي المعضلات السياسية التي تعج بها المنطقة، والتي شكَّلت أزمة في مرحلة سابقة، وسعت أيضا إلى تخطّي المشاكل التاريخية والأيديولوجية، وخصوصا تلك المتعلقة بأمن الحدود حتى استطاعت أن تصل بالعلاقات إلى مستوى مميز.

وتطورت العلاقات الإيجابية بصورة جيدة من خلال خطوات ملموسة تمثلت بزيارات متبادلة على مستوى وزراء وسياسيين ورجالات دولة، ناهيك عن رفع تأشيرات الدخول بينها وبين دول المنطقة، وتحرير التجارة عبر الحدود، وتطوير المشاريع الصناعية والتجارية المشتركة. وأبرز ما في هذا المضمار الاتفاق على ضم العراق إلى مشروع إنشاء صيغة تعاون اقتصادي، والذي كانت أطرافه سوريا والأردن ولبنان وتركيا.

وإذا ركزنا على موضوع ملف العلاقات السورية سنلاحظ وصول العلاقات مع سوريا إلى درجة إقرار رفع الحدود تمامًا بين البلدين؛ وهذا ما كان على أرض الواقع بالدخول والخروج لساكني المحافظات الحدودية بحُرية دون إلزامهم بجوازات السفر، بعد أنه تمت إزالة تأشيرات السفر بين البلدين. وعلى الصعيد الاقتصادي ظهرت زيادة مطردة في حجم التجارة والسياحة المتبادلة مع مطلع عام 2011.

تركيا والأزمة السورية
تطورات الموقف التركي

تركيا والأزمة السورية 

على الرغم من تطور العلاقات السورية-التركية فإن الأخيرة قد بعثت طوال الأعوام الماضية إلى الجانب السوري رسائل تتضمن طلبات إقرار المزيد من الديمقراطية، وإجراء إصلاحات سياسية، والانتقال إلى نظام سياسي يقوم على تعدد الأحزاب، وهذا ما شاهده الرأي العام ووسائل الإعلام خلال مرحلة تطور العلاقات الثنائية بين البلدين الذي كان على مستوى رئاسة الوزراء والجمهورية فضلا عن الخارجية. وأكد الجانب التركي في هذه الرسائل على الحاجة الماسّة للقيام بإصلاح عاجل بالقدر الذي تنتظره المعارضة السورية من تركيا، وذلك من خلال تصريحات أنقرة بشأن عدد من الموضوعات، مثل قانون الطوارئ في سوريا الذي دام ثلاثين عامًا، والإقصاء السياسي، وعدم وجود حرية فكرية.

ولا ريب أن الحركات الشعبية الثورية التي بدأت في تونس منذ بداية عام 2010 قد أبرزت ضرورة إجراء تغيير في سوريا، وخلال هذه الفترة بدأت وسائل الإعلام خلف الكواليس بالقول: إن المسئولين الأتراك، خصوصًا في السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة، قد أكدوا بصورة ملحة وأكثر قوة على وجهات نظرهم المتعلقة بالحاجة الماسة للقيام بإصلاح في سوريا، والتي نقلوها لهم بصورة أخوية في المباحثات التي أُجريت بين الجانبين.

رغبة الأسد بالإصلاح محل خلاف
وخلال تلك الفترة كان يتردد في تركيا أن بشار الأسد حَسَنُ النية وعازمٌ على القيام بإصلاح وتطبيق الديمقراطية في بلده، إلا أن المحيطين به وعائلته والمسئولين بحزب البعث لا يشاركونه هذه النية الحسنة ولا يدعمونه فيها. غير أن هذه الفترة أظهرت أن مسألة رغبة بشار الأسد في التغيير هي ذاتها محل خلاف. والنتيجة أن الجانب التركي قد تولّدت لديه قناعة تعززت بمرور الوقت بأن النظام السوري قد استمر في مباحثاته مع تركيا فقط من أجل كسب الوقت ليس إلا.

وقد تواصلت الجهود التركية بصبر ودأب بالغين لجعل النظام السوري يتخلى عن موقفه الذي يتلخص في كونه يرى مطالب الشعب السوري المشروعة مطالب لا حق له فيها، من خلال بث روح الفرقة بين مكونات الشعب السوري باستخدامه أساليب قمعية ضد فئات دون أخرى، إضافة إلى الاعتقالات وإرهاب الدولة الذي بدأ في التصاعد مع أحداث مدينة "درعا" في سوريا.

والمراقب يشده في المشهد أيضا عدم وجود أية استجابة بمعنى حقيقي للزيارات التي قام بها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو من ناحية ومستشار جهاز الاستخبارات العامة هاقان فيدان من ناحية أخرى، ناهيك عن المقترحات المقدمة من رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. وفي نهاية شهر مايو/أيار وجدت تركيا نفسها وهي في أوج حملات الدعاية الانتخابية أمام سيل عارم من اللاجئين بدأ في التاسع من شهر يونيو/حزيران؛ وذلك عقب الأحداث التي عاشتها بعض القرى السورية الواقعة على الحدود السورية-التركية، ولا سيما في بلدة جسر الشغور.

الجانب التركي قد تولّدت لديه قناعة تعززت بمرور الوقت بأن النظام السوري قد استمر في مباحثاته مع تركيا فقط من أجل كسب الوقت ليس إلا.
وقبل هذه الأحداث كان عدد من السياسيين الأتراك -يأتي في مقدمتهم أردوغان وأحمد داود أوغلو- قد أكدوا أكثر من مرة على ضرورة تمهيد الطريق أمام تغيير الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط. وفي تصريح أدلى به داود أوغلو لجريدة "فايننشال تايمز" في السابع من يونيو/حزيران استخدم فيه داود أوغلو عبارة مفادها: أن القادة الذين يرفضون التغيير في العالم العربي سوف يزولون. وأشار داود أوغلو إلى أنه قد نقل وجهة نظره هذه إلى بشار الأسد. وبدأت هذه الرؤية التركية في خلق جو من عدم الراحة لدى الجانب السوري، وعلى إثرها بدأ بعض الساسة السوريين وفي مقدمهم الرئيس السوري بشار الأسد يبدون نوعا من عدم الارتياح من المواقف التركية في وسائل الإعلام.

وفي تلك الأثناء أخذ بعض المواطنين السوريين بالاحتماء بالجارة تركيا متخطين الحدود الفاصلة بين البلدين، بهدف النجاة بأرواحهم من هجمات قوى الأمن السورية. وبتجاوز عدد اللاجئين السوريين رقم الآلاف العشرة بدأت تركيا تقدم رسائل إلى سوريا مفادها "أنها قد سارت في طريق اللاعودة". وتوصيفا للواقع يعيش الآن آلاف اللاجئين السورين في مخيمات داخل الحدود التركية، وتعمل تركيا على حمايتهم وتوفير احتياجاتهم. ويجب أن لا نغفل الدعم التركي في الشهرين الأخيرين للمعارضة السورية التي جاءت إلى تركيا بإفساح المجال لها لنقل قضاياها إلى الرأي العام العالمي. ويأتي هذا في ظل تزايد القضية تعقيدًا؛ حيث إن سياسة القمع ما تزال قائمة في سوريا، والوحدات العسكرية السورية مستمرة أيضًا في "القتل والاعتقال" لتقطع الطريق أمام النازحين الفارين إلى تركيا.

وإذا أتينا إلى الجانب السوري فلا يزال مستمرا في تصوير علاقة تركيا بما يحدث بشكل مستفز. ويمكننا عرض بعض السيناريوهات التي تتعلق بـ120 من رجال الشرطة والأمن الذين قُتلوا في الأيام الأخيرة، في مدينة جسر الشغور.

الادعاء الأول يقول: إن هؤلاء الأفراد قام الإخوان المسلمون ومجموعات من التيار السلفي بقتلهم. وأبرز ما في هذا الزعم هو استناده على رواية تفيد بأن السلاح المستخدم قد تم الحصول عليه من تركيا. وهذا أمر لا يمكن حتى مجرد التفكير به بحق تركيا التي لها مصلحة جلية في أن يسود الاستقرار في سوريا، بل تبذل قصارى جهدها من أجل تحقيقه.

أما الادعاء الثاني، فيقول: إن هذه المجموعة من رجال الشرطة إنما قامت الدولة بقتلهم نظرًا لأنهم امتنعوا عن حمل السلاح ضد الشعب. والحقيقة أن العديد من الأفراد وخصوصًا ذوي الرتب المنخفضة في الجيش السوري ينتمي 82% منهم إلى السنة، ويرفضون حمل السلاح ضد الشعب. وهذا الوضع يوضح لنا إلى أي مدى يمكن أن تتصاعد حالة عدم الاستقرار.

أما الادعاء الثالث وهو الأقرب للحقيقة، فيرى أن النظام السوري هو من قام بقتل هذه المجموعة من خلال عملية منظمة سواء كانوا من المعارضين لحمل السلاح ضد الشعب أم لا، وذلك من أجل إثارة الفتنة ولإظهار الشعب على أنه متهم. وبهذا سيعمل النظام السوري على إثبات أنه على حق قائلاً: "إن هؤلاء ما هم إلا عصابات مسلحة". والنتيجة أن النظام السوري يستمر في اقتراف ما يشاهده العالم بأسره منذ بدأ هذه التظاهرات وحتى هذا اليوم، ضد شعب مصمم على الاستمرار في معركته بطرق سلمية.

وفي الوقت الذي تشتهر فيه سوريا بأنها دولة لا تتوانى عن سفك دماء شعبها نجد أنها تتهم المتظاهرين الذين لم يلقوا حجرًا واحدًا حتى هذا اليوم بأنهم متآمرون ويسعون لإثارة الفتنة. والنظام السوري من خلال هذه الأحداث يعمل على ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد. فهو أولاً: يرهب الجنود ورجال الشرطة الذين لن يطيعوا الأوامر. ثانيًا: يستفيد من الوضع المتشرذم للشعب السوري بعد إثارة الفتنة بين مكوناته، وأهمها أنه يعطي رسالة للرأي العام العالمي يقول فيها: "انظروا، ها هو أنا ذا أقوم بمحاربة المقاومين المسلحين". ولو استمر هذا الوضع على ما هو عليه فإن المطالب المشروعة للشعب ستصاب في مقتل بينما سيقدم النظام السوري نفسه حمامة مجروحة.

تطورات الموقف التركي 

المفارقة أنه في الوقت الذي تحظى فيه تركيا بتقدير الرأي العام العالمي بأسره لاستقبالها اللاجئين السوريين الذين تخطوا العشرة آلاف لاجئ على أرضها، فإن الجانب السوري ينتقد هذه الجهود الإنسانية ويحكم عليها بأنها تدخُّل في الشأن السوري المحلي.
إن العالم العربي والعالم بأسره يتابع باهتمام بالغ الموقف التركي إزاء كل هذه الأحداث؛ حيث يعبر المسئولون الأتراك عن عدم ارتياحهم "من عدم استجابة سوريا" لكل التحذيرات والنصائح التي أسدوها للنظام في دمشق. بيد أن تركيا مستمرة في حث الإدارة السورية على ألا تستخدم السلاح في التعامل مع المتظاهرين، كما تتعامل مع قضية اللاجئين المتدفقين على الحدود السورية التركية من منظور إنساني. والمفارقة أنه في الوقت الذي تحظى فيه تركيا بتقدير الرأي العام العالمي بأسره لاستقبالها اللاجئين السوريين الذين تخطوا العشرة آلاف لاجئ على أرضها، فإن الجانب السوري ينتقد هذه الجهود الإنسانية ويحكم عليها بأنها تدخُّل في الشأن السوري المحلي.

وعلى الرغم من أن آمال تركيا بقدرة بشار الأسد على إيجاد حل سلمي للأزمة السورية قد تضاءلت، إلا أنها استمعت لكلمته التي ألقاها في العشرين من يونيو/حزيران الماضي، ورأت أن هذه الكلمة كانت بعيدة عن إقناع الشعب السوري والرأي العام العالمي بالرواية الحكومية. وعبَّرت الدبلوماسية التركية عن موقفها بعد هذه الكلمة التي استمرت لسبعين دقيقة على النحو التالي: "لو استطاع بشار الأسد إقناع الشعب السوري فسنقتنع نحن أيضًا".

ولكن الإجابة جاءت من الشعب السوري الذي أبدى امتعاضه من كلمة الأسد بعد انتهائها مباشرة، فرأى أهالي اللاذقية وحمص وحماة ودمشق، وحتى اللاجئين إلى الأراضي التركية والذين كانوا يأملون شيئا من هذا الخطاب: أنه لم يتغير أي شيء قط في نبرة الخطاب مقارنة بمثيلاته، فلم يقل الرئيس أي شيء جديد وملموس.

في حين أنه كانت هناك توقعات في تركيا قبل الكلمة بأنها ستأتي ببعض الأمور المهمة، مثل: إلغاء بعض المواد من الدستور، مثل المادة الثامنة والتي تشير إلى أن حزب البعث هو الحزب الحاكم للدولة، وأنه سوف يتم الإعلان عن قوانين تسمح للأحزاب والكيانات السياسية بحرية النشاط السياسي. إلا أن الأسد كعادته أراد أن يكسب زمنًا لا غير، بقوله: سوف نعمل على تغيير الدستور بنهاية العام الجاري، وسوف نأمر ببدء "الحوار الوطني" في موضوع الإصلاح، وسوف نؤسس لجانًا من أجل محاربة الفساد. دون أن يهمل تأكيده على أن الإصلاح المزمع مقرون بما يسميه "إزالة الفوضى"، بل أعقبه بالقول: إنه سوف يقبض على "المتآمرين والمفسدين الذين يستغلون مطالب الشعب المشروعة"، وهو بذلك مستمر في إظهار ردة فعل تنم عن قيادته لدولة بوليسية تتمتع بنظام استخباراتي مغلق.

وتجدر الإشارة إلى أن الصحافة التركية والتحليلات السياسية ركزت في تناولها لخطاب الرئيس الأسد؛ على فكرة رئيسية تفيد بأن من يدير سوريا ليس بشار الأسد فحسب إنما عائلته أيضًا التي تحيط بالدولة وتتدخل فيها كنسيج سرطاني، فضلا عن المنظمات الاستخباراتية وعصابات الفساد وأصحاب الرتب العليا في الجيش الذين يسهمون في الفساد ويعيشون عليه. وبهذا فإنه من المستحيل انتظار خارطة طريق للإصلاح من بشار الأسد وحده دون أن يتشاور مع هؤلاء المذكورين آنفًا.

تركيا بعد الانتخابات
إن تركيا مصممة بعد أن تخطت مرحلة الانتخابات على أن تقوم بما ينبغي عليها القيام به؛ فمن ناحية ستعمل على مساعدة اللاجئين السوريين الذين احتموا بأراضيها، ومن ناحية أخرى فإن السياسيين الأتراك ابتداء من رئيس الجمهورية عبد الله غول إلى رئيس الوزراء ووزير الخارجية سيقومون بإصدار بيانات ومواقف يوضحون فيها موقفهم الداعي إلى وجوب الإصغاء لصوت الشعب السوري، وسيعملون على توفير الإمكانات التي تُمكِّن المعارضة السورية من التعبير عن نفسها.

ونذكر أن أردوغان كان قد تباحث مع الأسž