مرَّت ثمانية أشهر منذ أقبل محمد البوعزيزي على إحراق نفسه، لكن ما زالت خيبة الأمل والشكوك تخيم على ساحات الثورات العربية؛ حتى إن المرء ليتساءل ما إذا كان الربيع قد تحول إلى صيف استياء؟ ويتساءل ما إذا كانت الإطاحة السريعة ببن علي ومبارك لم تكن الاستثناء؟ وما إذا كانت الخلافات والارتياب في تونس ومصر قد حلَّتا محل وحدة الشعب الأولى؟
وما إذا كانت البنيات العسكرية والاجتماعية القديمة ما زالت قائمة، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية، خاصة البطالة، والتي كانت السبب المباشر لقيام الثورة؟ وفي أماكن أخرى، يقاوم الدكتاتوريون بشراسة؛ وحتى إن أطيح بهم في النهاية، فقد يخلِّفون وراءهم حربًا أهلية أو على الأقل صراعات بين جهات عرقية أو قبلية أو إقليمية أو دينية، وجيرانًا لا يستطيعون أو لا يريدون التدخل بشكل حاسم.
النصر الأخلاقي: مكسب لا رجعة فيه
ما لفت الأنظار أكثر كان الشجاعة والصمود اللذين أبان عنهما السوريون الذين استمروا في التظاهر وهم على علم بأن منهم من سيتعرض لإطلاق النار. هذا هو النصر الأخلاقي والنفسي للثورات العربية |
أعطت سوريا خلال الأشهر القليلة الماضية أوضح مثال على القمع العنيد الذي مارسه الحكام دون رحمة أو تمييز. لكن ما لفت الأنظار أكثر كان الشجاعة والصمود اللذين أبان عنهما السوريون الذين استمروا في التظاهر وهم على علم بأن منهم من سيتعرض لإطلاق النار. هذا هو النصر الأخلاقي والنفسي للثورات العربية التي حتى إذا ما هُزِمت سياسيًّا وعلى المدى القصير، ستكون لها حتمًا انعكاسات طويلة الأمد على الطريقة التي يرى بها العرب أنفسهم ويراهم بها العالم.
قد نعذر اندهاش باحث أوربي -ليس متخصصًا في العالم العربي، ويُلِمُّ بالثورات بصفة عامة- من أوجه الشبه والدروس المستنبطة من الثورات الأوربية، خاصة سلسلة الثورات التي شملت كل أوربا، قبل زمن مواقع الإنترنت: فيسبوك وتويتر، من خلال تفاعل متسلسل حقيقي عام 1848. كان الوضع يختلف من بلد لآخر وكذلك الدوافع الأساسية: التغيير السياسي والاجتماعي في فرنسا، والاستقلال في المجر والبلقان، والوحدة الوطنية في ألمانيا. كلها أُخمِدت بطريقة أو بأخرى، لكنها زرعت بذور حركات وتحولات أدت إلى انتصار أصحابها، ولو بعد وفاتهم، في القرن العشرين.
وتبدو ثورة 1848 في فرنسا أشبه ما تكون بما قد يحدث في مصر. ففي فبراير/شباط 1848، وحَّد المفكرون: ليبراليون واشتراكيون، إضافة إلى العمال والطبقة الوسطى حديثة التكوين، صفّهم ضد الملكية. وفي يونيو/حزيران، قمعت البورجوازية والجيش الثوار والعمال بعنف، ثم بعدها بفترة قصيرة، حلّت محل الجمهورية إمبراطورية نابليون الثالث قبل أن تنسحب مرة أخرى تاركة زمام الأمور للنظام الجمهوري.
ولا شك أن الثورة الفرنسية لعام 1789 مثيرة للاهتمام بطريقتها الخاصة؛ إذ كانت نموذجًا لثورة 1848 ونظيرتها الروسية لعام 1917؛ فما كان يبدو نصرًا وتصالحًا عام 1790، أعقبه عهد من سلطان الرعب في سنة 1793. وحسب مقولة شهيرة؛ فإن "الثورة بدأت تأكل أبناءها" (وهي ظاهرة حاضرة أيضًا في ثورات 1989 في أوربا الشرقية ولو بشكل غير عنيف؛ فالمنشقون الذين بدأوها هُمِّشوا كلهم أو نُبذوا من الحياة السياسية).
وقد أدّت الثورة الفرنسية إلى الكثير من الجرائم والحروب، وأيضًا إلى عودة الملكية وإلى حكم إمبريالي لجنرال سابق. ومع ذلك، امتدحها هيجل على أنها "فجر عظيم" وانقلاب كامل للأمور، استنادًا على فكرة أن المجتمع السياسي قد يقوم على حقوق الأفراد والمواطنين. وقبل هيجل، رأى "إيمانويل كانْت"، الذي رفض الكثير مما أقدم عليه الثوار بدءًا من إعدام الملك الفرنسي، في التعاطف الذي خلقته لدى الرأي العام الأجنبي رؤية شعب يمسك زمام أموره بيده، دليلاً على وجود "نزعة أخلاقية لدى الجنس البشري" تبرر الأمل في تطوره مستقبلاً.
واليوم، حقّقت الثورات العربية نتائج شبيهة إلى درجة كبيرة؛ فبعد فترة من الانتشار الباهر للديمقراطية، كان الشعور في أميركا الجنوبية وشرقي أوربا أقرب إلى خيبة الأمل والانحلال. كما أن الرأسمالية السلطوية في الصين وروسيا والرأسمالية الليبرالية في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة (حيث يتزايد تهديد الشعبوية الرجعية بتحكم من رؤوس الأموال الكبرى ودعمها للديكتاتوريات في بقية العالم رغم خطابها وحتى نواياها الحسنة في بعض الأحيان) تسيطر على المشهد كما يبدو.
وفي هذا السياق، كان لمبادرة وشجاعة فئة مهمة من الشعوب العربية الفضل في إعادة الإيمان بالديمقراطية إلى الناس في معظم أنحاء العالم وبالتأكيد في أوربا؛ حيث صارت المجتمعات الديمقراطية منساقة وراء الفردانية الأنانية. وها هي اليوم تعيد اكتشاف أمثلة على التضحية في سبيل الحرية والكرامة الشخصية والوطنية.
ينبغي تجديد هذا الإيمان من حين لآخر. وقد حدث ذلك في 1980/1981 من خلال حركة "التضامن" في بولندا.
من المهم جدًا هذه المرة أن يضرب العرب المثل؛ فذلك سيمكنهم من اكتشاف أنفسهم، كما سيمكن بقية العالم من اكتشافهم. في السنوات الأخيرة، بدا على الدول العربية التخلف والتراجع في مجال التنمية الاجتماعية وفيما يخص وزنها على الساحة الدولية، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه قوى أخرى مجاورة مثل تركيا وإيران. وكان لمعظم الدول العربية قيادة بقيت عدة عقود تحكم أغلبية من الشباب. كان هؤلاء الحكام يهتمون بالحفاظ على حكمهم فوق كل اعتبار، ودخلوا في اتفاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل قيّدت قدرتهم على التحرك والاستجابة لتطلعات شعوبهم، بينما يعوضون عن ذلك داخليًا بتبني أجندة وخطاب أكثر معارضيهم تشددا. ولم يجد من يعارضون سياساتهم ونفاقهم من وسيلة إلا الإرهاب.
وسوف يكون للحكومات الديمقراطية حرية أكبر في إتباع سياساتها الخارجية مع الحفاظ على إمكانية إتباع ميول شعوبها؛ فالمزيد من الحرية يعني نسبة مفاجآت أكبر؛ مما يعني بدوره أمنًا أقل؛ فقد يكون هجوم إسرائيلي أو مواجهة صينية أو مواجهة بين مسلمين سنَّة وشيعة أمرًا أكثر احتمالاً. لكن في كل الأحوال، سيخلق ذلك تغييرًا جيوسياسيًّا مهما لما ينطوي عليه من عوامل ذات أهمية عالمية مثل النفط والسلاح النووي.
وداخليًا، سوف يكون من السذاجة الاعتقاد بأن الثورة ستأتي حتمًا بديمقراطية تمثيلية متناغمة أو نظام اجتماعي تنعدم فيه الفوارق والفساد واقتصادٍ لا يشكو من لعنة الأجور الهزيلة.
اليوم التالي بعد سقوط الديكتاتور
كما قلت في البداية: لقد دخلت الدول العربية في مرحلة انقسام وانعدام الثقة. لم يكن صحيحًا يومًا أن ساحة التحرير مثَّلت المجتمع المصري بأكمله، أو أن بنغازي مثلت ليبيا بأكملها. كان بشار الأسد والقذافي يحكمان بالترهيب أولاً وقبل كل شيء، لكن كان في جعبتهما أيضًا ولاء أتباع قبليين ومصالح مجموعات مقربة. ومن المؤكد أن الانتقام والقتال سيشغل ساحات عدد من البلدان، مع ما يلازم ذلك من خطر استغلال الموقف من قبل إرهابيين أو تدخل أجنبي. إن المشاعر القوية التي وصفتها في مقالي السابق حول الدين والاقتصاد (منشور بالقسم الانجليزي في موقع المركز في شهر أغسطس 2010) قد تزيد سوءًا وتؤدي إلى زيادة التعصب والفساد.
العامل الأصعب، والذي يبعث على التشاؤم أكثر، هو العامل الاقتصادي؛ ففي عالم شلَّته الأزمات، ومع انخفاض العائدات السياحية والاستثمارات ومساعدات الدول الغنية التي كانت ضئيلة أصلاً، قد تبقى الدوافع الاقتصادية للثورة قائمة |
لكن هذه المشاعر التي اشتعلت خلال الثورة من أجل الكرامة والحرية لم ترافقها فقط الشجاعة العالية، بل كان هناك أيضًا قدر كبير من ضبط النفس، حتى إنه من المعقول أن يخلق ذلك ثقافة احترام متبادل وتسامح ومسؤولية في شرائح كبيرة من المجتمع. والشباب ذو الأفكار المثالية حافظ على مشاعره، لكن في نفس الوقت تعلّم فن التسوية، وهي جزء من السياسة في الديمقراطية أو الملكية الدستورية.
ربما العامل الأصعب، والذي يبعث على التشاؤم أكثر، هو العامل الاقتصادي؛ ففي عالم شلَّته الأزمات، ومع انخفاض العائدات السياحية والاستثمارات ومساعدات الدول الغنية التي كانت ضئيلة أصلاً، قد تبقى الدوافع الاقتصادية للثورة قائمة، وستتم نسبتها بشكل متزايد مع الوقت لدى جزء من المجتمع والمراقبين من خارج البلاد إلى الثورة نفسها. وقد يؤدي ذلك إلى عدم الاستقرار السياسي أو عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة.
لكن جدير بالذكر أن أحد أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من الثورات العربية أنها حطمت أسطورة الاستقرار الكبير الذي تنعم به الأنظمة السلطوية أو الشمولية (وهي أسطورة كان يرددها عدد من الحكومات الغربية والمستثمرين الخواص). وقد تدوم تلك الأنظمة مدة أطول وقد تتفادى التغييرات المفاجئة، لكنها بالتأكيد تنهار يومًا تاركة وراءها فوضى أعسر على التنظيم أضعافًا مضاعفة إذا ما قورنت بالأنظمة الدستورية. والقلق العظيم الذي واجهت به روسيا والصين هذه الثورات التي اندلعت في بلدان صغيرة وبعيدة جدًا (حتى إن الصين محت كلمت "ياسمين" من شبكتها العنكبوتية) خير دليل على تلك الهشاشة.
عالمية الكرامة الإنسانية
أخيرًا، هناك فكرة خاطئة أخرى قضت عليها الثورات العربية لكنها هذه المرة فكرة ذات أهمية للنظام العالمي برمته، وهي فكرة صراع الحضارات؛ فالعبارة للمفكر الأميركي صامويل هانتينغتون، لكن الفكرة يشترك فيها تنظيم القاعدة والمسيحيون المتشددون والبيض العنصريون والإسكندنافيون المناهضون للتعددية الثقافية. وهذه الفكرة تقوم على أن العالم ينقسم إلى عدد من الحضارات (أو حضارتين اثنتين في بعض الحالات)، عادة ما يحددها دين أو عرق، وهي وحدات متناسقة دائمة، قدرها أن تصارع بعضها من أجل التفوق أو على الأقل أن تحمي هويتها من التلوث بأخرى.
هناك فكرة خاطئة أخرى قضت عليها الثورات العربية لكنها هذه المرة فكرة ذات أهمية للنظام العالمي برمته، وهي فكرة صراع الحضارات |
ثانيًا: يهمل الصراعات الداخلية في قلب كل حضارة بين القبائل والدول المختلفة، والمصالح الاقتصادية والسياسية المختلفة، والمقاربات المختلفة للحياة، والقراءات المختلفة للدين والطرق المختلفة لممارسته.
ثالثًا: هذا الطرح يتجاهل التأثيرات المتبادلة والحوار بين الحضارات والأحلاف، وبين الأفراد والجماعات المنتمية إلى ثقافات مختلفة، لكن ذات عناصر مشتركة مثل العمر والوضع الاقتصادي أو المراجع الثقافية أو وسائل الاتصال.
بالطبع، تُعتبر العولمة نفسها تفنيدًا دائمًا لما سبق، وأيضًا للفكرة المعاكسة أي الإيمان بالوحدة والتناغم وتطابق المصالح والعقائد والأفكار؛ فهي تخلق أنواعًا جديدة من عدم المساواة والغضب والرفض، لكن أيضًا ممارسات مشتركة (من البوذيين الذين أحرقوا أنفسهم خلال حرب فيتنام، إلى الطالب التشيكي يان بالاش خلال الاحتلال السوفييتي، إلى محمد البوعزيزي، إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعية أو الحركات التي ألهمتها الثورات العربية في أوربا مثل "الأنديجينادوس" في إسبانيا. وأهم من هذا وذاك، تبقينا العولمة على اطلاع على الطموحات المتشابهة للشعوب، كالبحث عن الكرامة، والحركات والمبادرات الفريدة لكنها لا تنفك تسعى إلى نفس الغاية.
لا شيء يبرهن على هذه الفكرة وأفكار أخرى غيرها مثل الثورات؛ ولذلك، فان الربيع العربي مهما كان مآله ونتائجه، فهو يستحق اعتراف العالم وجميله وتضامنه.
_______________
فيلسوف وأستاذ العلاقات الدولية