التقارب المالي في منطقة اليورو.. النص والتطبيق

ثمة فجوة بين الأسس القانونية والاقتصادية التي تستند إليها منطقة اليورو وبين ممارسات الدول الأعضاء، فالتناقضات والتجاوزات كبيرة بين المعاهدات والتطبيقات العملية، وعليه فإن مستقبل منطقة اليورو لن يتوقف على معالجة العجز والديون فقط، بل كذلك وبصورة خاصة على التصدي لهذه الفجوة وتلك التناقضات.
201212212120840734_2.jpg
 

ارتفع العجز المالي في الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي (منطقة اليورو) ارتفاعاً كبيراً خلال فترة قصيرة من الزمن، في حين لم يتحسن الناتج المحلي الإجمالي إلا قليلا. فحسب إحصاءات المفوضية الأوروبية (يوروستات لعام 2011) انتقل العجز المالي من 60,1 مليار يورو عام 2007 إلى 550,5 مليار يورو عام 2010 أي بزيادة قدرها 815,9%، في حين ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1,8% فقط، وهي زيادة اسمية وليست حقيقية، لأنها احتسبت بالأسعار الجارية، بل إن بعض الدول كاليونان وأيرلندا سجلتا هبوطاً حتى في القيمة الاسمية.

نجم عن هذه العلاقة بين العجز المالي والناتج المحلي الإجمالي ارتفاع حجم الديون العامة خلال الفترة المذكورة من 5984,8 مليار يورو إلى 7737,2 مليار يورو، أي بنسبة 30,9%، وهو مبلغ يعادل ضعف القيمة الكلية للصادرات النفطية لجميع الدول العربية منذ عام 1986 إلى اليوم.

ولم تعد معايير الاستقرار المالي متوفرة، إذ أصبح العجز المالي يشكل 10,0% من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة، في حين يفترض أن لا يتجاوز 3,0%. كما أصبحت الديون العامة تساوي 82,5% من الناتج المحلي الإجمالي في حين لا يجوز حسب تلك المعايير أن تزيد النسبة على 60,0%.

إن مشكلة مستقبل اليورو لم تظهر على إثر هذا التدهور، بل برزت حتى قبل تداول هذه العملة. ففي التسعينيات طرح السؤال التالي: هل يمكن أن يكتب النجاح لعملة موحدة متداولة في دول مختلفة تفتقر للسلطة السياسية المركزية؟... لقد تبين في الوقت الحاضر مدى أهمية هذه السلطة، وعدم كفاية البنك المركزي الأوروبي الذي لا تمتد صلاحياته إلى السياسات المالية المتبعة في دول المنطقة.

ولكن تمخضت عن تجربة اليورو مشكلة أخرى لا تزال الدراسات حولها نادرة، وستكون محور هذه الورقة. تلك المشكلة تتمثل في هذا التناقض الكبير والخطير بين الأسس القانونية والاقتصادية التي قام على أساسها الاتحاد الاقتصادي والنقدي وبين الممارسات الفعلية للدول الأعضاء، إذ لوحظ تناقضا كبيرا وخطيرا بين هذا وذاك، ولذا فإن مستقبل منطقة اليورو لا يتوقف فقط على معالجة العجز والديون لدى الدول المتعثرة، وإنما سيتوقف أيضا فضلا عن ذلك على التصدي لهذا التناقض ووقف هذه التجاوزات.

المعيار المالي غير مطبق

بموجب معاهدة ماسترخت، ومن بعدها ميثاق النمو والاستقرار، يستند الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي على أربعة معايير مقترنة بمعدلات محددة تحديداً دقيقا: العجز المالي، والمديونية العامة، والتضخم، وسعر الفائدة. ومنذ ظهور هذا الاتحاد وإلى الآن لم يثر المعياران الثالث والرابع مشاكل جدية، لكن الأزمة الحالية ترتبط أساساً بارتفاع العجز المالي الذي يساهم بفاعلية في تفاقم الديون.

يحتل المعيار المالي المرتبة الأولى من حيث أهميته، لأن الميزانية العامة تلعب دوراً مهماً في الحياة اليومية للأفراد، وفي الأنشطة الاقتصادية للشركات، فعن طريقها تفرض الضرائب، وتقرر النفقات العامة المدنية والعسكرية. ويؤثر هذا المعيار على المعايير الأخرى، فعجز الميزانية يؤدي إلى هبوط الاحتياطيات الرسمية وارتفاع المديونية العامة وزيادة معدلات التضخم وأسعار الفائدة. وقد قرر الأوروبيون تحديد المعيار المالي على أساس عجز بنسبة لا تزيد على 3% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة.
 
يقوم الاتحاد إذاً على ضرورة تقليص العجز المالي، في حين لم تستطع الدول الأعضاء تحقيق ذلك. فعند مراجعة إحصاءات المفوضية الأوروبية يتبين بأن المعدل العام للعجز عام 1997 (وهي سنة القياس الرسمية) كان 2,4% من الناتج المحلي الإجمالي، أي في حدود النسبة المتفق عليها. وبمرور الزمن، لم يهبط هذا المعدل كما كان مؤملاً، بل ارتفع ليصل عام 2010 إلى 10,0%. فقد ارتفع العجز المالي خلال هذه الفترة من 2,7% إلى 3,3% في ألمانيا، ومن 3,0% إلى 7,0% في فرنسا، ومن 2,6% إلى 9,2% في أسبانيا، وانتقل الوضع المالي في أيرلندا من فائض بنسبة 0,9% إلى عجز بنسبة 32,4%، أي أكثر من عشرة أضعاف النسبة القصوى المسموح بها بموجب المعيار. إن هذا الرقم القياسي للعجز في أوروبا يترجم خطورة الأزمة المالية التي تمر بها البلاد.

هنالك إذاً فجوة هائلة بين المعيار المالي الذي يستوجب أن لا يتجاوز العجز 3% من الناتج المحلي الإجمالي وما يحدث فعلاً، حيث يصل المعدل العام للعجز إلى ثلاثة أمثال هذه النسبة. ومما يزيد الأمور تعقيداً أن القدرة على معالجة العجز محدودة، لأنها تستوجب زيادة الإيرادات العامة أو (و) الحد من تزايد النفقات العامة، فزيادة الإيرادات العامة تعني فرض ضرائب جديدة أو رفع أسعار الضرائب القديمة، وفي الحالتين تنخفض القوة الشرائية للمواطنين. أما الحد من الإنفاق العام فيعني تقليص فرص العمل في القطاع الحكومي، خاصة في ميادين التعليم والصحة، وكذلك تراجع الإعانات الاجتماعية، وهنا أيضاً تهبط القوة الشرائية وترتفع معدلات البطالة.

إن الاستياء الشعبي الذي عم اليونان ومن قبلها البرتغال وأيرلندا، بل وجميع أنحاء منطقة اليورو نجم عن المحاولات الحكومية لمعالجة العجز المالي حسب مقتضيات التقارب، وهنالك ضغط شعبي (انتخابي) يحول دون التصدي للعجز المالي، ومؤشر اقتصادي يصب في نفس الاتجاه يدعو إلى اتخاذ الإجراءات لتحريك الطلب الراكد.

يتعين من الناحية القانونية أن تنطبق جميع معايير التقارب على الدولة حتى يمكنها اكتساب عضوية الاتحاد الاقتصادي والنقدي، ولكن على الصعيد الواقعي لم يحدث ذلك، حيث انتمت 12 دولة أوروبية إلى الاتحاد، في حين لم تنطبق هذه المعايير في سنة القياس إلا على فرنسا ولكسمبورغ وفنلندا، وإلى حد ما على ألمانيا.

ونلاحظ الموافقة على انتماء كل من إيطاليا وبلجيكا رغم أن مديونية الأولى تعادل 121% من الناتج المحلي الإجمالي ومديونية الثانية وصلت إلى 122% من الناتج المحلي الإجمالي مع العلم أن المعيار يستوجب ألا تتجاوز المديونية 60%. بل ذهب الأوربيون إلى أبعد من ذلك عندما وافقوا في مطلع عام 2001 على عضوية اليونان في اتحادهم، في حين انفردت هذه الدولة بعدم انسجامها مع أي معيار من المعايير الأربعة، حيث بلغ التضخم فيها 5,2% والعجز المالي 4,0% والديون العامة 108,7% وسعر الفائدة 9,8%، وهي أعلى بكثير من المعدلات المسموح بها.

يتضح من ذلك العرض أن المعايير الأوروبية تصبوا إلى أعلى درجة من التقارب، لكن هذا الهدف لم يتحقق. ويتبين مدى أهمية العوامل السياسية التي لعبت ولا تزال تلعب دوراً بارزاً في تخطي مستلزمات معايير التقارب، وبالتالي في زعزعة الثقة بمصداقية المنطقة.

أما النسبة المنخفضة لمعيار المديونية العامة فتشير إلى الرغبة في إنشاء اتحاد نقدي غير مثقل بالأعباء المالية الأمر الذي يبعد المنطقة عن الأزمات المالية المحتملة، وقد بني المعيار في الاتحاد النقدي الأوروبي على أن لا تتجاوز المديونية العامة 60% من الناتج المحلي الإجمالي.

أما على الصعيد الواقعي فقد ارتفعت المديونية خلال تلك الفترة ارتفاعاً كبيرا، إذ لم يكن المعيار منطبقا إلا على ثلاث دول (فرنسا ولكسمبورغ وفنلندا) من مجموع 12 دولة عام 1997. ولم يعد منطبقاً إلا على خمس دول صغيرة من حيث حجمها الاقتصادي (لكسمبورغ وفنلندا وإستونيا وسلوفينيا وسلوفاكيا) من مجموع 17 دولة عام 2010، الأمر الذي يدعو إلى طرح السؤال التالي: ألم يكن من الأجدى رفع نسبة المديونية في المعيار كي تنطبق على غالبية هذه الدول؟، ويمكن طرح نفس السؤال فيما يخص العجز المالي. والواقع إن تحديد نسبة أعلى يعني عدم بذل الجهود للوصول إلى نتائج أفضل وبالتالي بناء منطقة اليورو على أسس هشة سرعان ما تنهار.

مصير الدولة المخالفة للتقارب

لا يزال الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي يتخبط في كيفية معاملة الدولة التي تخالف معيار العجز المالي، في حين أن نصوص المعاهدات واضحة بهذا الشأن، ويمكن تصور الحلول التالية لمعالجة المشكلة:

الحل الأول: إعفاء الدولة المخالفة من عضويتها في الاتحاد، فالاستغناء عن عضو مخالف أفضل بكثير من أن يفقد الاتحاد مصداقيته، لكن قد يوجد هذا الأسلوب مشكلات خطيرة، فهو يفترض عودة العضو المخالف إلى عملته الوطنية الملغية، ويفترض أيضا عودته مرة أخرى للاتحاد بعد معالجة العجز المالي، وهذا عبء ثقيل على الاقتصاد والمواطنين، وكيف سيكون الاتحاد في حالة ارتكاب المخالفات من قبل عدة دول في آن، كما هو الحال في الوقت الحاضر؟. وكان حل إسقاط العضوية غير مستبعد حيال اليونان لولا تدخل العوامل السياسية بحجة أن الاستغناء عنها سيقود إلى تفكيك منطقة اليورو. لكن الأمانة تقتضي القول إنه لو كان الأوربيون يحترمون اتفاقاتهم لما وافقوا منذ البداية على عضوية هذا البلد في اتحادهم.

الحل الثاني: فرض غرامة مالية، أي يبقى العضو المخالف في الاتحاد، لكنه يتحمل غرامة مالية تتناسب مع حجم المخالفة وحجم اقتصاده، لكن هذا الأسلوب يتناقض مع روح الاتحاد التي تستوجب درجة معينة من التضامن والتعاون البيني لا العقاب. ومع ذلك لابد من أن يتحمل العضو المخالف عقوبة مالية تدفعه لإصلاح وضعه المالي وتعطي درساً للآخرين بعدم التجاوز. إن هذا الحل المعتمد في النصوص الأوروبية غير مطبق عملياً رغم التجاوزات المالية العديدة والخطيرة.

الحل الثالث: منح مساعدة مالية، فعجز الميزانية يعكس حجم المشاكل المالية التي تعاني منها الدولة، ولا تؤدي الغرامة المالية إلى معالجتها بل إلى تفاقمها. لذلك يتعين تقديم مساعدة مالية لمواجهة مشاكلها مع بقائها في الاتحاد النقدي، وهذا ما تقتضيه اعتبارات التضامن. لكن اتفاقات الاتحاد الأوروبي تمنع المساعدات للدول التي تعاني من العجز المالي إلا في ظروف استثنائية. أما على الصعيد العملي فقد منحت عدة مساعدات مالية للبرتغال وأيرلندا واليونان لأسباب لا علاقة لها بالظروف الاستثنائية. إن هذا الوضع يقود إلى زعزعة الثقة بمنطقة اليورو ويطرح بجدية احتمال انهيارها.

العقوبات حبر على ورق

في حالة تجاوز الحد المسموح به للعجز المالي يتعين -حسب اتفاقية ماسترخت- فرض غرامة على الدولة المخالفة، لكن هذه العقوبة غير تلقائية، بل تخضع لإجراءات حددتها الاتفاقية تبدأ بتوصية تقدمها المفوضية الأوروبية إلى مجلس الاتحاد الأوروبي (يضم رؤساء دول أو حكومات الاتحاد الأوروبي). وهذا المجلس هو السلطة الوحيدة المخولة باتخاذ القرار بشأن المخالفة والغرامة الناجمة عنها. وتبدأ إجراءات المجلس بتحذير الدولة المخالفة ومنحها مهلة معينة لمعالجة العجز المفرط. ويقرر المجلس أن تدفع الدولة المخالفة وديعة مالية تحجز في حساب خاص بدون فوائد. وتبلغ الوديعة 0,2% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة المخالفة ويضاف إليها 10% من الفرق بين نسبة العجز المفرط ونسبة العجز المقرر في المعيار (الفقرة الأولى من المادة 12 من النظام رقم 1467/97 الصادر بتاريخ 7يوليو/ تموز 1997). ولا يجوز في جميع الحالات أن يتجاوز المبلغ الكلي للوديعة 0,5% من الناتج المحلي الإجمالي (الفقرة الثالثة من المادة المذكورة). وعند عدم اتخاذ أية خطوة لمعالجة العجز المفرط خلال سنتين من تاريخ صدور قرار المجلس تتحول الوديعة إلى غرامة (المادة 13 من النظام).

لتوضيح ذلك نسوق المثال التالي، في عام 2010 قرر المجلس مخالفة بلجيكا لانتهاكها المعيار المالي، ففي تلك السنة بلغ الناتج المحلي الإجمالي فيها 352324 مليون يورو ونسبة العجز المالي المفرط 4,1%. بمعنى أن الفرق بين نسبة العجز المفرط (4,1%) ونسبة العجز في المعيار (3,0%) هو 1,1%. لذلك كان عليها أن تدفع مبلغ الغرامة على الشكل التالي: (352324 × 0,2%) + (352324 × 1,1% × 10,0%) = 1092 مليون يورو.

يستوجب احترام المواثيق خضوع دول منطقة اليورو (باستثناء لكسمبورغ وفنلندا وإستونيا بسبب سلامة ماليتها) إلى العقوبات المالية. ولكن إلى الآن، فإن جميع قرارات مجلس الاتحاد الأوروبي تقتصر على دعوة الدول المخالفة إلى معالجة العجز دون أن يصدر قرار واحد بالغرامة، بل لا توجد حتى وديعة مالية. علماً بأن دول المنطقة اقترفت تجاوزات مالية منذ عدة سنوات. بل إن مهل الدعوات غالباً ما تمدد تحت ذريعة المستجدات الاقتصادية، وبالتالي لا توقع الغرامات. ففي منتصف عام 2009 قرر المجلس منح كل من أسبانيا وهولندا وفرنسا مهلة لتقليص العجز المالي تنتهي في عام 2012. ثم مددها لاحقاً إلى عام 2013. ويؤثر هذا الوضع بلا شك تأثيراً بالغاً على مصداقية الاتحاد.

وهنالك ممارسات أكثر خطورة يمكن أن نضعها في الملاحظتين التاليتين:

الملاحظة الأولى: سمحت معاهدة ماسترخت بعدم فرض الغرامات إذا كان العجز المفرط ناجماً عن ركود اقتصادي، وفي عام 2004 (أي قبل ظهور الركود الاقتصادي العالمي والأوروبي بعدة سنوات) قدم الأوروبيون تعريفاً واسعاً للركود الاقتصادي بحيث تصبح بعض حالات العجز المفرط خارج نطاق الغرامة، الأمر الذي شجع الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي على عدم التردد في تنظيم ميزانياتها العامة بعجز تحت ذريعة ركود لم يكن موجوداً من الأصل.

لم تعد العقوبة رادعة للتجاوزات المالية، وساهم هذا الوضع في تفاقم الأزمة المالية من جهة، وفي فقدان الثقة بالاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي من جهة أخرى. ومن المناسب الإشارة إلى أن هذا التخبط غالباً ما يستخدم من قبل الاقتصاديين في السويد والدانمارك وبريطانيا للتعبير عن ارتياحهم من صحة مواقفهم بعدم انتماء بلدانهم إلى هذا الاتحاد.

الملاحظة الثانية: إن القرارات القضائية ذات الصلة تعاني من ضعف التنفيذ، ففي عام 2003 قدمت المفوضية الأوروبية توصية إلى مجلس الاتحاد الأوروبي بشأن العجز المفرط لكل من ألمانيا وفرنسا، ولكن سعت الدولتان للحصول على تأييد بلدان أوروبية أخرى بعدم إدانتهما. وهكذا لم تتوفر الأغلبية اللازمة في المجلس لإدانة الدولتين، فأصدر المجلس قراراً بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2003 بتعليق التوصية المرفوعة من المفوضية، ولم تقتنع هذه الأخيرة بالقرار فرفعت دعوى ضده أمام محكمة العدل الأوروبية، وفي 13 تموز 2004 صدر حكم المحكمة القاضي بعدم انسجام قرار التعليق مع نصوص معاهدات الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي (القضية رقم 27/04).

لكن المحكمة غير مخولة بفرض الغرامات، لأن هذه العقوبات من الصلاحيات الحصرية لمجلس الاتحاد الأوروبي كما ذكرنا، ولم يعر المجلس أي اعتبار لحكم المحكمة، ولم يتغير أي شيئ باستثناء تصريح لوزير المالية الفرنسي وآخر لوزير المالية الألماني يشيران إلى بذل الجهود لمعالجة العجز المفرط. وعلى الصعيد العملي ارتفع العجز مرة أخرى خاصة في فرنسا.

من ذلك يتضح أنه لا يمكن تغيير وضع اليورو إلا باحترام الإجراءات المتفق عليها، والكف عن الضغوط السياسية للتأثير على القرارات المالية، أي لابد من عقوبات تلقائية، وهذا هو مغزى الاقتراح الألماني الفرنسي المشترك المتخذ بباريس في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2011 والذي سيعرض على الدول الأوروبية الأخرى في  17 مارس/ آذار القادم. ويبدو أن هذا الاقتراح الذي يتطلب تعديل المعاهدة الحالية أو الاتفاق على معاهدة جديدة لم يحظ بترحيب المفوضية الأوروبية حتى إن بعض المفوضين وصفه بالنكتة.

المساعدات ممنوعة لكنها ممنوحة

نصت الفقرة الأولى من المادة 104 من معاهدة ماسترخت على ما يلي: "يمنع على البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية للدول الأعضاء منح مساعدات لمؤسسات الاتحاد والإدارات المركزية والسلطات المحلية والشركات العامة والخاصة للدول الأعضاء". وهنالك نصوص أخرى مماثلة في ميثاق الاستقرار والنمو تحرم بشكل قطعي أية مساعدة لدولة أوروبية تهدف إلى سد العجز المالي، لأن المطلوب هو قيام الدولة بمعالجة مشكلاتها المالية عن طريق مواردها الذاتية، والاستثناء الوحيد على هذا المنع يخص المعونات الناجمة عن الكوارث الطبيعية أو الظروف الاستثنائية الخارجة عن سيطرة الدولة، في هذه الحالة فقط يمكن حسب الفقرة الثانية من المادة 103 من معاهدة ماسترخت تقديم مساعدة مالية شريطة أن تقرر من قبل مجلس الاتحاد الأوروبي بناء على اقتراح المفوضية الأوروبية. ولا أحد يشك في أن العجز المالي الحالي لا يخرج عن السيطرة ومن باب أولى ليس كارثة طبيعية.

ويتعارض هذا التنظيم الواضح مع جميع عمليات الصندوق الأوروبي للاستقرار المالي الذي تأسس في منتصف عام 2010 ويتخذ من بروكسل مقراً له، حيث أصبح هذا الصندوق الذي يعادل رأسماله حوالي ترليون يورو مكلفاً بإخراج اليونان من أزمتها. إن قانونية أنشطة هذا الصندوق تفترض إلغاء الفقرة الأولى من المادة 104 المذكورة والنصوص المماثلة لها. أما التناقض فيتمثل في الإبقاء على هذا النص مع الاحتفاظ بالصندوق. وبالتالي تصبح المساعدات ممنوعة من الناحية القانونية وممكنة من الناحية العملية.

في الختام يمكن القول إن مستقبل الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي يتوقف على احترام الدول الأعضاء للمعاهدات التي تنظم أسس هذا الاتحاد، وهي معايير التقارب. إن انهيار منطقة اليورو (في حالة وقوعه) لا يعني أن هذه المعايير غير سليمة، بل يشير إلى اتباع سياسات مالية تتناقض مع التطلعات والأهداف.
_______________________
صباح نعوش-باحث اقتصادي عراقي

ABOUT THE AUTHOR