الحركات الاحتجاجية العالمية.. الدوافع والتداعيات

الانتقادات والمآخذ التي تعتمدها الحركات الاحتجاجية في أوروبا وأميركا ترمي إلى إعادة النظر في الديناميكية المعقدة لتشابك الأزمتين السياسية والاقتصادية وأزمة المؤسسات القائمة. وحسب الناشطين فإن ديناميكية المطالب المختلفة بطرقها القديمة والجديدة تفرض صياغة نمط جديد من العلاقة بين المواطنين والمؤسسات.
201222275155394734_20.jpg

اتسم عام 2011 بكونه عاما استثنائيا من حيث زخم التعبئة الاحتجاجية عبر العالم، فالسياق الاحتجاجي الذي دشنه سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك لم يلبث أن شمل أوروبا والولايات المتحدة، حيث ظهرت حركات احتجاجية تطالب بمراجعة النموذج الديمقراطي الغربي. وكان ينظر إلى هذه الحركات في البداية على أنها مجرد احتجاجات تقليدية استعارت احتلال الساحات العامة من الحالة المصرية التي أفضت إلى إسقاط مبارك، لكن وجاهة نقدها للطبقة السياسة والديمقراطية "المزيفة" والبنوك والأزمة المالية لفتت بسرعة فائقة اهتمام المجتمعات ووسائل الإعلام الدولية. ومثلت حركة "المستائين" التي انطلقت في إسبانيا في 15 مايو/أيار 2011 بمدريد شرارة الانطلاقة، وظهر صداها سريعا في اليونان، ثم امتد باضطراد طيلة الصيف -ولو بشكل متقطع- إلى عدة مدن عبر العالم وخاصة في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا. وفي سبتمبر/أيلول 2011 جاءت حركة "احتلوا وول ستريت" في الولايات المتحدة لتعطي دفعا جديدا للاحتجاجات الشعبية في الضفة الأخرى من الأطلسي. وتؤشر هذه الاحتجاجات، بغض النظر عن اختلاف بعضها عن بعض، على أزمات عميقة في شرعية المؤسسات القائمة ولذلك يتعين النظر إليها باعتبارها نتاج تضافر مسارات مختلفة.

أصول مختلفة

يعود انتشار هذه الحركات قبل كل شيء إلى تبادل التجارب الاحتجاجية بين الناشطين، ليس فقط داخل كل بلد بعينه وإنما بين البلدان المختلفة. وإذا كانت هذه الحركات قد استلهمت روح الحركات اليونانية والإسلاندية عام 2008 فإنها قد سارت أيضا على نهج المظاهرات الكبرى المنظمة في البرتغال، والتي نسج على منوالها المحتجون في إسبانيا يوم 15 مايو/أيار 2011. وقبل ذلك بنحو شهرين تظاهر يوم 12 مارس/آذار في شوارع المدن الكبرى بالبرتغال ما بين 300 و400 ألف عاطل وشبه عاطل عن العمل تلبية لدعوة أطلقتها حركة (الجيل المعوز). وفي 7 أبريل/نيسان تمكنت جمعية (شباب بلا مستقبل) بإسبانيا -وهي جمعية تنشط في الأوساط الجامعية- من تعبئة عدة آلاف من المتظاهرين (3000 حسب الشرطة و10000 حسب المحتجين) جابوا شوارع مدريد رافعين لافتات كتب عليها شعار الجمعية "بلا مسكن، بلا عمل، بلا عون، بلا خوف". وانضافت هذه المظاهرات إلى مثيلات لها نظمتها مبادرات أخرى حمل بعضها عناوين من قبيل: "لا تصوتوا لهم"، "دولة البؤس" في إحالة ساخرة إلى "دولة الرفاه" التي يبشر بها الخطاب السياسي السائد. وبفضل الإنترنت استطاعت نحو أربعين جمعية طلابية يسارية أن تنسق فيما بينها.

وإذا كانت هذه الاحتجاجات تظهر وتتجسد في الشارع، فإنه ينبغي أن ندرك أنها تبدأ قبل ذلك في التبلور عبر شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت. ففي إسبانيا، ووجه قانون الحماية  من القرصنة الذي أجيز في فبراير/شباط 2011 بانتقاد شديد في أوساط عريضة من الشباب الإسباني رأت فيه وسيلة لبسط الرقابة على الإنترنت، وأضيف هذا القانون إلى إجراءات التقشف التي اعتمدتها الحكومة الاشتراكية ليفجر الغضب الذي كان يعتمل في نفوس أعداد كبيرة من الشباب العاطلين عن العمل، وقامت جمعية (ديمقراطية حقيقية الآن) بترجمة التعبئة على الإنترنت إلى احتجاج فعلي في الشارع عندما أطلقت دعوة عامة للتظاهر يوم 15 مايو/أيار، وتلقفت مئات الجمعيات الإسبانية هذه الدعوة لتحولها إلى تلك الحركة الاحتجاجية الواسعة التي ستعرف باسم "حركة المستائين" أو "حركة 15 مايو". وهكذا انضافت إلى أشكال التعبئة الجماعية التقليدية المتمثلة في الانتساب إلى جمعيات ومنظمات سياسية، ودعمها أشكال جديدة من التعبئة متأتية من التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت.

الميادين رموز للمقاومة

لا بد من الاعتراف بأن الاحتجاجات الكبرى التي شهدتها البلدان العربية المغاربية والمشارقية قد ألهبت الخيال السياسي لعدد كبير من الناشطين عبر العالم. ففي إسبانيا كان احتلال ميدان "لا بلازا ديل سولو"  وسط مدريد محاكاة لاحتلال المصريين في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2011 لميدان التحرير في قلب القاهرة، وقد أفضى إلى نوع من الديناميكية التعبوية انتشرت في مدن إسبانية أخرى وامتدت إلى عدة بلدان أوروبية. وهكذا برزت "حركة المستائين" بوصفها فاعلا سياسيا حقيقيا. وفي اليونان استقطب ميدان "سينتاغما" آلاف الأشخاص المحتجين يوم 5 يونيو/حزيران 2011، وفي بلجيكا تصاعدت الاحتجاجات خلال الصيف وشملت بروكسل ولييج ونامور وإيكسل، وفي فرنسا سرت عدوى احتلال الميادين إلى مدن ليوه وبو وحي الأعمال في"لا ديفانس" بباريس، وفي الولايات المتحدة انطلقت حركة "احتلوا وول ستريت" يوم 17 سبتمبر/أيلول 2011 بدعوة من مؤسسة "آلبوسترز" وجمعية "آنونيموز" للاحتجاج ضد وول ستريت، وتوافد مئات المتظاهرين إلى حديقة "زيكوتي" قرب بورصة نيويورك حيث نصبوا خيامهم وغيروا اسم الحديقة إلى "ميدان الحرية"، وعشية التاسع من أكتوبر/تشرين نظمت مظاهرات مماثلة في 70 مدينة أميركية كبيرة، ومن وحي هذه الحركات نظمت مظاهرات مماثلة في عدة بلدان أخرى، لكن المحتجين فيها لم يرابطوا في الساحات والميادين. وعموما فإن ضعف التعبئة وصرامة السلطات البلدية وقوى الأمن تفسر محدودية انتشار هذا النوع من الاحتجاجات.

ولا شك أن هذه الاحتجاجات مهمة كلها، وقد اعتمدت نموذجا موحدا في التنظيم يتمثل في احتلال أماكن رمزية، وتوظيف واسع للشبكات الاجتماعية، وهو ما أكسبها قوة في الحركة، وقدرة على إشراك الجميع في الاضطلاع بالمهام المختلفة. وقد استوحت هذه الحركات كثيرا من إستراتيجيات الحركات السلمية الأوروبية في الثمانينيات وحركة مناهضة العولمة في العقد الأول من القرن الحالي. وعلى الرغم من الخصوصيات الوطنية التي تشكل هوية كل واحدة من هذه الحركات، فإن هذه الحركات الجديدة يمكن أن ينظر إليها في مجملها بوصفها حركة دولية واحدة عابرة للقارات. فالمظاهرات التي نظمت في بروكسل يوم 15 أكتوبر/تشرين 2011 وتزامنت مع تنظيم مظاهرات مماثلة في 45 دولة قد بينت أن الاحتجاج اخترق الحدود بين الدول. ولكن من الصحيح أن تنظيم "هذا اليوم الدولي" سبقه تصاعد للاحتجاجات في مختلف أنحاء العالم. فالناشطون في كل بلد كانوا يتابعون ما يجري في البلدان الأخرى للاقتباس منه وتكييفه مع ظروفهم ومقتضيات بلدانهم.

ومن الميزات التي تقرب هذه الحركات من الحركات الدولية في السنوات السابقة أنها استطاعت أن تطور على الأرض نماذج ناجحة في التنظيم الذاتي الأفقي حيث تؤخذ القرارات بالإجماع، على عكس النموذج العمودي.

وقد بلورت هذه الحركات خطابا جديدا يقدم الديمقراطية التشاركية بديلا للديمقراطية المباشرة من أجل ضمان الانفتاح والشفافية. كما تبنت مشروعا للتسيير الذاتي ووضعت أسسا أولية للنظام السياسي المنشود. ففي داخل حركة "احتلوا وول ستريت" كانت الجمعيات العامة تحظر تقديم أي مطالب خصوصية غير ديمقراطية في نظرها.

وعلى غرار ما جرى في ميدان التحرير فإن أعمال النظافة كانت تندرج في صلب الخلاف بين المتظاهرين والسلطات. فعندما كانت السلطات تتهم المحتجين بأنهم السبب في مشكلة متعلقة بالصحة العامة لتبرير إخلاء الساحات، كان هؤلاء في مختلف البلدان يبادرون إلى تنظيف الساحات والميادين بأنفسهم. وعندما كانت قوى الأمن تقوم بعمليات إخلاء كان المتظاهرون يعتمدون إستراتيجية دفاعية تنبذ العنف. ويظهر كل هذا أن احتلال فضاء ما ينتج دلالات لا تقل أهمية في مغزاها عن مطالب الحركات وخطابها.

وهكذا يتضح أن أشكال الاحتجاج الجماعي التقليدية كالمظاهرات والاجتماعات والإضرابات باتت تنافسها أشكال جديدة هي وليدة تطور المجتمعات. والتفافا على آثار تفكيك المخيمات التي أقيمت في ميدان بيورتا ديلسول وسط مدريد، حاول المحتجون في جمعية عامة يوم 12 يونيو/حزيران أن يثبتوا أن احتلال الميادين هو مجرد وسيلة للاحتجاج وليس هدفا نهائيا للحركة. وإذا كانت أكثر من 120 جمعية عامة للأحياء في العاصمة الإسبانية استمرت في إتاحة فرصة التعبير للمواطنين، إلا أنه مما لا شك فيه أن تفكيك المخيمات قد أسهم في إضعاف الحركات الاحتجاجية.

خطاب أخلاقي

لم يتوقف النقد الاجتماعي عند حدود ساحات الاحتجاج التي تم احتلالها وسط المدن، بل تمت بلورة خطاب جديد، وظهرت مطالب تتمحور حول العمل. ولا غرابة في ذلك، فالحركة هي إفراز للأزمة الاقتصادية. وقد غذى الاحتجاجات تدهور أوضاع شريحة واسعة من الشباب بينها حملة دبلومات لم يحصلوا على فرص للاندماج في المجتمع.

لكن هذه الحركات تعكس الاختلافات القائمة بين البلدان المختلفة، فالوضع الاقتصادي السائد في كل بلد كان يحدد طبيعة المطالب والشعارات الخاصة به. ففي إسبانيا مثلا، كان الكثير من المحتجين شبابا ينقمون على إقصائهم من سوق العمل، وهو أمر مفهوم إذا علمنا أن 50 بالمائة ممن هم دون الخامسة والعشرين من العمر يعانون من البطالة، فنسبة البطالة في صفوف الشباب كانت تضاعف مرتين نسبتها في صفوف الشرائح الأخرى (44 % مقابل 21% في مارس/آذار 2011). أما في اليونان، فكانت البطالة سائدة لكن المحتجين كانوا ينتفضون ضد المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والاتحاد الأوروبي التي كانت تفرض عليهم من خلال حكومتهم إجراءات تقشف صارمة. أما في فرنسا فإن إدماج الشباب في سوق العمل كان يتم بشكل فعلي وإن اتسم بالبطء غالبا، وهو ما يفسر ضعف التعبئة. أما حركة الاحتجاج الأميركية فقد ظهرت في سياق أزمة اقتصادية أفضت إلى تقليص عدد الأشخاص الحاصلين على عمل بـ 5,2 مليون بين 2007 و2010. ومع أن عدد العاطلين الإضافيين عن العمل في هذه الفترة قارب العشرة ملايين فإن الشباب الأميركي كان أقل تضررا من الأزمة من الشباب الإسباني، ففي بلد تبلغ فيه نسبة البطالة في صفوف الشباب ما بين 16 و19 سنة نحو 25% فإن المتظاهرين يحتجون على رموز الرأسمالية ممثلة في وول ستريت أكثر مما يحتجون على آثار الأزمة على سوق العمل.

ومع كل هذا، يجب أن نتنبه إلى أنه في مجمل هذه البلدان وفي ظل الأزمة الاقتصادية فإن حركة الاحتجاجات كانت تستفيد من حركات التذمر العادية التي كان يقوم بها عمال يدويون وموظفون وعاطلون عن العمل والتي لم تكن ترتبط بالحركة الجديدة، ولم يكن لها خطابها المميز حيث كانت تستقي شعاراتها من الأدبيات الماركسية المناهضة للرأسمالية. أما "المستاؤون" الأوروبيون والأمريكيون فقد طوروا خطابات تشبه تلك التي كانت سائدة في التعبئات المغاربية وخاصة لدى حركات حملة الشهادات العاطلين عن العمل في المغرب.

ومع أن مواضيع التعبئة كانت تقترب شيئا فشيئا من تلك السائدة لدى الحركة العمالية، إلا أن الخطاب الجديد كان يستقي من سجل خاص. فحقل مطالب النزاعات الهادفة إلى الدفاع عن مصالح خاصة بفئة معينة (العمال، الشباب، مجموعات من السكان، الخ) سينغرس من الآن فصاعدا في سجل خطاب أخلاقي. وهكذا باتت الاحتجاجات بمثابة استجابة للدعوة التي أطلقها الدبلوماسي والمقاوم الفرنسي السابق "ستيفان هيرسل" في مؤلفه "عليكم أن تستاؤوا". وقد لاقى الكتاب رواجا كبيرا في المكتبات الفرنسية، وترجم إلى الكثير من اللغات. ومن الأدلة على التأثر بهذا الكتاب أن تجمع "ديمقراطية حقيقية الآن" كان ينادي حتى قبل مظاهرات 15 مايو بإسبانيا إلى إحداث تغيير يضمن الكرامة. وقد عمق "المستاؤون" بشكل خاص هذا السجل الأخلاقي في مهاجمتهم لعالم المال والاقتصاد. واعتبر هذا الخطاب بمثابة مؤشر على سريان الوهن في أوصال الدولة الرأسمالية، وصرخة ضد خصخصة أركان الرفاه الثلاثة وهي الصحة والتعليم والثقافة. ويكفي أن نسوق مثالا واحدا على ذلك، فمخيمات المحتجين في مدريد حررت بيانا لخص المطالب التي نوقشت خلال الجمعيات العامة بناء على اقتراحات اللجان. ونص هذا البيان بشكل خاص على ضرورة احترام الحقوق الأساسية المتمثلة في حقوق السكن والعمل والثقافة والصحة والتعليم وحرية التنمية الذاتية والحق في الحصول على المواد الاستهلاكية الضرورية.

أما في الولايات المتحدة، فإن حركة "احتلوا وول ستريت" لم تسع إلى تقديم مطالب محددة قبل أن تضمن بلورة برنامج سياسي. وقد انطلقت الحركة في تصوراتها من التمييز التقليدي القائم الذي تتبناه النقابات.  وهي تقدم نفسها باعتبارها حركة من أجل الديمقراطية، وقد قامت بالضغط على الهيئات النقابية كي تضفي صبغة سياسية على عملها ولا تبقى كما درجت على ذلك حبيسة الحدود التقليدية بين المؤسسات القائمة. وركزت الحركة على آثار التمييز والتحولات في العمل الرأسمالي مروجة في الوقت ذاته لقيم المساواة. ورأت الحركة أن إعادة توزيع السلع الاجتماعية سيكون أمرا خلاقا، وكان الهدف من رفع شعار "نحن نمثل 99%" الترويج للفكرة القائلة بأن الثروة والسلطة تتركزان في أيدي قلة من الناس لا تكاد تتجاوز 1%. والخلاصة المنطقية التي يدفع هذا الشعار إلى تبنيها هي أن الـ 99% الباقين يجب أن يستعيدوا السيطرة على السلطة والثروة في العالم. وإذا كان المتظاهرون في بداية الاحتجاجات حاولوا حماية  الطبقة المتوسطة فإنهم لم يلبثوا أن وسعوا نطاق نقدهم باعتماد خطاب أكثر شعبوية.

من أجل ديمقراطية حقيقية

إن استيعاب الخطاب الاحتجاجي الجديد للمطالب القديمة الخاصة بعالم العمل جعل العلاقة بين الحركات الجديدة والمؤسسات التقليدية تختلف من بلد لآخر، مع أن من العوامل المشتركة بين هذه الحركات رفضها للسياسة في أشكالها القديمة، وهذا ما يجعلها تشكل قطيعة مع الحركات الاحتجاجية التي تغلب عليها صبغة الأدلجة كحركة مايو 1968 بفرنسا، وهو ما يفسر أيضا عدم إفراز هذه الحركات لقادة وزعماء، فالسلوك الذي ساد مخيمات الاحتجاج في أوروبا كان يتيح غالبا للناشطين فرصة التحرر من أي التزام سابق تجاه أي مجموعة أو منظمة أو حزب.

 أما حركة "احتلوا وول ستريت" فكانت لها علاقات وطيدة بالنقابات، فقد انضمت عدة نقابات لموكب الاحتجاج أثناء مظاهرات الخامس من أكتوبر/تشرين 2011 بنيويورك. لكن الطابع الغالب على الحركات الاحتجاجية هو نقد الأحزاب السياسية، وهذا ما تؤكده أكثر الشعارات ترديدا في المظاهرات الإسبانية ومنها: "ليس هناك ما يكفي من الخبز لكل هؤلاء الخداعين"، "لا لا... إنهم لا يمثلوننا"، "يسمون هذا ديمقراطية وليس الأمر كذلك". فالطبقة السياسية في مجملها تتهم بسوء تسيير الميزانيات خلال سنوات طويلة، كما أن بعض المسؤولين توجه إليهم تهم فاضحة كالإهمال والعجز والإثراء على حساب العمال.

أما الإصلاحات المقترحة فكانت تختلف باختلاف حساسيات المحتجين، فالبعض كان يكتفي بالمطالبة بتفهم قليل من الطبقة السياسية ويرى أن المسؤولين السياسيين في أغلبهم لا يكترثون بهموم الناس، والبعض كان يريد إصلاحا لقانون الانتخابات، وكان آخرون ينادون بثورة تفضي إلى إقامة ديمقراطية حقيقية تكون فيها المشاركة السياسية المباشرة للسكان هي الطريق إلى الحكم. فالديمقراطية بالنسبة لهؤلاء لا تتحقق إلا من خلال الشعب، والحكومة يجب أن تنبثق من الشعب وتمثله. وهكذا تمتزج في الخطاب الاحتجاجي الأبعاد الاقتصادية والسياسية، فإذا كانت غاية الديمقراطية هي تحقيق رفاه المجتمع فإن المسؤولين السياسيين يرقون إلى الرفاه والثراء الشخصيين بفضل انصياعهم لأوامر الدوائر الاقتصادية. 

وعموما فإن الانتقادات والمآخذ التي تعتمدها الحركات الاحتجاجية في أوروبا والولايات المتحدة تهدف إلى إعادة النظر في الديناميكية المعقدة لتشابك الأزمتين السياسية والاقتصادية وأزمة المؤسسات القائمة. وحسب الناشطين، فإن ديناميكية المطالب الاجتماعية والثقافية والسياسية وأشكال العمل الجماعي المختلفة بطرقها القديمة والجديدة تفرض صياغة نمط جديد من العلاقة بين المواطنين وبين المؤسسات. والحقيقة أن ضغط الاحتجاجات الجديدة بلغ درجة من القوة دفعت السياسيين التقليديين بمن فيهم المتربع على قمة السلطة في أميركا إلى الاعتراف بمزاياها. فقد قال باراك أوباما يوم 6 أكتوبر/تشرين 2011: "إن هذه المظاهرات تعبر عن توجس بات يتسع باستمرار من الطريقة التي يتم بها تسيير نظامنا المالي".

وإذا كان من السابق لأوانه الحكم على آثار هذه الحركات الاحتجاجية على تسيير الديمقراطيات الغربية، فإنه بالإمكان التأكيد اليوم على أن هذه الحركات نجحت في إعادة صياغة الفضاء العام وهي تقوم بعملية إثراء حقيقي حينا وافتراضي أحيانا لحقل العمل الجماعي التقليدي الهادف إلى نقد الدولة وعالم المال والاقتصاد. ويمكن لهذه الحركات الاحتجاجية أن تلعب دور جماعة ضغط أخلاقي خلال الحملات السياسية وهي تبشر بمجتمع فاضل بدل مجتمع الفساد الذي تقف ضده.
________________________
ديديه لاوساووت-أستاذ محاضر بجامعة باريس 8 . ترجم النص من الفرنسية إلى العربية محمد بابا ولد أشفغ.  

 

ABOUT THE AUTHOR