استقطاب دولي جديد، والموقف منه؟

يتحدث التقرير عن استقطاب جديد يدل عليه الفيتو الروسي الصيني الأخير، الذي جاء في مواجهة مشروع قرار عربي غربي بخصوص الوضع في سوريا.
201222974551286734_2.jpg

وصل الأمر بكلٍ من روسيا والصين إلى حد استخدام الفيتو في وجه قرار حظي بموافقة 13 عضواً من 15 عضواً في مجلس الأمن، ضمّ في من ضم الهند وجنوب إفريقيا وباكستان وأذربيجان. وهذه الدول كانت لآخر لحظة أقرب للموقف الروسي من جهة إدخال تعديلات على مشروع القرار. ولعل أهم من ذلك أن يصل الأمر بروسيا والصين إلى استخدام حق الفيتو في وجه قرار وضعت الجامعة العربية كل ثقلها إلى جانبه، فضلا عن حساسيته بالنسبة إلى قطاع هام من الرأي العام العربي.

من هنا، لا بدّ من تفسير دقيق لموقف كل من روسيا والصين أمام كل هذا الحرج الذي واجهتاه في استخدام الفيتو لإسقاط مشروع القرار حتى بعد إجراء عدد من التعديلات عليه، ولكن دون السقف الذي طالبتا به.

بالتأكيد لا تفسير إلاّ في قراءة المستويات التي وصلها التناقض ما بين أميركا وأوروبا من جهة، وكل من روسيا والصين من جهة ثانية. فمشروع القرار، وبالرغم من واجهته العربية، وموضوعه السوري، عومِل من جانب كل من روسيا والصين باعتباره مواجهة أميركية ضدّهما، وهو ما كشفه الحراك الأميركي-الفرنسي-البريطاني على مستوى وزراء الخارجية في دعم مشروع القرار، كما تكشفه ردود أفعال هذه الدول على استخدام الفيتو.

صرح وزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو مباشرة في تعليقه على الموقف الروسي بأنه موجّه ضدّ أميركا، أي بمعنى أن الدافع الأساسي وراءه هو مواجهة أميركا. وهذا أمر بديهي حين تُنقل أيّة قضية من قضايا بلدان العالم الثالث إلى مجلس الأمن، إذ تصبح تحت رحمة صراع الدول الكبرى فيما بينها، فلا تعود قضية لذاتها، أو تُبحث بذاتها. ومن هنا، علّمت التجربة التاريخية لهذه البلدان، وفي مقدمّها القضية الفلسطينية خطأ التوجّه إلى مجلس الأمن، وذلك إذا لم يُرَد أن تدخل القضية في "لعبة الأمم"-لعبة الدول الكبرى- وتتحوّل إلى ضحية في تلك اللعبة. فمن هنا أيضا توجّب اتخاذ موقف مبدئي ضدّ اللجوء إلى مجلس الأمن، وضدّ وضع مصير أيّة قضية بين يديه. وهذا ينطبق على الحالتين، أي عندما يتوافق الكبار على قرار، أو عندما يتنازعون سواء بسواء، لأن النتيجة في الحالتيْن لا بدّ من أن تكون سلبية على القضية في حدّ ذاتها.

إن استخدام الفيتو الروسي-الصيني المشترك يدل دلالة واضحة على أن العلاقات الدولية دخلت في هذه المرحلة إلى مستوى من الصراع أقفل مرحلة العقديْن اللذيْن تليا انتهاء الحرب الباردة. وذلك لأن الفيتو هنا لم يمسّ قضية تخصّ الأمن القومي الروسي أو الصيني مباشرة، أي ليست في فناء الدار كما حدث مثلاً في بعض الحالات الخاصة جدا روسيا أو صينيا (أبخازيا أو تايوان). ولهذا يكون الوضع الدولي كما يكشف عنه هذا الفيتو قد دخل مرحلة جديدة طوت مرحلة العقديْن الماضييْن: مرحلة استقطاب جديد تقف أميركا وأوروبا في أحد قطبَيْه فيما تقف روسيا والصين في قطبه الآخر.

على أن الحسم في هذا الاستنتاج باعتباره أصبح الاتجاه العام لصراع دولي يتزعمّه القطبان المذكوران ما زال متوقفا على نتائج الانتخابات الروسية القادمة في حالة تمكّن بوتين من كسب معركتها الداخلية أولاً، ثم كيفية تصرّف الإدارة الأميركية القادمة إزاء روسيا بوتين ثانيا، ثم ثالثا هل القرار الأميركي الذي تقدّمت به إدارة أوباما بنقل أولويتها الإستراتيجية باتجاه المحيط الهادئ وعلى التحديد احتواء الصين وحصارها سيصبح قرار إجماع أميركي بين الحزبيْن الجمهوري والديمقراطي لمرحلة العشر أو العشرين سنة القادمة أم لا؟. ثم رابعا هل ستسعى أميركا في حالة الإجماع المذكور، وفي حالة رسوخ قيادة بوتين لروسيا إلى تحييد روسيا ومساومتها أم ستكرّس العداء لروسيا والصين في آن واحد؟. والسؤال: في حالة السعي لتحييد عهد بوتين الجديد كيف سيكون موقف بوتين أمام هذا الإغراء؟.

في هذه الأيام وإلى الانتخابات الرئاسية الروسية، ستتجّه سمة الانقسام إلى الاستقطابيْن اللذيْن تكشّف عنهما الفيتو في مجلس الأمن، لأن أميركا وأوروبا مصممتان على إسقاط فلاديمير بوتين في الانتخابات المذكورة أو إخراجه رئيسا مشكوكا بنـزاهة صناديق الاقتراع التي أخرجته.

منذ أن تدخلت إدارة أوباما تدخلا مباشرا وبفظاظة في انتخابات البرلمان الروسي (الدوما) الأخيرة، واتهمت حزب بوتين بالتزوير، وحرّضت علنا على تحريك الشارع ضدّه، ولم تزل، أصبحت في حرب ضروس مع بوتين، الأمر الذي يجعل الموقف الروسي في مجلس الأمن أشدّ حسما عشرات المرّات في مواجهة أميركا مما كان عليه في أثناء طرح الموضوع الليبي في مجلس الأمن. فالصراع بينهما في الموضوع الليبي لم يكن وصل إلى ما وصل إليه بعد الانتخابات الأخيرة لمجلس النواب الروسي.

هذا ما كان يجب أن يُلحظ قبل طرح المشروع العربي في مجلس الأمن. ولهذا فإن أميركا وأوروبا شجعتا على طرحه من أجل "مقاتلة الناطور وليس أكل العنب". فالفيتو الروسي، في الأقل، إن لم يكن الصيني أيضا، كان مسألة حتمية لا محالة. والسبب هو الحرب التي شنّتها وتشنّها أميركا على بوتين في معركتيْه الانتخابيتيْن، وهي حرب تستهدف بلا شك تفكيك روسيا وإعادتها إلى عهد يلتسين. ثم أضف السبب الذي لا يقلّ أهمية وهو الإعلان عن نقل أولويات الإستراتيجية الأميركية لمواجهة الصين في آسيا والمحيط الهادئ، الأمر الذي جعل الفيتو الصيني شبه حتمي بالرغم مما أبدته الصين من مرونة وانفتاح في عدم إيصال مشروع القرار إلى فرض استخدام الفيتو عليها.
 
من الآن وحتى نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية وتداعياتها سيكون الصراع والاستقطاب محتدمَيْن بين كل من أميركا وأوروبا من جهة، وروسيا والصين من جهة ثانية. وهو ما سينعكس بقوّة على الوضع العالمي، وعلى كل قضايا الصراع الإقليمية ولا سيما في إيران والخليج وسوريا وتركيا والضفة والقطاع ولبنان والأردن ومصر وتونس والجزائر والمغرب، ناهيك عن السودان الذي يقف على حافة حرب بين شماله وجنوبه.

هذا الاستقطاب العالمي سيعكس نفسه في كل الصراعات الأخرى في محاولة لاستخدامها والإفادة منها، علما أن موازين القوى التي يعمل في إطارها تختلف نوعيا عن تلك التي عمل في إطارها نظام القطبيْن في مرحلة الحرب الباردة. فالقطب الأميركي-الأوروبي في أضعف حالاته اقتصاديا وماليا وحتى عسكريا، عدا في مجال القوّة النارية والنووية والصاروخية (الضعف في تعبئته الجيوش والقدرة على الاحتلال). أما سياسيا، فالقوّة تتعايش مع الضعف وتعتمد على المعادلات السياسية الإقليمية.

أما القطب الروسي والصيني فمعادلة قوّته وضعفه تختلف نوعيا عما كان عليه القطب السوفياتي ومعسكره في مرحلة الحرب الباردة، فكل من روسيا والصين تملكان معادل نووي وصاروخي يجعل أيّة حرب نووية ضد أيّ منهما بمثابة الدمار الشامل للغرب وأكثر. ربما كانت الصين الدولة الكبرى الوحيدة الصاعدة اقتصاديا وماليا، والأكثر قدرة على الدعم والمساعدة، وهي الأسهل في التعامل الندّي معها، فيما تظل روسيا قادرة على توسيع نفوذها ودورها السياسي العالمي.
 
إذا ما تبلور الاستقطاب القادم، كما يبدو، في هذه الأيام، أي بعد تجاوز الاشتراطات السابقة الذكر فالعالم سيواجه نمطا جديدا تماما من ناحية العلاقات الدولية والتكتلات، ومن المهم الآن التركيز على ما سيعكسه الاستقطاب الراهن خلال الأشهر القليلة القادمة على التحديّات التي ستواجهها البلاد العربية، وفي المقدّمة سوريا، فإيران ولبنان والعراق وتركيا والقضية الفلسطينية، الأمر الذي سيعقّد رسم السياسات على اختلافها بما فيها سياسات الأنظمة الوليدة في مصر وتونس واليمن وليبيا والمغرب.

في مرحلة الحرب الباردة كان الموقف من القطبيْن ومعسكريْهما يحدّد سياسات الدول من جهة، وولدت من جهة ثانية حركة دول عدم الانحياز أو سياسات الحياد الإيجابي. ففي هذه المرحلة كان المعسكران قويين، وكانت ضغوطهما على الدول الأخرى عالية جدا وتلعب دورا حاسما في إخضاعها أو في دفعها إلى التحالف أو التقارب مع الطرف الآخر. وكان الحياد الإيجابي يحتاج إلى قدرة على تحدّي المعسكريْن، ولو بتفاوت حسب كل حالة، ولهذا كانت بحاجة إلى تضامن دول عدم الانحياز لتشكيل كتلة ثالثة قادرة على الصمود والفعل.
 
في المرحلة الراهنة يتشكل الاستقطاب في ظروف تراجع كبير للنفوذ والقوّة لكل من أميركا وأوروبا، كما في ظروف عدم رغبة لدى الصين في الدخول في حالة استقطاب. فمعادلة الوضع الدولي الذي تشكّل خلال العقدين الماضييْن كانت مناسبة جدا لتطوير قدراتها العسكرية والتكنولوجية والإنتاجية والتجارية. ولهذا فإنه لا رغبة لديها للانتقال إلى حالة استقطاب، ولكنها إذا اضطُرّت لذلك بسبب محاولة أميركا استعداءها وحصارها واحتواءها فستذهب إليه لا محالة، وعندئذ سيكون للصين سياسة دولية مختلفة عن سياستها في العقديْن التالييْن لانتهاء الحرب الباردة.

وروسيا أيضا ذاهبة إلى الاستقطاب عن غير رغبة فيه، فقد استطاعت خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في عهدَي بوتين وعهد ميدفيديف أن تستعيد تماسك دولة الاتحاد الروسي التي كانت آيلة إلى التفكك في عهد يلتسين طوال تسعينيات القرن العشرين. وأصبحت مرّة أخرى دولة كبرى، وهي التي تمتلك قدرة عسكرية هائلة. الأمر الذي ولّد لديها الطموح للعب دور الشريك للولايات المتحدة الأميركية في السياسات الدولية. وقد راح هذا الطموح يتزايد مع تدهور النفوذ الأميركي عالميا، ومع مسلسل الإخفاقات التي مُنِيَت بها إدارة بوش الابن وهي تحاول إعادة "بناء شرق أوسط جديد". ولهذا فروسيا بوتين ذاهبة إلى الاستقطاب ما دامت إدارة أوباما قد قرّرت المضيّ بعيدا في نصب الصواريخ المضادّة للصواريخ في أوروبا، وما دامت ذاهبة بقوّة للتحريض ضدّ بوتين وحزبه في الانتخابات الروسية البرلمانية والرئاسية. وذلك بهدف إعادة اليلتسينية المؤمركة-المصهينة إلى روسيا.
 
من هنا، يكون العالم قد دخل مرحلة استقطاب من نمط يختلف جوهريا عن نمط الاستقطاب الذي عرفته الحرب الباردة. ولكنه يظل حالة استقطابية دولية ستحمل سماتها الخاصة وستختلف عن الحالتيْن القطبيتيْن اللتيْن عرفهما العقدان الماضيان بعد انتهاء الحرب الباردة، أي حالة السعي لإقامة نظام أحاديّ القطبية الأميركية، ثم حالة التعدّدية القطبية من دون نظام للتعدّدية القطبية، والمنتقلة الآن إلى الاستقطاب الأميركي-الأوروبي والاستقطاب الروسي-الصيني.

والسؤال أمام هذه الحالة الجديدة يتلخص في نقطتيْن: الأولى، إلى أيّ حدّ سيذهب الاستقطاب الحالي في التصعيد والمواجهة، أو أيّ نوع من التكتلات الدولية ستنشأ حولهما أو بينهما؟ والنقطة الثانية كيف ستُرتب الدول الأخرى -ولا سيما العربية والإسلامية- سياساتها إزاء تصارُع الاستقطابيْن؟، هل ستذهب إلى سياسة الطريق الثالث أم ستنقسم انحيازا لهذا الاستقطاب أو ذاك؟، مع وجود من سيذهب إلى الطريق الثالث وهو الأصحّ في الغالب إن لم يكن دائما.
 
بالنسبة إلى النقطة الأولى فالاستقطاب ذاهب إلى التصعيد إلى أن تنتهي الانتخابات الروسية الرئاسية، ومن بعدها لكل حادث حديث. ولهذا يجب أن يحصر تقدير الموقف الراهن على ضوء هذه المرحلة.

وبالنسبة إلى النقطة الثانية فالجواب سيتوقف على حالة الاستقطابيْن بعد انتهاء الانتخابات الروسية الرئاسية كما الأميركية الرئاسية. ولكن في كل الأحوال سيصار الانقسام العربي-الإسلامي-العالم ثالثي على ضوء انحياز لهذا الاستقطاب أو ذاك مع حتمية نشوء التيار الثالث إذا ما أخذ الانحياز شكلاً حاسما وقاطعا. لأن ثمة حالة هلامية بيْن بيْن قد تنشأ في إطار الانحيازيْن، أو إطار الطريق الثالث.

وأخيرا، الموضوعة المبدئية التي يجب أن يُشار إليها، وهي التعلّم من التجربة التاريخية العربية في الانحياز إلى الغرب، وذلك ابتداء من تجربة الذين انحازوا له في الحرب العالمية الأولى على أمل أن يتيح لهم إقامة وحدة عربية فكانت النتيجة أن أهداهم مشروع سايكس-بيكو بتمزيق البلاد العربية وتجزئتها إلى 22 قطرا (الشلل المقيم)، ومشروع وعد بلفور بإقامة دولة الكيان الصهيوني في فلسطين. وقد أخذ المشروعان طريقهما للتطبيق الفوري بعد انتصار بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى. ولم تعد ساعة مندم.

الملاحظ الآن أن أميركا ومن خلال قيادتيْ الحزبيْن الجمهوري والديمقراطي تعلن عن يهودية دولة الكيان الصهيوني ويهودية القدس واعتبارها العاصمة الأبدية لدولة الكيان الصهيوني، أو حتى كما أعلن أوباما بأن "فلسطين التاريخية هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي" فكيف يمكن لعربي أن يكرّر هذه التجارب، ويضع رأسهُ في الرمال تحت أيّة حجّة كانت ذات طابع قطري. وهو أمر يستحيل الفصل بينه وبين قضية فلسطين والقدس والمسجد الأقصى وتوازن القوى مع الكيان الصهيوني.

والأعجب أن يحدث تجريب المجرّب اليوم أو غدا، بلا خداع. ففي الحالتيْن اللتيْن تم الانحياز فيهما للغرب لم تكن الهدايا المذكورة على الطاولة كما يحدث الآن، فقد كانت هنالك عمليات خداع وتمويه من أجل تمرير الانحياز. فبريطانيا قدّمت وعودا مضلّلة قبل الحرب العالمية الأولى وقبل الحرب العالمية الثانية، وأخفت مشاريعها فيما أميركا والغرب لا يُخفيان ما في جعبتهما لفلسطين. هنا يكمن العجب العجاب إذا ما حدث الانحياز.
__________________________
منير شفيق-باحث في الشؤون الإستراتيجية

ABOUT THE AUTHOR