هل ستقلل واشنطن من وجودها العسكري في الخليج؟

نظرا لأهمية منطقة الخليج في الاقتصاد العالمي فمن غير المرجح تضحية الولايات المتحدة بموقعها المهيمن في تلك المنطقة مقابل تعزيز وجودها في بحر الصين الجنوبي، لكن من المحتمل أن تجبِر الأزمة المالية واشنطن على اتخاذ إجراءات لخفض تكاليف أنشطتها العسكرية لتخصص موارد أكبر للعمليات في بحر الصين الجنوبي.
2012318111527445580_2.jpg

يهتم المخططون الإستراتيجيون في الولايات المتحدة الأميركية حاليا بإعادة تقييم الوضع بالنسبة لخريطة توزيع التواجد العسكري الأميركي حول العالم. ويعد هذا الأمر تحولا مهما في الإستراتيجية العسكرية الأميركية، وقد دخل هذا التحول حيز التنفيذ الفعلي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 بعد إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما عن إرسال نحو ألفين وخمسمائة جندي من مشاة البحرية الأميركية للبقاء بصفة دائمة في قاعدة تدريب أميركية في الجزء الشمالي من أستراليا. وتم التأكيد على هذه الخطة أيضا في يناير/كانون الثاني 2012 بعد ظهور الرئيس أوباما في وزارة الدفاع (البنتاغون)، وإعلانه أن الهدف هو "الحفاظ على الدور الريادي العالمي للولايات المتحدة الأميركية خلال القرن الواحد والعشرين". وباختصار، تعطي هذه الإستراتيجية "المنقحة" مزيدا من الموارد العسكرية الأميركية لمنطقة شرق آسيا بشكل عام، ومنطقة بحر الصين الجنوبي (*) بشكل خاص.

ويشكل تكوين قوات بحرية وجوية أميركية في بحر الصين الجنوبي تحولا جديدا ومهما عن السياسة السابقة المتمثلة في التركيز على منطقتي الخليج العربي والمنطقة الوسطى من آسيا وأوروبا اللتين كانتا تعتبران حجر الأساس في التخطيط الإستراتيجي والتحرك العسكري للولايات المتحدة الأميركية في فترتي التسعينات وبداية الألفية الثانية من هذا القرن. وقد باشرت السفن الحربية الأميركية القيام بعمليات واسعة النطاق وبشكل أكثر تواترا في كل من مياه الخليج والجزء الشمالي الغربي من المحيط الهندي خلال الفترة الأخيرة من الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988). ومهد هذا التواجد البحري في المنطقة الطريق أمام التوسع الكبير الذي شهده حضور القوات الأميركية في شبه الجزيرة العربية في أعقاب حرب الخليج الأولى (1990-1991)، بما في ذلك مجموعة من المرافق التي يمكن استخدامها في التموضع المسبق للأسلحة والإمدادات، والتزود بالوقود، وإصلاح الطائرات والسفن، والقيام بمناورات مع القوات المسلحة لدول المنطقة. كما انتشرت المنشآت العسكرية الأميركية على نطاق واسع في شمال قرغيزستان وأوزبكستان في الأشهر التي سبقت غزو العراق سنة 2003، لتدعم التواجد العسكري الأميركي في كل من جورجيا وأذربيجان وغيرهما من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.

وتظل احتمالية تحول البنية التحتية العسكرية الأميركية من منطقة الخليج ووسط آسيا وأوروبا تجاه منطقة بحر الصين الجنوبي مسألة مفتوحة. ومن شبه المؤكد أن أميركا لا يمكنها الحفاظ على مستويات الإنفاق العسكري الحالية لأسباب متعلقة بأوضاعها الاقتصادية والمالية رغم ما أكدته وزارتا الخارجية والدفاع بشكل متكرر عن عزم الولايات المتحدة الأميركية مواصلة وجودها في منطقتي الخليج وبحر الصين الجنوبي بنفس الكثافة وفي نفس الوقت، وهو ما يعكس المخاوف الأمنية لأميركا في هاتين المنطقتين لدرجة يستحيل معها ترك إحداهما والذهاب إلى الأخرى.

توسع الوجود العسكري الأميركي في بحر الصين الجنوبي

يمكن تتبع بداية الوجود العسكري الأميركي في بحر الصين الجنوبي منذ بداية العام 2005 وذلك بعد قيام الولايات المتحدة الأميركية بإبرام اتفاق أمني مشترك مع سنغافورة، وشهد شهر مايو/أيار 2010 أول مناورات عسكرية مشتركة بين الولايات المتحدة الأميركية وفيتنام، وبعد نحو عام من ذلك سمحت السلطات في سنغافورة للسفن الحربية الأميركية بمزاولة نشاطاتها انطلاقا من قاعدة شانغي بشكل روتيني.


وقد أشار كل من وزير الدفاع ليون بنتا ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون كانبرا في سبتمبر/ أيلول 2011 إلى السماح للقوات الأميركية بإعادة التموضع لبعض المعدات العسكرية واستخدام مرافق التدريب في القواعد العسكرية الأسترالية، ثم بعد شهرين أعلن الرئيس أوباما عن تمركز قوات المشاة البحرية الأميركية في داروين، وأن القوات الجوية الأميركية ستحصل على فرصة كبيرة لاستخدام القواعد الجوية في المناطق الأسترالية الشمالية الواسعة.

ويبرز الاهتمام العسكري الأميركي بوضوح بمنطقة شرق آسيا في طلب الميزانية الخاص بوزارة الدفاع المقدم للكونغرس في بداية عام 2012. ويسعى هذا المشروع للحصول على التمويل اللازم لمنصة انطلاق عائمة عملاقة بإمكانها حمل قوة من قوات البحرية الخاصة المسماة (الفقمة)، وطائرات مقاتلة من دون طيار، وطائرات عمودية قصيرة الإقلاع والهبوط (vstol)، إضافة لمروحيات هجومية. ويتمثل الغرض الأساسي من هذه المنصة في التصدي لاستخدام الألغام في الممرات البحرية المزدحمة. ومن المقرر أيضا العمل على تطوير فئة جديدة من الغواصات النووية الهجومية مصممة لمواجهة الغواصات والسفن العادية الأخرى. وتغطي الميزانية المقترحة تطوير الجيل القادم من القاذفات بعيدة المدى، إضافة إلى توفير الصيانة اللازمة لعشرين طائرة (بي-2) وثمانية وستين طائرة (بي-1)، وأربعة وتسعين طائرة (بي-25) الموجودة حاليا تحت الخدمة. أما الاعتمادات المالية للطائرات الحربية التكتيكية قصيرة المدى فقد تم تحجيمها كما هي الحال بالنسبة إلى الاعتمادات المالية الخاصة بفرق المشاة والمدرعات العادية.

استمرار الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج

في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة الأميركية بتوسيع حضورها العسكري في بحر الصين الجنوبي، يقوم القادة العسكريون الأميركيون بإنشاء شبكة من القواعد العسكرية على طول الساحل الشمالي الغربي للمحيط الهندي من أجل دعم العمليات التي تقوم بها الطائرات المقاتلة من دون طيار في المنطقة، وقد تمت أولى المهام من هذا القبيل في جزر السيشيل في خريف 2011، بينما من المقرر تأسيس قواعد أخرى لانطلاق الطائرات المقاتلة من دون طيار في إثيوبيا ومواقع أخرى في شبه الجزيرة العربية لم يتم الكشف عنها حتى الآن.

وتم تداول تقارير في فبراير/شباط 2012 تفيد بقيام البحرية وسلاح الجو الأميركيين بتوجيه ضربات بطائرات مقاتلة من دون طيار في المنطقة، كما تقوم طائرات مقاتلة من دون طيار، ذات تكنولوجيا متقدمة، تحلق في علو شاهق بدوريات في الطرف الجنوبي من منطقة الخليج على مدار الساعة، وتنقل بيانات فورية لمقر الأسطول الخامس الأميركي في البحرين.

 

وبعد إعلان الرئيس أوباما عن خروج كل القوات الأميركية المقاتلة من العراق بحلول نهاية العام 2011، أصدرت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) خططا لإبقاء عدد كبير من تلك القوات في الكويت على الأقل خلال المستقبل المنظور. وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول 2011 تحدثت صحيفة "الجيروزالم بوست" عن نقل آلاف من القوات الأميركية المتمركزة في أوروبا جوا إلى إسرائيل في ربيع سنة 2012 كجزء من الجهود التي ترمي إلى إقامة روابط عملياتية بين قيادة القوات الأميركية في أوروبا وقوات الدفاع الإسرائيلي.

وأكدت القيادة المركزية الأميركية في بداية يناير/كانون الثاني 2012 أن حاملتي طائرات مع قواتهما ستستمران في العمل في منطقة الخليج وحولها بعد الانسحاب من العراق، بالإضافة إلى ذلك فإنه من المقرر أن يستقر لواءان من الجيش الأميركي بما فيهما لواء النخبة في فرقة الفرسان الأولى المحمولة جوا، إضافة إلى سرب من المروحيات الهجومية بصفة دائمة في الكويت.

وعلى العموم، يوجد تشابه بين التواجد العسكري الأميركي في منطقة الخليج الذي يعكف المخططون الإستراتيجيون الأميركيون على تقديم تصور له، وذلك الذي تم في فترة التسعينات من القرن الماضي. وستشهد المرحلة ما بعد 2011 انقضاء التواجد الأميركي في القواعد العسكرية في كل من قرغيزستان وأوزبكستان، إضافة لانقضاء مرحلة الانتشار الواسع للقوات البرية والمطارات التي ميزت الاحتلال الأميركي للعراق. ولا تزال توجد قواعد كبيرة للجيش الأميركي في الكويت، وقاعدة بحرية موسعة في البحرين عدا عن قواعد جوية متقدمة في كل من قطر وسلطنة عمان. ومن المشكوك فيه بقاء المنشآت البحرية أو الجوية الثانوية مفتوحة أمام القوات الأميركية في مصر بعد الإطاحة بالرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، كما أنه لم يعد بإمكان الطائرات الحربية الأميركية التردد على القاعدتين الجويتين الضخمتين اللتين بناهما سلاح الهندسة في الجيش الأميركي في الشمال الشرقي للملكة العربية السعودية.

تكامل مصالح الولايات المتحدة في منطقتي الخليج وبحر الصين الجنوبي

شهدت فترة التسعينات تدفقا كبيرا للقوات الأميركية في منطقة الخليج ووسط آسيا وأوروبا وذلك في ثلاثة سياقات دولية يتمثل أولها في الكميات الكبيرة من النفط والغاز التي كانت كل من الصين وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان تستوردها من هاتين المنطقتين. وكانت التوقعات تشير إلى أنه من شبه المؤكد أن هذه الواردات كانت تسير في نمو مطرد، وأي دولة كان بإمكانها الإشراف على تدفق النفط والغاز من هاتين المنطقتين يكون بمقدورها التأثير وممارسة نفوذ كبير على منطقة شرق آسيا المحرومة من مصادر الطاقة. أما السياق الثاني، فيتمثل في ديناميات تراكم رأس المال التي قوضت وبشكل مطرد الهيمنة الأميركية على الاقتصاد الدولي ما ترك الولايات المتحدة الأميركية، وعلى نحو متزايد، عرضة لمنافسة قوى ومراكز صناعية ومالية جديدة. والسياق الثالث يتمثل في التهديد الذي شكلته المبادرات الاقتصادية والعسكرية للصين واليابان في كل من منطقة الخليج، والمحيط الهندي ووسط أسيا وأوروبا لحماية مصالح بكين وطوكيو وذلك على حساب الولايات المتحدة الأميركية. وباتت استجابة صناع السياسات في واشنطن لهذا التراجع الواضح في الموقف السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة في العالم تعتمد على المصدر الوحيد الذي احتفظت به الولايات المتحدة الأميركية وهو التفوق النسبي في قواتها المسلحة.

وهناك ديناميكيات متعددة وراء التدخل العسكري الأميركي المتنامي في منطقة بحر الصين الجنوبي، وتأتي القوة الدافعة الأكبر للتواجد الأميركي الموسع والمستديم من أستراليا التي شرعت في عملية بناء عسكري كبيرة تصديا للقرار الصيني برفع جاهزية قاعدة عسكرية أساسية لأسطول البحر الجنوبي في جزيرة هينان ونشر غواصات نووية في المياه الجنوبية.

وقد دخلت فيتنام والفلبين -جنبا إلى جنب مع اليابان في بحر الصين الجنوبي- في اشتباكات متتالية مع السفن الصينية ما أدى بحكومات هذه الدول إلى توثيق علاقاتها بواشنطن. كما رد الرئيس الإندونيسي سوسيلو بامبانج يودويونو على الأنباء التي تتحدث عن تواجد لقوات مشاة البحرية الأميركية في أستراليا بالقول إنه "تم تطمينه بأن الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة بحفظ السلام في هذه المنطقة من العالم".

ومع ذلك فإن مصالح واشنطن في منطقة بحر الصين الجنوبي توازي بشكل عام تلك التي دفعت بالجيش الأميركي إلى منطقة الخليج، ولا يشكل مضيق ملقا نقطة اختناق للمرات المائية التي تربط منطقة الخليج بمنطقة شرق آسيا وحسب، بل يتعدى ذلك ليشكل رابطَ المنافسة بين الصين، القوة الصاعدة وغير المستقرة، ونظيرتها الهند التي تتسم أيضا وعلى نحو متصاعد بالحسم والثقة في النفس خاصة مع توسع بحريتها نحو الجنوب الشرقي لآسيا.

وفي يوليو/ تموز 2011 اشتبكت السفن البحرية للعملاقين (الصين وأميركا) قبالة السواحل الفيتنامية، ويمكن حدوث مثل هذه الحوادث بصفة متكررة بسبب فشل الصين في تطوير بدائل عن الطرق البرية لدخول وارداتها المتزايدة من النفط والغاز.

وليس المخططون الأميركيون وحدهم من لاحظ البروز المتنامي للممرات البحرية بين منطقة الخليج ومنطقة بحر الصين الجنوبي، ففي فبراير/ شباط 2012 قام أسطول من السفن الروسية في طريق عودته من مهمة لمكافحة القرصنة في خليج عدن بتلبية نداء غير متوقع في الفلبين. وتزامنت هذه الزيارة مع مناورات بحرية مشتركة بين الفلبين والولايات المتحدة الأميركية وصرح القائد الروسي لبعض الصحفيين أن الروس قد خططوا لمراقبة هذه المناورات قبل مواصلة الإبحار نحو فلاديفوستوك.

لكل ذلك، يمكن القول إنه -ونظرا للدور المحوري الذي تضطلع به منطقة الخليج في الاقتصاد العالمي- فسيكون من غير المرجح تضحية الولايات المتحدة الأميركية بموقعها المهيمن في تلك المنطقة مقابل تعزيز وجودها في بحر الصين الجنوبي، لأن المنطقتين تشكلان في الواقع حزمة أمنية واحدة بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولكون التوسع في كل منهما يؤثر بشكل مباشر على الآخر، لكن من المحتمل أن تخفض واشنطن من إنفاقها العسكري على قواتها في الخليج لصالح قواتها في منطقة بحر الصين الجنوبي.
_______________________________
فريد هـ. لاوسون-أستاذ بجامعة ميلز بالولايات المتحدة. ترجم النص من الإنجليزية الحاج ولد إبراهيم.

(*) بحر الصين الجنوبي هو ممر بحري إستراتيجي بين عدة دول في جنوب شرق آسيا أهمها: الصين، الفلبين، إندونيسيا، ماليزيا، سنغافورة، بروناي، وفيتنام. وتقدر مساحته بحوالي ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف كيلو متر مربع تتوزع بين المنطقة الواقعة من سنغافورة ومضيق ملقا حتى مضيق تايوان. وفضلا عن كون هذا البحر طريقا رئيسيا تعبره ثلث أعداد سفن الشحن البحري عبر العالم تقريبا وبحجم تجارة يقدر بخمسة تريليونات دولار سنويا؛ فإن أعماق هذا البحر تحوي أيضا مصادر واعدة للطاقة أهما النفط والغاز. وتطالب فيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا وبروناي بمناطق من هذا البحر وتدعو إلى التفاوض لحسم هذه المطالب العالقة إلى أن الصين ترفض، ولا يزال الخلاف قائمًا بشأن السيادة على مياه وجزر وثروات هذا البحر. (المحرر) 

ABOUT THE AUTHOR