النفط والصراع السياسي في العراق

تاريخ العراق الحديث مرتبط بالصراع على النفط، فمرة تسيطر عليه القوى الدولية باتفاق مع قوى داخل العراق، كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى وبعد 2003، ومرة أخرى تتمكن الدولة العراقية من فرض سيادتها عليه كما حدث في بداية الستينات من القرن الماضي.
20124512542758734_20.jpg
حقول ومصافي البترول في العراق (الجزيرة)

كان النفط قضية محورية في تقسيم أشلاء الدولة العثمانية والغنائم بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى بما في ذلك حقوق امتياز شركة النفط التركية؛ لا بل وكان النفط محورًا أساسيًّا في رسم خارطة الشرق الأوسط وتوزيع سلطة الانتداب بين فرنسا وبريطانيا، ونموذج ذلك هو قيام الدولتين بتبادل السيطرة على ولاية الموصل وسوريا؛ بحيث أصبحت ولاية الموصل تحت سيطرة الانتداب البريطاني، في حين تسلمت فرنسا السلطة على سوريا مباشرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى أواخر عام 1918، وذلك بعد أن تأكد لبريطانيا تواجد النفط في مناطق متعددة من ولاية الموصل ومن ضمنها كركوك، واعتبرت فرنسا لاحقًا ذلك الإجراء خطأ كبيرًا لا يغتفر.

اعتمدت بريطانيا حجة المطالبة التركية بولاية الموصل لاحقًا؛ لكي تشترط على الحكومة العراقية التي تشكلت في أعقاب تنصيب فيصل الأول ملكًا على العراق عام 1921، أن توافق على منح حقوق الامتياز لمجموعة شركات النفط الغربية (البريطانية-الفرنسية-الهولندية-الأميركية) مقابل دعمها للعراق بأحقيته في الاحتفاظ بولاية الموصل، وتم بناء على ذلك التوقيع عام 1925 على اتفاقية الامتياز، لما أُطلق عليه لاحقًا تسمية شركة نفط العراق في الجزء الشمالي من العراق، ووزعت الحصص على أساس 23.75% لكل من الشركات البريطانية والفرنسية والأميركية والهولندية، و5% إلى السيد كولبنكيان، وكان من ضمن الشروط التعسفية الأخرى إجبار العراق على التنازل عن حصته البالغة 20% الممنوحة له بموجب معاهدة سان ريمو. وكما هو معروف، فقد تم التأطير السياسي لنتائج الحرب العالمية الأولى وتقسيم الجزيرة العربية إلى دويلات بحدود مصطنعة وقابلة للتفجير، من خلال جملة من الاتفاقيات والمعاهدات، مثل: سايكس بيكو، وسان ريمو.. وغيرها. إضافة إلى اتفاقية الخط الأحمر في1 يوليو/تموز 1928 بين شركات النفط وممثلي دول تلك الشركات.

أعقب ذلك امتداد الرقعة الجغرافية لامتيازات الشركات الغربية من خلال تأسيس شركة نفط الموصل؛ ومن ثم شركة نفط البصرة، ولنفس مالكي شركة نفط العراق وبنفس الحصص السابقة، وتمت بذلك تغطية كامل مساحة العراق دون أي استثناء.

وعلى الرغم من وجود ثلاث شركات اسميًّا؛ فإن الإدارة العليا كانت موحَّدة من قِبَلِ الجهات الغربية المالكة، وكانت القرارات الاستراتيجية والإدارية والاستثمارية تُتَّخذ من مقرِّ الشركة الأم في لندن حيث مقر الـipc، وبالتالي كانت عمليات النفط تنقيبًا وإشرافًا تتمُّ وتُدار بشكل مركزي وبنظرة شمولية لعموم العراق، آخذة بعين الاعتبار طبيعة الحقول المنتجة وخطط وبرامج التطوير ضمن أهداف ومصالح شركات النفط ذاتها، وبغضّ النظر عن مواقع تلك الحقول، وكان الإشراف والمتابعة من الجانب العراقي تتم -أيضًا- بشكل مركزي من خلال الدائرة المختصة في بغداد، والتي أصبحت وزارة للنفط عام 1960.

معركة السيادة النفطية

في عام 1961 صدر القانون رقم (80)، والذي يعد حقيقة بدء السيطرة الوطنية على الثروات النفطية من خلال استعادة العراق سيطرته على ما يقرب من 99.5% من أراضيه وسحبها من شركات النفط. وفي 8 فبراير/شباط 1964 تم بموجب القانون رقم (11) لسنة 1964 الإعلان عن تأسيس شركة النفط الوطنية العراقية، والتي حددت مسؤولياتها وصلاحياتها بموجب القانون رقم (97) لسنة 1967 والقانون رقم (123) لسنة 1967، وكلاهما صدر في عهد الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف؛ وذلك بعد فشل محاولات شركات النفط في الالتفاف على القانون رقم (80) من خلال محاولة تأسيس شركة نفط بغداد.

أصبحت المسؤولية حصرًا بشركة النفط الوطنية، على أن تعتمد أسلوب الاستثمار المباشر وأن لا يتم اللجوء إلى شركات أجنبية؛ إلا في حالة استثنائية مشروطة بصدور تشريع خاص. وتم العمل بهذا القانون على مر السنين اللاحقة، لكل التعاقدات التي تمت لاحقًا مع شركات أجنبية إلا في عهد الاحتلال الجديد بعد عام 2003، حيث تمارس سياسة التعاقد مع عشرات الشركات الأجنبية التفافًا على القوانين النافذة المذكورة في أعلاه وغيرها؛ كقانون صيانة الثروة الهيدروكربونية (وجميعها بقيت دون تعديل أو إلغاء إلى يومنا هذا)، فبلغ عدد العقود 15 عقدًا من قبل وزارة النفط و48 عقدًا من قبل سلطة إقليم كردستان، تفتقر جميعها إلى الشرعية؛ لعدم تطبيق أحكام القانون (97) لسنة 1967، ونُدرج في أدناه نصَّ المادتين الأولى والثالثة من هذا القانون، ونؤكد على أن هذا القانون ما زال نافذ المفعول غير ملغى أو معدل إلى يومنا هذا.

لقانون رقم 97 لسنة 1967 صدر في 7/8/1967.

المادة (1)
1- تخصص وتمنح لشركة النفط الوطنية العراقية حصرًا، بموجب أحكام هذا القانون، حقوق استثمار النفط والمواد الهيدروكربونية في جميع الأراضي العراقية.

المادة (3)
1- تستثمر جميع المناطق النفطية بموجب المادة (1) من هذا القانون لشركة النفط الوطنية العراقية استثمارًا مباشرًا من قبلها.

2- ولشركة النفط الوطنية العراقية أن تستثمر أي منطقة من المناطق المخصصة لها عن طريق الاشتراك مع الغير؛ إذا وجدت ذلك أفضل لتحقيق أغراضها، وفي هذه الحالة لا يتم التعاقد على ذلك إلا بالقانون.

3- وفي جميع الأحوال لا يجوز لشركة النفط الوطنية العراقية أن تستثمر النفط في المناطق المخصصة لها كافة بطريق الامتياز أو ما في حكمه.

وقد ورد في الأسباب الموجبة (.. وذلك بتخصيص هذه المناطق لشركة النفط الوطنية العراقية لتقوم باستثمار النفط فيها استثمارًا مباشرًا بموجب أحكام هذا القانون، على أن يراعى ما جاء فيه بخصوص تحريم منح امتيازات أو ما هو في حكمها..).

وفور تسلُّم شركة النفط الوطنية مهامها، باشرت جمع المعلومات والبيانات ووضع الخطط والدراسات بتعاون مع عدد من المؤسسات المتخصصة العالمية، وتوجت ذلك بالشروع الفعلي عام 1969 في عمليات تطوير حقل شمال الرميلة؛ ومن ثم البدء عمليا في أشغال الإنتاج والتصدير والنقل البحري منذ 7 إبريل/نيسان 1972.

وخلال مرحلة السبعينيات، توسعت أجهزة وأعمال ونتائج الشركة بشكل كبير في القطاع الاستخراجي (النفط الخام) وفي الأجهزة والمؤسسات الأخرى التابعة لوزارة النفط، وفي القطاع التحويلي (التصفية والنفط وتصنيع الغاز)؛ حيث طورت عمليات الاستكشاف والحفر وتحديد حقول جديدة بنسبة نجاح تجاوزت 70%؛ مما أدى إلى تصاعد الاحتياطي النفطي الثابت إلى 106 مليار برميل عام 1990، بعد أن كانت شركات النفط الاحتكارية قد أوقفت بشكل شبه كامل عمليات الاستكشاف والتطوير منذ تأسيس الجمهورية العراقية عام 1958.

وقامت الشركة بتوسيع الطاقة الإنتاجية من حوالي مليوني برميل يوميًّا (م ب ي) إلى حوالي 4 (م ب ي)، وبلغ الإنتاج الفعلي في 1979-1980 ما يزيد عن 3.5 (م ب ي)، إلا أنه تعطل بشكل شبه كامل بسبب الحرب العراقية الإيرانية، وعلى الرغم من ذلك استمر بناء مشاريع نفطية وغازية عملاقة منذ 1973 وخلال فترة الثمانينيات، بفضل الإدارة المركزية للقطاع وشركة النفط الوطنية، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • تطوير حقول جديدة منها شمال الرميلة بمراحله الثلاث، والمرحلة الأولى لغرب القرنة واللحيس ونهران عمر، والمرحلة الأولى لشرق بغداد، والمرحلة الأولى لحقل الناصرية وعجيل وحمرين وحقول البزركان وأبو غرب وفكة.. وغيرها.
  • توسيع طاقات نقل وتصدير النفط الخام بإنشاء الخط الاستراتيجي (شمال_جنوب_شمال)، والميناء العميق والخط العراقي التركي.
  • توسيع طاقات التصفية عدة مرات، من خلال إنشاء مصافي البصرة 2.1 (140 ألف ب ي) وبيجي (320 ألف ب ي) وغيرها، بحيث تجاوزت الطاقة الإجمالية 750 (ألف ب ي)، فأصبح العراق منذ منتصف الثمانينيات مصدرًا للمشتقات النفطية حتى الاحتلال في 2003، ثم تحول العراق بعدها إلى مستورد كبير، فتم صرف ما يزيد عن 30 مليار دولار، ويتوقع مضاعفة الرقم خلال السنوات الخمس القادمة؛ لأنه لا يتوقع بناء أي مصفى كبير جديد.
  • إنشاء مشروعين عملاقين لتصنيع كافة الغازات المصاحبة لإنتاج النفط الخام؛ الأول في الجنوب (البصرة)، والثاني في الشمال (كركوك).
  • شبكة واسعة من خطوط أنابيب نقل الغاز والغاز السائل والمنتجات النفطية، مع مستودعات عملاقة في عدة مدن (معظمها ما زال معطلاً إلى الآن).
  • إنشاء معامل لإنتاج الدهون والشحوم في الدورة والبصرة وبيجي، تجاوزت طاقتها الإجمالية حوالي 300 ألف طن سنويًّا، معظمها للتصدير.
  • أنبوب النفط الخام العراقي عبر السعودية وتدشين مرحلته الأولى عام 1987، والثانية أوائل عام 1990، وبلغ إجمالي الطاقة التصديرية المتاحة للعراق أكثر من 5.5 مليون برميل يوميًّا.

وعلى الرغم من ظروف الحرب العراقية الإيرانية وتدمير الجزء الأعظم من المنشآت النفطية، فإنه تمت إعادة بناء وتأهيل معظمها؛ بحيث تجاوز الإنتاج الفعلي للنفط الخام 3.2 مليون برميل يوميًّا في يوليو/تموز 1990.

كان ما تقدم وباختصار هو حصيلة (الإدارة المركزية لقطاع النفط)، التي استمرت بالعطاء الكبير رغم 8 سنوات من حرب ودمار في الثمانينيات، وحصار مدمر منذ منتصف عام 1990 إلى الحرب على العراق عام 2003، وكان ذلك كله بفضل العمل والجهد الدؤوبين للمؤسسات والكوادر النفطية، التي عملت بمعزل عن أي انتماء سياسي أو طائفي أو مناطقي أو حزبي، ونضيف أن ما تحقق قبل عام 2003 هو ذاته الذي ساعد على استمرار الصناعة النفطية بالعطاء خلال فترة الاحتلال، والتي لم يشهد العراق خلالها أية نجاحات رئيسة في القطاع التحويلي أو القطاع الاستخراجي؛ بسبب لجوء الوزارة لفتح المجال أمام عودة الشركات الأجنبية للعمل وبشكل مكثف؛ بما يشمل الحقول الرئيسية المنتجة من خلال ما أطلق عليه جولات التراخيص.

النفط والاحتلال

لم يكن النفط بعيدًا عن خطط وأهداف الحصار الذي امتد من أغسطس/آب 1990، وعن شن الحرب على العراق واحتلاله قبل تسع سنوات في مارس/آذار 2003، وعلى الرغم من أن الادعاءات بشن الحرب كانت باتهام النظام السابق بأنه كان على علاقة مع "الإرهاب" وامتلاكه أسلحة دمار شامل، فإنه ثبت وبشكل قاطع عدم صحة ذلك، ولم يبقَ من أسباب الغزو إلا الاعتبارات السياسية (احتلال وتقسيم تحت مسميات مختلفة)، والسيطرة على النفط وسحبه من سيطرة القطاع العام وإفساح المجال لعودة الشركات الأجنبية، وذلك كأهداف غير معلنة بدأت تتكشف سنة بعد أخرى، ويكفينا أن نستشهد بما قاله مخطط الغزو الأميركي (بول وولفيتز)، مساعد وزير الدفاع الأميركي آنذاك، عند شن الحرب، في لقاء لاحق له أواخر عام 2003م مع الجنود الأميركيين في إحدى قواعدهم العسكرية جنوب شرق آسيا، عندما جوبه بسؤال عن أسباب شن الحرب على العراق مع عدم ثبوت وجود أسلحة دمار شامل مقارنة مع كوريا الشمالية، التي اعترفت بتملكها؛ فكانت إجابته: "ألا تعلمون أن العراق يطفو على بحيرة من النفط؟!".

قبيل شن الحرب على العراق في مارس/آذار عام 2003، قامت الإدارة الأميركية بتشكيل 15 لجنة من خبراء أميركيين وأعداد من المغتربين العراقيين، وكانت واحدة منها تتعلق بوضع سياسة جديدة للقطاع النفطي وهيكلية جديدة له (تم نشر تقرير عنها في نشرة Mees عام 2003)، واستهدفت بوضوح العمل على خصخصة الصناعة النفطية، وفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية، وبعبارة أخرى إلغاء قرارات التأميم، التي صدرت قبل ثلاثين عامًا، وتم خلال أيام من الاحتلال تعيين شخصية أميركية لإدارة القطاع النفطي استمرت لمدة ستة شهور، وأنيط العمل لما سمي بإعادة تأهيل القطاع بشركات أميركية مثل (هاليبرتون، بكتل، بارسونز, وورلي.. وغيرها)، إلا أنه رغم الفساد المالي وصرف المليارات من الدولارات فشلت في تحقيق أي منجز يُذكر، وبقيت حالة الصناعة الاستخراجية والتحويلية متخلفة حتى أواخر عام 2011 عن جميع أرقام الإنتاج والتصدير التي كانت قائمة قبل الاحتلال، ويستمر العراق بالاعتماد على استيراد جزء غير قليل من حاجاته من المشتقات النفطية (بنزين، غاز أويل، نفط أبيض، وغاز سائل).

واستكمالاً لما تقدَّم، فقد حرص الحاكم الأميركي بول بريمر والسياسيون العراقيون في السلطة الجديدة على العمل لتضمين دستور عام 2005 (والذي جاء بشكل غامض قابل للاجتهاد والتفسير في العديد من فقراته) مبادئ تتعلق باعتماد الفيدرالية وإنشاء الأقاليم، معززة بنصوص أكثر غموضًا فيما يتعلَّق بإدارة الثروات النفطية وهيكلية ومسؤوليات القطاع النفطي، وبشكل خاص بالمواد (111) و(112)، والمواد الأخرى ذات العلاقة؛ مما حفز البعض وبشكل خاص سلطة إقليم كردستان على فرض أسلوب لا مركزي بإدارة شئون النفط في وقت لا تسمح فيه الجيولوجيا والجغرافيا بذلك، بل ويُفترض -إن كانت مصلحة العراق الموحد هي الهدف- أن تستثمره الإدارة مركزيًّا بعيدًا عن الخصومات السياسية، وما نجم عنها من تبعات وارتباطات طائفية ومناطقية وحزبية ومصالح شخصية. وقد شجَّع المثال الكردي حدوث تصرفات مشابهة في محافظات أخرى؛ مثل: البصرة، وميسان، والناصرية، والأنبار، وربما عن قريب في محافظات أخرى.

واستكمالاً لما تحقق من انقسام واضح بسبب الدستور، كان لابد من أن تصدر قوانين تلغي أو تعدل القوانين النافذة، فقدمت جهات أميركية رسمية وغيرها مقترحات لتشريعات جديدة؛ إلا أن وزارة النفط عملت خلال عام 2006 على إعداد مسودة قانون جديد للنفط والغاز، وبعد تفاوض مع إقليم كردستان وبتداخلات مباشرة وغير مباشرة من الإدارة الأميركية العليا ومستشاريها والسفارة الأميركية، تمت الموافقة -في فبراير/شباط عام 2007م- على مسودة نهائية بعد تدخل مباشر للسفير الأميركي زلماي خليل زاده، وتبنى مجلس الوزراء فورًا تلك المسودة خلال جلسة مقتضبة عاجلة، دون أن تطرح المسودة على الخبراء والمختصين أو الرأي العام، واتفق على إصدار أربعة قوانين خلال فترة لا تتعدى بضعة أسابيع؛ تشمل:

  • قانون النفط والغاز. 
  • قانون إعادة تنظيم وزارة النفط. 
  • قانون توزيع الموارد المالية.
  • قانون إعادة تأسيس شركة النفط الوطنية.

النفط والطموحات الكردية

على الرغم من أن المسودة للقانون الأول -فقط- أحيلت إلى مجلس النواب؛ فإن إقليم كردستان سرعان ما أعلن رفضه لها؛ بحجة أنها قد ضمت ملاحق بتوزيع مسؤوليات الحقول النفطية بشكل يتنافى مع توجهات الإقليم الداعية إلى توسيع دوره في عمليات التفاوض والتعاقد والإدارة على حساب تقليص دور المركز وشركة النفط الوطنية العراقية، وباشر على الفور إصدار قانون خاص للنفط والغاز يغطي أعماله، ليس ضمن حدود الإقليم المعترف بها (أربيل، السليمانية، دهوك)، بل يتجاوزها ليشمل مناطق شاسعة ضمن محافظات نينوى، كركوك، صلاح الدين، ديالى باعتبارها مناطق متنازع عليها، وأعلن نفسه وصيًّا عليها، وأعطى لنفسه صلاحية العمل فيها مع عدم السماح للمركز بالعمل فيها إلا بموافقة الإقليم، كما اعتمد حصرًا صيغة التعاقد بأسلوب مشاركة الإنتاج التي تتضمن التنازل عن جزء من الثروات للشريك الأجنبي.

باشر الإقليم منذ عام 2008 وإلى الآن التفاوض المباشر بالتعاقد على حقوق وتراكيب وأراضي ضمن خارطة أعلنها رسميًّا منذ 2008 (ولم نسمع في حينها أو لاحقًا أي اعتراض من المركز عليها)، بلغ عددها حوالي 48 عقدًا، وكان آخرها -وليس أخيرها- 6 عقود مع شركة أكسون موبل الأميركية العملاقة، آخرها في 18 من أكتوبر/تشرين الأول 2011؛ منها عقدان لمنطقتي القوش وبعشيقة ضمن حدود محافظة نينوى، وعقد ثالث ضمن حدود محافظة كركوك، مع الإشارة إلى أن هذه الشركة كان قد تعاقد معها المركز على تأهيل وتطوير حقل غرب القرنة -المرحلة الأولى- قبل أكثر من سنتين؛ فأعلنت الوزارة رفضها لعقود شركة أكسون موبل مع الإقليم، وهددت بإلغاء العقد في حقل غرب القرنة، إلا أنها لم تعلن عن أي إجراء إلى الآن منتصف مارس/آذار عام 2012 سوى إعطاء المهلة تلو الأخرى، (صدر في 17 من مارس/آذار 2012 تصريح لوزارة النفط يشير إلى موافقة الشركة الأميركية على تجميد العمل بتلك العقود دون إلغائها).

ولم تكتفِ إدارة الإقليم بإجراءاتها؛ بل استولت قبل ذلك عنوة على حقل خرمالة (التابع لشركة نفط الشمال)، والذي كان قيد الإنتاج منذ مدة طويلة وحقل خورمور الغازي، كما أعلنت في مارس/آذار عام 2012 عن رفضها إجراءات الوزارة في التفاوض مع شركات أجنبية لتطوير حقل كركوك؛ بحجة أنه يقع ضمن المناطق المتنازع عليها.

إن النظرة للموضوع أعلاه، لابد وأن تأخذ أبعادًا سياسية تتجاوز موضوع السيطرة على النفط إلى السيطرة على الأراضي؛ فإقليم كردستان يطمح إلى توسيع رقعته الجغرافية إلى ضعفي ما هو عليه الآن، يساعده في ذلك الوضع السياسي المتأزم؛ فمنذ مرحلة الانتخابات الأخيرة في مارس/آذار عام 2010، تمكن إقليم كردستان من التحكم في التوازنات السياسية للبلد، وأصبح من الصعب بل المستحيل حسم أي من الأمور المتعلقة، وما أكثرها، دون وضع حلول لموضوع النفط والسيطرة عليه وإدارته، وبالتالي ايجاد حلول لوضع الأراضي التي تسيطر عليها حاليًّا قوات البيشمركة ضمن المحافظات الأربع المجاورة.

إضافة إلى الوضع المعقد مع الإقليم، فإن فشل الحكومة المركزية في سياستها الأمنية والإدارية والاقتصادية، شجع عددًا آخر من المحافظات -سواء كانت منتجة للنفط أو غيرها- على المطالبة بصلاحيات أوسع، وصلت إلى حد المطالبة بإعلان تشكيل أقاليم جديدة؛ محاولين بذلك السير على غرار النموذج الكردي (مع الفارق بين الحالتين)، كما هو الحال بالنسبة إلى محافظات: البصرة، وصلاح الدين، والأنبار، وديالي.

إن الخلل قد وقع منذ الأيام الأولى للاحتلال؛ حيث اعتمدت المحاصصة الطائفية أساسًا للحكم، وتم على ضوئها تبني دستور يحوي العديد من القنابل الموقوتة، وكان يفترض تعديله بعد أربعة أشهر من تبنيه، إلا أنه مضى الآن أكثر من ست سنوات دون أي إجراء، أعقبها الفشل في مجال إدارة ملف النفط في تطبيق القوانين النافذة بالنسبة للحكومة المركزية بإقدامها على إبرام 15 عقدًا، والمضي بجولات تراخيص دون العودة إلى السلطة التشريعية، ثم الفشل في إصدار قوانين بديلة عن القوانين النافذة، أو إصدار قانون جديد بدلاً من تجاوز الشرعية القانونية.

أصبح النفط والتنافس على إدارة شئونه بسبب ارتفاع حجم إيراداته -بفضل ارتفاع أسعار النفط العالمية، وليس بفضل زيادة الإنتاج ومشتقاته– عاملاً أساسيًّا من عوامل الصراع السياسي داخل العراق، يوشك في أحيان كثيرة أن يفجر وحدة البلاد؛ مثل مطالبة إقليم كردستان التوسع بحدوده على حساب المحافظات الأربع المجاورة، أو يهدد استقرارها السياسي والاجتماعي، مع انتشار حالات الفساد بشكل غير مسبوق جعل العراق في مصاف الدول الثلاث الأولى عالميًّا من حيث استشراء الفساد.
_______________________________
عصام الجلبي - وزير النفط العراقي الأسبق

ABOUT THE AUTHOR