موقف أوروبا من الأزمة السورية، غياب الفعالية وافتقاد التأثير

تمثل موقف الاتحاد الأوروبي من الأزمة السورية في إصدار بعض البيانات المُدينة للعنف وبعض القرارات التي تشدد العقوبات الاقتصادية على دمشق فضلا عن وضع بعض المسؤولين السوريين على قائمة الممنوعين من السفر إلى دول الاتحاد، إلا أن السمة الغالبة على هذه البيانات وتلك الإجراءات هي افتقارها إلى الآليّات التي تسمح لها بأن تكون ذات تّأثير فعَّال على الدولة السورية ونظام الحكم فيها.
201245142015338734_2.jpg

حينما يشار إلى السّياسة الأوروبّيّة في الشرق الأوسط ومدى تأقلمها مع متطلّبات المنطقة الفعليّة، تبدو الأمور وكأنّ الأوروبّييّن قد أخفقوا في إيجاد الوسائل وآليّات القرار الّتي تمكّنهم من البروز كلاعب فعّال ومؤثّر في محيطهم الجنوبي. وقد ظهر ذلك مرارا عبر التاريخ، إذ أنّ طريقة تعامل الاتحاد الأوروبي مع دول جنوب المتوسّط أشارت إلى أنّ ميل الأوروبيّين الرّسمي كان دوما يتجه إلى ترسيخ الانفتاح السّياسيّ والسّير قدما نحو نموذج ديمقراطيّ ظلّ محصورا في مفهوم نظري لم يجد طريقه للتطبيق، وكانت المحصّلة ارتباك الاتّحاد الأوروبي أمام سقوط الرّئيسين زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر وتأخّره النسبي في إيجاد سبل التعامل الملائمة مع الواقع الجديد في هذين البلدين. أمّا اليوم، وقد مضى أكثر من عام على حلول الرّبيع العربي، فقد برز الملفّ السّوري كمؤشّر جديد على ضآلة قدرات الاتّحاد الأوروبي في الشّرق الأوسط.

لقد سعى الأوروبيون حتّى ماضٍ قريب إلى تطوير علاقات فعليّة وبنّاءة مع سوريا، وقد ورد ضمن هذا السعي عرضهم عقد شراكة على دمشق بنيت تفاصيلها على أسس تجاريّة واقتصاديّة، إلا أن السّوريّين رفضوا الانفتاح على عرض الاتحاد الأوروبيّ أو الدخول معه في شراكة رسميّة، ولعلّ أبرز الأسباب التي حدت بالسوريين إلى هذا الرفض هو خشيتهم من أن يكون التعاون الاقتصادي مع أوروبا مدخلا للتدخل في شؤونهم الداخلية، وبابا للضغط على دمشق لإجبارها على إعادة النظر في طبيعة بعض تحالفاتها الإقليميّة.

من وجهة النظر السّورية الرسمية فالاتّحاد الأوروبي ما هو إلّا تعبير عن تجمع إقليمي غير محدد الهوية وتنقصه الرؤية السياسية الواضحة، مما أدى به إلى السير وراء القاطرة الأميركية، وكأن لسان حال سوريا الرسمية يقول لمَاذا التجاوب مع طلبات أوروبّيّة في حين أنّ سبل القرار الفعليّة تبقى متركّزة في يد واشنطن؟.

أمّا الاتّحاد الأوروبي فلطالما اقتنع بأنّ عليه أن يعزّز تواجده على السّاحة الشّرق أوسطيّة والّتي تعدّ سوريا جزءا أساسيّا منها، غير أنّه أخفق في ذلك حتّى الآن.

لقد حثّت عمليّات العنف المتواصلة في سوريا الأوروبّيّين على اتّخاذ موقف من الحكومة السّوريّة تمثل في إصدار بعض البيانات المُدينة للعنف وبعض القرارات التي تشدد العقوبات الاقتصادية على دمشق فضلا عن وضع بعض المسؤولين السوريين على قائمة الممنوعين من السفر إلى دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن السمة الغالبة على هذه البيانات وتلك الإجراءات هي افتقارها إلى الآليّات التي تسمح لها بأن تكون ذات تّأثير على جهاز الدولة السورية وعناصره الأساسيّة. فلجوء الاتّحاد الأوروبّيّ إلى 13 رزمة من العقوبات منذ بدء الأزمة السّوريّة في ربيع عام 2011 خصّت إلى الآن 126 شخصا و41 شركة لم يغيّر من الواقع شيئا. قد يكون الأوروبّيّون قد نجحوا في التّعبير عن غضبهم إزاء التّشدّد السّوريّ وأفلحوا في تضييق الخناق الاقتصاديّ والعسكريّ على الحكومة السّوريّة إثر فرضهم حصارا يشمل قطاعات سوريا العسكريّة والصّناعيّة والتجاريّة إلّا أنّ هذا الحزم لم يؤدّي لا إلى إرباك الحكومة السّوريّة ولا إلى التضئيل من قدراتها وسياساتها المعتمدة.

يعرف الاتّحاد الأوروبي صعوبة التأثير في الحكومة السّوريّة، كما أنّه واع إلى أهمّيّة الدور الذي يمكن أن تقوم به دول معينة مثل روسيا والصّين وإيران في تطوير قدرات النظام السوري للالتفاف على حزمة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه.

إنّ الاتّحاد الأوروبيّ حصر بالمجمل إستراتيجيّته تجاه ما يحدث في سوريا في الاعتماد على العقوبات الاقتصاديّة وإصدار التّصريحات الّتي لا تربك النظام السّوري ولا تخيفه، بينما كانت حكومات أخرى أكثر حرصا على إيجاد قنوات للحوار مع النظام السّوري وإرسال بعثات رّسميّة بهدف محاورته وحثّه على الحدّ من اللجوء إلى العنف. قد تكون مساعي هذه الحكومات قد أخفقت حتى الآن غير أنّه يبدو في الوقت عينه وكأنّ تطوير سبل للحوار تظل أفضل من مخاصمة النظام السّوري في ظرف ثبت فيه أنّ قدرته على التماسك وتجنّب الانهيار فاقت الكثير من التوقّعات. ويبقى على الأوروبيين إن أرادوا أن يكون لهم تواجد على الساحتين الشرق أوسطية عموما والسورية خصوصا البحث عن وسائل أخرى لتعزيز هذا الدور تكون أكثر تأثيرا وفعالية من مجرد إصدار البيانات أو التلويح ببعض العقوبات غير الموجعة.

الانفراد بدل الاتفاق: خصوصيّات الاتّحاد الأوروبّيّ

أمّا فيما يتعلّق بموقف الأوروبّيّين من سوريا، فمن الواجب أن نميز ما بين الاتّحاد الممثّل بالمفوّضيّة الأوروبّيّة ومن يمثّلها من سياسيّين لعلّ أبرزهم كاترين آشتون ممثّلة الشّؤون الخارجيّة، وبين الدول ال27 المكوّنة لهذا الاتّحاد والّتي تتميّز بدورها بقدرتها على الاستفراد بقرارات سياسيّة لا تمثّل بالضرورة وجهات نظر باقي الأعضاء.

لقد كثرت الانتقادات الموجّهة إلى الاتّحاد الأوروبّيّ لاسيّما أنّ الكثيرين من محبّذي إيجاد دور فعّال وقوي له يشتكون دوما من سعيه لإصدار القرارات والبيانات التي تكون غالبا غير مجدية على أرض الواقع. وقد يكون من المهمّ الإشارة هنا إلى أنّ صوت الاتّحاد الأوروبّيّ قلّما تميّز حقا بفعالية، غير أنّ هذا الوضع تفسّره عدّة اعتبارات أبرزها صعوبة الإقرار بمواقف رسميّة وقويّة تمثّل حقا وجهات نظر كلّ من أعضاء الاتّحاد. لكن هذا لم يمنع المفوّضيّة الأوروبّيّة من اتّخاذ قرارات سعت عبرها إلى التأثير في الوضع القائم على أرض الواقع كما ظهر في الانتقادات اللاذعة الموجّهة لنظام حكم الرئيس بشّار الأسد إثر ردّه العنيف على مطالب معارضيه، وكذلك اعتماد رزمة من العقوبات الاقتصاديّة الّتي امتثلت بها كلّ الدول الأعضاء في الاتّحاد.

ولكن، وفي المقابل، أبانت الأزمة السّوريّة أيضا عن وجود دول ضمن الاتّحاد الأوروبي تنعم بثقل أكبر من غيرها فيما يتعلّق بقضايا السّياسّة الخارجيّة، ولعلّ أفضل مثال على ذلك تلك الخطوات والتصريحات الّتي اتخذتها الحكومة الفرنسيّة. فمنذ بدء الأزمة السّوريّة في شهر مارس/آذار 2011، ركبت فرنسا قطار الانتقاد اللاذع لأداء الرئيس بشّار الأسد على الرّغم من أنّ العلاقات بين البلدين كانت قد وصلت إلى مستويات متميزة قبل ذلك الحين، كما تجلى ذلك في إرسال الرئيس جاك شيراك موفدين رّسميّين إلى دمشق ودعوة الرّئيس بشّار الأسد إلى حفل افتتاح مشروع الاتحاد من أجل المتوسّط في باريس في شهر يوليو/تمّوز 2008. ولكنّ هذا الانفتاح الفرنسي على سوريا لم يقابله تجاوب مناسب من دمشق، خاصة مع المطالب الفرنسيّة فيما يتعلّق بطبيعة علاقاتها مع إيران وحركة حماس، فضلا عن أنّ سوريا لم تترجم سياسة اليد الممدودة هذه إلى خطوات تسهيلية فيما يتعلق بالاستثمارات الفرنسية في قطاعي النفط والاتصالات. وقد يكون للاعتبارات الأخلاقيّة دور في الإصرار الفرنسيّ على الدفاع عن مطالب المعارضة السوريّة الّذي واكب آفاق الرّبيع العربي، غير أنّ لطبيعة الموقف الفرنسي اعتبارات أخرى أيضا. ففرنسا اقتبست دورا مهمّا بتشجيعها تكوين المجلس الوطني السّوري المعارض الذي يرأسه حاليا الدكتور برهان غليون، وهو مثقّف سوريّ مقيم في فرنسا، كما كان وزير الخارجيّة الفرنسي آلان جوبيه أوّل وزير أوروبي يعلن رأيه في الحكومة السورية على خلفية تعاملها مع المعارضين ويقول إنها "فقدت شرعيتها" وكان ذلك في شهر مايو/أيار 2011، بل وذهب بعد ذلك إلى اعتراف بلاده بالمجلس الوطني السّوريّ كممثل رسمي للمعارضة. وتؤشر التحرّكات الدبلوماسيّة الفرنسيّة على إرادة لإحداث تغيير في سوريا على غرار ما تمكّنت من فعله في الحالة الليبيّة، لكن يعوق تنفيذ الإرادة الفرنسية هذه عدة أمور من بينها هشاشة المعارضة السّوريّة وإخفاقها في توحيد صفوفها. وقد برز هذا الواقع في ظرف بدا فيه الرّئيس نيكولا ساركوزي غير محبّذ لفتح جبهة ضدّ سوريا قد تعبّر عن ضعف قدراته وتنعكس سلبا عليه في مرحلة حسّاسة تتميّز باستعداده لخوض معركة الانتخابات الرّئاسيّة، ولعلّ هذا أبرز ما يفسّر تراجع آلان جوبيه النسبي عن مواقفه السّابقة وتصريحه في شهر فبراير/شباط 2012 بأنّه بات مستاءً من أداء المعارضة السّوريّة غير الموحّدة.

وعلى الرّغم من أنّ الموقف الفرنسي لم يتناقض مع مواقف باقي الدول الأوروبّيّة فيما يتعلق بطبيعة وكيفيّة التّعامل مع الملفّ السّوريّ إلّا أنّه يبدو وكأنّ فرنسا خطت خطوة أبعد حينما أعلنت ما يجب فعلة إزاء الوضع في هذا البلد دون أن تثبت أنها قادرة على التّأثير الفعلي على الوضع هناك. وفي النتيجة بدت الدول الأوروبّيّة الأكثر صمتا حول الأزمة السورية وكأنّها هي الأكثر حكمة.

هذا عن فرنسا أما بالنسبة لألمانيا فقد امتثلت لقرارات الاتّحاد الأوروبّيّ والأمم المتّحدة دون أن تنفرد بقرارات غير مجدية على أرض الواقع. لقد تميّزت الدبلوماسيّة الألمانيّة منذ زمن طويل بتطوير سياسات فعليّة في منطقة الشّرق الأوسط ولكن دون أن تعبّر عنها علنا، فضلا عن امتلاكها شبكة مخابراتيّة واسعة في العالم العربيّ تمكّنها من التّحقّق من أبرز ما يجري على أرض الواقع في أغلب هذه البلدان. وكذلك لم تبق مكتوفة الأيدي تجاه ما يحدث في سوريا، إذ أعلنت عن استيائها من الفيتو الرّوسي والصّيني، بل وطردت من أراضيها في شهر فبراير/شباط 2012 أربعة دبلوماسيّين سوريّين بتهمة علاقتهم بعمليّات تجسّس على معارضين سوريّين، ولكن يبقى الفرق هنا أنّه بينما تسعى دول أوروبّيّة مهمّة كفرنسا وبريطانيا إلى تسليط الأضواء على أدائها والإشارة دوما إلى أنّها متمسّكة بدعم المعارضة السّوريّة وإضعاف الرئيس بشّار الأسد، تبرز دول كألمانيا وإسبانيا كمثال للاعبين متمسّكين بإيجاد سبل التخفيف من معاناة الشّعب السّوري ولكن بطرق أكثر تكتّما.

تداعيات اختلاف موقف الاتحاد الأوروبي من الأزمة السورية

أمّا عن أسباب تباين مواقف دول الاتّحاد الأوروبّيّ وإخفاقه في اعتماد قرارات مؤثّرة وحاسمة فهي ناتجة عن عنصرين أساسيّين، أحدهما هيكلي، والآخر متّصل بإرادة بعض الدول في إبراز قدراتها الدبلوماسيّة الفائقة.

على الصّعيد الأوروبّيّ من الخطأ تعميم القول  بأنّ الاتّحاد الأوروبّيّ اختار سياسة اللا فاعليّة إزاء تطوّرات العالم العربي، لقد طوّر الأوروبّيّون العديد من البرامج والمشاريع الّتي موّلوها بسخاء حرصا منهم على تحسين الأوضاع الاقتصادية بالمنطقة خاصة بالنسبة للدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط. وعلى الرّغم من أنّ نيّتهم كانت متجه بالأساس إلى الحدّ من الهجرات غير الشّرعيّة إلّا أنّ ما يهمّ هنا هو أنّ الموارد الماليّة توفّرت بل وسمحت للعديد من بلدان جنوب المتوسّط بالاستفادة من تلك المشاريع التنمويّة. لكن في المقابل عبّرت هذه السّياسات أيضا عن ضعف الاتّحاد الأوروبّيّ العام على الصّعيد السّياسيّ إذ أنّ المبالغ الضخمة الّتي سُخّرت لدواعي "سياسة الجوار الأوروبي" لم يكن لها ثمار سياسية تعادلها.

والأمر لا يتوقّف هنا على الحالة السّورية التي استفادت من الدعم الاقتصادي الأوروبي في حين لم تستفد أوروبا سياسيا بالمقدار نفسه، فإن الحالة نفسها تكررت في عدد من الدول العربيّة كتونس والمغرب ومصر بل وإسرائيل أيضا، إذ استفادت هذه الدول من الانفتاح الأوروبّيّ عليها دون أن تستجيب سياسيا لبعض مطالب الاتحاد الأوروبي. فعلى سبيل المثال فإن تونس لم تحبّذ سياسات الإصلاح في مجال حقوق الإنسان في عهد بن علي، بل ذهبت إلى حدّ التّشديد من سياساتها التّعسّفيّة والمتعدّية على حقوق الإنسان عبر تعديلها لبند من قانونها المدني في شهر يونيو/حزيران 2010، وكذلك الحال بالنسبة لإسرائيل، إذ لم تعدل من طريقة تعاملها مع الفلسطينيّين. أمّا الاتّحاد الأوروبّيّ فلم يؤثّر هذا الصدّ على سياساته المعتمدة وكان ذلك ناتجا بشكل كبير عن ضعفه الهيكلي. فطالما بقيت المفوّضيّة الأوروبّيّة رهينة لوجهات نظر الدول الأعضاء المتضاربة وطالما لم تحاول أن تبلور وجهة نظر خاصة بها فستبقى مجهولة الهويّة ومنحصرة في دورها الضئيل وغير المقنع.

ومن المفارقات أنّ هذا العائق من الممكن اجتيازه وبطرق ديمقراطيّة إذ أنّ هناك برلمان أوروبّيّ فعليّ يعمل ويصوّت على قرارات تمثّل الأوروبّيّين ككلّ. غير أنّ الخلل المتواجد في طرق اعتماد القرارات الأوروبّيّة عميق، وقد برز ذلك بشكل جلي في الوضع السّوريّ حينما تجنبت السّيّدة آشتون مطالبة الدول الأوروبّيّة رسميّا بسحب سفرائها من سوريا على الرّغم من طلب رّسميّ صدر بذلك من البرلمان الأوروبّيّ في شهر فبراير/شباط 2012.

أمّا الدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبّيّ فالكثير منها ما زال بعيدا عن الاستعداد لتفويض الهيئات الأوروبّيّة الرّسميّة فيما يتعلّق بقضايا السّياسة الخارجيّة، وقد برز هذا الوضع حتّى فيما يتعلّق بالملفّ السّوريّ. فعلى الرّغم من اتّفاق وجهات نظر الدّول الأوروبّيّة حول ضرورة إدانة سياسات نظام الحكم في سّوريّا في تعامله مع المطالب الشعبية بالحرية والديمقراطية، ومع أنّهم اختلفوا في مرحلة من المراحل حول ما إذا كان هناك وجوب للتّدخّل المباشر في الشّؤون السّوريّة أم لا، إلّا أنّها لم تستغلّ فرصة هذا التقارب النظري لتفويض المفوّضيّة الأوروبّيّة باتّخاذ القرارات الّتي تراها ملائمة للتعامل مع الوضع السّوري. فكانت النتيجة كما سبق القول ظهور الاتحاد الأوروبي بمظهر الضعيف غير القادر على التعامل بفعالية مع الأزمة السّوريّة. وقد امتدّت هذه النتيجة لتشمل دولا مثل فرنسا وبريطانيا اللتين ظنّتا أنهما قادرتان على التعامل مع الأزمة السورية سياسيا وعسكريا كما حدث في الحالة الليبية قبل أن تتراجعا عن ذلك بعد أن أعادتا تقييم الوضع .

كيفية بلورة موقف أوروبي أكثر تأثيرا

فوات فرصة بلورة موقف أوروبّيّ مؤثّر حتّى الآن فيما يتعلّق بالأزمة السّوريّة لا يعني بالضرورة أنّ بوادر تكوين هذا الموقف قد اختفت كلّيّا، فالفرصة ما زالت متاحة للاتّحاد الأوروبّيّ كَي يوظّف قدراته ويؤكّد على استطاعته اعتماد سياسات تبرز وجوده على السّاحة الدوليّة.

لا شكّ في أنّ المفوّضيّة والرّئاسة الأوروبّيّتين، وبالرّغم من أدائهما المحدود، ما زالتا متمسّكتين بنيل قدر أكبر من حرّيّة التّصرّف فيما يتعلّق بسياسات الاتّحاد الأوروبّيّ الخارجيّة، لكن المشكلة أنه لا الموادّ المذكورة في معاهدة لشبونة الهادفة إلى إصلاح مؤسّسات الاتّحاد الأوروبّيّ وعمليّة صنع القرار فيه تسمح باتخاذ قرارات سياديّة للهيئات الأوروبّيّة، ولا الدول الأعضاء مستعدّة للاستغناء عن ما تتمتّع به من صلاحيّات دبلوماسيّة مبنيّة على تعريفها وتقييمها لمقتضيات مصالحها القوميّة.

غير أنّه، ورغم صعوبة بلورة إطار رسميّ يعترف بسيادة أوروبّيّة فيما يتّصل بالسّياسة الخارجيّة، يبقى من الممكن اعتماد خارطة طريق عامّة وغير رسميّة تحدّدها سياسة تدريجيّة تحبّذها ضمنيّا الدول الأعضاء للاتّحاد الأوروبّيّ. على سبيل المثال وحيث يتّفق الأوروبّيّون على ضرورة تضييق الخناق الاقتصادي على الحكومة السّوريّة، وسواء اتّفقنا على صوابية هذه الخطوة أم لا كونها تنعكس على الشّعب السّوريّ أوّلا، فلا شيء يمنع الأوروبّيّين من الموافقة على إتاحة صلاحيّات موسّعة للمفوّضيّة الأوروبّيّة حول سبل القرارات الواجب اعتمادها إزاء هذا الملفّ حتى ولو اقتضى الأمر أن تعرض الهيئات الأوروبّيّة ما تنوي اعتماده علي الدول الأعضاء قبل الإقرار بموقفها الرّسمي منه.

وقد تبدو هذه العمليّة معقّدة، خاصة إذا علمنا أنه يجب استشارة 27 دولة وانتظار موافقتها قبل الإفادة بقرار رسميّ، وقد تعترض دولة واحدة فتعطل صدور القرار. ولكن ما بات واضحا اليوم هو أنّ عدم اتّفاق الأوروبّيّين يأتي بنتائج أكثر سلبيّة على الاتّحاد بمجمله. ومن هذا المنظور قد يبقى التّأخّر في اتّخاذ المواقف الصّائبة أفضل من إصدار قرارات غير مجدية في الواقع. فإذا تمكّنت المفوّضيّة الأوروبّيّة من الحصول على صلاحيّات أشمل فيما يخصّ الموقف الواجب اتّخاذه من الملفّ السّوريّ لعلّها تتمكّن حينئذٍ من تقوية موقعها ناهيك عن أنّها تستطيع إبراز صورة لها أكثر وضوحا لسياسات الاتّحاد الأوروبّيّ فلربّما يبشّر ذلك حينئذٍ بنشأة سّياسة خارجيّة واضحة ذات تأثيرات فعليّة، فما يحتاج إليه الاتّحاد الأوروبّيّ هو إثبات قدرته على اتّخاذ قرارات بمفرده عِوَضا عن دوله الأعضاء، إذ إنّ إمكانيّة القيام بهذه الخطوة تمثّل أهمّ وأوّل نجاح لمستقبل السّياسة الأوروبّيّة.

الآفاق المفترضة

قد يطول الوقت قبل أنّ نتمكّن من التحدّث عن مواقف مؤثّرة للاتّحاد الأوروبّيّ. فالأوروبيون ما زالوا بعيدين عن اجتياز الخطّ الّذي يفصلهم عن حلبة لاعبي العلاقات الدوليّة ذوي الوزن الثقيل، ومن المفارقات أنّ الاتّحاد الأوروبّيّ يفتقد دورا سياسيّا معتبرا في حين ما زال يحتفظ بثقل اقتصاديّ لا يستهان به، وبعض أعضائه يتمتعون بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن. فعلى سبيل المثال، وفيما يتّصل بالملفّ السّوريّ، فقد قرّر الاتّحاد الأوروبّيّ الاعتراف بالمجلس الوطني السّوريّ كممثّل شرعيّ للشّعب السّوريّ، ولعلّ هذا القرار يبدو مبدئيّا ملائما لشروط التّحرّك نحو حلّ للأزمة السّوريّة، وذلك إلى جانب إبرازه قدرة الأوروبّيّين على اتّخاذ القرارات المهمّة والحاسمة، غير أنّه في الواقع لا يعزّز من كفاءة الاتّحاد الأوروبّيّ ولا يبشّر بحلّ فعليّ للمعضلة السّوريّة، إذ إنه لا يكفي فقط الاعتراف بالمجلس الوطني السوري، لأن الأزمة بحاجة إلى مزيد من القرارات والإجراءات والخطوات الأخرى الأبعد مدى وأكثر فعالية من هذا الاعتراف.

شروط نجاح وبلورة سياسات الاتّحاد الأوروبّيّ المستقبليّة تكمن في عدّة عناصر لعلّ أهمّها هو منح تفويض متزايد للهيئات الأوروبّيّة يكون متّفقا عليه ولو ضمنيا من قبل الدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبّيّ، والاتّفاق على ضرورة بلورة السّياسات والإستراتيجيّة الأوروبّيّة وفقا لما تقتضيه مصلحة الاتّحاد الأوروبّيّ وبعيدا عن إغراء الاصطفاف إلى جانبِ أيّ من القوى العظمى، وممارسة الاتحاد أدوارا متزايدة للضغط على العناصر الفاعلة في الأزمة السورية.
___________________
براء ميكائيل - مدير أبحاث حول شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد FRIDE بمدريد.

ABOUT THE AUTHOR