الأقليات المسلمة في البلقان الواقع والتحديات

يمثّل مسلمو البلقان خليطًا مجتمعيًا متنوعًا سياسيًا وإثنيًا ولغويًا وثقافيًا ومذهبيا, وتعتبره أوروبا جسما غريبا عنها وميراثا عثمانيا فحسب، وتبني مقاربتها الإستراتيجية لهذه المنطقة على أنها مساحة فاصلة بين المسيحية الكاثوليكية وتلك الأرثوذكسية, وبين أوروبا والإسلام.
201263111943481734_20.jpg
خارطة منطقة البلقان (الجزيرة)

يشكِّل البلقان حدودًا جغرافية ودينية وثقافية بين الشرق والغرب, ويعرَّف غربيًا بأنه ميراث عثماني, وهو الفاصل بين المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية, في ذات الوقت الذي يمثّل فيه البلقان فاصلاً بين أوروبا والإسلام.

في النظرة الأوروبية يشكّل البلقان جسمًا غريبًا عن أوروبا المسيحية, وبالتالي فهو المنطقة الفاصلة التي لا بد من عزلها إلى أبعد ما يمكن؛ فالبلقان أصبح مرادفًا للمنطقة القذرة ولذلك الجسم الغريب عن أوروبا, وهكذا كانت النظرة إلى شعوبه المسلمة.

وتطرح هذه المقاربات المبنية على نظرة أوروباوية مركزية, إشكالية تفهّم الغرب للإسلام البلقاني وحقائقه.

يمثّل مسلمو البلقان خليطًا مجتمعيًا متنوعًا سياسيًا وإثنيًا ولغويًا وثقافيًا, بل وحتى دينيًا (بمعنى الاختلاف المذهبي). وهم في الغالب سكان المنطقة الأصليون اعتنقوا الإسلام على امتداد قرون طويلة.

يتوزع مسلمو البلقان إلى إثنيّتين كبيرتين، هما: الإليرية (الألبان)، والسّلافينيّون الذين يضمون البوشناق, والتُّربشيين, والغورانيّين، ومسلمي بلغاريا البوماك. ويتحدث مسلمو البلقان عشر لغات مختلفة أوسعها استعمالاً الألبانية والبوسنية والتركية ولغة الغجر والبلغارية.

يتبع مسلمو البلقان المذهب الحنفي, كما يوجد حوالي 20% من البقداشيين في ألبانيا وبعضهم في مقدونيا, إلى جانب وجود أقلية علوية في بلغاريا, وينتمي جُلّ مسلمي البلقان إلى الحضارة والثقافة العثمانية.

عامل التاريخ في تشتيت مسلمي البلقان

يعود أول لقاء بين الإسلام وجنوب شرق أوروبا إلى القرن الثامن الميلادي على خلفية حصار مدينة تساري غراد وتمكّن بعض سرايا الجيش الإسلامي من بلوغ الجزر اليونانية وأدرنة.

أما مسلمو البلقان الحاليون فيعود وجودهم إلى زمن الفتح العثماني عندما اعتنق عدد كبير منهم الإسلام, ثم ما لبثوا أن تحولوا بعد الانسحاب العثماني من المنطقة إلى أقليات مبعثرة بين دول عدة وباتوا أقليات مهمشة ومضطهدة, باستثناء مسلمي ألبانيا وكوسوفو والسنجق والبوسنة الذين حافظوا على وحدتهم ودينهم رغم ما تعرضوا له بدورهم من عمليات تصفية عرقية, وقد أحصى بعض المؤرخين عشر مجازر كبرى تعرض لها مسلمو البلقان منذ الانسحاب العثماني.

مع خسارة العثمانيين أراضي المجر وأجزاء من كرواتيا بعد 150 عامًا من احتلالها, تعرض المسلمون إلى عمليات تنصير شاملة وقُتِل منهم عدد كبير من الذين حاولوا الصمود أو رُحّلوا أو غادروا بمحض إرادتهم. وتلك كانت الصدمة الأولى التي عاشوها.

أما الصدمة الكبرى الثانية التي عاشها مسلمو البلقان فتزامنت مع استقلال عدد من دول البلقان التي سعت إلى بناء الدولة الإثنية الخالصة, وكان ذلك على إثر حرب البلقان الأولى عام 1912, وعرفت تلك الفترة تصفية حسابات واسعة وقاسية مع مسلمي البلقان بصفتهم خونة وعملاء تعاملوا مع المستعمر العثماني ضد أبناء جلدتهم من الأرثوذكس, فعرف المسلمون في البلقان عمليات هجرة جماعية نحو تركيا أساسًا والبلدان العربية والإسلامية الأخرى.

الموجة الثالثة من الإعصار الذي ضرب مسلمي البلقان كانت مع وصول الشيوعيين إلى السلطة في كل دول البلقان باستثناء اليونان, فخضع المسلمين حينها إلى عمليات طرد وملاحقة باعتبارهم أصحاب ديانة مختلفة وأقليات غير مرغوب فيها, وقد عرف مسلمو ألبانيا نوعًا آخر من الملاحقة, بصفتهم أغلبية في بلدهم, فعمدت السلطات الشيوعية إلى إخضاعهم إلى عمليات أدلجة مُمنهجة حاولت القضاء على كل ما له علاقة بالدين لديهم, وقد عرفت تلك الفترة هجرة مئات آلاف المسلمين أغلبهم من مقدونيا.

الفترة الأكثر قتامة في تاريخ مسلمي البلقان تعود إلى تسعينيات القرن الماضي؛ ففي تلك العشرية لاحقت السلطات البلغارية المسلمين من الإثنية التركية وأجبرتهم على ما سُمي حينها ببلغرتهم وكان ذلك في سنوات حكم تودور جيفكوف الأخيرة, وتلا ذلك عمليات التطهير العرقي الأشرس الذي عرفته أوروبا في البوسنة والملاحقات في السنجق والحرب المفتوحة على مسلمي كوسوفو ومقدونيا, وأسفرت هذه الحملة الحاقدة على المسلمين في البلقان إلى قتل حوالي 250 ألفًا منهم وتهجير مئات الآلاف إلى أميركا وأستراليا وأوروبا الغربية فتغيرت مرّة أخرى خارطتهم الإثنية في البلقان.

المسلمون في البلقان: إحصاءات غير دقيقة 

لا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد المسلمين في البلقان, لكن أكثر الترجيحات تحدد أعدادهم ما بين 8,5 إلى 11 مليون نسمة, أو ما يعادل 11-15% من مجموع سكان المنطقة البالغ 77 مليون نسمة.

يشكّل مسلمو ألبانيا وكوسوفو أغلبية مطلقة في بلديهما, في حين تبلغ  نسبة مسلمي البوسنة أغلبية نسبية مقارنة بأعداد الصرب والكروات الذين يقاسمونهم نفس الأرض, والمسلمون أغلبية أيضًا في إقليم السنجق الذي لا يتمتع باستقلال ذاتي، وقد أصبح مسلمو السنجق يتوزعون على دولتين، هما: صربيا والجبل الأسود, ويبلغ المسلمون في مقدونيا حوالي نصف مجموع السكان, وفي بلغاريا حوالي 15%, أما في رومانيا واليونان وكرواتيا وسلوفينيا والمجر فيشكّل المسلمون أقليات لا ثقل لها.

لم يكن يُعرف تحديدًا عددُ المسلمين في يوغسلافيا قبل انهيار جدار برلين وما تبعه من تشظّي الاتحاد اليوغسلافي إثر الحرب التي أحرقت المنطقة ما بين 1991-1995, ويعود ذلك أساسًا إلى أن الإحصاءات التي تم إجراؤها حينها لم تعتمد البعد الديني في تصنيف سكان الاتحاد, لكن هناك بعض التقديرات التي تشير إلى أن عددهم قد يبلغ أربعة ملايين أو أكثر قليلاً في بلد يصل عدد سكانه إلى حوالي 22,5 مليون نسمة بحسب إحصاء 1981, ومع قولنا ذلك فإنّ عدد المسلمين الممارسين لعقيدتهم بين هؤلاء لا يمكن تحديده على وجه الدقة.

تُوجد أولى الجماعات المسلمة الثلاث الكبرى في البوسنة والهرسك, ومسلموها سلافيو الأصل في أغلبهم, اعتنقوا الإسلام على امتداد القرون الماضية, إلى جانب وجود أعداد من أصول تركية وعربية وغيرها, ويبلغ عدد مسلمي البوسنة حوالي مليوني نسمة من مجموع أربعة ملايين ونصف.

الجماعة المسلمة الكبرى الثانية توجد في كوسوفو ويبلغ عددها الإجمالي حوالي 1,2 مليون نسمة, أما المجموعة الثالثة فتتواجد في مقدونيا وتتوزع بين مسلمين مقدونيين يُجهل عددهم على وجه الدقة, مع وجود تقديرات ترجح أن عددهم يبلغ حوالي 100 ألف نسمة, يُضاف إليهم نصف مليون نسمة من الألبان و100 ألف من المسلمين الأتراك, ويُضاف إلى هذه المجموعات الكبرى أعداد أخرى من المسلمين يتوزعون في الجبل الأسود ويُقدَّر عددهم بعدة عشرات من الآلاف, وحوالي مائة ألف مسلم آخرين من أصول غجرية وأصول أخرى تنتمي إلى كل الأعراق المشار إليها أعلاه وتتوزع على مختلف المناطق والمدن والقرى اليوغسلافية.

البلد العدد التقديري النسبة التقديرية
اليونان  120000  1.5%
ألبانيا   2300000 70.0% 
 مقدونيا 700000  33.0% 
 بلغاريا 1100000  12.5% 
 البوسنة والهرسك  2020000 46.0% 
 يوغسلافيا  2040000 20.0% 
 رومانيا 50000  0.2% 
 المجموع 8330000  13.5% 

المصدر (*): الإحصاءات التقديرية مستمدّة من إحصاءات عام 1942، مركز ويلكنسون

واقع مسلمي البلقان، وأهم التحديات

إذا كان عقد التسعينيات قد مثّل لمجمل شعوب أوروبا الوسطى والبلقان عقد استعادة الحريات المغتصبة من قبل الحكومات التسلطية الشيوعية, فإن تلك العشرية كانت بالنسبة لمسلمي البلقان إحدى الحقب التراجيدية الأكثر سوادًا وإيلامًا وخطورة في تاريخهم  منذ فترة ما بعد سقوط الخلافة العثمانية.

ففي الوقت الذي بدت فيه بوادر تشير إلى استعادة الأقلية التركية المسلمة في بلغاريا بعض حقوقها الأساسية، وبدأت أعداد منهم تعود إلى المناطق التي هجروها مختارين أو مرغمين, فإن تشظي الاتحاد اليوغسلافي وانفجار الصراع البوسني الذي استهدف اقتلاع المسلمين هناك من جذورهم قد أعاد إلى الأذهان مآسي البلقان وشعوبه المسلمة.

وقد عجزت اتفاقيات دايتون المبرمة أواخر العام 1995, رغم أنها أوقفت الحرب, عن تجاوز الأحقاد التي لا يمكن لأي اتفاق مهما بلغ من حكمة الصياغة أن يلغي تاريخًا طويلاً من المعاناة, وهكذا لم يدُم ذلك الهدوء السطحي طويلاً؛ إذ تفجرت في بدايات العام 1997 (مارس/آذار) الحرب الأهلية في ألبانيا, ورغم أنهّا لم تكن مشحونة دينيًّا إلا أنها أغرقت شعبًا أغلبه مسلم في أعمال عنف خطيرة أودت بحياة العديدين.

وشهد إقليم كوسوفو في مارس/آذار 1998 انفجار صراع مسلح غذته عودة الممارسات الهادفة إلى تطبيق سياسة التطهير العرقي التي غرس بذورها الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش, بعد أن كان جربها في البوسنة, وقد أدّى ذلك في العام 1999 إلى التدخل العسكري لحلف الناتو, ودفع حينها بعشرات الآلاف من مسلمي كوسوفو الألبان إلى الهجرة الجماعية. وليس غريبًا أن تكون شعوب المنطقة المسلمة التي لم تعش نفس المصير مثل مسلمي إقليم السنجق وألبان مقدونيا والجبل الأسود, تستبطن مخاوف مشروعة من أن تكون هي بدورها هدفًا في المستقبل وضحايا محتملين لما قد يتفجر في مناطقها من صراعات.

أما بالنسبة لألبان ألبانيا من المسلمين, وإن كانوا أغلبية, وأتراك بلغاريا, فإنّ هشاشة وضعهم الاقتصادي وعدم تمكنهم من الحصول على الوظائف والأعمال الكريمة تدفعهم إلى الهجرة, وإن كانوا لا يشعرون بتهديد مباشر لوجودهم كمسلمين.

إن تواجد المسلمين في قلب الصراعات التي ضربت دول جنوب شرق أوروبا في العقد الأخير, قد غذّى عددًا من الشكوك حول حقيقة وجود صراع بين الحضارات أو الثقافات, وقد وجدت أطروحات(**) صامويل هنتنغتون وروبرت كوبلان في هذا الصدد أرضًا خصبة في منطقة البلقان؛ حيث يلتقي مثل هذا الخطاب المشحون والشاحن مع الصورة النمطية المرسومة سلفًا للخلافة العثمانية أو حول دور دول البلقان في حماية المسيحية من هجمات الإسلام.

وقد يجد هذا الخطاب المخوِّف من الإسلام بعض امتداداته في نظريات تدعي العلمية  وتحذّر من خطر أخضر داهم أو من محور إسلامي, أو أيضًا الخوف من إعلان ما سُمي بالجهاد الديموغرافي في البلقان وهو ما يخفي وراءه فكرة مخيفة تهدف إلى نزع المشروعية عن الوجود الإسلامي في البلقان، وتغذي النهج الطامح إلى محاولات اجتثاثهم من المنطقة بدعم روسي غير خفي وصمت غربي متواطئ وتدخّل أميركي محسوب, وهو ما أدّى وسيؤدي في الغالب إلى عمليات التطهير العرقي التي أضحت بضاعة بلقانية بامتياز.

إذن كانت فترة التسعينيات, بكل تجاذباتها ومحاولات تفكيك ألغازها وفهم تحدياتها التي طرحتها, فترة تميزت بحركية ثلاثية الأبعاد أظهرت مسلمي البلقان كلاعبين سياسيين مستقلين, كما أبانت عن التنوّع الذاتي داخل المجتمعات البلقانية المسلمة وأعادت الإسلام البلقاني إلى الحاضنة الأم وهي الأمة الإسلامية الجامعة, وقد بدا ذلك من خلال الدعم المادي والمعنوي من دول إسلامية خاصة تركيا التي لها جذور راسخة في المنطقة وجملة من المصالح الحيوية, كما أن إيران تبدو أحد اللاعبين الباحثين عن موطئ قدم في الأرض البوسنية إلى جانب دولة ماليزيا التي تبحث عن أسواق أوروبية وترى في البوسنة بوابة رئيسية لها.

التحولات السياسية والدّيموغرافية

على إثر سقوط الأنظمة الشيوعية في المنطقة, ظهرت المجتمعات المسلمة في البلقان كلاعبين سياسيين مستقلين ونتج عن ذلك تكوين أحزاب سياسية تمثل عموم المسلمين في الدول البلقانية, وكانت أغلب تلك الأحزاب ترفع شعارات محايدة (حزب الحركة الديمقراطية لمسلمي البوسنة والهرسك والسنجق, حزب الرفاه الديمقراطي لمسلمي مقدونيا الألبان, وحزب الرابطة الديمقراطية لمسلمي كوسوفو, والحركة من أجل الحقوق والحريات بالنسبة لمسلمي بلغاريا الأتراك), في حين لم تُخْفِ بعض الأحزاب الأخرى هويتها الإثنية مثل الحزب الديمقراطي التركي وحزب  التحرر الكامل للغجر في مقدونيا, والاتحاد الديمقراطي التركي في كوسوفو أو كذلك الاتحاد الديمقراطي للأتراك المسلمين في رومانيا؛ حتى إن اليونان لم تخرج عن عملية تسييس المجتمعات المسلمة في البلقان حيث تم تكوين الحزب التركي "صداقة, عدالة, سلم".

الاستثناء الوحيد في ذلك هي ألبانيا التي لا يوجد فيها حزب يمثل المجتمع المسلم لأن المسلمين في ألبانيا أغلبية، ولديهم نزعة قوية إلى تعريف أنفسهم وفقًا لهويتهم القومية الألبانية.

هذه الأحزاب الجامعة للمجتمعات المسلمة في البلقان حصلت في أول انتخابات حرة على أغلبية أصوات المسلمين في الدول التي خاضوا فيها الانتخابات, لكن ذلك لم يكن يعني بالضرورة مساندة مطلقة من قبل الناخبين لبرامج تلك الأحزاب ولا لتوجهاتها, حيث صوَّت عدد من مسلمي تلك البلدان للأحزاب المنافسة (أغلبهم ينتمون إلى الطبقات الوسطى والأقليات المثقفة في البوسنة, أو من إثنية البوماك في بلغاريا).

إن مرور الأحزاب الممثلة للإثنيات المسلمة في البلقان إلى ممارسة الفعل السياسي لم يكن متشابهًا, بل كان مختلفًا وبشدة من بلد لآخر, وأغلبية هذه الأحزاب تبحث عن إعادة تشكيل هوية الشعوب المسلمة  في البلقان.

وفي حين قبلت بعض المجتمعات المسلمة العمل في الفضاء السياسي المتاح ووفقًا للقوانين القائمة والمنظمة له وانضمت أحزابها إلى تحالفات مختلفة, مثل ما حدث في بلغاريا,  فإن مجتمعات مسلمة أخرى قاطعت الانتخابات وأنشأت أحزابًا خاصة, وهو ما حصل في كوسوفو والسنجق.

أما مسلمو البوسنة ومقدونيا فقد اختاروا حلاً وسطًا؛ إذ قدم حزب جبهة العمل الديمقراطي البوسني نفسه مدافعًا عن استقلالية البلاد ومؤسساتها متعدّدة الأعراق, لكنّه أحاطها بمؤسسات موازية؛ في حين انتقد مسلمو مقدونيا الدستور وقاطعوا الاستفتاء حول الاستقلال, لكنّهم قبلوا المنافسة على الساحة السياسية المحلية وشاركوا في الحكومة.

وتُفسَّر هذه الاختلافات في اختيار الموقع السياسي وطريقة العمل بعدة أسباب, منها: الوضع الديموغرافي للمسلمين في البلدان التي ينتمون إليها, فقد تقدمت الأحزاب المسلمة في كوسوفو, حيث تمثل هناك أغلبية مطلقة, وفي البوسنة، حيث يمثل المسلمون أغلبية نسبية, بمطالب سياسية واضحة, في حين ضعفت مطالباتهم في البلدان التي يمثلون فيها أقليات مستضعفة كحالهم في اليونان ورومانيا.

أما في ألبانيا فإن الهوية الوطنية أُعيد النظر فيها على ضوء أزمة كوسوفو وقضية الألبان في مقدونيا, حيث يمثل الإسلام هوية مشتركة مهمة جدًا لهاتين المجموعتين, والتي يحاول بعض الزعماء الدينيين وجزء من المثقفين خلطها بالهوية الوطنية, وقد أدت هذه الظاهرة إلى نتائج مهمة ألقت بظلالها على الوضع الألباني نفسه, حيث قدمت أعداد من مسلمي مقدونيا وكوسوفو إلى ألبانيا لإنشاء مشاريع اقتصادية ضخمة واحتلوا مواقع قيادية في المؤسسة الدينية فكان تأثيرهم واضحًا في شمال البلاد التي بات أغلب سكانها ذوي حساسية إسلامية عالية في مواجهة الجنوب الذي يُحسَب تاريخيًا على الشيوعيين, وهم اليوم يحاولون بسط نفوذهم المتصاعد على الجنوب ويطمحون إلى خلق فضاء يضم ألبانيا وكوسوفو وغرب مقدونيا مما يعني أن ثقل الهوية القومية الألبانية آخذ في التحول إلى الشمال, حيث من المحتمل أن تقوى شوكة المسلمين أكثر, وهو ما يخيف صربيا وروسيا بشكل خاص لتشابه حالة الشيشان المسلمة مع ما تعيشه مجتمعات البلقان المسلمة.

وهكذا نجد أن الجماعة المسلمة في البلقان لا تمثل وحدة متلاحمة بل تقدم نفسها في أشكال جماعات مناطقية, تختلف علاقات كل منها سواء الرسمية أو غير الرسمية, مع سلطات البلدان التي تعيش فيها, كما أن حقيقة أوضاع الجماعات المسلمة على الأرض ليست واحدة وتختلف اختلافًا كبيرًا سلبًا أو إيجابًا.

يمكننا هنا طرح التساؤل التالي: هل مكَّنت الصراعات التي عرفتها فترة التسعينيات المسلمين في البلقان من تحقيق أهدافهم القومية وإنجاز مشاريعهم الوحدوية؟ والإجابة لا يمكن أن تكون قطعية, رغم أن البوسنة وكوسوفو حققتا استقلالهما عن بلغراد, لكن يبدو أن ألبانيا لم تتجاوز بعدُ أزمتها التي عصفت بها عام 1997 وطالت وحدتها القومية. أما فيما يتعلق باستقلالية إقليم السنجق وغرب مقدونيا التي طالب بها متشدّدو المسلمين في هذين الجيبين فلم تعد اليوم على الأجندة المطلبية, فيما تظل المسألة القومية مطروحة وبقوة لدى البوشناق وبالأخص لدى الألبان. وعمومًا فإن الأمور شهدت تطورًا في اتجاهات عدة.

واقع الحال والمآلات المحتملة

في العقد الأخير بدأ مسلمو مقدونيا ذوو الأصول السّلافية يحظون بدعم واضح من السلطات المقدونية من أجل هيكلة مؤسساتهم وتنظيم أوضاعهم للحصول على جسم مستقل عن إخوانهم من المسلمين الألبان في مقدونيا, وهم يحاولون النأي بأنفسهم والخروج من السيطرة المؤسساتية التي تفرضها الأغلبية الألبانية المسلمة التي تهيمن على الحضور المسلم في مقدونيا بعد أن زادت أعدادهم خلال العقود القليلة الماضية بحكم موجات الهجرة الكثيفة التي قام بها مسلمو كوسوفو من الألبان إلى مقدونيا, لكن يبدو أن هذه الاستقلالية التي يسعى إليها المسلمون المقدونيون بعيدة المنال بسبب قلة عددهم وغياب قيادات قوية بينهم.

أما في كوسوفو, فإن فورة القومية الألبانية تخفي إمكانيات تحليل الأهمية الحقيقية للبعد الديني الذي يميز الجماعة المسلمة هناك, وتتلخص الخطوط العريضة لتوجهات المسلمين في كوسوفو في: إظهار انتماء ألباني قومي قوي يغلب عليه الطابع العلماني مع وجود مسحة إسلامية غير خفية, ومقاطعة للمؤسسات اليوغسلافية وللدولة قبل الاستقلال عن صربيا, واتباع سياسة الندّ للندّ بعد الاستقلال الذي أعلنته بريشتينا من جانب واحد ورفضته بلغراد رغم اعتراف ما يزيد عن ثمانين دولة عبر العالم بهذا البلد الوليد, وقد جاءت آخر انتخابات رئاسية في صربيا بالقومي المتشدّد, توميسلاف نيكوليتش إلى كرسي الرئاسة في العشرين من مايو/أيار 2012, وكان أول ما صرّح به أنّه لم ولن يعترف باستقلال كوسوفو وسيسعى إلى استعادة الأرض التي يعتبرها صربية خالصة, بكلّ الطرق المتاحة, كما كانت أول زيارة خارجية له, في السادس والعشرين من مايو/أيار 2012 إلى الكرملين حيث تلقّى دعمًا مهمًّا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ فكوسوفو هي المقياس الدال على استقرار المنطقة من عدمه وأيّ انفجار للأوضاع هناك سيشعل المنطقة بأكملها ويعيد ترتيب الأوراق داخليًا وإقليميًا ودوليًا.

الأكيد أن أوضاع المسلمين في البوسنة أصبحت أكثر تراجيدية, فقد أدت أول انتخابات عرفتها البلاد بعد الحرب العالمية الثانية إلى انهيار وإفلاس تام للحزب الشيوعي الذي كان يحكم البلاد وفوز كاسح للحزب الإسلامي حديث العهد والذي استطاع حينها أن يجمع كل القوى السياسية المسلمة في تحالف مقدس. لكن وبعد وقت قصير من ذلك تشظّى الحزب المسلم القوي إلى عدة أحزاب أبرزها ثلاثة يمكن تصنيفها إلى دينية وعلمانية ويسارية, وقد شهدت العلاقة بين هذه الفصائل الثلاث مواجهات واحتقانات عديدة خاصة أثناء الاستحقاقات الانتخابية المهمة, وتميزت العلاقة بينها بالتأزم ومحاولات كل منها إقصاء الآخر من الحياة السياسية, كما أن لكل حزب منها أهدافًا وإستراتيجيات مختلفة قد تصل إلى حد التضارب.

يبقى وضع المسلمين في البوسنة غير واضح المعالم ولا يمكن توقع ما ستؤول إليه الأوضاع بعد رحيل القوات الغربية, خاصة في ظل تصاعد موجة مطالبات صرب البوسنة, فيما يُعرَف بريبوبليكا صربسكا, بانفصالها عن البوسنة والتحاقها بالدّولة الأم صربيا, وقد يُغذّي هذه المطالب اليوم وجود رئيس صربي ورئيس وزراء في ريبوبليكا صربسكا يسعيان إلى تحقيق حلم الصرب القديم الجديد في إقامة إمبراطورية الصرب الكبرى, لكنّ أية محاولة للانفصال بالقوة ستؤدّي إلى انفجار مسلّح يعيد البوسنة إلى المربّع الأول ويخلط الأوراق الإقليمية والدولية في المنطقة من جديد, وقد تكون الحرب المحتملة هذه المرّة أكثر دموية وستخلّف دمارًا واسعًا وعدم استقرار قد تصل ارتداداته الخطيرة إلى الجار الأوروبي الغربي.

خاتمة 

لفهم أكثر موضوعية لإشكالية وضع المسلمين في البلقان اليوم علينا مراعاة الملاحظات التالية:

  • لقد أنهى سقوط الاتحاد السوفييتي وتشظّيه إلى دول عدة سيطرة المركز على الأطراف وإلى الأبد, كما وضع هذا الانفجار حدًّا لعمليات التهميش التي عانى منها المسلمون, خاصة على مستوى الهوية الدينية والإثنية والقومية, ويبدو أن فترة الاضطراب والتذبذب هذه ستستمر لعقود طويلة يغذيها الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي يضرب بلدان البلقان.
  • كما ظهر اليوم إلى السطح عديد من الخطابات التي تكتسي صفة الإسلامية في الطرح والتحليل مصدرها جماعات إسلامية مختلفة, بحسب البلد الذي تصدر عنه والجهة الداعمة له, سواء كانت عربية أو فارسية أو تركية, دون أن تقدّم أطروحات مبنية على دراسات جادة لرسم إستراتيجية واضحة لمستقبل الأقليات المسلمة في منطقة لا تعرف الاستقرار إلا لتعاود الدخول في صراعات يغلب عليها الجنوح المفرِط إلى تصفية الآخر المختلف, وقد كان المسلمون في هذه المعادلة غير المتكافئة الحلقة الأضعف والأكثر عرضة للتصفية العرقية.
  • أخيرًا ومهما يكن من أمر فإن مسلمي البلقان, ما عدا أولئك الذين يعيشون في ألبانيا, سيظلون أقليات دينية وإثنية تعيش داخل بلدان تعادي الإسلام وترغب في إنهاء وجوده أو على الأقل إبعاده عن الحياة العامة للمجتمعات البلقانية. وفي رأيي, فإن ذلك الحوار غير المتكافئ بين السلطات في البلدان البلقانية والأقليات المسلمة الخاضعة لها ستفضي إلى إرضاء نسبي للجماعات المسلمة, لكنها ستحملهم عاجلاً أو آجلاً على إظهار عدم رضاهم وبالتالي عودة الاحتقان وربما التصادم مع تلك الحكومات وهو الأرجح.
    ______________________________________
    كريم الماجري - باحث وإعلامي تونسي

    (*)Ethnic groups and population changes in twentieth-century Central-Eastern Europe: History, Data, and Analysis. Piotr Erberhardt. M.E. Sharpe, 2003, P 344-346.
    http://books.google.com.qa/books?id=jLfX1q3kJzgC&pg=PA243&hl=ar&source=gbs_selected_pages&cad=3#v=onepage&q&f=false
    (**) كتب صاموئيل هانتيغتون في إطار نظريته لصراع الحضارات, عما أسماه بالحدود الدموية للإسلام البلقاني مشبها مسلمي البلقان بالدّاء السرطاني الذي ينخر جسم الحضارة الغربية ويتربّص بحدودها. أما كوبلان فقد حذّر من حزام إسلامي  بلقاني أخضر يحاصر خاصرة أوروبا من جهتها الشرقية ودعا إلى ضرورة مواجهته.

ABOUT THE AUTHOR