تأثير أزمة منطقة اليورو على مالية الدول العربية

تسببت أزمة منطقة اليورو في هبوط الطلب الأوربي على المواد الأولية المصدَّرة من قِبل الدول العربية وفي مقدمتها النفط، فانخفضت واردات أوروبا من هذه المواد، وتحملت الدول العربية النفطية وغير النفطية خسائر مالية كبيرة، فأصبحت ميزانيتها العامة في حالة عجز، وهبط فائض موازينها التجارية وانخفضت احتياطياتها.
20127299017369734_20.jpg
تسببت أزمة منطقة اليورو  إلى تحمل الدول العربية خسائر مالية فادحة فأصبحت ميزانيتها العامة في حالة عجز، وهبط بشدة فائض موازينها التجارية

تسببت أزمة منطقة اليورو الناجمة عن ركود اقتصادي تحول إلى كساد عام 2009 في هبوط الطلب الأوربي على جميع المواد الأولية المصدَّرة من قِبل الدول العربية وفي مقدمتها النفط. كما ألقى بظلاله على اقتصاديات البلدان الصناعية غير الأوربية فانخفضت وارداتها من هذه المواد. وهكذا تحملت الدول العربية النفطية وغير النفطية خسائر مالية فادحة فأصبحت ميزانيتها العامة في حالة عجز، وهبط بشدة فائض موازينها التجارية فانخفضت احتياطياتها الرسمية. لكن هذه الأزمة لم تؤثر سلبيًا على صادرات الخدمات العربية إلى أوربا وهي تحويلات العمال المغتربين وإيرادات السياحة. كما ساهمت في تحسين حجم الاستثمارات العربية الخارجية.

انخفاض إيرادات النفط

نتيجة لتباطؤ الاستهلاك الكلي حدثت أزمة اقتصادية في أوربا وفي البلدان الصناعية الأخرى على أساس أن الاستهلاك هو المحرك الرئيس لجميع الأنشطة الاقتصادية. فعندما ينخفض الاستهلاك يهبط الإنتاج بالضرورة أي يتراجع النمو فيحدث الركود وقد يصل التراجع إلى درجات سلبية فيحدث الكساد. ومنطقة اليورو تترنح بين هذا وذاك منذ أربع سنوات.

وقد قاد هذا الوضع إلى انخفاض الواردات الأوربية الكلية بما فيها المشتريات النفطية مما انعكس مباشرة على الصادرات النفطية للدول العربية. ويبين الجدول التالي إيرادات الصادرات النفطية العربية إلى الاتحاد الأوربي.

إيرادات الصادرات النفطية العربية إلى الاتحاد الأوربي بالمليار يورو(*)

الدولة 2008 2009 2010
الإمارات 1.3 0.6 1.4
الجزائر 12.2 0.6 7.3
السعودية 18.4 9.4 12.4
العراق 9.0 6.3 7.1
الكويت 2.1 1.4 1.9
ليبيا 31.2 17.8 25.9

* (الجدول تركيب أعدّه المؤلف انطلاقًا من إحصاءات التجارة الخارجية والداخلية للاتحاد الأوربي. يوروستات 2011).

انتقلت الصادرات النفطية العربية إلى أوربا من 74,2 مليار يورو عام 2008 إلى 41,5 مليار يورو عام 2009 أي تراجعت بنسبة 44% وهي أعلى من نسبة الانخفاض للواردات النفطية الكلية للاتحاد الأوربي البالغة 37,3%. ولما كانت ليبيا المصدِّر العربي الأول للنفط إلى أوربا فهي بالتالي أكبر المتضررين. فقد خسرت 13,4 مليار يورو عام 2009 قياسًا بالعام السابق تليها السعودية فالجزائر. ووصل مجموع خسائر الدول العربية إلى 32,7 مليار يورو. ثم تحسنت الصادرات العربية في عام 2010 لكنها لا تزال بعيدة عن صادراتها لعام 2008. في حين أن الصادرات النفطية الروسية إلى الاتحاد الأوربي لعام 2010 (100,4 مليار يورو) تكاد تساوي صادراتها لعام 2008. علمًا بأن روسيا هي الممول النفطي الأكبر لأوربا تليها النرويج. بالحساب النهائي هبطت الصادرات النفطية العربية قياسًا بالواردات الطاقية الأوربية من 16,2% عام 2008 إلى 14,6% عام 2010. في حين ارتفعت الصادرات الروسية والنرويجية خلال نفس الفترة من 32,7% إلى 35,5%. وهكذا يستغل الأوربيون أزمتهم الاقتصادية لتنفيذ سياستهم النفطية المتبعة منذ ما يسمى بالصدمة النفطية الأولى لعام 1973 أي تقليص الاعتماد على النفط العربي.

هذا عن الأثر المباشر أما الأثر غير المباشر فهو أخطر بكثير؛ إذ أدت أزمة منطقة اليورو إلى هبوط حاد وسريع في الواردات الكلية لأوربا التي انخفضت من 1565 مليار يورو عام 2008 إلى 1209 مليار يورو عام 2009 أي بنسبة 22,9%. وهذا يعني أن الصادرات الكلية لشركائها التجاريين انخفضت بنفس النسبة. ويتعلق الأمر بالدرجة الأولى بالولايات المتحدة والصين واليابان. أي أن أزمة منطقة اليورو أفضت إلى تقهقر الإنتاج لدى هؤلاء الشركاء وبالتالي إلى تقليص واردات المواد الأولية التي تدخل في التصنيع كالنفط. لهذا السبب هبط إنتاج النفط لعام 2009 في جميع الدول العربية المذكورة في الجدول. فعلى سبيل المثال انتقل الإنتاج من 1,72 إلى 1,47 مليون برميل يوميًا في ليبيا ومن 8,53 إلى 8,18 مليون برميل يوميًا في السعودية. كما تراجع في نفس الوقت سعر البرميل من 94,1 دولارًا إلى 61 دولارًا. تحت تأثير هذين العاملين ارتفعت الخسائر النفطية العربية ارتفاعًا هائلاً؛ فالإمارات خسرت أقل من مليار دولار في تعاملها النفطي المباشر مع الاتحاد الأوربي. لكن خسارتها النفطية الكلية بلغت 27,6 مليار دولار بسبب هذا الأثر غير المباشر. وكذلك فإن السعودية التي فقدت تسعة مليارات يورو في تعاملها المباشر مع أوربا ارتفعت خسارتها الكلية إلى 79 مليار دولار وهي أعلى خسارة نفطية في العالم خلال سنة واحدة.

يدل هذا الأثر غير المباشر على أن الخسائر المالية للدول العربية لا تتناسب بالضرورة مع أهمية تجارتها الخارجية مع دول منطقة اليورو؛ فليس للكويت علاقات تجارية متينة مع هذه المنطقة قياسًا بليبيا لكن خسارتها المالية أكبر.

قاد هذا الوضع إلى نتيجتين:

  1. النتيجة الأولى: ظهور عجز في الميزانيات العامة للبلدان النفطية؛ ففي الإمارات انتقل وضع الميزانية العامة من فائض بمبلغ 51,9 مليار دولار عام 2008 إلى عجز بمبلغ 33,9 مليار دولار عام 2009 أي من فائض يعادل 16,4% إلى عجز يساوي 12,6% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه النسبة أعلى حتى من نسبة العجز المالي في اليونان. ثم تحسن الوضع المالي عام 2010 نتيجة ارتفاع أسعار الخام والإنتاج لكن العجز لا يزال السمة الأساسية لميزانيات الجزائر والإمارات. وقد جرت العادة على تمويل العجز عن طريق الاقتراض فترتفع الديون وعن طريق السحب من الأرصدة فتنخفض القدرة المالية للدولة. وتجدر الإشارة إلى أن ظهور العجز المالي في الدول النفطية لا يتأتى من هبوط الإيرادات النفطية فقط بل كذلك من ارتفاع النفقات العامة لأسباب دفاعية وأمنية بالمقام الأول.
  2. النتيجة الثانية: هبوط فائض الميزان التجاري في جميع الأقطار النفطية؛ فقد انتقل الفائض في الجزائر من أربعين مليار دولار عام 2008 إلى أربعة مليارات دولار عام 2009. وفي السعودية من 212 مليار دولار إلى 105 مليار دولار (هذه الأرقام مذكورة في التقرير الاقتصادي العربي الموحد الصادر عن مؤسسات جامعة الدول العربية لعام 2011)؛ الأمر الذي يؤثر سلبيًا على احتياطياتها النقدية.

وعلى المدى القصير سوف لن تنخفض إيرادات النفط للدول العربية نظرًا لتحسن أسعار الخام التي وصلت حاليًا إلى 107 دولارات للبرميل، وبسبب انتقال النمو الحقيقي في منطقة اليورو من نقطة سلبية قدرها 0,1% عام 2012 إلى نقطة إيجابية قدرها 1,1% عام 2013 (توقعات النمو لصندوق النقد الدولي). أما على المدى الطويل فلا تبشر التوقعات بخير؛ إذ تبين الدراسة التي أعدتها وكالة الطاقة الدولية (آفاق الطلب العالمي 2009) أن الطلب النفطي في أوربا سيتجه نحو الهبوط المستمر من 13 إلى 12,2 وإلى 12 مليون برميل يوميًا للسنوات 2008 و 2015 و 2030 على التوالي. وترى أن الزيادة الضئيلة للطلب النفطي العالمي خلال هذه الفترة تكاد تنحصر في الصين علمًا بأن بوادر التراجع بدت تلوح في المؤشرات الاقتصادية الصينية الحالية؛ لذلك لا يُتوقع أن ترتفع الإيرادات النفطية العربية ارتفاعًا كبيرًا حتى وإن انتهت أزمة منطقة اليورو.

ارتفاع تحويلات العمال العرب المغتربين

يقيم في بعض دول الاتحاد الأوربي عدد كبير من العمال العرب الذين تركوا بلدانهم بحثًا عن سبل عيش أفضل. وتستقبل الدول الكبرى لمنطقة اليورو القسم الأكبر من العمال المهاجرين من المغرب والجزائر وتونس. ويصل حجم الجالية المغربية في أوربا إلى 1,7 مليون شخص وهي بذلك تحتل المرتبة العربية الأولى والعالمية الثانية بعد الجالية التركية. وحسب إحصاءات يوروستات تُعد أسبانيا أول مستقبل أوربي للمغاربة حيث يقيم فيها 649 ألف مغربي تليها فرنسا (461 ألف) فإيطاليا (365 ألف).

اعتاد العمال العرب على تحويل قسط من دخولهم بصورة نقدية أو عينية إلى بلدانهم لسبب أو لآخر. وبلغ هذا التحويل درجة من الأهمية المالية بحيث أصبح مصدرًا أساسيًا من مصادر الاحتياطيات الرسمية؛ ففي المغرب باتت التحويلات لعام 2011 تشكِّل 7% من الناتج المحلي الإجمالي. كما أنها تفوق صادرات الفوسفات الخام ومشتقاته علمًا بأن المغرب في طليعة البلدان المصدرة لهذه المادة في العالم.

لقد أدت أزمة منطقة اليورو إلى ارتفاع معدلات البطالة فيها التي انتقلت من 7% عام 2008 إلى 10% في منتصف عام 2012 (صندوق النقد الدولي. آفاق الاقتصاد العالمي. تقرير إبريل/نيسان 2012). يُفترض أن تنخفض تحويلات العمال العرب المقيمين في دول هذه المنطقة بسبب هبوط دخولهم الناجم عن تفاقم البطالة. خاصة وأن عدد العاطلين عن العمل في صفوف العمال الأجانب وصل إلى أكثر من 30% في الكثير من هذه الدول أي أن زيادة نقطة مئوية واحدة في المعدل العام للبطالة تعني زيادة ثلاث نقاط مئوية في معدل بطالة الأجانب. أضف إلى ذلك أن التقرير الأخير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية يجد علاقة بين هذه النسبة الهائلة للبطالة الأجنبية في منطقة اليورو والهجرة العكسية؛ فقد ترك (حسب التقرير) 68 ألف عامل أجنبي أيرلندا في العامين 2010 و 2011.

والواقع أن محاولة ربط الهجرة العكسية بارتفاع البطالة وهبوط التحويلات المالية هو ربط غير دقيق؛ فالهجرة العكسية لم تحدث في الدول الأوربية الكبرى بل في اليونان وأيرلندا فقط أي في دول لا تستقبل إلا عددًا ضئيلاً جدًا من العمال العرب. كما أن ارتفاع نسبة العاطلين العرب لا علاقة له بأزمة اليورو بل بعوامل عديدة سابقة لهذه الأزمة لا مجال لتفصيلها هنا. أضف إلى ذلك أن تحويلات العمال العرب لم تشهد إطلاقًا انخفاضًا طيلة السنوات المنصرمة؛ فقد انتقلت التحويلات إلى المغرب من 43030 مليون درهم عام 2006 إلى 53739 مليون درهم عام 2011 (مكتب الصرف. المؤشرات الشهرية للمبادلات الخارجية. 2011). ولم تنجم هذه الزيادة عن هبوط أسعار صرف الدرهم المغربي مقابل الدولار أو اليورو بل بالعكس تماما. فقد تحسنت القيمة التعادلية للعملة المغربية تجاه جميع العملات الرئيسة حيث انتقل سعر صرف الدولار خلال هذه الفترة من 8,79 درهمًا إلى 7,95 درهمًا وسعر صرف اليورو من 11,51 درهمًا إلى 10,25 درهمًا. وبعملية حسابية بسيطة نستنتج بأن التحويلات ارتفعت من 4895 مليون دولار إلى 6759 مليون دولار أي بنسبة 38% وهي أعلى من نسبة الزيادة معبَّرًا عنها بالدرهم المغربي. وارتفعت كذلك من 3738 مليون يورو إلى 5242 مليون يورو أي بنسبة 40,2% وهي أعلى من نسبة الزيادة بالدرهم وبالدولار. وعلى هذا الأساس فإن هذه الزيادة حقيقية ناجمة عن ارتفاع فعلي لحجم التحويلات وليست اسمية ترتبط بعوامل نقدية.

ولا يقتصر الأمر على المغرب فقط بل شمل أيضًا دولاً عربية أخرى كتونس. خلال الفترة بين 2005 و2010 لم تتوقف تحويلات العمال التونسيين عن الارتفاع حيث بلغت 2436 مليون دينار عام 2008 و2653 مليون دينار عام 2009 و2953 مليون دينار عام 2010 (الأرقام منشورة في تقرير البنك المركزي التونسي. ميزان المدفوعات. نوفمبر/تشرين الثاني 2011).

وتؤكد هذه الدراسة على أن أزمة منطقة اليورو لم تَقُد إلى هبوط تحولات العمال العرب. كما أن ارتفاع التحويلات لا يتأتى من استعدادات العودة النهائية للعمال العرب إلى بلدانهم الأصلية لأن أغلب هؤلاء العمال مقيمون في هذه المنطقة منذ فترة طويلة تقاس بالعقود وبعضهم متجنس ومنهم من يتمتع برواتب تقاعدية. كما أنهم يعتقدون أن وضعهم المعيشي في منطقة اليورو التي تعاني حاليًا من أزمة خانقة أفضل من وضعهم المعيشي في حالة عودتهم إلى بلدانهم. وتجدر الإشارة إلى أن عودة العمال الأجانب التي أشار إليها تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية تخص الأوربيين الشرقيين فقط.

إن ارتفاع تحويلات العمال العرب من منطقة اليورو دليل على عدم جواز تعميم الآثار السلبية لأزمة هذه المنطقة. ولكن هذا الارتفاع قد يكون أكبر لو لم تكن الأزمة واقعة؛ فقد قادت على الأقل إلى تشديد الإجراءات المتخذة للحد من دخول أجانب جدد إلى أوربا.

تحسن إيرادات السياحة

تحتل هذه الإيرادات مكانة مرموقة في المالية الخارجية لبعض البلدان العربية خاصة لبنان ومصر والمغرب وتونس؛ فهي تعادل تقريبًا تحويلات العمال في المغرب وتفوق هذه التحويلات في تونس.

لكن السياحة من الأنشطة التي تتأثر سريعًا وبشدة بالأحداث الأمنية. جاءت أزمة منطقة اليورو معاصرة للحركات الشعبية في تونس ومصر؛ لذلك هبطت إيراداتهما السياحية لتصل في تونس إلى 1827 مليون دينار عام 2011 بعد أن كانت 3523 مليون دينار في العام السابق (البنك المركزي التونسي. مرجع سابق)؛ مما ساهم في هبوط الاحتياطيات الرسمية وارتفاع معدلات البطالة. وما أن عاد الاستقرار السياسي حتى تحسنت الإيرادات في النصف الثاني من العام الجاري.

أما المغرب فلم يشهد انخفاضًا في إيراداته السياحية طيلة السنوات المنصرمة إلا بنسبة ضئيلة عام 2009، ثم اتجهت نحو الارتفاع عام 2011 لتصل إلى 54645 مليون درهم (مكتب الصرف. مرجع سابق) أي بزيادة قدرها 4,6% مقارنة بالعام السابق.

تزايد الاستثمارات الخارجية

يُفترض أن تقود أزمة منطقة اليورو إلى هبوط الاستثمارات الخارجية للبلدان العربية المتأتية من صناديقها السيادية؛ فقد أدت هذه الأزمة -كما ذكرنا- إلى هبوط إيرادات النفط وهي الرافد الأساس لرؤوس أموال هذه الصناديق. وساهمت كذلك في تراجع الطلب العالمي على مختلف السلع. وأما من الناحية الواقعية فقد ازدادت تلك الاستثمارات رغم انخفاضها في أوربا والولايات المتحدة مؤخرًا. وفيما يلي مظاهر هذه الزيادة وحجم هذا الانخفاض.

المظهر الأول: بلغت أزمة اليورو أوج عظمتها عام 2009، لكن استثمارات صناديق الثروة السيادية في العالم بصورة عامة حققت أيضًا رقمها القياسي في ذلك العام حيث بلغت 105,6 مليار دولار أي بزيادة قدرها 21,9% مقارنة بالعام السابق و 32,6% قياسًا بالعام اللاحق. وتسهم الصناديق العربية الخليجية مساهمة فاعلة في هذه الزيادة نظرًا لتصدرها منذ عدة سنوات لأكبر العمليات الاستثمارية في العالم.

وفي عام 2011 بلغت استثمارات الصناديق السيادية العالمية 14 مليار دولار في منطقة اليورو أي 15,6% من استثماراتها الكلية. ولم تكن حصة الأسد من نصيب الدول ذات الاقتصاد المتين كألمانيا بل من نصيب إسبانيا التي استقبلت 8,4 مليار دولار أي 60% من استثمارات الصناديق في منطقة اليورو.

المظهر الثاني: تستحوذ الصناديق السيادية الخليجية على أغلب العمليات الاستثمارية الكبرى؛ فمن بين العمليات التسع الكبرى في العالم لعام 2010 هنالك خمس عمليات خليجية، وهي كالتالي: شراء حصة بمبلغ ستة مليارات دولار في البنك الزراعي الصيني. وشراء حصة في بنك سانتاندر البرازيلي بمبلغ 2,7 مليار دولار. وشراء محلات هارودز في لندن بمبلغ 2,7 مليار دولار. وقد امتلكت هذه الحصص هيئة الاستثمار القطرية. وتولّت شركة الاستثمارات البترولية الدولية الإماراتية شراء أسهم في بنك يونيكريدت الإيطالي بمبلغ 2,3 مليار دولار. واشترى صندوق الأجيال القادمة الكويتي حصة في البنك الزراعي الصيني بمبلغ 1,9 مليار دولار (هذه الأرقام منشورة في الموقع الإلكتروني لمعهد صناديق الثروة السيادية الأميركي). بالإضافة إلى ذلك أنجزت الصناديق السيادية الخليجية عشرات العمليات الاستثمارية داخل وخارج منطقة اليورو خلال السنوات المنصرمة خاصة في الميدان المصرفي.

المظهر الثالث: رغم هبوط إيرادات النفط وتفاقم أزمة منطقة اليورو ارتفعت القابلية الاستثمارية لغالبية الصناديق السيادية الخليجية عن طريق زيادة رؤوس أموالها. بين 2006 و2011 زاد رأسمال مبادلة الإماراتية من 10 إلى 48 مليار دولار، وهيئة الاستثمار القطرية من 60 إلى 100 مليار دولار، والأجيال القادمة الكويتية من 264 إلى 296 مليار دولار، وساما السعودية من 365 إلى 532 مليار دولار (أرقام المعهد المذكور أعلاه). أما رأسمال مركز (أبو ظبي للاستثمار) فهو يسجل المرتبة العالمية الأولى حيث يبلغ 627 مليار دولار. يعادل هذا المبلغ الناتج المحلي الإجمالي لمصر وقطر والعراق والسودان وتونس وسوريا مجتمعة. أما مجموع رؤوس أموال الصناديق السيادية لدول مجلس التعاون فتساوي الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا التي تحتل من هذا الباب المرتبة الأوربية الثالثة بعد ألمانيا وفرنسا.

انطلاقًا مما تقدم يتعين أن نفرِّق بين أمرين: الأمر الأول: ازدياد استثمارات الصناديق الخليجية رغم الأزمة الأميركية-الأوربية. وهذا ما حدث فعلاً كما رأينا طيلة السنوات الماضية. والأمر الثاني: أن هذه الزيادة شملت الولايات المتحدة وأوربا. وهذا لم يحدث في عام 2012. فحسب تقرير شركة إنفيسكو الأميركية انخفضت استثمارات الصناديق الخليجية في النصف الأول من عام 2012 في القارتين الأوربية والأميركية وارتفعت في المنطقة العربية. فقد أصبحت حاليًا حصة الولايات المتحدة من الاستثمارات الخليجية 14% (انخفاض 15 نقطة مئوية مقارنة بالعام المنصرم)، وحصة أوربا 4% (انخفاض عشر نقاط مئوية)، وحصة منطقة الخليج 56% (ارتفاع 23 نقطة مئوية). كما تحسنت الاستثمارات الخليجية في تونس وليبيا ومصر.

تُرى ما الحكمة من زيادة الاستثمارات الخليجية في فترة ركود اقتصادي عالمي؟ ترمي هذه الزيادة إلى تحقيق ثلاثة أهداف أساسية: الهدف الأول: تحسين أرباح الصناديق السيادية التي تُدار بطرق تجارية بحتة رغم كونها تابعة للحكومات؛ فعلى الرغم من بعض الخسائر في الميدان العقاري حصلت الصناديق الخليجية على أرباح وصلت إلى نسبة عالية من رأسمالها. فقد انتقلت أرباح مبادلة من 1,8 إلى 3,5 وإلى 4,3 ثم إلى 7,6 مليار دولار للسنوات 2008 و 2009 و 2010 و 2011 على التوالي (الموقع الإلكتروني لمبادلة). ومما لا شك فيه أن حجم أرباح الصناديق الأخرى أعلى بكثير لأن رأسمال مبادلة لا يساوي سوى 48% من رأسمال هيئة الاستثمار القطرية و16% من رأسمال صندوق الأجيال القادمة و7% من رأسمال مركز أبو ظبي للاستثمار. أما الهدف الثاني -والمتحقق أيضًا بفعل الأرباح- فهو تنويع مصادر الإيرادات العامة. فقد أثبتت الأزمة الأوربية -كغيرها من الأزمات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الخليجية والعالمية- أن الاعتماد الكلي على إيرادات النفط يسبِّب ضائقة مالية شديدة للبلدان المصدِّرة للخام. وبالتالي لابد من مصدر إضافي للإيراد العام وهو ربح الاستثمار الداخلي والخارجي. وأما الهدف الثالث الذي لم يتحقق بعد فهو أن الصناديق السيادية الخليجية بحكم تعاملها مع مختلف شركات الدول الصناعية يجب أن تسهم في نقل التكنولوجيا المملوكة لهذه الشركات إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي. وهذا النقل خطوة أولى وضرورية لتطويع ومن ثَمَّ توليد التكنولوجيا محليًا والتي تشكل الوسيلة الأساسية للتقدم العلمي والتنمية الصناعية.

على الرغم من تحسن تحويلات العمال المغتربين والإيرادات السياحية وأرباح الصناديق السيادية لبعض الدول العربية فإن أزمة منطقة اليورو ساهمت بفاعلية في تردي الوضع المالي للبلدان العربية النفطية وغير النفطية، وبات من اللازم استخلاص الدروس والنتائج كوضع علامات استفهام على جدوى الاتحاد النقدي والعملة الموحدة.

تعثر العملة الخليجية الموحدة

بهدف تسهيل التبادل التجاري وتوثيق العلاقات الاقتصادية البينية قررت دول مجلس التعاون الخليجي إنشاء اتحاد نقدي تنبثق عنه عملة موحدة؛ إذ رأت أنه ينبغي الاعتماد على سياسة نقدية موحدة ترتكز على معايير التقارب. ولكن بدلاً من تبني معايير نابعة من خصوصياتها راحت هذه الدول تنقل حرفيًّا معايير التقارب المطبقة في منطقة اليورو كمعيار العجز المالي وقدره 3% كحد أقصى. وكان من المؤمَّل تداول العملة الخليجية الموحدة منذ بداية عام 2010 لكنها لم تصدر حتى الآن. مما لا شك فيه أن الموقف المعارض لكلٍّ من الإمارات وعُمان يفسر هذا التأخير. ولكن ألا توجد أسباب أخرى في مقدمتها أزمة منطقة اليورو التي دلت على أن العملة الموحدة يمكن أن تخلق مشاكل خطيرة تزعزع الثقة بهذه العملة؟ لابد من تحليل هذه الفقرة من زاويتين:

  1. الزاوية الأولى: أن المشاكل الاقتصادية والمالية تختلف اختلافًا كبيرًا من حيث طبيعتها وحدَّتها حسب الدول الأوربية؛ فالوضع الاقتصادي الفرنسي لا يشبه الوضع الاقتصادي الأيرلندي، وتختلف المشاكل المالية الألمانية عن المشاكل المالية البرتغالية. بل إن العجز المالي المرتفع في بعض دول منطقة اليورو كاليونان وإسبانيا يقل عن العجز المالي لبريطانيا وهي خارج المنطقة. بمعنى أن العملة الموحدة لا تسبب تلك المشاكل التي يتعين بالتالي تحليلها من ناحية الركود العالمي. إن الأزمة الأوربية لم تظهر بسبب العملة الموحدة بل بسبب عدم احترام المعايير التي تستند إليها؛ لذلك لا يوجد ما يبرر التخوف من العملة الخليجية الموحدة المرتقبة شريطة مراعاة معايير التقارب.
  2. الزاوية الثانية: وتكاد تتناقض مع التحليل السابق وهي أن العملة الموحدة تقود بالضرورة إلى منع لجوء الحكومات إلى السياسة النقدية لمعالجة أزماتها المالية المحتملة؛ ففي اليونان تفاقمت الديون العامة نتيجة ارتفاع العجز المالي في فترات النمو السلبي. ولمعالجته قدمت دول منطقة اليورو مساعدات مالية على أن تقوم اليونان بإصلاحات مالية قوامها زيادة حصيلة الضرائب وتقليص النفقات العامة؛ الأمر الذي يقود إلى تخفيض العجز المالي وبالتالي إلى تراجع الديون العامة. لكنه يقود إلى تذمر شعبي واسع النطاق. في حين لو لم تكن اليونان في منطقة اليورو أو لو خرجت منها لاستطاعت كبح جماح الديون عن طريق الإصدارات النقدية (طبع نقود إضافية) لكنها ستقع في فخ التضخم وتخفيض القيمة التعادلية لعملتها. إن هذا التخوف من العملة الموحدة (أي كونها تسلب من الحكومات حرية اتخاذ القرارات النقدية لمواجهة أزمة مالية) سيكون أحد أسباب مماطلة دول مجلس التعاون الخليجي في إحداثها. ولا شك أن هذه الدول لا تلجأ إلى الإصدارات النقدية لتسديد الديون. لكن عدم لجوئها إلى هذه الإصدارات تحت ظل العملات الحالية لا يرقى إلى المنع تحت ظل العملة الموحدة.

كما أن السياسة النقدية للبنك المركزي الأوربي التي تقوم على السيطرة على التضخم (وهي نفس الوظيفة الملقاة على عاتق البنك المركزي الخليجي المرتقب) أدت إلى الحفاظ على سعر صرف مرتفع لليورو مقابل الدولار والين واليوان. نجم عن ذلك تراجع المقدرة التنافسية لصادرات منطقة اليورو وهروب الاستثمارات منها.

لقد أثّرت أزمة منطقة اليورو تأثيرًا سلبيًا على مستقبل العملة الخليجية الموحدة؛ فقد اقتبست دول الخليج معايير هذه المنطقة القائمة على العجز وهي غير صالحة للخصوصيات الخليجية. إن تجربة اليورو غير جديرة بالاقتباس فهي لم تستمر إلا لاعتبارات سياسية ألمانية-فرنسية. وهذا لا يشجِّع أية منطقة في العالم على تبني عملة موحدة.
_________________________________
صباح نعوش - باحث اقتصادي عراقي مقيم في فرنسا

ABOUT THE AUTHOR