حكومة بوشاقور: القيادة وسط الانقسامات الليبية

يواجه رئيس الحكومة الليبية الجديدة تحديات جسامًا؛ فالوضع الأمني اليوم أشد تعقيدًا، وحادثة اجتياح القنصلية الأميركية ومقتل السفير "كريس ستيفنز" توحي بتنامي تمرد المجموعات المسلحة، ولن ينجح في مهامه إلا بالتواصل إلى توافق موسع يروِّض الانقسامات الليبية.
20129201084533734_20.jpg

بعد نحو ستة أسابيع من انطلاق أعمال المؤتمر الوطني الذي تم انتخاب أعضائه الـ "200" في السابع من شهر يوليو/تموز 2012، شهد المؤتمر الوطني منافسة قوية بين ثلاثة مرشحين من أصل ثمانية تحصّلوا على موافقة المؤتمر للتنافس لشغل منصب رئيس أول حكومة منتخبة في ليبيا منذ ما يزيد عن أربعة عقود. وجرت الانتخابات بشكل سلس وشفاف، لم تشبه أي شائبة تزوير، وقد تحصّل جميع المرشحين على الفرصة الكافية والمتساوية لعرض برنامجهم لإدارة البلاد أمام الأعضاء المنتخبين. ولقد كان من اللافت، بالرغم من قوة النزوع الجهوي والقبلي في المجتمع الليبي، أن تجرى المنافسة بين قوى سياسية حديثة في تكوينها، وأن تقع المناورة والتجاذب على أساس سياسي وليس قبلي أو مناطقي، وهي مسألة من المهم الانتباه لها وتحليلها والبحث عن سبل تجذيرها.

إسلامي وليس مرشح التيار الإسلامي

انتُخب الدكتور مصطفى بوشاقور رئيسًا للحكومة الانتقالية الثانية، وبفارق ضئيل جدًّا عن الدكتور محمود جبريل، مرشح تحالف القوى الوطنية، الكتلة الأكبر، في المؤتمر الوطني العام. والشائع بين عموم الناس، وشريحة من المثقفين أن بوشاقور هو مرشح التيار الإسلامي، وممثل لجماعة الإخوان المسلمين، أو حزب العدالة والبناء، التي يرى قطاع كبير من أنصار التحالف أنها جماعة ضعيفة شعبيًّا وفي ذات الوقت تتحكم في خيوط اللعبة السياسية من خلال الهيمنة على ما هو قائم من مؤسسات رسمية وإمساك بمفاصل البلاد. شاع هذا في المرحلة الانتقالية الأولى، ويتكرر الحديث عنه في المرحلة الجديدة.

انتُخب الدكتور مصطفى بوشاقور (يمين) رئيسًا للحكومة الانتقالية الثانية، وبفارق ضئيل جدًّا عن الدكتور محمود جبريل، والشائع أن بوشاقور مرشح التيار الإسلامي، لكن لا يوجد مؤشر واضح على ذلك (الجزيرة)

وبالرغم مما هو شائع، لا يوجد مؤشر واضح على أن مصطفى بوشاقور كان مرشح التيار الإسلامي، فالتنسيقية التي تضم حزب العدالة والبناء، وحزب الأمة، وحزب الوطن، والأصالة السلفي، والعديد من المستقلين المحسوبين على التيار الإسلامي اتفقوا على دعم الدكتور عوض البرعصي. وبالرغم من دعوة العديد من أنصار التنسيقية وحتى بعض أعضائها في المؤتمر الوطني إلى دعم بوشاقور من باب أنه المرشح الأوفر حظًّا من البرعصي باعتبار أنه من المنطقة الغربية التي لم تمثل في أهم المناصب في المؤتمر الوطني، إلا إن قيادة التنسيقية حسمت أمرها بتأكيد ترشيح البرعصي وذلك لاعتبارين:

  • الأول: إداري راجع لقناعة القيادة بأن عوض البرعصي أقدر على اتخاذ القرارات الصعبة وإدارة الأمور بشكل أكثر فاعلية وتنظيمًا، فيما يعتبر الحزب بوشاقور شريكًا أسياسيًّا في مسؤوليات حكومة الكيب ويتحمل مع الأخير جزءًا من الإخفاق الذي منيت به الحكومة.
  • أما الاعتبار الثاني فسياسي، وراجع لخلاف نشب بين حزب العدالة والبناء وحزب جبهة الإنقاذ الذي رشّح بوشاقور، تُرجعه قيادة العدالة إلى الإخلال باتفاق حول دعمهم للدكتور محمد المقريف كرئيس للمؤتمر الوطني في مقابل دعم الجبهة لمرشح العدالة والبناء لرئاسة الحكومة. قيادة العدالة والبناء ترى الجبهة ناقضة للعهد، ولذا فلن يكون من المقبول دعم مرشحها؛ وبناء عليه فإن بوشاقور ليس خيارًا أصيلاً للحزب، بل هو المرشح الأقل ضررًا، وعلى هذا الأساس ذهب إليه الـ (41) صوتًا التي تحصّل عليها البرعصي في الجولة الأولى من الاقتراع. يضاف إلى ذلك نفي بوشاقور نفسه كونه مرشحًا للتيار الإسلامي كما جاء في لقاء له مع صحيفة الشرق الأوسط الجمعة الموافق 14/9/2012، مؤكدًا على أن ذلك لا يتنافى وميوله الإسلامية.

 إشكاليات انتخاب بوشاقور لرئاسة الحكومة

  1. خسر الدكتور محمود جبريل انتخابات رئاسة الحكومة، وهو المتحصل على تفويض شعبي كبير في انتخابات المؤتمر الوطني. فقد أظهر استطلاع أجراه المركز الليبي للبحوث والتنمية أن 81% ممن صوتوا لصالح تحالف القوى الوطنية في يوليو/تموز 2012 (تحصّل التحالف على 63% من أصوات الناخبين) صوتوا للتحالف لوجود الدكتور محمود جبريل على رأسه. وتُظهر النتائج المتعاكسة (نتائج انتخابات المؤتمر الوطني، ونتائج انتخابات رئيس الوزراء) ما يعتبره البعض مشكلاً في تمثيل المؤتمر الوطني للشعب. بمعنى أن المؤتمر الذي من المفترض أنه تعبير عن إرادة الشعب، استبعد مرشحًا تحصل على أغلبية أصوات الناخبين. هذا الوضع سيصعِّب مهمة بوشاقور، ويمكن أن يفجر أزمة سياسية في البلاد في أية لحظة.
  2. يرى أنصار تحالف القوى الوطنية أن إجراء انتخابات رئاسة الوزراء قبل النظر في طعون 7 أعضاء من المؤتمر الوطني، ينتسبون لتحالف القوى الوطنية، تم إيقافهم ومنعهم من المشاركة في انتخاب رئيس الحكومة، فيه إجحاف كبير للتحالف، خصوصًا وأن الفارق بين الدكتور جبريل والدكتور بوشاقور صوتان فقط. ويمكن أن ينفتح باب جدل كبير في حال قبول المحاكم طعون اثنين على الأقل ممن تم إيقافهم من قبل المؤتمر الوطني بناء على توصية من هيئة النزاهة والشفافية التي طعنت في أهلية هؤلاء لعضوية المؤتمر الوطني.
  3. بوشاقور هو مرشح حزب جبهة الإنقاذ، الذي فاز بثلاثة مقاعد فقط من بين 80 مقعدًا مخصصة للقوائم، وذلك في مقابل 39 مقعدًا للتحالف، و 17 مقعدًا للعدالة والبناء، وهو الآن يحوز رئاسة المؤتمر الوطني ورئاسة الحكومة. وهذه مسألة لم تبدُ بارزة، حتى الآن، بالنسبة للرأي العام الليبي، ولم تكن محل نقاش أو جدل بشكل بارز في أوساط الناشطين أو على صفحات الفيس بوك الذي أصبح من أبرز وسائل التأثير على الرأي العام وحتى دوائر صناعة القرار، لكنها تقلق العديد من القوى السياسية والنخبة المثقفة، وتعتبرها خطرًا على العملية السياسية حديثة النشأة والتبلور في ليبيا.

 خيارات محدودة لمرحلة صعبة

يعتقد منتقدو رئيس الحكومة الجديد أنه لم يُظهِر من خلال تجربته كرجل ثانٍ في حكومة عبد الرحيم الكيب ما يجعل منه رجل المرحلة الانتقالية الثانية، فمنصبه كنائب لرئيس الحكومة يحمِّله جانبًا من إخفاقها. ويذهب العديد من المراقبين إلى أن أداءه السياسي وظهوره الإعلامي وبرنامجه كمرشح لرئاسة الوزراء لم يكن سبب الثقة التي حازها من قِبَل أعضاء المؤتمر الوطني؛ إذ يتفق جُلّ المتابعين للشأن الليبي على أن أعضاء المؤتمر الوطني كانوا أمام خيارات محدودة لاختيار المرشح المناسب لمهمات صعبة؛ فالدكتور جبريل الذي عارضه عدد من أعضاء المؤتمر بحجة علمانيته، قيَّم البعض الآخر ترشحه على أنه امتداد لتجربة فاشلة في المرحلة الانتقالية في بدايات الثورة وبالتحديد توليه رئاسة المكتب التنفيذي، وكذلك يُنسب إليه الإخفاق في تأمين العاصمة بعد تحريرها. فيما يأخذ عليه البعض عدم انسلاخه عن مرحلة "ليبيا الغد"، مشروع سيف الإسلام القذافي، فبرنامج الدكتور لرئاسة الوزراء هو البرنامج الذي قدمه عام 2008 كمشروع للإصلاح برعاية القذافي الابن.

قس على ذلك المتبقين ممن رشحوا أنفسهم للمنصب، فمعظهم من الأكاديميين الذين لم يكن لهم خبرة سابقة بإدارة مؤسسات حيوية، وذلك إذا اُستثني الدكتور البرعصي. ويأخذ النقاد على الأخير قلة خبرته السياسية، بالإضافة إلى قلة إلمامه بالشأن الليبي وتعقيداته بسبب غيابه عن البلاد منذ تخرجه في الجامعة عام 1989.

فرص في مقابل تحديات

لم يخف عدد ممن صوتوا لصالح الدكتور بوشاقور عامل التوازنات الجهوية باعتبار أن المناطق التي تضم أكثر من نصف سكان البلاد لم تمثَّل بشكل كافٍ داخل رئاسة المؤتمر الوطني. ويعتبر هؤلاء وغيرهم منصب بوشاقور كنائب لرئيس الوزراء خلال الأشهر الماضية استمرارية لحكومة لم تأخذ فرصتها لقصر الفترة الزمنية الممنوحة لها، وتراكم لجهود بذلت، وتوفير لوقت قد يُهدر في حال اختيار رئيس وزراء من خارج الحكومة الحالية ربما يحتاج أشهرًا من عمر المرحلة الانتقالية القصيرة ليتسنى له فهم تعقيداتها. ويؤكد أنصار بوشاقور أنه يمتلك رؤية واضحة لمعالجة مشاكل البلاد وأهلية لاتخاذ قرارات حازمة، إلا أنه لم يتحصل على الفرصة لتطبيق أفكاره خلال فترة الكيب. من ناحية أخرى، سيتمتع بوشاقور بصلاحيات شبه مطلقة في اختيار أعضاء حكومته، عكس ما واجهه الدكتور عبدالرحيم الكيب الذي فرض عليه المجلس الانتقالي العديد من الوزراء، وتكرر السيناريو ذاته مع الوزراء الذين وجدوا أنفسهم أمام وكلاء لا سلطة لهم عليهم.

في مقابل ذلك، يواجه رئيس الحكومة الجديد تحديات جسامًا؛ فالوضع الأمني اليوم أشد تعقيدًا منه زمن استلام الكيب ونائبه زمام الدولة، وحادثة اجتياح القنصلية الأميركية ومقتل السفير "كريس ستيفنز" توحي بتنامي تمرد المجموعات المسلحة، وعدم اعترافها بسلطة الحكومة. كما أن تكرار السوابق في مقابل عجز الحكومة السابقة حتى عن مواجهتها بشكل قوي، يوسع من رقعة الفراغ الأمني ويخصم من هيبة الدولة وسلطان الحكومة لصالح تلك المجموعات. وهو ما أشار إليه الدكتور عبدالرحيم الكيب صراحة بقوله في جلسة "استيضاح" في المؤتمر الوطني العام: "هناك سلطة أعلى من سلطة الحكومة".

يضاف إلى ما سبق، المناخ السلبي وحالة الإحباط التي تسود قطاع كبير من الليبيين بسبب ازدياد الخروقات الأمنية والتأخير في تحسين الأوضاع الاقتصادية، وقد أدى ذلك إلى نفاد صبر الكثيرين منهم وإلحاحهم على إحداث تغييرات جذرية أمنية واقتصادية في فترة زمنية لا تتجاوز 15 شهرًا، هي عمر المرحلة الانتقالية الثانية وفق الإعلان الدستوري.

وأُخِذ على حكومة الكيب ونائبه بوشاقور إخفاقها في استخدام منهج الوقاية قبل وقوع الحدث وجنوحها لنهج ردود الأفعال الفورية والمحدودة لاحتواء الأزمات الحادة التي أخذت طابع مواجهات مسلحة في غرب وجنوب البلاد، وعدم اعتمادها على خطط مدروسة لمعالجة جذور الأزمات.

خيارات بوشاقور..الممكن وغير الممكن

أكد بوشاقور على عزمه تشكيل حكومة ائتلاف وطني تضم الطيف السياسي الليبي، وهو الخيار الذي تفرضه ضرورات التوافق اللازم لمواجهة مشكلات البلاد. غير أن إرضاء أهم الأطراف السياسية ليس بالشيء الهين؛ فمن المرجَّح أن لا يشارك تحالف القوى الوطنية في الحكومة الجديدة إلا في حال تحصَّلَ على أهم الحقائب السيادية، وهو أمر لن تسلِّم به جبهة الإنقاذ، الداعم الأول لبوشاقور، ولن يرضى به حزب العدالة والبناء الذي لولاه ما أصبح بوشاقور رئيسًا للحكومة. وينطبق الأمر على حزب العدالة والبناء الذي أكدت انتخابات رئيس المؤتمر الوطني ورئيس الحكومة أنه الرقم الصعب والحزب الذي ينبغي أن يُنظر إليه على أنه قوة سياسية لا يمكن تجاهلها. وقد يبدو لتلك الأحزاب أن الابتعاد عن الحكومة والوقوف في صف المعارضة داخل المؤتمر الوطني الخيار الأقل كُلفة، مما يعني -في حال وقوعه- عزل بوشاقور وحكومته.

والتنافس على شغل منصب رئيس أعلى سلطة تنفيذية بين قوى سياسية وليس كيانات تقليدية متجذرة في البنية المجتمعية الليبية، لا يلغي مسألة إرضاء الأقاليم الرئيسية في البلاد، والمحاصصة الجهوية، من خلال توزيع متوازن للحقائب الوزارية، الأمر الذي يقلل من فرصة اختيار الأكفاء والأكثر جدارة. وربما تكون مناطق مثل مصراته والزنتان التي تمرست في الحرب وامتلكت ترسانة كبيرة من الأسلحة وعددًا غير قليل من المقاتلين مصدر قلق في حال استبعادها من أهم الوزارات، كما تلقي دعوى "الفيدرالية" بظلالها على المشهد، كل ذلك في مقابل اختيار وزراء تتوافر لديهم الخبرة والقدرة على مواجهة تحديات كبيرة، ليس فقط على مستوى الداخلية والدفاع، بل الصحة والتعليم والاقتصاد، وكذلك استرداد الأموال من الخارج، والعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وملف الجرحى والمفقودين، و"ثوار" بلغ عددهم وفق إحصاءات هيئة المحاربين نحو 220 ألفًا ينتظرون فرص عمل، أو دراسة في الخارج، ويتطلب احتواءهم ميزانية كبيرة لا تحتملها موارد البلاد، بينما يؤدي تجاهلهم إلى تنشيط بؤر توتر تعرقل عملية الانتقال الديمقراطي وتصعِّب من مهمة رئيس الوزراء الجديد.

آفاق الحل

المشاكل شديدة التعقيد وبالغة الاتساع وتحتاج مواجهتها إلى توافق وطني بين كافة الكتل السياسية يتجاوز ظلال الشك وعدم الثقة السائدة في الأوساط السياسية، ويمكن أن يتحقق من خلال فتح قناة تواصل جديدة بين تحالف القوى الوطنية وحزب العدالة والبناء وحزب الجبهة وبقية الأحزاب من أجل الوصول إلى صيغة تفاهم تخفف من التوتر السائد وتمهد لتشكيل حكومة قوية قادرة على مواجهات التحديات الراهنة.
____________________________
السنوسي بسيكري - كاتب وباحث ليبي

ABOUT THE AUTHOR