مناطق الاحتكاكات المسلحة بسبب الجماعات المتشددة في ليبيا (الجزيرة) |
تواجه السلطات الليبية تنامي الجماعات الاسلامية المتشددة باضطراب في الادراك والقرار، حتى وقع الهجوم على السفارة الأميركية أعقبه تظاهر الليبيين في بنغازي، فاضطرت السلطات إلى اتخاذ قرار بنزع سلاح كل الجماعات التي لا تخضع للدولة، لكن هذه القرار يحتاج إلى توافق سياسي لا يزال في بدايته، ومؤسسة عسكرية صلبة لا تزال مفقودة.
خريطة الجماعات الإسلامية المتشددة
ما شهدته ليبيا من تجاذبات على الساحة السياسية منذ مجيء معمر القذافي إلى الحكم في سبتمبر/أيلول 1969 ألقى بظلاله بقوة على تركيبة التيار الإسلامي؛ فحتى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي اقتصر التيار الإسلامي على وجود جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير، حيث كانا معروفين بتنظيمهما ورموزهما، ثم انكفأت الأولى على نفسها واختارت العمل السري بينما اندثر الثاني تقريبًا وذلك بعد الملاحقة الشرسة من النظام منذ ما عُرِف بالثورة الثقافية في 1973. ثم جاءت رياح الصحوة الإسلامية العالمية فكان لليبيا نصيبها من العودة إلى التدين الذي انتشر بين الشباب ليشكِّل ظاهرة إسلامية بخصوصية ليبية.
كان من أبرز مظاهر هذه الصحوة إعادة تشكيل خارطة التيار الإسلامي الذي أصبح فيه الإخوان المسلمون أقلية من ناحية العدد، وذلك أمام انتشار مظاهر التدين "السلفي" البسيط، وليس المؤدلج. بمعنى انتشار مظاهر التدين من التزام بالصلوات في المساجد ولبس الجبة والجلباب والالتزام بالسنن، دون أي تعصب، ما يلبث أن يتحول عدد كبير منهم إمَّا إلى ما تم التعارف على وصفه بالالتزام الوسطي (إخوان مسلمون ومن هم قريبون منهم)، أو إلى فكر جهادي انتشر بكثافة وأثّر على الوضع السياسي منذ أحداث الرجمة، قرب بنغازي، أواخر عام 1988، ثم المواجهات العنيفة مع أجهزة النظام في منتصف التسعينيات، خصوصًا في المناطق الشرقية، والتي قادها أنصار الجماعة الإسلامية المقاتلة، وحركة شهداء الإسلام.
أخذ المشهد في التغير لصالح التيار السلفي، وذلك بعد الوضع غير المستقر والتصادم بين التيار الجهادي والنظام، وانحسار التيار الوسطي إثر انكشاف جماعة الإخوان وحركة التجمع الإسلامي واعتقال وتهجير المئات من عناصرهما، وبحسب مراقبين فإن النظام قرر أن يخفف من ضغوطه على التيار السلفي ورفضه الجذري لكافة مظاهر التدين من لحية وزي إسلامي رجالي ونسائي وارتياد المساجد، سعيًا لمحاصرة التوجهات الجهادية العنيفة. ونقل مراسل صحيفة ليبيا اليوم في تقرير عن التيار الديني في البلاد في مايو/أيار 2005 قوله: "حكى لي أكثر من شاب ملتزم دينيًّا اعتُقلوا بعد عام 2000م، أنك إذا أظهرت أن منهجك سلفي مدخلي أثناء التحقيق والتزمت هذا النهج حتى بعد التحقيق فالإفراج مضمون؛ حيث يتم التسريع في إجراءات إخلاء سبيلك، أما إذا بدا لهم عكس ذلك عن طريق عيونهم في السجن فإنهم يبطؤون في الإفراج عنك، حتى مع عدم وجود أي دليل إدانة.. وقد شاع أن المعتقلين من التيار السلفي في السجون يكتبون على الزنزانات بالخط العريض مقولة: السلفية طريق النجاة، ولا يمسهم سوء خلافًا لأصحاب الأفكار الإسلامية الأخرى".
لذا عاش التيار السلفي فترة ذهبية منذ أوائل الألفية الثالثة، ولمع اسم الساعدي القذافي، نجل معمر القذافي، كراعٍ للسلفية في ليبيا وتحلق حوله العديد من أنصارها خصوصًا في طرابلس؛ فقد كان الساعدي داعمًا للتيار السلفي بدرجة كبيرة حيث أصبح لهم حق جلب الكتب التي تحمل أفكارهم والأشرطة التي تخص مشايخهم بحرية وبدون مضايقات، وفي حال وقوع نوع من التضييق يتم الاتصال بالساعدي مباشرة لكي يحل الإشكال ويفرج عن المعتقلين. وقد تعوّد الساعدي على تمتين علاقته بالمبرزين في التيار السلفي.
السلفية المداخلة
انتشار ما عُرِف بالسلفية المدخلية أثَّر في بساطة التيار السلفي التقليدي الذي انتشر في ليبيا، وحوله إلى تيار له مواقفه "المهادنة" للنظام على قاعدة "طاعة ولي الأمر"، ومناوئ للتوجهات الفكرية الأخرى من إخوان وجهاديين، إلى درجة اعتبار فضحهم والإبلاغ عنهم لدى السلطات الأمنية من القربات التي تجلب الثواب. وأظهرت تقارير قبيل ثورة فبراير/شباط تم الحصول عليها في مقار أجهزة الأمن الداخلي ومكاتب ما عُرِف بـإدارة "مكافحة الزندقة"، تعاون بعض عناصر التيار السلفي المدخلي من خلال تقارير بعضها يصل أسبوعيًّا لبعض المربعات الأمنية، وأن قرارات بوقف العديد من خطباء المساجد المحسوبين على التيار الوسطي تم إصدارها بناء على حملات شنّها بعض "المدخليين" تضمنت تقارير أمنية. فيما أظهرت تقارير أخرى صادرة عن المكاتب الأمنية المختلفة أثناء ثورة فبراير/شباط ارتياح أجهزة النظام لعدم مشاركة "عناصر التيار السلفي" في الانتفاضة، وتعميم توجيه بفسح المجال لهم للخطابة والوعظ لحث الناس على عدم التظاهر وعدم الانتفاض ضد النظام.
كما هو معروف فإن "المداخِلة" هم أتباع ربيع المدخلي، الشيخ والواعظ السعودي، وقد ازداد عددهم وظهر أثرهم في المجتمع بعد فكِّ القيود عنهم، غير أنهم لم يحظوا بقبول المجتمع الليبي، كما أنهم لم يُعرفوا بالدفاع عن حقوق الناس المسلوبة ومحاربة الاستبداد والفساد، بل تركَّز خطابهم على معادة الجماعات الإسلامية، الأمر الذي زاد من عزلتهم. ويسهم ما يراه البعض تناقضًا في مواقفهم في انعزالهم عن الناس، حيث لزم "المدخليون" بيوتهم خلال فترة ثورة فبراير/شباط، بينما ظهر لهم بأس وقوة بعد التحرير استخدموها في تحطيم أضرحة ونبش قبور، الأمر الذي أثار موجة من الخوف والذعر. ويُلاحظ على تيار المداخلة عدم انتظامه في شكل تشكيلات مسلحة بالمفهوم والنمط السائد في البلاد، كما هو الحال بالنسبة للجماعات الإسلامية الأخرى المحسوبة على الإخوان والسلفيين الجهاديين، ويعود ذلك إلى رفض وتبديع فكرة التنظيم، والتشكيلات المسلحة نوع منها. وبالتالي هم يشكّلون تيارًا واسعًا، لكنه من دون فاعلية تناسب حجمه بسبب رفضهم التحول إلى جماعة أو تنظيم. من ناحية أخرى فإن عزوفهم عن السياسة ومعارضتهم للتحول الديمقراطي يخفف من وزنهم في المجتمع، فبالرغم من تفسيقهم لمن يتعاطى السياسة ويشارك في العملية السياسية إلا أنهم لم يتورطوا في مصادمة معهم، ولم تتناول أدبياتهم التحريض باستخدام القوة ضد العملية السياسية والمؤسسات السياسية الرسمية وغير الرسمية من أحزاب وتجمعات.
السلفيون الجهاديون
انحسر تأثير التيار الجهادي المنظم الذي برز في الثمانينيات والتسعينيات الماضية، وعاد الفكر الجهادي إلى ليبيا بشكل غير منظم مع ازدياد موجة الرفض والعداء لأميركا خصوصًا في فترة حربي أفغانستان والعراق. غير أن جُلّ من تبنّوا هذا الفكر نشطوا في الخارج، وتحديدًا في العراق، وبقيت منهم مجموعات في البلاد، أغلبها من صغار السن، ولا يحملون رؤى واضحة، أو ثقافة واسعة، إلا بعض الأفكار المتشددة. حيث لم تسجَّل إلا حالات فردية محدودة، خطَّط فيها شباب جهادي لاستهداف مصالح للنظام السابق. ويغلب على السلفيين الجهاديين التشدد في مواقفهم إزاء السلطة، ويتلبس الكثير من أنصارهم بأفكار التكفير. ويندرج ضمن التيار السلفي الجهادي الجماعات التالية:
-
جماعة التوحيد والجهاد: وهي اسم ليس معروفًا ومتداولاً بين الناس، وبحسب تقرير أعدته إدارة المعلومات بجهاز مكافحة الزندقة قبل ثورة 17 فبراير/شباط، فإن الجماعة تأسست في مطلع الألفية، وأغلب عناصرها من صغار السن وتتركز في مدن الشرق وتحديدًا درنة وما حولها، وكانت لهم اتصالات ببعض الجماعات المتشددة في خارج البلاد، منها الجماعة السلفية للدعوة والقتال بالجزائر.
-
جماعة أنصار الشريعة: ويُعتقد بأن العديد ممن انضووا تحت لواء جماعة التوحيد والجهاد انضموا إلى جماعة أنصار الشريعة التي أشرف على تأسيسها شباب عاد بعضهم من أفغانستان والعراق، وبعضهم خرج من سجون النظام بعد أن قضوا ما يزيد عن عشرة أعوام. ويرى العديد من المراقبين أن الجماعة تتقارب كثيرًا وفكر القاعدة، ولكن لم يثبت أنها الجناح الليبي لها. وقد نشأت الجماعة أثناء ثورة فبراير/شباط، حيث انفصل الكثير من عناصرها من تشكيلات عسكرية منها كتيبة 17 فبراير/شباط، وكتيبة عبيدة بن الجراح في بنغازي، وكتيبة شهداء أبوسليم في درنة، وذلك على إثر خلافات فكرية بينهما تتعلق بالموقف العَقَدي من المجلس الانتقالي والمجتمع وغيرها من المسائل الشرعية.
من السكوت إلى الادانة
لا يمكن القول بأنه كان لدى حكومة عبد الرحمن الكيب استراتيجية للتعامل مع المجموعات الإسلامية المسلحة، وقد اتسمت مواقف الحكومة بالضعف إزاء الخروقات الكبيرة التي تورطت فيها المجموعات المتشددة المسلحة، إلى درجة أنها لم تصدر بيانات أو تصرح بشكل واضح بإدانتها لهذه الخروقات. ومع تصاعد الهجمات على القبور والأضرحة، والاغتيالات التي كان التيار الجهادي السلفي أحد المتهمين فيها، وتسلم المؤتمر الوطني دفة إدارة البلاد، تغير الموقف لصالح خطاب صريح في نقد الجماعات الإسلامية المسلحة، والإفصاح عن تهديد هذه الجماعات لاستقرار البلاد وعن ضرورة مواجهتها بكافة الوسائل كما تكرر على لسان رئيس المؤتمر الوطني العام، الدكتور محمد المقريف.
منعطف السفارة الأميركية
مثلت حادثة الهجوم على القنصلية الأميركية ومقتل السفير الأميركي، كرستوفر ستيفنز، نقطة تحول في حالة المراوحة بين المجموعات المتشددة المسلحة وسلطة ثورة 17 فبراير/شباط. ولم يقتصر التحول على الخطاب الرسمي الذي صار صريحًا وقويًّا في نقدها كما أشرنا سالفًا، بل حتى على مستوى القرارات، حيث صدر قرار حكومي بحل كافة التشكيلات المسلحة، واستلام المقارات التي تشغلها ومصادرة أسلحتها.
لكن ساحة الفعل تختلف عن منابر التصريح ودوائر اتخاذ القرارات، فقد ظهر تخبط المؤتمر الوطني والحكومة الانتقالية في التعامل مع الجماعات المسلحة، وظهر الارتباك في التصريحات الرسمية فيما يتعلق بتصنيف الكتائب بين المعنية بترك السلاح والمسموح لها بحمله، الأمر الذي أغضب الرأي العام. ويتكرر هذا عند الحديث عن أنصار الشريعة، حيث يشار إليها بأصابع الاتهام من قبل مسؤولين، فيما يثني على مساهتمها في حفظ الأمن آخرون منهم.
معضلة الرؤية والقرار
يأخذ جُل المراقبين على الحكومة افتقارها إلى الرؤية المتكاملة للتعامل مع الكتائب المسلحة، ومن بينها المحسوبة على التيارات المتشددة، هذا علاوة على عدم قدرتها على مواجهتها في حال أصرت المجموعات المسلحة على عدم التخلي عن سلاحها.
يبرز خطأ الحكومة وأجهزتها الأمنية في عدم الاستفادة القصوى من المناخ الإيجابي الذي تولَّد بعد مظاهرة "جمعة إنقاذ بنغازي"، ورضوخ كتيبتي أنصار الشريعة وشهداء أبوسليم للمطالب الشعبية بإخلاء المقرات الحكومية التي اتخذوها مكانًا لتجمعهم، وعودتهم إلى بيوتهم من دون مقاومة، حيث لم تتخذ الحكومة الإجراءات الإدارية والتحوطات الأمنية التي تمنع عودت هذه الكتائب تحت أي ظرف.
من ناحية أخرى قصَّرت الحكومة في فتح قنوات وتهيئة مناخ لاستيعاب تلك الجماعات، منطلقة من حوار جدّي وبناء يخفف من حالة الاحتقان الراهنة، ويمهد لتفاهمات قد تقبل بها الجماعات المتشددة نزولاً عند رغبة الشارع الليبي. والملاحَظ أن الحكومة لا تفرد ضمن خططها أي تركيز خاص على الجماعات المتشددة، بالرغم من تحذير تقارير دولية ومحلية وتأكيدات مراقبين محللين لخطورة هذه الجماعات المتشددة وإمكان تهديدها للاستقرار في حال الفشل في التعامل معها بحكمة وحزم.
ترويض التشدد
يشير العديد من الدراسات التي عُنِيت بالتعامل مع المجموعات المتشددة إلى خطأ سياسات الحكومات العربية التي دخلت في مواجهات مع الجهاديين واعتمادها على خيار واحد، وهو الخيار الأمني، والذي يبدأ بالعنف وينتهي بالاحتواء القاصر والقائم على الترغيب وشراء الذمم. لذا يصير من الضروري الالتجاء إلى الوسائل الفكرية، والبدائل الإنسانية التي تأخذ في الاعتبار فهم ظاهرة التشدد والوقوف على أسبابها ومعالجتها من جذورها.
هذا الخيار يعني أن مهمة احتواء الفكر المتشدد ليست فوقية تتحملها الدولة أو السلطة، بل ينبغي إدراك أن توجيه حركة ونشاط الجماعات المتشددة إلى نمط أكثر سلمية واعتدالاً هو مهمة لا تقع فقط على عاتق الحكومة، أو هو مسؤولية وقرار الجماعات أنفسها، وإنما على المجتمع الليبي بكامله، وعلى الحكومة الليبية الجديدة وعلى القائمين على عملية التحول الديمقراطي. من هذا المنطلق يكون من الضروري مراعاة المسائل التالية عند وضع برامج احتواء الجماعات المتشددة:
-
عدم إغفال دور الجماعات المتشددة في تحرير البلاد من قبضة النظام، ومساهمتها في المحافظة على أمن المدن، والانطلاق من فرضية أنهم ليبيون يمكن أن تتحول طاقاتهم إلى عمل نافع يسهم في رقي البلاد وتطورها.
-
إن منطق الاقصاء والإبعاد يفاقم من ظاهرة التشدد؛ ولذا يكون من الأجدى التعامل بمنطق الشراكة الوطنية والمواطنة الفعالة التي عليها تقوم الدول، وبموجبها تتأسس نظم الحكم الديموقراطية الحديثة.
-
في ظل ضعف الجيش والأجهزة الأمنية، لا إمكانية لمواجهة التيار المتشدد، هذا علاوة على أن الحسم الأمني هو في الحقيقة علاج مؤقت ثبت فشله.
-
حث الجماعات المتشددة على التحول إلى مؤسسات مدنية تعبّر كيف شاءت عن أفكارها بشكل سلمي، ويتطلب ذلك تبني استراتيجية متعددة الآجال، الطويل منها والقصير، تتضمن تطوير مناهج التعليم، وتطوير وسائل الإعلام، وتحقيق العدل الاجتماعي والاقتصادي والشفافية والمحاسبة ومحاربة الفساد، وحفظ الحقوق السياسية والمدنية واحترام القيم والمبادئ الإسلامية، وتضمين كل ذلك في الدستور.
-
إعادة نشاط الجامعة الإسلامية التي أسسها الملك الراحل محمد إدريس السنوسي، وصارت صرحًا علميًّا عالميًّا، ويكون لها فروع في المحافظات الليبية المختلفة، وتوفير كافة أوجه الدعم لها لتكون صرحًا علميًّا يُهتدى به.
___________________________
السنوسي بسيكري - كاتب وباحث ليبي