الاقتصاد العربي في 2013: تباينات حادة وفرص مواتية

المشهد الاقتصادي العربي يتميز بالتباين بين دول تتعاظم ايراداتها من المحروقات ودول تتناقص مواردها بسبب الثورات والأزمة الاقتصادية العالمية، ومثلما يشتمل هذا الوضع على مخاطر تُوسِّع الاضطراب إلا أنه يوفر أيضا فرصة للتعاون العربي في إطلاق تنمية تخفف أسباب السخط والثورة.
201312375318142734_20.jpg
 

إن المظهر الاقتصادي العربي في بداية هذه السنة يحتوي على تباينات كبيرة بين الساحات العربية المختلفة؛ ذلك أن سنة 2013 ستشهد حالة فورة اقتصادية جديدة في دول مجلس التعاون الخليجي من جهة، وبالأرجح مزيدًا من الصعوبات الاقتصادية لدى العديد من الدول العربية الأخرى، في المشرق كما في المغرب، نظرًا لأوضاع سياسية أو أمنية مضطربة، أو لاستمرار الأزمة الاقتصادية لدى دول الاتحاد الأوروبي وهي الشريك الأساسي للدول العربية المتوسطية، سواء في التجارة الخارجية أو الاستثمارات الخارجية أو تحويلات المغتربين القاطنين في تلك الدول. إن هذا التناقض الحاد في المشهد الاقتصادي العربي يجب أن يفتح المجال بشكل أوسع لتفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك -خاصة المؤسسات المالية- في السعي إلى ردم الهوة المتعاظمة بين المجتمعات العربية من الناحيتين: الاقتصادية والاجتماعية.

أولاً: إيرادات نفطية وغازية قياسية في دول مجلس التعاون الخليجي

بالرغم من كل ما يُقال عن منافسة الطاقة المستخرجة من الصخور تحت الأرض (الغاز والنفط الصخري) في الولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم؛ فإن أسعار النفط أخذت منحًى تصاعديًا منذ 2011؛ إذ زاد متوسط سعر البرميل من 77.5 دولار في نهاية عام 2010 إلى 109.5 في نهاية عام 2012. وهذه الزيادات ستؤمّن لدول مجلس التعاون الخليجي إيرادات ستفوق ألف مليار دولار؛ مما سيتيح للحكومات المزيد من الإنفاق على البنية التحتية وعلى القطاعات التربوية والاجتماعية؛ مما سيعزز الأوضاع الاقتصادية والمالية في دول مجلس التعاون الخليجي. وهذا ما يدل عليه مشروع موازنة المملكة السعودية لعام 2013 الذي بلغ رقم 820 مليار ريال ( أي ما يوازي 219 مليار دولار) من جهة الإنفاق، وهو رقم قياسي قد يؤدي إلى فورة اقتصادية ومالية جديدة، ليس فقط في هذا البلد إنما أيضًا في منطقة مجلس التعاون الخليجي؛ ذلك أن الاقتصاد السعودي يلعب دور القاطرة نظرًا لحجمه في المنطقة نسبة إلى الدول الأخرى. ولابد من الإشارة هنا إلى أن تنفيذ موازنة المملكة في السنتين الأخيرتين (2010-2011) قد أدى إلى جمع فائض لدى الدولة بواقع 692 مليار ريال؛ ونتيجة لذلك فقد ارتفعت الموجودات النقدية الخارجية السعودية إلى مبلغ 627 مليار دولار في نهاية 2012. وقد بلغ مجموع الموجودات من العملات الأجنبية لدى الحكومات العربية ما يقارب 1400 مليار دولار، يتركز الجزء الأكبر منه لدى الدول العربية المصدّرة للنفط. هذا بالإضافة إلى ما تجمّع من أموال لدى الصناديق السيادية التابعة لدول مجلس التعاون الخليجي والبالغ أكثر من 1100 مليار دولار في نهاية عام 2012.

والجدير بالذكر، أن اقتصادات دول مجلس التعاون قد توّسعت بشكل جيد في السنتين الأخيرتين (2010-2011)، بعد التراجع في النشاط الاقتصادي عامي 2009-2010، على إثر الأزمة العقارية والمالية في إمارة دبي، وتعثّر بعض الشركات والمصارف الخليجية متأثرة في بعض الأحيان بالأزمة المالية والاقتصادية العالمية.

ومن التطورات الإيجابية في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، نجاح إمارة دبي في تجاوز أزمتها المالية والعقارية التي كانت قد انفجرت عام 2009، فقد عادت أوضاع السوق العقارية إلى حالة جيدة، بالإضافة إلى زيادة عدد السائحين الأجانب وتنشيط القطاعات الأخرى ليس فقط في دبي إنما أيضًا في كل الإمارات العربية المتحدة.

إن هذه التطورات قد انعكست إيجابًا على حركة البورصات العربية في تلك الدول وعلى حركة الاستثمارات الداخلية والأجنبية، هذا بالإضافة إلى ما تتمتع به معظم دول مجلس التعاون الخليجي من تراكم في احتياطات المصارف المركزية أو الصناديق السيادية من عملات أجنبية. ومثل هذه التطورات وضعت دول مجلس التعاون الخليجي كشريك أساسي في الاقتصاد الدولي، سواء في جزئه الآسيوي الذي يضج بالتقدم الاقتصادي المتسارع، أو بالنسبة إلى اقتصادات الدول الغربية التي أصبحت تنظر إلى دول مجلس التعاون كشريك مالي وتجاري رئيسي.

ومع ذلك يجب ألا ننسى الوضع اليمني في شبه الجزيرة العربية، المجاور لدول مجلس التعاون الخليجي، وهو وضع مضطرب للغاية سواء من الناحية الأمنية والسياسية أم من الناحية الاقتصادية والاجتماعية؛ فبالرغم من النجاح النسبي لمبادرة انتقال السلطة في اليمن؛ فإن الساحة السياسية والأمنية تشهد حوادث عسكرية، وعودة النزعات الانفصالية في الجنوب، وتوسيع رقعة عمل المجموعات الإرهابية مما يؤثر سلبًا على الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في اليمن. لذلك، لابد لدول مجلس التعاون الخليجي من وضع خطة إنقاذية جديدة لجارتها الدولة اليمنية، مدعومة بخطة اقتصادية واجتماعية جريئة تستقطب كل المناطق اليمنية للدخول في عملية سلام شامل على الأراضي اليمنية، والعودة إلى نمو اقتصادي يقضي على أوضاع الفقر والتهميش اللذين يتحملان جزءًا من المسؤولية في توسيع رقعة الأوضاع الأمنية المضطربة.

كما يجب على دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى مؤسسات العمل العربي المشترك التي تمولها -على نطاق واسع- دول المجلس، أن تضع خططًا إنقاذية لاقتصادات الدول العربية التي تعاني من تبعات الثورات العربية والوضع الاقتصادي المتردي في أوروبا.

ثانيًا: المشهد الاقتصادي في دول المشرق والمغرب العربي

إن الانتفاضات والثورات العربية التي اجتاحت معظم الساحات العربية ابتداء من 2011، قد أدت إلى تغييرات سياسية مهمة في كل من مصر وتونس وليبيا، كما أدت إلى أعمال العنف المتعاظمة في سوريا؛ أما في المملكة المغربية والأردن فإن موجة المظاهرات الشعبية قد أدت إلى إصلاحات سياسية دستورية مهمة، أما في الجزائر فالحالة بقيت كما هي وكذلك الأمر في العراق، وهما دولتان يعتمد اقتصادهما بشكل شبه مطلق على القطاع النفطي وتصدير النفط والغاز نظرًا لفشل الجهود الرامية إلى تنويع الإنتاج خارج قطاع الطاقة وبعض النشاطات الزراعية التقليدية.

وقد تأثرت كل تلك الدول بعواقب حالات الانتفاضات الشعبية مما أثّر على الحركة السياحية خاصة في مصر وتونس والأردن وبطبيعة الحال في سوريا. وستستمر حالة الجمود في القطاع السياحي في عام 2013 طالما أن مسار التعديلات الدستورية والتشريعية لم يكتمل مما يُدِيم حالة عدم الاستقرار والأوضاع المتوترة بين القوى السياسية المختلفة. وقد أصاب تلك الدول أيضًا تدنٍ كبير في احتياطات العملات الأجنبية، وستضطر كل من مصر وتونس إلى اللجوء إلى القروض الخارجية من صندوق النقد الدولي ومن مؤسسات التمويل الدولية والعربية لمنع المزيد من التدهور النقدي والمالي. أما العراق، فقد يستمر في حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني والتململ الشعبي الذي يُترجَم بتوتر مذهبي متزايد وبأحداث أمنية (السيارات المفخخة) تصيب المواطنين الأبرياء. فبعد 10 سنوات من إزالة حكم صدام حسين في العراق على يد الجيش الأميركي الذي احتل بلاد الرافدين لمدة 8 سنوات، من المؤسف أن العراق ما زال بعيدًا عن استعادة عافيته وقدرته الاقتصادية، بالرغم من الزيادة المتواصلة في إيراداته النفطية. ونظرًا لحالة الجمود السياسي وحالات الفساد المتفشية في بلاد الرافدين، لا نرى إمكانية تغيير جوهري في المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها هذا البلد: نسبة عالية من الفقر، وتفشي الأمية والفساد، ونسبة عالية من البطالة، واضطرار الدولة إلى تقديم مساعدات غذائية للمواطنين الأشد فقرًا. أضف إلى ذلك اشتداد الصراع المذهبي بالترافق مع تدهور الحالات الاجتماعية، وكذلك التوتر بين المسؤولين عن إقليم كردستان والحكومة المركزية (خاصة فيما يتعلق بتقاسم الإيرادات النفطية).

وفي جوار العراق، فإن المشهد السوري مأساوي بدوره، فبعد أن كانت سوريا تستقبل اللاجئين من دول الجوار وخاصة العراق أصبح العديد من المواطنين السوريين مهجّرين في بلدهم أو في بلاد الجوار؛ مما يزيد من الأعباء لدى الدول المضيفة خاصة لبنان والأردن. وفي جوار سوريا، فإن المشهد الاقتصادي الأردني ليس بالسهل، نظرًا لزيادة أسعار النفط وتخفيض نسبة الدعم على المحروقات وتدني الحركة السياحية، بالإضافة إلى استمرار المظاهرات الشعبية التي تطالب بالمزيد من الإصلاحات وزيادة الدعم على المواد الأساسية مثل البنزين والمواد الغذائية الأساسية؛ وهذا يخلق مناخًا من عدم اليقين بين المستثمرين المحليين والأجانب.

لذا لا نرى أيضًا أي تحسن في هذه الأوضاع في المستقبل القريب، وبالتالي فإن منطقة المشرق العربي هي منطقة شبه مشلولة اقتصاديًا، بما فيها الاقتصاد اللبناني حيث انخفض معدل النمو فيه بشكل كبير عام 2012 بسبب التوترات الداخلية المرتبطة إلى حدّ بعيد بالمواقف المتناقضة بين الفرقاء السياسيين حول الموقف من الانتفاضة المسلحة السورية.

إن حالة الشلل الاقتصادي والتدهور الاجتماعي قد أصابت إذن كل دول المشرق العربي الذي يعيش فترة حرجة جدًا، نظرًا لتفاقم الخلاف بين المحور الصيني-الروسي-الإيراني من جهة والمحور الأميركي-العربي من جهة أخرى. وهذا الخلاف قد ينفجر بأية لحظة إلى حرب إقليمية شديدة الخطورة، خاصة وأن الكيان الإسرائيلي يسعى إلى جذب الولايات المتحدة لشنّ هجوم عسكري على المنشآت النووية الإيرانية، ومثل هذا الاحتمال -وإن بدا ضئيلاً نظرًا لموقف الجيش الأميركي المعارض لأية مجازفة عسكرية جديدة- يكفي لخلق مناخٍ معادٍ للاستثمار الخاص؛ كما أن الإنفاق الاستثماري للدول قد زادت محدوديته بسبب تفاقم وضع المالية العامة في كل من مصر والأردن ولبنان وسوريا.

وبالنظر إلى المشهد الاقتصادي والاجتماعي في دول المغرب العربي، يبدو أن الأوضاع الليبية لا تزال صعبة وتعاني من تشرذم القوى الميليشياوية على الأرض، ومن بطء الحكومة المركزية في تحقيق استتباب الأمن والعودة إلى الحياة الاقتصادية الطبيعية. وقد أصبحت المعلومات عن التطورات الداخلية في ليبيا، سواء على الصعيد السياسي والأمني أو على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، قليلة للغاية باستثناء ما يُنشر حول عودة المنشآت النفطية للعمل بانتظام. وفي غياب انتظام الحياة السياسية في ليبيا وإزالة السلاح من أيدي الميليشيات المختلفة، فإن ثقة المستثمرين ستظل مفقودة، وقد يستمر مثل هذا الوضع طوال عام 2013، وستبقى إمكانيات ليبيا الاقتصادية غير مستغلّة، مما يؤدي إلى توسيع نسبة البطالة وامتناع الأيدي العاملة غير الليبية عن العودة للعمل في ليبيا. أما بالنسبة إلى تونس، فإن التحسن الاقتصادي مرهون باستتباب الأمن فيها وإكمال مسار الانتقال الدستوري إلى حالة ديمقراطية مستقرة. ومن العوامل السلبية، الوضع الاقتصادي في أوروبا وهي الشريكة الرئيسية التجارية والاستثمارية للاقتصاد التونسي والمغربي، وهو وضع سيذهب إلى المزيد من التدهور عام 2013، وتراجع في معدلات النمو وتعميق الأزمة الاقتصادية، خاصة في إسبانيا واليونان والبرتغال وبدرجة أقلّ في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا.

ثالثًا: نحو خطة إنقاذية تحول دون مزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية العربية

أمام هذا المشهد الاقتصادي العربي العام الذي يعمّق الشرخ الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الخليجي من جهة وسائر الأقطار العربية الأخرى من جهة ثانية، قد يكون من المفيد تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك وبشكل خاص الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وصندوق النقد العربي والبنك الإسلامي، لتقديم رزمة من التمويلات إلى الدول العربية المتعثرة اقتصاديًا بسبب الظروف السياسية والأمنية التي اجتاحت المنطقة العربية منذ بداية عام 2011. ويجب أن تكون مثل هذه الخطة مدعومة من الإمكانيات المالية الضخمة لدول مجلس التعاون الخليجي لكي يكون حجم الخطة بمستوى التحديات التي تمرّ بها المنطقة العربية. ويُستحسن أن تصبّ كل المساعدات عبر مؤسسات العمل العربي المشترك المشار إليها فيما سبق لكي تبقى المساعدات في إطار حيادي بعيد عن الاعتبارات السياسية.

ونظرًا لوفرة الموارد المالية لدى دول مجلس التعاون الخليجي، كما بينّا فيما سبق، فإن قيام تلك الدول بالمساهمة جماعيًا وعبر مؤسسات التمويل العربية والإسلامية، في مثل هذه الخطة الإنقاذية، لهو أفضل حلّ بدلاً من أن تُترك الدول العربية المتعثرة عرضة لتطبيق الحلول الدولية التي يقودها صندوق النقد الدولي بالشروط القاسية التي نرى تأثيراتها السلبية في حالات أخرى مثل اليونان أو البرتغال. وفي هذا المضمار، لابد من الإشارة إلى عجز القيادات المالية في الاتحاد الأوروبي عن معالجة الأوضاع الاقتصادية المتعثرة في العديد من الدول الأوروبية (خاصة في جنوب أوروبا) بسبب ترددها وإقدامها على خطوات مجزّأة وبطيئة، بدلاً من وضع خطة طموحة للقضاء نهائيًا على أسباب التعثر المالي والاقتصادي في بعض الدول الأعضاء في الاتحاد.

ولابد هنا من التذكير بما قامت به حكومة الولايات المتحدة من إجراءات شاملة وجريئة عندما وقَعَ العديد من دول أميركا اللاتينية في حالات شبه الإفلاس المالي والعجز عن تسديد ديونها الخارجية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي؛ إذ أقدم وزير مالية الولايات المتحدة، بعد فشل الحلول الجزئية ومعالجة وضع كل دولة متعثرة على حدة، على وضع حلّ شامل لكل الدول تجسّد في خطوات منسّقة لإجبار الدائنين الخارجيين على اختيار أحد الحلّين التاليين: إما الاحتفاظ بكامل قيمة سندات الدَّيْن التي كانت بحوزتهم وفي هذه الحالة يقبل الدائنون بتخفيض ملموس على الفائدة؛ أو الاحتفاظ بالفائدة مع قبول تخفيض في القيمة الاسمية للسند أو في قيمة الديون المصرفية. وقد أقدمت حكومة الولايات المتحدة على ضمان أصل الديون من غير الفائدة لجذب الدائنين للقبول بالحل الشامل المطروح، وقد سُمّيت هذه العملية، التي أدت إلى مقايضة سندات الدين المصدَرة بسندات دين جديدة بالشروط المعدّلة، بـ Brady Bonds  على اسم وزير المالية الأميركي آنذاك، نيكولاس بريدي، الذي وضع هذا الحل الناجع عام 1989. وبالفعل، فإن هذه المبادرة الجريئة أخرجت دول أميركا اللاتينية من محنتها المالية والاقتصادية. وفي هذا المضمار يمكن أيضًا التذكير بما قام به الرئيس الأميركي بيل كلينتون عندما عادت دولة المكسيك وتعثرت في مدفوعاتها الخارجية عام 1995؛ إذ قامت الخزانة الأميركية بتدبير تمويل إجمالي بواقع 50 مليار دولار (منها 20 مليارًا من الخزانة الأميركية نفسها) للمكسيك؛ وقد أنهت هذه المبادرة الأزمة المالية المكسيكية بسرعة.

لذلك فإن الدول العربية التي لديها احتياطات كبيرة من العملات الأجنبية، عليها أن تستوحي من مثل هذه التجارب الناجعة بوضع خطة شاملة عبر مؤسسات العمل العربي المشترك لإخراج الدول العربية التي تعاني من تبعات الثورات والانتفاضات من الأزمة المالية والاقتصادية الحادة، وهي أزمة يمكن أن تؤدي إلى المزيد من تدهور الأوضاع السياسية والأمنية وتعقيد مسار التحول إلى الديمقراطية بشكل سليم وهادئ. ومن شأن مثل هذه الخطة أن تساهم بشكل أساسي في القضاء على الأوضاع المتوترة والفتن التي تتسم بها مجموعة كبيرة من الدول العربية.

ولابد هنا من الإشارة أيضًا إلى ضرورة حثّ الحكومات، في تلك الدول التي تعاني اقتصاديًا من فقدان الاستقرار السياسي والأمني، على وضع خطط تنموية جريئة، تلبي طموح الشعوب العربية المعنية في إيجاد فرص العمل الكافية والخروج من أوضاع فقر وتهميش وبطالة متفشية لدى فئات واسعة من المجتمع. إن دافع الانتفاضات الشعبية العربية كان مصدره تردّي الأوضاع الاجتماعية التي يجب معالجتها بسرعة، لمنع المزيد من المعاناة وإيقاف التدهور الأمني. وقد لا تكون وصفات صندوق النقد الدولي وبعض الأوساط المالية والدولية هي التي تناسب الأوضاع كما هو واضح مما يجري في الدول الأوروبية المتوسطية التي دخلت في حلقة مفرغة، سببها الرئيسي سياسات التقشف المفرِطة التي تؤدي إلى معدلات نموّ سلبية؛ وبالتالي إلى نقص كبير في إيرادات الدولة؛ وبالتالي زيادة العجز في المالية العامة، فالمطالبة مجددًا بتطبيق مزيد من الإجراءات التقشفية.

إن الزمن الذي نعيشه في المنطقة العربية هو زمن يتطلب التركيز على دفع الاقتصادات العربية إلى مزيد من الإجراءات التي تعيد مسألة الإنتاجية إلى الصدارة، بالإضافة إلى التطوير التكنولوجي والعلمي، والقضاء على الاحتكارات، والتخفيف من الاتكال على مصادر ريعية الطابع لتغذية الاقتصادات الوطنية، فما يحتاج إليه العالم العربي، سواءً في منطقة الخليج أو في المشرق أو المغرب، هو الدخول في بناء قدرة تنافسية عالية في إنتاج السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية؛ وذلك خارج قطاع الطاقة وملحقاته من البتروكيماويات وخارج قطاع السياحة ذات القيمة المضافة المتدنية أو القطاع العقاري.

وربما لو كانت الاقتصادات العربية قد دخلت عالم الإنتاج المتكيّف بظروف العولمة الحالية، وأمّنت فرص العمل اللائقة لشبابها، لتجنَّب العالم العربي الوقوع في كل ظواهر العنف المتعاظمة والمفجعة في أنحاء عديدة في المنطقة.

ولابد في هذا المضمار أن تتركز المداولات والاقتراحات خلال قمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية، التي انطلقت في مدينة الرياض في 21 من الشهر الجاري (يناير 2013)، على أساليب وأدوات تحسين المشهد الاقتصادي العربي للتخفيف من حدة التباين في الأوضاع الاقتصادية العربية كما وصفناه هنا، مساهمةً في استتباب الأوضاع الأمنية والسياسية في العديد من الدول العربية وكذلك في توسيع حيّز التعاون الاقتصادي والمالي بين تلك الدول لصالح الاستقرار العام في المنطقة وللقضاء على أوضاع الفقر والتهميش والبطالة والإنتاجية الناقصة.
______________________________________________
جورج قرم - مؤرخ واقتصادي ووزير لبناني سابق

ABOUT THE AUTHOR