مصر في السياسة الخارجية التركية.. واقع ما بعد الثورة والآفاق المستقبلي

هناك حديث مفاده أن تقدم مصر إقليميًا سيدفع تركيا إلى الوراء، وأن التعاون المرحلي بينهما سيتحول لاحقا إلى تنافس صدامي، لكن تركيا لا ترى في مصر الصاعدة كمنافس بل كشريك إستراتيجي يساعدها على تحقيق الرؤية المشتركة للطرفين في الإطار الإقليمي.
3 January 2013
201313103343799734_20.jpg
 

تشهد العلاقات الثنائية التركية-المصرية انفتاحًا غير مسبوق على مختلف المستويات وبشكل متسارع لاسيما بعد الثورة المصرية، وهو ما يحمل معه عددًا من التساؤلات حول مغزى هذه العلاقة: كيف يرى الأتراك مصر ما بعد الثورة؟ وما هي الملفات المشتركة التي يمكن بناء المصالح الثنائية للبلدين عليها؟ وما هي التحديات المستقبلية المنتظرة لهذه العلاقة؟ وما هو الشكل الذي ستأخذه؟

الرؤية التركية لمصر ما بعد الثورة

تحتل مصر أهمية كبرى في أجندة السياسة الخارجية التركية منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم العام 2002، لكن الحساسية التي كانت سائدة بين نظام حسني مبارك وبين الحكومة التركية، جعلت الأخيرة تتحرك ببطء وحذر في الملفات المرتبطة بمصر بشكل أو بآخر، خوفًا من أن تعكس صورة غير صحيحة عن تنافس نفوذ بين البلدين يؤدي إلى اصطدام في النهاية.

لكن مع اندلاع الثورة المصرية وتبدل الأوضاع الداخلية في مصر واستلام قيادة جديدة للحكم، خرجت أنقرة عن تحفظاتها إزاء رفع مستوى العلاقات الثنائية بين البلدين، وتم كسر حاجز الحساسية المتبادل بين الطرفين. وترى الحكومة التركية أن رفع مستوى التعاون والتنسيق مع مصر إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية أصبح واجبًا، بعدما كان ضرورة في المرحلة السابقة، خاصة في ظل التحديات الإقليمية المتزايدة للطرفين. هذه الرؤية لا تأتي من فراغ؛ إذ ينظر الأتراك إلى مصر على أنها "دولة" بالمعنى الحضاري والتاريخي، وأن مفهوم الدولة راسخ وتاريخي فيها، وهو أمر يتمتع به عدد قليل من الدول في منطقة الشرق الأوسط التي يغلب على معظمها الولادة الحديثة.

لقد أعادت الثورة المصرية الاعتبار لهذا البُعد الذي أصبح عاملاً مساعدًا على تطوير علاقات مؤسساتية متينة بشكل يتيح تغيير شكل ومضمون العلاقات الثنائية من جهة، ويعيد صياغة قواعد اللعبة في المنطقة من جهة أخرى، خاصة في ظل التناغم الموجود بين البلدين على مستوى ملفات السياسة الخارجية والمواقف من مختلف القضايا المصيرية بالنسبة للمنطقة والتي ما كانت لتتم بهذا الشكل في ظل وجود النظام القديم في مصر، ومنها:

  • الموقف من إسرائيل: كلا البلدين يدعمان مبادرة سلام عادل وشامل تتضمن إعادة إسرائيل للأراضي العربية المحتلة عام 1967، وإنشاء دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، على أن تكون إسرائيل دولة تحت القانون وليست فوقه، وهو ما يتطلب ضمانات من المجتمع الدولي حيال أي التزام إسرائيلي في ظل الخرق الدائم للقانون الدولي عبر الاحتلال والاستيطان. هذا الموقف لم يكن من الممكن الاعتماد فيه على مصر قوية، دون أن يكون القرار فيها لقيادة جديدة منتخبة من الشعب، على عكس نظام مبارك الذي كان ضعيفًا في مواجهة إسرائيل.
  • الموقف من النزاع الداخلي الفلسطيني: كلا البلدين يدعمان جهود المصالحة الفلسطينية ويعتبرانها جزءًا اساسيًا من موقف فلسطيني أكبر وأوسع في مواجهة العدوان الإسرائيلي، لذلك هما على علاقة متوازنة مع الطرفين (السياسي والعسكري) طالما أنه يأتي في إطار المصالح الفلسطينية العليا؛ إذ تدعم الدولتان موقف المقاومة الفلسطينية في حقها المشروع للدفاع عن النفس وتحرير الأراضي المحتلة، كما تدعمان السلطة الوطنية الفلسطينية في خياراتها المتعلقة بنفس المضمون، وآخرها دعم حصول فلسطين على مقعد دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة وهو ما تم.
  • الموقف من العراق وسوريا: كلا البلدين يدعمان وحدة وسيادة واستقلال العراق، وكلاهما يبذل ما استطاع من جهود لإنهاء الازمة السورية، وكلاهما طالب الأسد بالرحيل لوقف النزيف الذي يجري في سوريا، وكلاهما حاول إقناع إيران بالطرق الدبلوماسية تغيير موقفها السلبي من الشعب السوري، وكلاهما سعى لمساعدة اللاجئين والمعارضين. فمصر وتركيا تعتبران المقر الأكثر اكتظاظًا بالمعارضين السوريين، فقد كانت إسطنبول -وما زالت- كما القاهرة الآن مقرًا للمعارضة السورية.
  • الموقف من قضية الانتشار النووي: ترفض الدولتان الانتشار النووي في الشرق الأوسط وتدعمان المبادرات التي تفضي إلى شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية بالإضافة إلى إخضاع كل المنشآت والنشاطات النووية في المنطقة بما فيه الإسرائيلية إلى التفتيش.

إضافة إلى ذلك، فإن كلا الدولتين حريصتان على ضمان أمن واستقرار المنطقة، وعلى رفع مستوى التعاون والتنسيق مع مختلف اللاعبين، والانتقال بالمنطقة من الإدارة الدولية إلى الإدارة الإقليمية التي تلتقي فيها إرادات ومشاريع الدول الإقليمية الكبرى على تحقيق المصالح المشتركة لدول المنطقة.

العلاقات الثنائية: تكامل أم تنافس إقليمي؟

الالتقاء في أجندة السياسة الخارجية للبلدين والرؤية المشتركة بينهما لم تكن العامل الوحيد الذي يعكس أهمية هذه العلاقة في مرحلة ما بعد الثورة، وإمكانية الاستثمار فيها لما فيه مصلحة الطرفين وبما يخدم المنطقة في ظل الثورات العربية. عدد من المؤشرات الأخرى أكد على هذا المنحى، منها:

الزيارات المتبادلة
الزيارات المتبادلة السريعة والمتتالية للمسؤولين القياديين في الصف الأول من الطرفين تُعد مؤشرًا آخر أيضًا على مدى الجدية التي يُوليها الأتراك للعلاقة مع مصر خاصة في هذه المرحلة. ففي مارس/آذار من العام 2011، وبعد أقل من شهر على الإطاحة بمبارك توجه الرئيس التركي عبدالله غول إلى مصر لإبداء التضامن والدعم ليكون بذلك أول رئيس دولة يزور مصر بعد الثورة.

ثم تتالت بعدها الزيارات مع وصول رئيس الحكومة التركية إلى القاهرة في سبتمبر/أيلول 2011 لمدة ثلاثة أيام تم خلالها إبداء الرغبة من الدولتين في التعاون على نطاق واسع. وفي أواخر سبتمبر/أيلول من العام 2012، زار الرئيس المصري تركيا وشارك في مؤتمر الحزب الحاكم السنوي حيث ألقى كلمة، والتقى نظيره التركي ورئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان الذي قام بدوره بزيارة مصر في 17 و18 نوفمبر/تشرين الثاني2012 مع وفد يضم 10 وزراء و60 حكوميًا وأكثر من 200 رجل أعمال حيث تم التوقيع على 27 اتفاقية اقتصادية ثنائية.

التعاون الاقتصادي
في العام 2007، بلغ التبادل التجاري بين الطرفين حوالي 500 مليون دولار، وهو رقم هزيل جدًا مقارنة بما لدى الطرفين من إمكانيات تعاون متبادل. أما اليوم فيبلغ حجم التبادل التجاري بينهما قرابة 5 مليارات دولار مع توافق على مضاعفته إلى 10 مليارات دولار خلال السنوات القليلة القادمة.

على صعيد الاستثمارات، لم يكن لحجم الاستثمارات التركية في مصر أية قيمة على الإطلاق، أما اليوم فتبلغ حوالي 1.5 مليار دولار، وهناك أكثر من 300 شركة تركية توفر فرص عمل لخمسين ألف مصري في حوالي 100 مصنع، ناهيك عن 7000 مصنع ومنتج تركي يتعاملون مع مصر، علمًا بأن الطرفين اتفقا على رفع قيمة هذه الاستثمارات إلى 5 مليارات دولار.

حجم التبادل التجاري بين تركيا ومصر
(مليون دولار أمريكي)

  2009 2010 20111 2012*
الصادرات التركية لمصر  2,599,030  2,250,577  2,759,311  3,112,940
الواردات التركية من مصر  641,552  926,476  1,382,216  1,097,660
المجموع  3,210,582  3,177,053  4,141,527  4,21,600

المصدر: معهد الاحصاء التركي
(*) شهري نوفمبر، وديسمبر غير مشمولين

هذا التطور في العلاقات الاقتصادية يأتي بناءً على رغبة مشتركة خلال فترة ما بعد الثورة، تُوجت بإنشاء مجلس التعاون المشترك، والتوقيع على سلسلة من الاتفاقات في مجالات متعددة تشمل قطاعات التكنولوجيا والاتصالات والسياحة والطاقة والكهرباء، بالإضافة إلى تدشين اتفاق خط النقل المائي بين موانئ مارسين والإسكندرونة التركية إلى موانئ الإسكندرية وبورسعيد المصرية.

وقد برهنت تركيا على مدى دعمها وثقتها بقدرات الاقتصاد المصري رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجهه في هذه المرحلة، وذلك من خلال فتح خط ائتمان لمصر بقيمة مليار دولار لتمويل الواردات المصرية من تركيا ودعم المشاريع في مصر، إلى جانب قرض بقيمة مليار دولار كانت مصر قد حصلت عليه أثناء زيارة أردوغان الأخيرة لمصر. وهناك توجه لأن يتم إعلان عام مصر في تركيا سنة 2014، وأن يكون عام تركيا في مصر سنة 2015، ما يعني أن هناك تصورًا مشتركًا لكي تشهد علاقة البلدين تحولاً كبيرًا خلال فترة زمنية قصيرة.

التعاون العسكري والأمني
أجرى الطرفان في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2012، مناورات بحرية وجوية مشتركة لمدة أسبوع في شرق البحر المتوسط تحت عنوان "بحر الصداقة". وقد حلّت مصر مكان إسرائيل في هذه المناورات، وهي الثانية التي تُجرَى بعد الثورة المصرية، حيث يحرص الطرفان على عمليات التصنيع العسكري المشترك خلال المرحلة القادمة، وعلى الاستفادة من الخبرات المتبادلة في مجال التقنيات العسكرية. وتم مؤخرًا مناقشة موضوع بيع عدة طائرات استطلاع من دون طيار تركية إلى مصر طراز ANKA، كما تم الاتفاق على بيع 6 طرادات تدخل سريع متعددة المهام سيتم تصنيع نصفها في إسطنبول والنصف الثاني في الإسكندرية.

وفي الوقت الذي تتطور فيه العلاقة بين البلدين، يزداد الحديث في الغرب ولدى فئات عديدة من العالم العربي أيضًا عن تصور مسبق مفاده أن تقدم مصر إقليميًا سيدفع تركيا إلى الوراء، وأن هذا التعاون ما هو الا تعاون مرحلي طارئ سيتحول فيما بعد إلى تنافس صدامي بسبب الاختلاف في المعطيات والمصالح بين البلدين. لكن التصور التركي الرسمي لا ينظر إلى مصر الصاعدة كمنافس بل كشريك إستراتيجي؛ فصعود مصر بالنسبة للحكومة التركية يعني المساعدة على تحقيق الرؤية المشتركة للطرفين في الإطار الإقليمي، والعلاقة بهذا المعنى هي علاقة تكاملية.

وفق النظرة التركية، فان الصعود المصري كقوة اقليمية من شأنه أن يحوّل التكامل مع تركيا الى قوة اضافية. فالصعود الاقتصادي كما السياسي للقاهرة في هذا المجال هو عامل متفاعل مع الدبلوماسية التركية والرؤية التركية للمنطقة، يكمّلها ولا يتناقض معها.

ووفقًا للرؤية التركية أيضا، فقد تم اختبار هذا المنطق لأول مرة في العدوان الأخير على غزة؛ حيث أثبت التعاون المصري-التركي مدى فعاليته ونجاعته، خاصة في ظل تعاون الوفد التركي الذي كان حاضرًا في مصر حينها لمتابعة كل التفاصيل والعمل جنبًا إلى جنب مع المصريين في مراجعة بنود وقف إطلاق النار، "من دون الالتفات إلى الجهة التي سيذهب إليها الفضل في تحقيقه طالما أن الهدف واحد".

الرهان الجيوبوليتيكي التركي على العلاقة مع مصر

على الصعيد الجيوبوليتيكي، هناك تشابه بين الدولتين، فكلا البلدين يشكلان بحكم الطبيعة الجغرافية صلة وصل بين قارتين ويطلان على بحرين، وهما ملتقى تقاطع إستراتيجي (مدخل ومخرج) لشبكة المواصلات البرية والبحرية والجوية والأنابيب (الطاقة) في محيطهما الإقليمي، ناهيك عن إشرافهما على أهم الممرات البحرية العالمية.

وتشكل كلا الدولتين ما يزيد عن 41% من مجمل حجم السكان في منطقة الشرق الأوسط، وبمجموع دخل قومي يبلغ حوالي التريليون دولار أي قرابة ثلث دخل المنطقة، ناهيك عن التشابه على المستوى الجيوبوليتيكي من حيث الدور والريادة والمساهمة الحضارية والتاريخية.

التقاء دولتين بهذا الوزن الجيوبوليتيكي على أي موضوع من شأنه أن يشكّل إلى حدّ بعيد كتلة قادرة على حسم أي ملف إقليمي شائك، خاصة إذا ما توسع هذا الالتقاء ليشكّل قاطرة للعديد من الدول الأخرى في المنطقة أو يتوسع ليشمل دول الثورات العربية والخليج والعراق لاحقًا.

وإذا ما تابعنا التطورات الجيوبوليتيكية الحاصلة منذ اندلاع الثورة السورية، ونشوء محور إيراني يضم لبنان وسوريا والعراق بمصالح جيوبوليتيكية معاكسة للمصالح التركية، يتناقض معها، ويحاول عزل تركيا جيوبوليتيكيًا واقتصاديًا في الشمال وقطع التعاون التركي-الخليجي، والتركي-الشامي في الجنوب، فإن بروز مصر والانفتاح على مصر بهذا المعنى جاء في وقت حاسم جدًا للأتراك، ولعل هذا ما يفسر في جزء منه على المستوى التكتيكي على الأقل الاندفاع التركي باتجاه مصر خصوصًا مع شعور أنقرة بأنها باتت وحيدة على الساحة في الملف السوري آنذاك، فلا الحلفاء والأصدقاء ساعدوها، ولا الخصوم والمنافسون سهّلوا عليها المهمة. وعلى هذا، فإن دخول مصر على المعادلة الإقليمية كان مكسبًا تركيا وفق هذه الحسابات.

على المستوى الإستراتيجي، وفي ظل التنافس الإقليمي والدولي المحموم لكسب مصر الجديدة، تكتسب الرؤية التركية والعلاقات الثنائية مع مصر بُعدًا آخر. فهناك انطباع بأن الطرف الذي يستطيع أن يعمل مع مصر على أجندة مشتركة سيرجح كفة رؤيته للمنطقة نظرًا لما تمثله مصر من معطيات جيو-إستراتيجية غاية في الأهمية إقليميًا ودوليًا.

لا ينطلق الانفتاح على مصر بهذا الشكل وهذه السرعة من عقلية تشكيل المحاور، بقدر ما ينطلق من الانجذاب الطبيعي نحو تأسيس علاقات متينة مع الدول الراسخة تاريخيًا وجغرافيًا وثقافيًا في المنطقة وتتعزز بوجود ملفات مصالح مشتركة ورؤى متطابقة. هكذا هي توجهات الأتراك تجاه الكيانات التي تتمتع بهذا الخصائص، دون أن ينفي ذلك أن تركيا حريصة على نجاح الآلية الثنائية كمقدمة لتكون هذه العلاقة بمثابة قاطرة لتوسيع دائرتها لتتحول من آلية ثنائية إلى تجمع متعدد الأطراف يضم المزيد من الدول لاسيما التي شهدت ثورات ومنها تونس، وليبيا. ويمكن عندها لهذا التجمع أن يحقق التكامل الإقليمي الشامل بانضمام الخليج كقوة مالية تتمتع بالثروات الطبيعية القادرة على تنمية المنطقة. وحتى إيران التي تتناقض مصالحها حاليًا مع كل هذه الدول، من الممكن لها وفق الرؤية التركية أن تكون جزءًا من هذا التجمع الإقليمي البنّاء إذا غيّرت سياساتها في وقت من المنتظر أن يكون لسوريا ديمقراطية دور مهم في المنطقة أيضًا.

ولذلك، فمن المهم جدًا أخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار أثناء التأسيس لهذه المسيرة الجديدة بين الطرفين، خاصة أن الشراكة الإستراتيجية هذه سيترتب عليها تحولات جيوبوليتيكية كبيرة إذا ما تم توظيفها بشكل صحيح؛ إذ سيكون بإمكان هذا التجمع الواسع الذي نشأ عن نواة ثنائية (مصر وتركيا) أن يقود منطقة الشرق الأوسط، ويفرض أمرًا واقعًا يحقق من خلاله الأمن والاستقرار والرخاء للمنطقة.

مستقبل العلاقات التركية-المصرية

لا يمكن للمراقب أن يخطئ المسعى التركي لتعميق العلاقة بين البلدين، كما أن المراهنة على صعود مصر إقليميًا يُعد أمرًا حاسمًا في النظرة التركية للمنطقة في ظل الثقة على قدرة مصر في لعب دور كبير، وبالتالي إيجاد أجندة مشتركة تدار من قبل القوى الإقليمية في المنطقة.

كما لا يمكن للمتابع أن يتجاهل حجم وسرعة الانخراط التركي مع مصر الجديدة، لكن هذا الاندفاع الذي يأتي من خلفية إثبات حُسن النية والرغبة الصادقة في تطوير العلاقات بشكل عميق ووجود الإرادة التنفيذية لا الكلامية فقط، قد يتحول إلى عبء لاحقًا، إذ غالبًا ما تنشأ فجوة بين الطموح من حيث ما هو مأمول من هذه العلاقات الثنائية وبين ما يمكن تحقيقه أو ما يتم تحقيقه على أرض الواقع، وهو ما يؤدي في النهاية إلى خيبة أمل وتراجع، وهي مشكلة يعاني منها الأتراك في سياستهم مؤخرًا.

فمن الملاحظ أن هناك عقبتين على الأقل حتى الآن تحولان دون تحقيق الأهداف المشتركة بشكل سريع:

  • التحديات الداخلية الصعبة والكبيرة التي تواجهها مصر والتي على ما يبدو لا تزال في خضمّ استكمال ثورتها في ظل التحديات التي يفرضها وجود نفوذ للنظام السابق في محاور مفصلية من النظام المصري الحالي على الصعيد الإعلامي والاقتصادي والقضائي والأمني، ناهيك عن ممارسات المعارضة الحالية غير العقلانية، وعدم تمتع النخبة الجديدة الحاكمة بأية خبرات استثنائية في الحكم نتيجة العزل الذي فرضه النظام السابق عليها، وهي أمور تؤخر عملية انطلاق مصر نحو المسار الجديد وتستنزف طاقاتها وقدراتها، ويمنعها من ممارسة نفوذها وتأثيرها الإقليمي بشكل فعّال، وسيكون من الخطأ على مصر أن تحاول أن تمارس نفوذًا على الصعيد الإقليمي في حين أن داخلها لا يزال ضعيفًا هشًا ومنقسمًا.
  • على الجانب التركي، من الملاحظ أن التركيز الأساسي إلى جانب الشق السياسي يتم على العلاقات الاقتصادية. صحيح أن التركيز على هذا المعطى في ظل هذه الحقائق يُعد أمرًا إيجابيًا، لكنه في المقابل يعطي انطباعًا بأنه ذو طبيعة منفعية بحتة، كما أنه في ظل وضع مصر الحالي وحالة عدم التوازن التي تمر بها، يعطي انطباعًا آخر بأنه يتجه لأن يكون باتجاه واحد وليس باتجاهين، وهو ما على تركيا أن تنتبه إليه من حيث التوازن في العلاقة خاصة في المنافع المتبادلة.

مهما يكن الأمر، الأكيد أن مصر قوية ستغير المعادلة المحلية والإقليمية وستفرض واقعًا جديدًا في المنطقة، ولن تكون تركيا اللاعب الوحيد المهتم بجذب مصر إلى ساحته؛ إذ سيكون التنافس على أشده بين مختلف القوى الإقليمية. وحده الاستقطاب السياسي الداخلي والأزمات المحلية والمصاعب الاقتصادية ستلعب دورًا حاسمًا في تحديد ما إذا كانت مصر ستبرز كقوة أم تتراجع لتتقوقع كدولة ما دون وطنية حتى، وبالتالي إذا ما كان الرهان التركي سيكون في محله أم لا.
________________________________________
علي حسين باكير - باحث في منظمة البحوث الإستراتيجية الدولية (USAK)، أنقرة-تركيا

ABOUT THE AUTHOR