بانغي اليوم في أفريقيا الوسطى هي ساحة مفتوحة يتنافس فيها باحتدام مستغلون جشعون بعد اكتشاف النفط، إضافة إلى الألماس، ليفاقم وضعية البلاد الصعبة (الفرنسية) |
لم تعرف جمهورية إفريقيا الوسطى قط، منذ استقلالها عام 1960، استقرارا سياسيا مستداما. فمن الأب المؤسس، بيرثيلمي بوغاندا إلى آخر رئيس لها وهو: فرانسوا بوزيزي ظلت البلاد تعاني من مخاض التحرر من الاستعمار الجديد. ففي عهد الوصاية الفرنسية وبينما كانت الانتخابات خيالا والديمقراطية أمرا مثاليا كان الجنود هم السادة بلا نزاع وكانت الحياة السياسية تسير على وقع الانقلابات العسكرية. فقد كانت طرق الوصول إلى الحكم في بانغي ومدة الاحتفاظ به معروفة كلها سلفا. فبعد الدخول في التمرد تنظم العصابات ويُـشن الهجوم على السلطة. وبعد الاستيلاء على الحكم بادر الحكام الجدد إلى نهب ما استطاعوا نهبه من ثروات البلاد –حسب الكثير من التقارير الميدانية- قبل أن يزيحهم متمردون آخرون.
متمردو "سيليكا" ودوامة الانقلاب المستمرة
في 24 مارس/ آذار 2013 أفل نجم فرانسوا بوزيزي بعد 10 سنوات من حكم البلاد واستغلال مواردها؛ كانت حصيلة حكمه سلبية بالجملة. ففي عهده اتسعت دائرة البؤس والفقر في البلاد إذ حكم البلاد ولايتين متتاليتين لم ينظم خلالهما أي انتخابات عليها إجماع وذات مصداقية، ولم يشرك الجنرال بوزيزي أحدا في حكمه. وكانت هذه أسبابا كافية لتجعل المعارضة السياسية، بعد أن يئست من الحصول على نصيب من كعكة البلاد، أن تعلن نفاد صبرها. وكان من آثار ذلك أن اجتمعت بعض الأحزاب الصغيرة التي تعتبر نفسها معارضة حول مبدأ مشترك وتسمت باسم "سيليكا"، وهي كلمة من لهجة "سانغو": اللغة المشتركة بين سكان جمهورية وسط إفريقيا وتعني "التحالف". وهكذا زحف متمردو "سيليكا"، بقيادة ميشيل دجوتوديا من الشمال ليستولوا بقوة السلاح على السلطة في بانغي، تحدوهم الرغبة في تحقيق مآربهم الشخصية بدل تحقيق طموحات شعب جمهورية وسط إفريقيا. وهكذا تم طرد الرئيس فرانسوا بوزيزي من السلطة بطريقة القوة ذاتها التي طرد بها هو سلفه الرئيس أنج فيليكس باتاسي عام 2003. وقد بسط متمردو "سيليكا"، سيطرتهم على البلاد. و"سيليكا" هي حركة سياسية تضم أحزابا سياسية بينها اتحاد القوى الديمقراطية من أجل التجمع بقيادة ميشيل دجوتوديا، ومعاهدة الوطنيين من أجل العدالة والسلام، والمعاهدة الديمقراطية لخلاص كوردو. وقد وقعت هذه الأحزاب السياسية، التي تفتقر حقيقة إلى الشعبية، معاهدة مشتركة في ديسمبر/ كانون الأول 2012 وشكلت جناحا عسكريا يتكون من مجموعات من المتمردين هم مجمل منتسبي أحزابها. وتحت قيادة ميشيل دجوتوديا، هاجم هؤلاء المتمردون بانغي وبعض القرى القريبة من العاصمة. وقد جاء الهجوم بعد فشل تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين السلطة في بانغي والمتمردين في 11 يناير/ كانون الثاني 2013 في ليبرفيل بالغابون، وكان الهدف الأساسي لتلك الاتفاقيات هو صيانة السلام في البلاد. كما كانت هذه الاتفاقيات تنص أيضا على تشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على انتقال السلطة ويمثل فيها المتمردون.
لكن إجماع المتمردين لم ينعقد على تشكيل هذه الحكومة حيث رأوا أن بوزيزي لم يف بالشروط الجوهرية للاتفاقيات. واتهموه بمحاولة تضليلهم وبث الفرقة بينهم وخداعهم. ومنذ ذلك الوقت بات كل واحد من المعسكرين ينظر إلى الآخر بريبة وترقب. وكان المتمردون قد أطلقوا، قبل ذلك بأسبوع، دعوة إلى جميع القوى المعارضة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، ومغادرة قوات جنوب إفريقيا التي جاءت لنجدة بوزيزي وإلغاء الحواجز التي تقيمها الشرطة على الطرق. ومع مرور الوقت وفي ظل رفض السلطات التفاوض حول تفاصيل اتفاقيات ليبرفيل، تفاقم الوضع فبدأ العد التنازلي حيث طلب المتمردون، وهم يحظون بدعم القوات تشادية، تنحي بوزيزي نهائيا. وعندها بدأت انسحابات متكررة تسجل في صفوف الجنود الذين خيب بوزيزي أملهم طيلة سنوات حكمه العشر. وبدأ طوق العزلة يلتف شيئا فشيئا حول الرئيس. فالجيش النظامي لم يعد يدين له بالطاعة. وبعد أن ضاق عليه الحصار حاول سدى تحقيق مصالحة أخيرة مع المتمردين. وعندما شعر بقرب سقوطه هرب رفقة ولديه ومرافقه العسكري على متن مروحية إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية في مرحلة أولى قبل أن يهبط في نهاية الرحلة في شرق الكمرون.
في يوم 24 مارس آذار، عندما اقترب المتمردون من العاصمة، واجهتهم مقاومة واهنة تقودها قوات جنوب إفريقية قوامها 200 جندي وفرقة التدخل السريع الكاميرونية ويناهز عدد أفرادها المائتين. لكن دفاعات إفريقيا الوسطى سيئة التنظيم سرعان ما انهارت أمام متمردين يغمرهم الحماس. وأسفرت الاشتباكات عن مقتل 13 جنديا من جنوب إفريقيا. وفي خضم الأحداث لقي 3 جنود كاميرونيين من بعثة حفظ السلام في وسط إفريقيا مصرعهم نتيجة إصابتهم بإطلاق نار من مروحيات تابعة لجيش إفريقيا الوسطى. وغصت أقسام الحالات المستعجلة بمستشفيات المدينة بمئات الجرحى. كما قتل كثير من المتمردين ومنتسبي القوات النظامية. وفي 25 مارس/ آذار 2013، أعلن زعيم التمرد نفسه رئيسا لجمهورية إفريقيا الوسطى.
تحولات وانقلابات.. ما أشبه الليلة بالبارحة
تسبح العاصمة بانغي في ظلام دامس وهي تعاني من نقص حاد في الماء والمواد الأساسية، ومطاردة رموز النظام السابق متواصلة لا تتوقف. وقد أفضت هذه الحالة من غياب الأمن إلى هجرة متزايدة للسكان نحو البلدان المجاورة وخاصة الكاميرون. وكان المتمردون الذين انطلقوا من شمال جمهورية إفريقيا الوسطى قد عبروا الحدود شرق الكاميرون ووقعت مواجهات بين عناصر من المتمردين والقوات الكاميرونية. وقد تم أسر عدد من المتمردين غداة الهجوم على بانغي. وعشية ذلك الهجوم صدت قوات الأمن الكاميرونية هجمات شنها المتمردون لتحرير زملائهم في بلدة قريبة من مدينة باتوري التي عبر منها بوزيزي إلى الكمرون. ومنذ ذلك الوقت خيم جو من عدم الأمن على المنطقة. وأكدت عدة مصادر انتشارا غير مسبوق للأسلحة الخفيفة في المنطقة. ففي مدينة برتوا عاصمة الولاية قتل ثلاثة أشخاص بالرصاص منذ بداية أزمة إفريقيا الوسطى. وللحماية من هجمات محتملة يشنها المتمردون بات بعض السكان يحرصون على اقتناء أسلحة. وأصبحت محددة حيث يباع رشاش الكلاشينكوف على سبيل المثال بثلاثين ألف فرنك غرب إفريقي أي ما يعادل 50 دولارا. ويشكل المتمردون الفارون أو المحتاجون إلى المال أهم مصادر التزويد بالأسلحة. ونظرا لتفاقم الوضع أوفد الرئيس الكاميروني بول بيا يوم الثلاثاء 9 أبريل/ نيسان 2013 بعثة يقودها وزير الدفاع آليه إدغار مبي نغو إلى المنطقة الحدودية. وكان هدف البعثة الاطلاع ميدانيا على حقيقة ما يجري هناك من أجل اتخاذ الإجراءات المناسبة. ومع تفاقم الوضعية وازدياد أحوال الناس سوءا تضاعفت أعداد اللاجئين الفارين من البلاد. كما أن بعض مسؤولي النظام السابق عبروا الحدود لاجئين إلى الكمرون. ونظرا لتوتر الأوضاع مع تشاد فقد تم وضع حاجز دفاعي على طول الحدود بين البلدين. أما منطقة الحدود مع الكونغو فلا تعتبر ملجأ آمنا للفارين من وسط إفريقيا حيث يعصف بها هي الأخرى تمرد آخر. ويواجه الصحفيون صعوبات جمة في تغطية ما يجري من أحداث نظرا لضراوة قوات الأمن المرابطة على الحدود. أما في الجانب الآخر أي في العاصمة بانغي فإن الغموض ما يزال سيد الموقف.
تكاد تتشابه الصيغة في البلدان الإفريقية التي يتم بها الاستلاء بالقوة على مقاليد الحكم. فالقرارات الأولى التي يتخذها الرجل القوي الجديد تعطي عادة الانطباع بالسعي نحو تعزيز الديمقراطية. وعلى الرغم من استيلائه على الحكم عنوة عن طريق العنف، فإن "الرئيس الجديد" يقدم نفسه بوصفه المنقذ الذي جاء لتخليص الشعب من البؤس ومن دكتاتورية الرئيس السابق. ويتم بذل كل الجهود لمحو كل ما يعلق بالذاكرة الجمعية من أعمال الرئيس المخلوع صالحة كانت أم طالحة. ولم يشذ ميشيل دجوتوديا عن هذه القاعدة. فلدا خرجته الإعلامية الأولى أعلن تعليق المؤسسات التي كان يحكم بها بوزيزي: الدستور والجمعية الوطنية والحكومة. وكما فعل بوزيزي من قبل في عام 2003 لدى إزاحته آنج فيليكس باتاسي من السلطة في بانغي، وعد ميشيل دجوتوديا بتنظيم "انتخابات حرة موثوقة وشفافة" في غضون 3 سنوات. وقد صفق له سكان بانغي.
السياسة الفرنسية في وسط إفريقيا.. الحاضر الغائب
كما هي الحال في كل مرة يظن الشعب أن القادم الجديد هو المخلص المنتظر، خاصة أن كل رئيس جديد، بغض النظر عن الطريقة التي وصل بها إلى الحكم، يحظى دائما بحماية ورعاية فرنسا التي تتظاهر بحماية الناس وممتلكاتهم بينما هي في الحقيقة تسهر على رعاية مصالحها الخاصة. ويبقى التساؤل واردا حول احتضان فرنسا حركة التمرد "سيليكا" متذرعة بأن دافعها هو حماية الرعايا الفرنسيين في جمهورية إفريقيا الوسطى. وقد يكون من مؤشرات ذلك أن فرنسا أوعزت إلى حليفها في المنطقة الرئيس التشادي إدريس دبي، الذي كان صديقا وحاميا لبوزيزي، أن يتخلى عن حليف الأمس. كما تحدثت تقارير عن سعي فرنسي لإنجاح التمرد حين بذلت وزارة الخارجية الفرنسية مساعي لثني رئيس الكمرون المجاور بول بيا، أثناء زيارة له لفرنسا، عن إرسال قوات إلى إفريقيا الوسطى وفق ما كانت بلاده قد قررته من أجل الدفاع عن بوزيزي الذي حلت عليه نقمة فرنسا. وكما كان عليه الحال منذ عهد بوكاسا ظلت فرنسا تتحكم في تطورات الأزمات في وسط إفريقيا لتجني منها أكبر استفادة ممكنة. وعلى نقيض ما يروج له الخطاب الرسمي، فإن مواطن وسط إفريقيا ومستقبله لا يتصدران اهتمامات المتمردين. وتسير الأمور كما لو كان متمردو بانغي قد جاؤوا من أجل الإثراء. وعليهم أن ينجزوا مهمتهم في أسرع أجل قبل أن يفوت الأوان. والدليل على ذلك أنه بعد طرد بوزيزي من البلاد لم يعد الهدوء ولا السكينة إلى جمهورية إفريقيا الوسطى. ويعيش الرجل القوي الجديد دجوتوديا منعزلا في فندق بالعاصمة وهو لا يسيطر على الأوضاع. فدعواته إلى النظام والهدوء لا تلقى آذانا صاغية. قاد دجوتوديا التمرد لأنه كان أكثر المتمردين اطلاعا وتمرسا بدهاليز الإدارة. والحقيقة أنه لا يوجد منتسبون حقيقيون لحزبه: اتحاد قوى التقدم من أجل التجمع.
وقد وقع المحذور حيث انتقلت السلطة إلى الشارع الذي بات المتمردون يسيطرون عليه دون منازع. ودخل البلد في دورة مقيتة من العنف والنهب والسرقة والاغتصاب والمطاردات وتصفية الحسابات والاعتقالات. لقد عيث فسادا في مساكن رموز النظام السابق. ورغم نشر نحو 500 جندي في إطار القوات الدولية متعددة الجنسيات لوسط إفريقيا، فإن وضع البلاد ما يزال مضطربا. فبانغي اليوم هي بحق مدينة منكوبة. وقد بلغت الفوضى أوجها يوم 11 ابريل/ نيسان 2013 عندما نزل آلاف الناس إلى شوارع العاصمة واتجهوا صوب الفندق الذي يقيم فيه الرئيس الجديد محتجين على قتل عناصر من المتمردين لسائق دراجة نارية. وقد قام المحتجون بنهب وتدمير جميع السفارات في بانغي باستثناء سفارتي فرنسا وتشاد، فهل يمكن أن يكون هذا الاستثناء مجرد صدفة؟
فرنسا والصين.. صراع المصالح في إفريقيا الوسطى
ليست أزمة وسط إفريقيا وليدة اليوم، فجذورها تعود إلى حقبة الاستعمار الفرنسي. وقد أذكى الألماس الذي تزخر به بواطن أراضيها التنافس المحموم بين الطامعين فيه. ولا بأس بالتذكير بأن الصراع الذي نشب، عام 1981، بين المارشال بوكاسا والرئيس الفرنسي فاليري جسكار دستيه حول استغلال هذه الأحجار الكريمة كان سببا في خسارة الأخير للانتخابات الفرنسية وقتها. وفي عهد بوزيزي ولدت طبقة جديدة من رجال الأعمال درج الناس على تسمية أصحابها ب"الألماسيين" أو "الأثرياء الجدد"، وقد راكم هؤلاء ثروتهم من خلال استغلال الألماس. وأدر عليهم هذا النشاط أموالا طائلة في بلد يعتبر من أفقر بلدان العالم. وقد بات لهؤلاء الأثرياء نفوذ واسع جدا في بانغي وهم يفعلون ما يشاؤون متكئين على علاقاتهم المافيوية بالماسكين بزمام السلطة. وأكثر من ذلك باتت لهم أذرع داخل الإدارة الفرنسية ذاتها التي توفر لهم الحماية. وفضلا عن الألماس تم اكتشاف احتياطات من النفط في منطقة باراما شمال البلاد وهو ما أثار اهتمام عدة قوى دولية كبيرة مثل الصين التي باتت تتقرب من بانغي. خطبت الصين إذن ود بوزيزي فأثار الأمر حفيظة فرنسا التي باتت تتربص به.
قبل أكثر من عامين وقع بوزيزي مع الصين عقدا لاستغلال حقل النفط في باراما، وعندها نفد صبر فرنسا التي هي سيدة الثروات الطبيعية في البلاد. كما أن بوزيزي، عندما صادر أموال بعض مهربي الألماس الذين هم ممثلون محليون لمصالح أجنبية، وسع دائرة أعدائه. وقد اتهمه "الألماسيون" بهدر أموال ليست ملكا له. "فلا يمكن باسم الدولة الاستيلاء على أموال الاخرين، خاصة أن مصير الألماس المصادر ظل مجهولا" يقول أحدهم. انطلقت الحملة إذن وبات الخناق يضيق حول رقبة الرئيس. فالجيش تشادي الذي أوصله إلى السلطة عام 2003 وظل يوفر له الحماية قد قرر التخلي عنه نتيجة توتر علاقاته بالرئيس إدريس دبي. وسيكون صعود متمردي "سيليكا" عذرا كافيا للتنكر نهائيا لبوزيزي. وقد وفر "الألماسيون" التمويل للمتمردين الذين لم يلاقوا صعوبة كبيرة في إزاحة جنرال بلا جيش.
دخلت إفريقيا الوسطى منذ عام 1981 في دورة لا تنتهي من العنف ناجمة عن إحكام فرنسا قبضتها على ثروات البلاد وغياب مؤسسات ذات مصداقية. وقد جاء اكتشاف النفط، الذي انضاف إلى الألماس، ليفاقم وضعية البلاد الصعبة. فبانغي اليوم هي ساحة مفتوحة يتنافس فيها باحتدام مستغلون جشعون لا يردعهم خلق ولا قانون. ولهذا بات من الضروري المستعجل أن يتولى أهل وسط إفريقيا تدبير مصيرهم بأنفسهم، وهو ما يقتضي إقامة مؤسسات ديمقراطية تفضي إلى رئيس منتخب لا رئيس مفروض من الخارج.
___________________________________________
بقلم: برنار باتانا - كاتب ومحلل سياسي كاميروني
ترجمة: محمد بابا ولد أشفغ - شبكة الجزيرة