التصعيد في شبه الجزيرة الكورية، التداعيات والمآلات

إن الأزمة بين الكوريتين أزمة عابرة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن بيونغ يانغ معروفة باتباع ما يُعرف بسياسة حافة الهاوية، ولكن هذا لا ينفي احتمال اندلاع حرب شاملة في المنطقة، كنتيجة لتقديرات خاطئة من أحد الجانبين وليس عن اختيار متعمد.
201342394629876734_20.jpg
 

تشير التقارير الإعلامية الواردة من شبه الجزيرة الكورية إلى أن حربًا قريبة قد تشتعل في المنطقة؛ ففي الحادي عشر من مارس/آذار الماضي أعلنت كوريا الشمالية أنها انسحبت بشكل أحادي من اتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة قبل ستين سنة، وأغلقت الخط الساخن الذي يربطها مع سيول، كما أعلنت انسحابها من اتفاق عدم الاعتداء الموقع مع جارتها الجنوبية كرد على القرار الأُممي رقم 2094 القاضي بتشديد العقوبات على بيونغ يانغ بعد إجرائها لتجربة نووية ثالثة في فبراير/شباط الماضي. ثم بعد ذلك أمر الرئيس كيم جونغ أون بأن توضع وحدات الصورايخ الإستراتيجية على أهبة الاستعداد لمهاجمة أهداف أميركية وكورية جنوبية بعدما شاركت مقاتلات إستراتيجية من نوع بي 2 في المناورات العسكرية الأميركية الكورية المشتركة الجارية حاليًا.

وفي الخامس من شهر إبريل/نيسان الجاري، أعلنت بيونغ يانغ أنها ستستأنف العمل في مفاعل "يونغ بيون"، وأعلنت أيضًا أن اللجنة المركزية لحزب العمال الحاكم تبنت إستراتيجية جديدة تعتمد على التنمية الاقتصادية وبناء القوة النووية للبلد، لتطفو على السطح القضية النووية من جديد.

وقد أثارت هذه التطورات وما صاحبها من ردود من طرف الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، الكثير من المخاوف على الصعيدين الإقليمي والعالمي.

أسباب التصعيد وأهدافه

التهديدات التي تطلقها بيونغ يانغ بالحرب والهجوم على كوريا الجنوبية والولايات المتحدة وقواعدها بالمنطقة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة؛ فمنذ انتهاء الحرب الكورية وشبه الجزيرة يعيش على إيقاع مجموعة من الأزمات، تنتهي في الغالب بتخفيف بيونغ يانغ من حدة تهديداتها وتقديم أحد الأطراف أو الطرفين معًا لبعض التنازلات والقبول بإجراء المفاوضات لتسوية الأزمة بطريقة سلمية، ثم انتظار اندلاع أزمة جديدة. ففي سنة 2009 مثلاً، ألغت كوريا الشمالية اتفاق وقف إطلاق النار مع جارتها الجنوبية، وقبلها استعملت عبارة "تحويل سيول إلى بحر من النار" مرتين؛ الأولى سنة 1994 والثانية سنة 2003.

وتتعدد الأسباب التي دفعت بيونغ يانغ إلى اللجوء إلى التصعيد الأخير، بعضها داخلي والبعض الآخر خارجي:

  • داخليًا: يحاول الرئيس "كيم جونغ أون"، عبر هذا التصعيد، تقوية سلطاته وزيادة مصداقيته أمام الجيش، بعد التغيير الذي أحدثه على بنية السلطة؛ حيث قلّص من تركيز السلطة في يد الجيش وأدخل هذا الأخير تحت نفوذ حزب العمال الحاكم. كما تريد بيونغ يانغ أن تثبت للداخل أنها لا تنحني أمام الضغوطات الخارجية، مع تذكير شعبها بأنها مستهدفة ومحاطة بجوار يعاديها مما سيسمح لها بتوحيد الجبهة الداخلية. كما أن إطلاق سيل من التهديدات يستهدف الولايات المتحدة سيجعل الرئيس كيم جونغ أون يظهر بمظهر الزعيم القوي أمام شعبه.
  • خارجيًا: تستهدف بيونغ يانغ من التصعيد قياس رد فعل القيادة الجديدة في سيول ومدى حزمها في التعامل مع تهديدات الجار الشمالي.  كما تريد بيونغ يانغ أن ترسل رسالة واضحة للولايات المتحدة بأن سياسة "الصبر الإستراتيجي" (1) قد فشلت وأن بيونغ يانغ لن توقف برنامجها النووي وأنها لن تتفاوض على التخلي عن هذا البرنامج بل ستتفاوض على أساس أنها دولة نووية. وتريد أن تبرهن أيضًا من خلال تجاهلها للتحذيرات الصينية ومواصلة التصعيد دون الاستجابة لدعوات الصين بأن نفوذ هذه الأخيرة على بيونغ يانغ محدود وأن أي حوار يجب أن يكون معها بشكل مباشر.

وسواء من خلال هذه الأزمة، أو ما سبقها من أزمات يمكن القول بأن كوريا الشمالية تفتعل الأزمات وتستعملها  لتحصل على الدعم الشعبي الداخلي، كما تستعملها أيضًا لتفرض شروط التفاوض والحصول على تنازلات من جميع الأطراف المعنية بالأزمة في شبه الجزيرة الكورية؛ لذا تحاول قيادتها إيجاد بيئة تتميز باستمرار ودوام الأزمات. ويتعارض هذا الوضع المتوتر الذي تفرضه بيونغ يانغ على المنطقة، عبر التصعيد والدفع بالأمور إلى حافة الهاوية بين الفينة والأخرى، مع أولويات الصين الإستراتيجية المتمثلة في تحقيق الاستقرار، بينما يتماشى مع مصلحة الولايات المتحدة العائدة بقوة إلى آسيا.

الصين والمعضلة الكورية

تحاول الصين في الوقت الراهن أن تخفف من حدة التوتر وتمنع انزلاق المنطقة إلى حرب لن يكون فيها أي طرف رابحًا. وتتخذ الصين موقفًا مرنًا من الأزمة حيث إنها لم تتخذ أية إجراءات حاسمة ضد الشمال حتى الآن، لأنها لا تريد تفجير الوضع المتأزم أصلاً؛ فاندلاع الحرب في شبه الجزيرة الكورية يهدد الأمن والاستقرار في شمال شرق آسيا وقد يشكّل تهديدًا أمنيًا خطيرًا للصين بسبب مواقفها الداعمة للشمال. كما أن اندلاع الحرب قد يؤثر على القيادة الجديدة في الصين التي تريد التركيز على المشاكل الداخلية وخصوصًا الاقتصادية منها، ولن يتأتى لها ذلك في جو إقليمي متوتر؛ لذا توجه الصين دعوات لضبط النفس وتدعو للحوار كحل وحيد للأزمة الحالية.

وإذا كانت الصين تتطلع إلى إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي، فإن الأولوية الكبرى لكوريا الشمالية تتمثل في امتلاك هذا السلاح وتطوير قدراتها الصاروخية باعتبارها الضمان الوحيد ضد أي خطر وجودي، إضافة إلى كونها ورقة تفاوضية مهمة؛ لذا تتحدى الضغوط الصينية عندما تتعرض أولوياتها للتهديد. وقد أثبتت التطورات الأخيرة محدودية النفوذ الصيني على بيونغ يانغ؛ فقد بادرت هذه الأخيرة إلى إجراء تجارب صاروخية وأخرى نووية بالرغم من التحذيرات الصينية، ثم دفعت بالأمور إلى التصعيد مما عرض المصالح الصينية في المنطقة للخطر. وبالرغم من هذه التصرفات فإن الصين لا تستطيع معاقبة بيونغ يانغ عبر خنقها اقتصاديًا وقطع إمدادات الطاقة عنها، كما أنها لا تستطيع أن تثنيها عن تصرفاتها التي تهدد استقرار المنطقة، وفي نفس الوقت لا تستطيع التخلي عنها لأنها ذات أهمية إستراتيجية لها، حيث إنها تمثل منطقة عازلة للصين عن القواعد الأميركية في كوريا الجنوبية ومصدرًا للموارد الطبيعية واليد العاملة الرخيصة، مما يضع الصين أمام معضلة حقيقية.

أما على المدى البعيد، فتتمثل الأولويات الصينية في منع انتشار السلاح النووي والحفاظ على الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية:

  1. الخطر الأمني الذي تواجهه الصين هو أن تدفع تهديدات الشمال باستعمال السلاح النووي بحلفاء أميركا في المنطقة إلى أن يحصلوا على أسلحة نووية بدورهم، ويزيد من احتمال نشوب حرب نووية على حدودها. كما أن مواصلة بيونغ يانغ لتطوير أسلحتها النووية قد يدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات من جانب واحد والقيام بضربة استباقية ضد المنشآت النووية للشمال.
  2. تعمل الصين أيضًا جاهدة كي لا ينهار أو يتغير النظام الحاكم في بيونغ يانغ، لأن انهياره سيؤدي إلى تدفق مئات الآلاف من اللاجئين إلى داخل الأراضي الصينية. وقد ينتج عنه اصطدام بين الجيش الصيني من جهة والجيشين: الكوري الجنوبي والأميركي من جهة أخرى إذا قررا العبور إلى الشمال لتأمين أسلحة الدمار الشامل هناك. أما إذا تغير النظام وخلفه آخر يريد توحيد البلاد تحت راية الجنوب، فإن بكين ستجد على حدودها دولة قوية حليفة للولايات المتحدة الأميركية، وستفقد النظام الوحيد في المنطقة الذي يعادي الولايات المتحدة ويرفض هيمنتها؛ ولن يخدم هذا التغير مصالح الصين الإستراتيجية حيث ستخسر ورقة ضغط مهمة.

 واشنطن وسيول في مواجهة الأزمة

لمواجهة الأزمة الحالية اعتمدت واشنطن وسيول على سياسة تعتمد على محورين:

  1. مواجهة التهديدات بمزيد من الاستعدادات العسكرية والإجراءات الردعية؛ حيث نشرت الولايات المتحدة مقاتلات إستراتيجية وأرسلت معدات دفاعية جديدة للمنطقة، في حين أمرت رئيسة كوريا الجنوبية جيشها بالرد على أي استفزاز شمالي من دون أي "اعتبارات سياسية".
  2. مواجهة ما تعتبره "استفزازات شمالية" بمزيد من العقوبات.

وبالتوازي مع هذه السياسة أبقت الدولتان باب الحوار مفتوحًا مع الشمال؛ لأن الإجراءات العسكرية والعقابية غير كافية وحدها للتعامل مع كوريا الشمالية. غير أن واشنطن لن تقبل بكوريا الشمالية دولة نووية، ولا تريد التفاوض معها على هذا الأساس؛ فهي تنسق مع سيول وبكين لمنعها من تطوير قدراتها الصاروخية والنووية عبر محاولة إقناعها بالحوار والانفتاح. لكن في ظل الظروف الراهنة ستعمل بيونغ يانغ على التفاوض وفق شروطها وآلياتها، وإذا رفضت واشنطن الرضوخ لشروط بيونغ يانغ، فإن هذه الأخيرة قد تدفع بالأمور إلى مزيد من التصعيد عبر الدخول في مواجهات محدودة مع جارتها الجنوبية.

ويكاد يُجمع متتبعو الشأن الكوري على أن كوريا الشمالية لا تنوي الدخول في حرب مُخطط لها مسبقًا عبر التصعيد الأخير، غير أن الإجراءات الردعية التي اتخذتها الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية قد تُرى من طرف الشمال كاستعدادات لشنّ حرب استباقية عليها ما سيزيد من خطر اندلاع حرب عن طريق الخطأ.

وعلى المدى البعيد، لا تختلف الأهداف الأميركية في شبه الجزيرة الكورية كثيرًا عن نظيرتها الصينية؛ فواشنطن هي الأخرى تريد إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، غير أنها تختلف عن بكين في مقاربتها للأزمة؛ إذ تفضّل العقوبات وحتى استعمال القوة لتحقيق أهدافها، في حين تشدّد الصين على الحوار كوسيلة لتحقيق الأهداف المرجوة.

التداعيات

استغلت واشنطن الفرصة للدفع بمزيد من الأسلحة المتطورة للمنطقة؛ حيث نشرت مقاتلات من نوع بي 52 وبي 2 وإف 22 الشبح، وبررت هذه الخطوات بأنها ضرورية لطمأنة حلفائها والحيلولة دون وقوع أخطاء في حسابات كوريا الشمالية تؤدي إلى اندلاع الحرب. كما أرسلت إلى المنطقة مدمرة مجهزة بنظام إيجيس Aegis وبرادار متطور، قادرة على اكتشاف الصواريخ البالستية واعتراضها، بالإضافة إلى رادار متحرك من نوع SBX-1. كما سترسل واشنطن نظام THAAD إلى جزيرة غوام للدفاع عنها من هجمات صاروخية محتملة. ويأتي إرسال مثل هذه الأسلحة والأنظمة المضادة للصواريخ إلى المنطقة كرد على التهديدات الشمالية، لكن سيكون له تداعيات على ميزان القوى في المنطقة على المدى البعيد. فالولايات المتحدة لن تسحب هذه التجهيزات العسكرية بعد انتهاء الأزمة على اعتبار أن كوريا الشمالية ستكرر تهديداتها. وبالتالي فوجود هذه الأنظمة المضادة للصواريخ وغيرها سيحد من القدرات الصاروخية التي عملت الصين على تطويرها في العقدين الأخيرين ويمنح الولايات المتحدة وحلفاءها أفضلية على الصين.

تمنح التهديدات الكورية الشمالية مبررات كافية لليابان وكوريا الجنوبية لزيادة قدراتهما الدفاعية وتقوية تحالفهما مع الولايات المتحدة مما يعرض الأمن الصيني للخطر؛ فالتصعيد الحالي يصب في صالح حكومة "شينزو آبي" الذي وعد بتغيير الدستور السلمي في حملته الانتخابية مما سيسمح لليابان بتطوير جميع أنواع الأسلحة وبناء مشاريع عسكرية مشتركة مع دول أخرى. كما رفعت الحكومة الحالية من ميزانية الدفاع بحوالي 0.8% ابتداء من شهر إبريل/نيسان الجاري(2). بالإضافة إلى ذلك تعمل اليابان على تقوية تحالفها العسكري مع الولايات المتحدة. أما كوريا الجنوبية فقد توصلت إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لزيادة مدى الصواريخ المسموح لها بتصنيعها من 300 إلى 800 كيلومتر لمواجهة الخطر الشمالي، وجاءت التهديدات الأخيرة لتدفع سيول إلى تسريع وتيرة هذا البرنامج، وتسريع وتيرة شراء جيل جديد من الطائرات الحربية المتطورة.

أما جنوبًا فقد وعدت الرئيسة الجديدة خلال حملتها الانتخابية بالانفتاح على الشمال وتقديم المساعدات من دون شروط، وأكدت أنها ستعمل على تحسين العلاقة بين الكوريتين، ومحاولة إقناع بيونغ يانغ بقبول الحوار للتخلي عن برنامجها النووي. لكن سياسة التصعيد التي ينهجها الشمال ستعوق أي تقدم أو انفتاح من الجار الجنوبي، وقد تدفع بالإدارة الجديدة في الجنوب إلى اتخاذ موقف متشدد بعد أن كانت ترفض سياسة الرئيس السابق، مما سيزيد من عزلة الشمال ومن الصعوبات التي يواجهها.

وعلى الصعيد الاقتصادي، بدأ مؤشرا "كوسبي" و"كوسداك" الكوريان في الانخفاض بشكل تدريجي منذ الـ29 من مارس/آذار، متأثرين بالأزمة الأخيرة، كما انخفضت قيمة الوون الكوري مقابل الدولار. وقد زادت تصريحات "دان أكرسون" المدير التنفيذي لجنرال موتورز حول إمكانية تحويل خطوط إنتاجها من كوريا إلى مكان آخر في حال زيادة التوتر، من مخاوف المستثمرين الأجانب؛ مما دفع المسؤولين الكوريين إلى التصريح بأن تأثير الأزمة الحالية على الاقتصاد الكوري قد يطول مقارنة بالأزمات السابقة(3)، مما سيزيد من متاعب الاقتصاد الكوري الذي يعاني من تباطؤ هذا العام.

وبخصوص العلاقة بين بيونغ يانغ وبكين فقد تعرضت لفتور غير مسبوق منذ أن اعترفت بكين بكوريا الجنوبية سنة 1992، ثم جاء التصعيد الأخير ليزيد الطين بلة ويضيف مزيدًا من الفتور على علاقتهما. وذكرت تقارير كورية جنوبية(4) أن بيونغ يانغ رفضت استقبال موفد صيني قبيل إجرائها للتجربة النووية الثالثة، كما رفضت استقبال وفد وزاري بعد إجرائها للتجربة؛ مما أثار استياء كبيرًا داخل الأوساط الرسمية الصينية. في المقابل رفضت بكين طلبًا من بيونغ يانغ بإرسال مبعوث صيني لتحسين العلاقة المتوترة بينهما. وعلى المستوى الشعبي بدأت بعض الأصوات ترتفع خصوصًا في الوسط الأكاديمي وعلى صفحات الجرائد والمدونات تطالب بالتخلي عن بيونغ يانغ كعقاب لها على تعريض مصالح الصين الإستراتيجية للخطر. وهي تطورات تنبئ بأن القادم من الأيام قد يحمل تغيرات على مستوى العلاقة بين البلدين.

تغير الوضع الراهن والمآلات المحتملة

إن تغير الوضع الحالي في شبه الجزيرة الكورية يتوقف بشكل كبير على تحول مواقف وحسابات الطرفين الرئيسيين المتحكمين في قواعد اللعبة في المنطقة، وهما: الولايات المتحدة والصين. وفي حال حدوث تغير فإن الوضع سيؤول إلى واحد من السيناريوهات الثلاثة الآتية:

  • الاعتراف والقبول بكوريا الشمالية كدولة "طبيعية" في المنطقة من طرف الولايات المتحدة الأميركية وحليفتيها كوريا الجنوبية واليابان مقابل تخليها بشكل نهائي عن برنامجها النووي وبرامج التسلح الأخرى: بالرغم من الأجواء المشحونة فإن الصين وروسيا شددتا على ضرورة ضبط النفس واللجوء إلى الحوار لحل الأزمة الراهنة، كما أكدت وزارة الخارجية الأميركية أن باب الدبلوماسية ما زال مفتوحًا أمام بيونغ يانغ إن كانت ترغب في حوار جدي، لكن في هذه الحالة يرتكز تحقيق أي اختراق على موافقتها على الحوار من أجل التخلي عن سلاحها النووي. غير أن إقناع بيونغ يانغ بالتخلي عن سلاحها النووي صعب، لأنها أعلنت أنه يجب التعامل معها على أنها دولة نووية وتريد التفاوض على هذا الأساس. وكانت الأطراف المعنية بالأزمة الكورية قد جربت سابقًا هذا السيناريو حيث انخرطت في محادثات في إطار المفاوضات السداسية التي بدأت سنة 2003 وتوقفت سنة 2009 بعد انسحاب كوريا الشمالية منها. ولم تحقق هذه المفاوضات شيئًا من أهدافها المرجوة –إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، وتطبيع العلاقات بين واشنطن وبيونغ يانغ، والتفاوض لتوقيع اتفاقية سلام تنهي حالة الحرب القائمة بين الكوريتين منذ 1953- بسبب تراكم عدة عوامل، أهمها: الطبيعة المتقلبة التي يصعب التنبؤ بها للقيادة في بيونغ يانغ، وكذلك تضارب واختلاف المقاربات التي اتخذتها الدول المشاركة في المفاوضات؛ حيث حاولت كل دولة تقديم أولوياتها الخاصة على حساب المخاوف والأولويات المشتركة.
  • أن يحدث تقارب بين واشنطن وبيونغ يانغ على حساب بكين: كانت كوريا الشمالية -ولا تزال- ترغب في إجراء حوار ثنائي مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية لأنها ترغب في فك العزلة عنها، كما فعلت ميانمار، عبر الاقتراب من واشنطن دون المرور عبر بكين؛ لذا تحاول عبر ما تثيره من أزمات أن تظهر بأن تأثير الصين عليها محدود وأن مفاتيح حل الأزمة الكورية بيدها. هذا الحل وارد لكنه مستبعد حاليًا لسببين رئيسيين؛ يتمثل الأول في معارضة اليابان وكوريا الجنوبية لهذا التقارب، وبالنظر لكونهما عنصرين أساسيين في إستراتيجية واشنطن لاحتواء الصين، فإن واشنطن ستراعي مطالبهما، أما الثاني فيكمن في أن تقاربًا كهذا سيُفقد الولايات المتحدة سبب تواجدها العسكري المكثف في المنطقة، في وقت تحاول العودة فيه بقوة إلى آسيا.
  • تَخَلي بكين عن بيونغ يانغ والمساهمة في تغيير النظام الحالي عبر الضغط عليه ودفع الأمور إلى الانفجار من الداخل: تغير النظام بهذه الطريقة سيؤدي إلى حدوث فوضى عارمة على الحدود الشمالية الشرقية للصين، ثم توحيد الكوريتين، بعد ذلك، تحت دولة واحدة حليفة للولايات المتحدة الأميركية واندثار الدور الذي كانت تلعبه كوريا الشمالية كمنطقة عازلة بين الحدود الصينية والقوات الأميركية والحليفة لها. سيناريو لا يمكن للصين أن تقبل به، لأن تغير ميزان القوى بهذه الحدة سيكون دون الحصول على مقابل مساو لما ستقدمه من تنازلات؛ فالصين قد تطالب بانسحاب الولايات المتحدة من شبه الجزيرة الكورية وسحب الدعم الأميركي للموقف الياباني بخصوص الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، وحينها قد تقبل الصين مبدأ تغيير النظام في بيونغ يانغ.

وتظل هذه السيناريوهات محتملة، لكن تحاول كل من الصين والولايات المتحدة الحفاظ على الوضع الراهن والتعامل مع تعقيداته بدل المراهنة على خيارات أخرى لا يمكن التحكم في نتائجها وما سيرشح عنها من تداعيات، نظرًا لما تعرفه المنطقة من سيادة مناخ من عدم الثقة بين الصين والولايات المتحدة بسبب تضارب المصالح الجيوستراتيجية للبلدين؛ حيث تعتبر الصين أن الولايات المتحدة تستعمل الأزمة الكورية للبقاء في المنطقة وبالتالي احتوائها ولجم صعودها.

خاتمة

تندرج التهديدات التي أطلقتها كوريا الشمالية مؤخرًا، وإن اختلفت عن سابقاتها من حيث شدة اللهجة وحدة التصريحات، في خانة التصريحات الموجهة إلى الاستهلاك الداخلي لبناء شرعية الحاكم الشاب، مثلما تهدف من خلالها إلى قياس ردود أفعال الدول المعنية بالأزمة الكورية، وتحريك مياه المفاوضات الراكدة. وبالتالي فإن الأزمة الناتجة عنها لا تعدو أن تكون أزمة عابرة كسابقاتها، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أن بيونغ يانغ معروفة باتباع ما يُعرف بسياسة حافة الهاوية التي تتقنها جيدًا، مع يقينها بأن الهجوم على واشنطن أو سيول سيجلب عليها ردًا قد يهدد بقاء النظام، وأن انجرار الصين إلى الحرب ضد شركائها التجاريين يبقى احتمالاً ضئيلاً. غير أن احتمال اندلاع حرب شاملة في المنطقة، كنتيجة لتقديرات خاطئة من أحد الجانبين وليس عن اختيار مسبق، يبقى قائمًا وإن كان ضعيفًا.
__________________________________
عبد الرحمن المنصوري - باحث في الشؤون الآسيوية

الهوامش
1- إستراتيجية تبناها الرئيس أوباما وتقضي بأن الولايات المتحدة قادرة على الانتظار حتى ترغب كوريا الشمالية في التفاوض حول التخلي عن برامجها النووية والتسلحية، من دون أن تقدم واشنطن أية تنازلات
2- صحيفة بيبل دايلي الصينية: يشار إلى أن التصويت على هذه الميزانية تم في شهر يناير/كانون الثاني الماضي
China urges peace among japanese defence budget increase
http://english.peopledaily.com.cn/90883/8111557.html
3- نيويورك تايمز
Tension with North Korea unsettle South’s economy
http://www.nytimes.com/2013/04/06/world/asia/tensions-with-north-korea-unsettle-souths-economy.html?pagewanted=all&_r=0
4- صحيفة جونغ أنغ الكورية الجنوبية
Beijing rejects North’s envoy request
http://koreajoongangdaily.joinsmsn.com/news/article/Article.aspx?aid=2969614

ABOUT THE AUTHOR