العلاقات الدبلوماسية الإثيوبية القطرية.. دبلوماسية متقلبة

إثيوبيا هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي كانت تربطها علاقات وثيقة وتجاذبات مع كل الأديان السماوية أي اليهودية والمسيحية والإسلام وهذا وحده ما جعل منها بلدا فريدا من نوعه.
20135208214880734_20.jpg
 

ربما تكون الحضارة الإثيوبية قد سبقت الحضارة المصرية نظرا لموقعها الجيوسياسى المثالي، وتبادلها التجاري وروابطها الثقافية والاقتصادية والدبلوماسية مع شمال إفريقيا والبحر الأبيض والشرق الأوسط وجنوب آسيا وما وراءها. إثيوبيا هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي كانت تربطها علاقات وثيقة وتجاذبات مع كل الأديان السماوية أي اليهودية والمسيحية والإسلام وهذا وحده ما جعل منها بلدا فريدا من نوعه.

معطيات تاريخية واجتماعية تدعو للتقارب

تعتبر إثيوبيا ملجأ آمنا لأول هجرة في التاريخ الإسلامي وأقدم موطن للمسلمين في إفريقيا. ولم تأت هذه الهجرة نتيجة للغزو أو الاحتلال بل بناء على طلب من النبي محمد صلى الله عليه وسلم وترحيبا من الإمبراطور المسيحي آنذاك. ومن الملفت للنظر أن توطيد العلاقة التاريخية بين العالم العربي والإسلامي من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى حصل عن طريق دولة إثيوبية مسيحية وسلمية ومستقرة نسبيا وموحدة وكانت كريمة بما يكفي لتكون ملجأ آمنا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبعض أفراد أسرته.

من المعروف تاريخيا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالهجرة من مكة وعبور البحر الأحمر لإيجاد ملاذ آمن في المملكة المسيحية الإثيوبية المجاورة هربا من الظلم والاضطهاد، وكان ذلك في سنة 615 بعد الميلاد. ونتيجة لذلك يمكن وصف العلاقات الإثيوبية مع العالم العربي بشكل عام والإسلام بشكل خاص بالفريدة من نوعها والمبشرة.

إثيوبيا هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي لم تستعمَر باستثناء فترة العدوان الفاشي التي استغرقت خمس سنوات والتي كانت سببا في إعاقة استمرارية تاريخها، وهى بلا شك مهد الإنسانية ومن أقدم الحضارات في العالم. كما أنها خليط من المجموعات العرقية المتنوعة وموطن للأديان الثلاثة الرئيسية: اليهودية والمسيحية والإسلام. في عام 1980، تم تهجير عدد كبير من اليهود الذين كانوا يعيشون في المرتفعات الإثيوبية منذ آلاف السنين إلى إسرائيل، ولا تزال آثارهم موجودة حتى الآن. ويشير الكاتبان ماريو ألكسس بورتيا وأبا أبراهام بوروك وولدكابر في كتابهما المسيحية الحبشية إلى أن إثيوبيا كانت اول دولة مسيحية تتخذ من العقيدة الأرثوذكسية ديانة للدولة في سنة 218 بعد الميلاد أي قبل أربع مائة سنة قبل ترحيبها باتباع النبي محمد صلى لله وسلم في ستة 615 بعد الميلاد. وتكثر الإشارات إلى إثيوبيا في التاريخ العالمي ولم يرد اسم أي مكان في الكتاب المقدس أربعين مرة كما ورد اسمها.

إن العلاقات الخاصة التي تربط إثيوبيا بالعالمين العربي والإسلامي تعود إلى موقعها الاستراتيجي في القرن الإفريقي كما أنه مهد نهر النيل الأزرق ونهر أباي. إن هوية إثيوبيا مرتبطة بالأنهار وبالمياه الجارية.

إن إثيوبيا ليست جزءا من شمال إفريقيا ولا من الشرق الأوسط لكن نشاطها التجاري والروابط الاقتصادية والثقافية والتاريخية ظلت مع إفريقيا الشمالية وخصوصا مصر والسودان والشرق الأوسط وخصوصا إسرائيل وفلسطين واليمن والسعودية ومنطقة الخليج فضلا عن جنوب آسيا وخاصة الهند. ظلت إثيوبيا ذات ديانة توحيدية وظلت تقوي أواصر اتصالها بالديانات الإبراهيمية في العالم والعهد القديم.

والإشارات إلى إثيوبيا تتواتر في كتابات الرومان والإغريق وغيرها ممن يذكر أن "جنات عدن" قد تكون على مقربة من المرتفعات الإثيوبية وأحواضها النهرية. قد يكون هذا هو الحال وقد لا يكون. من المهم أن نلاحظ أن الاكتشافات الأثرية في منخفض "دناكيل" بإثيوبيا تبين أن إثيوبيا من أكبر المساهمين في إنشاء وتطور الحضارة العالمية والجنس البشرى، أشير هنا إلى اكتشاف لوكي أو ما يسميه الإثيوبيون دينكنش. هذا يبرهن على أن إثيوبيا في الواقع من أقدم الحضارات العالمية. لماذا لا يؤخذ هذا بعين الاعتبار في ما يتعلق بتعزيز العلاقات الدبلوماسية مع قطر والدول العربية والإسلامية الأخرى؟

منذ العصور الغابرة، كانت علاقة إثيوبيا بالعالم الخارجي مرتبطة بكونها تملك منفذا على البحر الأحمر، مع حقها في استخدام أنهارها وأحواضها المائية، وتاريخها الفريد وثقافتها وهويتها كبلد مستقل ذي سيادة، وعزمها على تنمية اقتصادها الوطني والالتحاق بالأمم المتطورة وعزمها الحالي أيضا على محاربة وهزيمة الإرهاب في منطقة القرن الإفريقي. تتطلب هذه المصالح الوطنية إقامة علاقات مع أمم مختلفة قد لا تكون بالضرورة متوافقة فكريا وثقافيا مع إثيوبيا. لقد ناضل الإثيوبيون دائما من أجل الشرعية والاعتراف، وسيستمر هذا الأمر على مر العصور.

تمتد إثيوبيا تاريخيا إلى ما وراء البحر الأحمر، وخلال فترة حكم الامبراطور هايلى سيلاسيى كانت إثيوبيا معترفا بها دوليا على أنها ذلك الفضاء الجيوسياسى الذي يبسط سيادته من آخر نقطة شمالا مطلة على البحر الأحمر وتعرف اليوم بأريتيريا إلى مدينة مويالى على الحدود الكينية، إلى غاية المناطق المحاذية لجنوب السودان اليوم والتي كانت تشكل فيما مضى الحدود التقليدية مع شمال السودان. وفقا لهذا الأمر كان لإثيوبيا منفذ على البحر الأحمر كما كان لها أسطول بحري متطور نسبيا، وظل ميناء عصب الميناء الرئيسي للتجارة الإثيوبية مع العالم الخارجي. واليوم تعتبر إثيوبيا من أكبر البلدان غير المطلة على البحر.

وفي نظر الإثيوبيين فإن هذه الوضعية قد سببت قلقا دبلوماسيا بين إثيوبيا من جهة وبين العالم العربي من جهة أخرى. بل يعتبر خبراء إثيوبيون أن ترحيب الحبشة بأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يشفع لها عند العرب فقد دعمت حكومات عربية مثل مصر وسوريا والعراق وغيرها الانفصاليين في أريتيريا مما انعكس سلبا على العلاقات بين إثيوبيا والعرب.

ظلت إثيوبيا منذ دخول الإسلام إليها في القرن السابع نموذجا للتعايش السلمى المتبادل بين المسلمين والمسيحيين. ينتمى المسلمون إلى كل الفصائل والمجموعات العرقية كما هي الحال بالنسبة للمسيحيين ويعيشون ويعملون في كل أنحاء العالم ويتقاسمون سمة مميزة بالانتماء إلى إثيوبيا كإثيوبيين.

ساعد القاسم المشترك بالانتماء إلى وطن واحد الإثيوبيين في الدفاع عن أنفسهم في انسجام تام ضد العدوان الأجنبي لأكثر من ثلاثة آلاف سنة. يؤكد عدد من الخبراء الإثيوبيين والأجانب أن التميز في تطور المسيحية والإسلام واليهودية كثقافات وقيم مختلفة أعطى للشعب الإثيوبي هوية وطنية فريدة من نوعها. وأشير هنا إلى الافتراض القائل إن الأديان الثلاثة تطورت في هذا البلد كإنجازات إثيوبية وتجب المحافظة على هذه الهوية الفريدة من نوعها في المستقبل.

ووفقا لتعداد السكان الذى أجرته الحكومة الإثيوبية في عام 2007، تبقى إثيوبيا بلدا ذا اغلبية مسيحية. ويمثل المسيحيون نسبة 62,8% والمسلمون 33,9% والوثنيون 2% وتمثل المعتقدات الأخرى 0,7%. كما تمثل الطائفة البروتسنتية نسبة 18,6% من المسيحيين، أما الكاثوليك فيمثلون نسبة 0,7% والبقية تمثل الأرثودوكس بالتالي فإن البلد متنوع سواء من الناحية العقائدية أو العرقية.

قطر وإثيوبيا.. صورة مصغرة للعلاقات العربية الإثيوبية

يعتقد مراقبون إثيوبيون وآخرون مستقلون أن العالم العربي والإسلامي ينظر بريبة وتحفظ إلى كون إثيوبيا دولة ذات أغلبية مسيحية وفيها مجموعة كبيرة من المسلمين المندمجين في النسيج الاجتماعي للبلاد. وتخلق هذه النظرة قلقا لدى الطرفين الإثيوبي والعربي.

ومن المؤكد أن العلاقات الدبلوماسية بين إثيوبيا وقطر ما هي إلا مرآة عاكسة لتلك التفاعلات الطويلة والحرجة التي عرفتها العلاقات بين الدول العربية وبين إثيوبيا. وعلى العموم فإن تلك العلاقات محفوفة بتوجس منغرس في الثقافة وقديم تاريخيا، كما أنها محفوفة كذلك بالريبة والمكائد والأجندات الخفية والتنافس وتضارب المصالح والتعارض والشكوك التي تعود حتى إلى ما قبل الحضارة المصرية الفرعونية.

وفي الخلاصة فلا إثيوبيا ولا العالم العربي استفادا من الإمكانيات الهائلة ومن الروابط الاقتصادية والتجارية التي تجمع الدول خصوصا تلك الدول التي لحمت بينها الجغرافيا وربط بينها التاريخ والثقافة وعندها تكامل من شأنه أن يعود بالنفع المتبادل على شعوب المنطقة على المدى البعيد.

إن ما لا ينبغي أن يحدث هو هذا التأخر في تحقيق منافع كبيرة وفوائد متأسسة على الاحترام المتبادل وتحقق نتائج دبلوماسية واقتصادية وتجارية وعلاقات أخرى نابعة من التطورات الخاصة بكل جانب من الجانبين بوصفها كيانات اجتماعية واقتصادية وثقافية متميزة بدل أن تبدو معادية لبعضها البعض.

إن إثيوبيا من البلدان ذات الحضارة القديمة المتميزة والخاصة وهي أول "دولة لأمة مسيحية في العالم". وفي نفس الوقت تشكل إثيوبيا بؤرة للمسيحيين (ديانة أكثرية السكان) وللمسلمين (قرابة ثلث السكان حسب إحصاء 2007)، فضلا عن اليهود (هاجر أكثرهم إلى إسرائيل) فضلا عن ديانات أخرى. ويؤكد أغلب الباحثين على أن كل هذه الأديان تطورت بشكل فريد متسمة بصبغة "إثيوبية" وظلت تتعايش جنبا إلى جنب في سلام ووئام لأكثر من ألف سنة. وتتكون البلاد مما يزيد على ثمانين عرقا يتواصلون بلغات وتجمعهم قيم وتاريخ وثقافات مختلفة. وتعتبر البلدان العربية أكثر تجانسا من إثيوبيا. غير أن كل هذه الفروق تبقى مهمة عند الحديث عن أي علاقات بين إثيوبيا وبين دول أخرى بما فيها قطر.

إن تموقع إثيوبيا الجغرافي ضمن منطقة القرن الإفريقي يمنحها مكانا استراتيجيا كما يمنحها لعب دور همزة الوصل بين منطقة جنوب الصحراء وبين الشرق الأوسط وما بعده، فضلا عن كون إثيوبيا أحد أبرز اللاعبين في إفريقيا. وهذه الحقائق التاريخية دفعت بالحكومات الإثيوبية المتعاقبة إلى رفع لواء الأفريقانية وإلى تشكيل وتطوير الاتحاد الإفريقي الذى يتخذ من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا مقرا له. وإلى غاية انفصال إريتيريا كانت إثيوبيا دولة ساحلية لها منفذ على البحر الأحمر. واليوم صارت من أكبر الدولة غير الساحلية كما ذكرنا آنفا.

إن التحدي الأكبر في العلاقات ما بين إثيوبيا وقطر هو مدى الفهم القطري وتقديره للمصالح الأمنية الإثيوبية على المدى البعيد فضلا عن المصالح الاقتصادية المتعلقة بحاجة إثيوبيا إلى تأمين منفذ يربطها بالبحر. تعتبر قطر دولة مؤثرة بالرغم من صغرها من الناحية الجغرافية فعدد سكانها يقدر بميلون وثمانمائة ألف نسمة، وهى بلد عربي مسلم متجانس غنى جدا وبمتوسط دخل فردي سنوي يقدر بـ88 ألف دولار، كما أنها من الدول العشر الأكثر ثراء في العالم (حسب فوربس وصندوق النقد الدولي).في المقابل تعتبر إثيوبيا واحدة من أقدم الحضارات في العالم وثاني أكبر الدول الإفريقية من حيث السكان، وفى نفس الوقت فهي من أفقر البلدان في العالم ومتوسط دخل الفرد السنوي بإثيوبيا يقدر بـ370 دولار، حسب تقديرات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لعام 2012. وعلى هذا فإثيوبيا من أكبر المتلقين للمساعدات في إفريقيا بينما تعتبر قطر دولة غنية بصناديقها الاستثمارية وبقوتها المالية إذ تقدر ثروتها السيادية بما يزيد على 200 مليار دولار سنويا. وانطلاقا من هذا يبدو جليا أن كلتا الدولتين تتكاملان وكلتاهما مفيدة للأخرى فالإمكانات الإثيوبية الكثيرة بحاجة إلى الأموال القطرية الهائلة، خصوصا وأن قطر تسعى لتوسيع وتنويع استثماراتها وبالتالي تأثيرها في إفريقيا. غير أن هذا التكامل بين الدولتين الذي يمكن تحقيقه انطلاقا من الحاجات الإثيوبية والقدرات المادية القطرية لا يفسر ما عرفته العلاقات بين الدولتين مؤخرا من تطور إيجابي. إذ من المفيد أن نذكر هنا أن الدولتين قطعتا علاقتهما الدبلوماسية سنة 2008، لكن لماذا؟ وما التغييرات التي طرأت بعد ذلك؟

يرى بعض الباحثين الإثيوبيين أن المجتمع والحكومات الإثيوبية المتعاقبة بشكل عام كانا وما يزالان ينظران بريبة إلى العالم العربي، بما في ذلك قطر. فالمدركات الإثيوبية الراسخة والبراهين القائمة عند هاتين الجهتين تذهب إلى أن العرب "كارهون" للوحدة الوطنية الإثيوبية، ولا يريدون لها لحمة داخلية، ولا أن يكون لها منفذ على البحر، ولا نموا سريعا ولا تنمية ولا استقرارا. هناك تصور إثيوبي قوي بأن الدعم العربي لجبهة التحرير الشعبية الأريتيرية (EPLF) بقيادة أسياس أفورقي كان له دور أساسي في انفصال أريتيريا وبالتالي فقدان منفذ إثيوبي شرعي ومنصف إلى موانئها البحرية، وخاصة إلى ميناء عصب. إن هذه المدركات هي واحدة من مساحات الخلاف التي سوف تستمر بغض النظر عن المبادرات الدبلوماسية. وفي هذا الصدد، فإن العلاقات القوية والوثيقة بين الحكومتين القطرية والأريتيرية تشكل منذ عدة سنوات مصدر قلق لدى صانعي القرار السياسي في إثيوبيا. وسواء كان الأمر خطأ أم صوابا فإن السؤال لا يزال مطروحا حول استخدام قطر لثروتها المالية الكبيرة. هل كان ذلك من أجل تعزيز الاستقرار والسلام في القرن الإفريقي أم كان شكلا من أشكال الدعم القطري للحكومة الأريتيرية، والجماعات الإثيوبية المعارضة المتمركزة في أريتيريا فضلا عن الجماعات الأصولية في الصومال، وهل كان بالتالي سعيا لتعزيز عدم الاستقرار في المنطقة؟ يرى خبراء إثيوبيون وأفارقة أن التوجه القطري القائم على منح ملايين الدولارات في مناطق الصراع الإفريقية مثل أريتيريا ودارفور والصومال ومالي وغيرها لن يعالج الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأساسية للصراع في تلك الأماكن. كما يؤكد هؤلاء الخبراء على أن بعض البلدان العربية الإسلامية الغنية بالغاز والنفط تمول الحركات الأصولية في القرن الأفريقي، بما في ذلك إثيوبيا؛ وهي وجهة نظر بحاجة إلى أدلة مؤكدة تدعمها. من ناحية أخرى، يؤكد هؤلاء الخبراء على أن الأهداف الأساسية لتحقيق العدالة، والإنصاف، والمساواة، والتعددية السياسية والاجتماعية والسلم داخل البلدان الإفريقية غالبا ما يتم التغاضي عنها من قبل الفاعلين الخارجيين والقوى مثل قطر والصين والغرب وغيرها.

في سنة 2008 قطعت الحكومة الإثيوبية برئاسة ميلس زيناوي علاقاتها الدبلوماسية مع قطر واتهمتها بأنها "مصدر أساسي لزعزعة الأمن في القرن الإفريقي"، مما يعنى أنها تدعم الحكومة الأريتيرية وحركة الشباب في الصومال (الحركة الموسومة بالإرهاب والتطرف). إن أول رئيس لأريتيريا أسياس أفورقي بل وهو رئيسها الأوحد يعد المنافس الرئيسي للنظام الإثيوبي وهو صديق لقطر وقد زارها مرارا. وقد استفادت حكومته من منح قطر ومن نفوذها الدبلوماسي الواسع وكان ذلك بدون شك على "حساب إثيوبيا". وهنالك مقاربة ترى أن العلاقات الإثيوبية الأريتيرية المتوترة والخطيرة قد ساهمت قطر وغيرها في بقائها على تلك الحالة حتى يجد البلدان آليات وطرقا حقيقية للسلام والمصالحة بينهما.

ويرى بعض الإثيوبيين أنه من المفارقة بمكان أن تكون الحكومة القطرية التي ساعدت في إسقاط دكتاتوريين في شمال إفريقيا مثل معمر القذافي، تدعم في نفس الوقت آخرين مثل أسياس أفورقي في إريتريا. إن ما يبدو للبعض تناقضا في السياسة القطرية يثير الشك حول دبلوماسيتها في إفريقيا بل و"يفقدها المصداقية". يعكس قرار الحكومة الإثيوبية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر والشكوك القديمة لصناع القرار السياسي الإثيوبي والمجتمع المدني بأن العالم العربي حاول "باستمرار" المساس بالوحدة الإثيوبية وسلامة أراضيها وتنميتها المستدامة. وتتأسس هذه الشكوك والاتهامات على ما حظيت به أريتيريا خلال حربها الطويلة مع إثيوبيا من دعم قدمته حكومات مصر والعراق والسودان ودول الخليج ودول أخرى، وأدى ذلك في نهاية المطاف إلى انفصال أريتيريا وفقدان إثيوبيا منفذا على البحر.

علاقة إثيوبيا وقطر.. تطور واعد في سياق مشحون

لا يفرق الكثير من الإثيوبيين المثقفين أو العديد من المسؤولين في الدولة بين مختلف الأنظمة العربية ومواقفها تجاه إثيوبيا. وهناك توجه نحو جمعهم في سلة الخير أو سلة الشر. وقد يكون قطع العلاقات القطرية الدبلوماسية مع إثيوبيا سببا في تغذية ثقافة الاتهام هذه. قد يكون هذا غير عادل، لكنه تصور مستمر. في 26 فبراير/ شباط 2013 على سبيل المثال شن نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلطان هجوما لاذعا وتحريضيا وغير مبرر وغير ديبلوماسي على قرار إثيوبيا ببناء سد النهضة الكبير على نهر أباى (النيل الازرق) قائلا: "إن مصر هي المتضرر الأكبر لأنها لا تملك مصدر مياه بديلة مقارنة بدول حوض النيل الأخرى وبناء السد على بعد 12 كيلومترا من الحدود السودانية ما هو إلا مؤامرة سياسية، ولا تحقق مكسبا اقتصاديا، بل يشكل تهديدا للأمن السوداني والمصري." وقد وردت هذه التصريحات في أكثر من موقع إخباري في ذلك التاريخ. وبالرغم من أن الحكومة السعودية نأت بنفسها عن هذا الاتهام العدائي لإثيوبيا، فإن الوقوف ضد مصلحتها يعزز ذلك التقليد السياسي الذي منعها من الاستفادة من مياه النيل الازرق لتنمية اقتصادها ورى أراضيها الشاسعة وتوفير المعيشة لسكانها المتزايد عددهم. وتعارض الحكومة الأريتيرية، المدعومة من طرف قطر بناء سد النهضة وهناك تساؤل فيما إذا كانت قطر تشاطرها الرأي في هذه القضية.

إن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين قطر وإثيوبيا يعود بالنفع على البلدين. فبعد وفاة رئيس الوزراء السابق ميلس زيناوي سنة 2012، أخذ رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد هايلى مريم دسلاكن المبادرة لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر. بعد استقباله رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني في إثيوبيا، رحب رئيس الوزراء الإثيوبي بالبعثة الدبلوماسية في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، معطيا الملاحظات التالية: "نحن الآن في وقت نستطيع فيه أن نقوى ونعزز علاقتنا المبنية على الثقة المتبادلة وحسن النية". كانت هذه الثقة المتبادلة منعدمة قبل أربع سنوات عندما اتهم ميليس زيناوى الحكومة القطرية بالتدخل وزعزعة الاستقرار في إثيوبيا والقرن الإفريقي.

وتبقى تلك المدركات الراسخة عند المجتمع المدني الإثيوبي أن قطر بوقوفها الداعم للنظام الأريتيري قد وقفت ضد أحقية وشرعية إثيوبيا في ميناء عصب (وقد استثمرت فيه إثيوبيا كثيرا وكانت تعتبره من حوزتها الترابية). ويبقى التقارب الإثيوبي القطري غير واضح بعد لمعظم المراقبين فهل حدث تغيير ملموس يدعو لاستعادة الثقة المتبادلة بين الدولتين؟ ربما كان تصريح رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني في أديس أبابا مناسبا: "نعتقد أن السلام يقود إلى التنمية وأن هذه البلدان الموجودة في هذا الجزء من العالم (يعنى القرن الإفريقي) بحاجة إلى كثير من التنمية." وهذا التصريح جاء سريعا وملائما، فالسلام ضروري فعلا للتنمية.

ومع سياسات الحكومة الإثيوبية الراهنة في ظل الحزب الحاكم فإن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اعترفا بأن معدل النمو الإثيوبي بلغ 11% سنويا، بل يعتبر الاقتصاد إثيوبيا أحد أسرع في العالم نموا، وتعد في نفس الوقت من الدول الأكثر فقرا في إفريقيا.

تملك إثيوبيا مواردَ طبيعية هائلة خصوصا تلك الأراضي الزراعية الخصبة كما تمتلك مصادر كهرومائية فضلا عن قوة بشرية استهلاكية تبلغ 94 مليون نسمة دون أن ننسى موقعا جغرافيا استراتيجيا يمكنه أن يشكل مركزا قياديا، بالإضافة إلى مجتمع شبابي ونمو سريع وريادة في تطوير القارة الإفريقية.

كما تنشط الصين والهند وشركاء اقتصاديون آخرون غير تقليديين في إثيوبيا. وتستثمر الحكومة الإثيوبية كثيرا في البني التحتية وخاصة توليد الطاقة الكهرومائية والري كما قامت بتأجير مئات الآلاف من الأراضي الزراعية الخصبة للآلاف من الأفراد والشركات من 36 دولة.

وقد أجْبِر مئات الآلاف من السكان المحليين الإثيوبيين على التخلي عن أراضي أجدادهم في المناطق الزراعية الغنية مثل غامبلا ووادي أمو وغيرها وذلك لفسح المجال للنخبة المحلية وللمستثمرين الأجانب. ويلاحظ ازدياد الاستياء من مغتصبي الأراضي بما في ذلك النخب العرقية المحلية وبعض الدول المستثمرة في إثيوبيا كالسعودية والهند كما أوردت صحيفة في نيويورك تايمز في شهر مارس/ آذار 2013.

على الرغم من أن أثيوبيا مستقرة نسبيا إلا أنها عرضة لانقسامات سياسية واجتماعية ودينية وغيرها من الإكراهات الداخلية ومن القمع السياسي. لقد تم قمع الحريات الدينية والمدنية ولا توجد أية منافسة سياسة، كما ينتشر الفساد ونهب الأموال بصورة غير شرعية، وقد احتج المسلمون والمسيحيون تطلعا لمزيد من الحرية والاستقلالية ولكن بدون جدوى. ولا تزال العلاقات مع أريتيريا مجمدة كما أن هناك عدم ارتياح في العلاقات مع السودان ومصر يرجع أساسا إلى عدم تفهم التأثير المحتمل لسد النهضة العظيم الذى يعتبر واحدا من أكبر مشاريع الهندسة المدنية في إفريقيا اليوم. من المثير للاهتمام أن غالبية الإثيوبيين داخل البلاد يدعمون هذا المشروع كما ساهموا فيه برواتبهم واستثمروا كثيرا بشراء سندات لتمويله.

تعتبر المعارضة الإثيوبية أن أكبر مساعدة يمكن لقطر أن تقدمها لإثيوبيا وشعبها هي أن تستخدم وسيلة إعلامها الشهيرة قناة الجزيرة لتسليط الضوء على مأساة شريحة كبيرة من السكان من أجل الإنصاف وسيادة القانون والعدالة والحرية الدينية والمدنية ومكافحة الفساد.

وكون قطر وإثيوبيا تربطهما علاقات وطيدة بالولايات المتحدة والغرب، قد يوفر لقطر النفوذ المطلوب للدفع بعملية السلام التي بدونها ستبقى التنمية المستدامة والمنصفة صعبة المنال في كل من إثيوبيا وبقية منطقة القرن الإفريقي. يقدر الرأي العام الإثيوبي وخاصة الشباب دور قناة الجزيرة الرائد في إعداد التقارير عن "الربيع العربي" في الوقت الذى غابت فيه وسائل الإعلام الأخرى عن الساحة. ويوجد بإثيوبيا أكبر عدد من السجناء السياسيين في العالم من بينهم سجناء الرأي كما في تقرير "هيومان رايتس ووتش" لسنة 2012. وقد سجن الكثير منهم بسبب قوانين الحكومة لمكافحة الإرهاب ويهدف هذا القانون إلى اتهام أي منشق سلمى يناضل من أجل الحرية والعدالة بما في ذلك زعماء الدين والعقيدة. تتصرف الحكومة الإثيوبية بسرعة لتصادر أية تقارير مستقلة سواء كانت قطرية أو أمريكية أو ألمانية أو حتى إثيوبية؛ وهذا ما منع من تغطية احتجاجات المسلمين باعتبارها تدخلا في الشؤون الداخلية للبلد وقد طبقت هذه الممارسة على صوت أمريكا والبرنامج الأمهرى الألماني عدة مرات. وفي كلتا الحالتين تتهم الحكومة وسائل الاعلام المستقلة التي تسلط الضوء على انتهاكات حقوق الانسان بزعزعة الاستقرار.

وفي رأيي الخاص أن أهم مساعدة يمكن لقطر والحكومات الغربية أن تقدمها لدعم مصلحة إثيوبيا على المدى البعيد إنما تتمثل في دعم السلام والاستقرار والتنمية المستدامة والمنصفة وتعزيز الدفاع عن سيادة القانون وإضفاء الطابع المؤسسي على حرية الصحافة والحقوق المدنية والسياسية والإنسانية.

إن إثيوبيا، ونظرا لمقتضيات السلام والاستقرار وتلبية احتياجات شعبها المتنوع وسعيا لتدعيم العلاقات النافعة المتبادلة مع جيرانها من دول شمال إفريقيا ودول الشرق الاوسط وغيرها، تملك  أفضلية جيوسياسية وديمغرافية لا مثيل لها من بين دول أخرى. تتطلب هذه الطاقة الهائلة الاستعجال في إدارة شؤون البلد بالطريقة الأمثل. إن عدد سكان إثيوبيا البالغ 94 مليون نسمة –البلد الثاني في إفريقيا ديمغرافيا- وربما يبلغ 278 مليون نسمة بحلول سنة 2050، وبالتالي تكون البلد العاشر في العالم. وسيكون لهذا التحول الديمغرافي انعكاسات اقتصادية وسياسية عميقة ليس فقط على منطقة القرن الإفريقي بل على بقية البلدان الإفريقية والشرق الاوسط.

وينبئ هذا في حد ذاته عن الحاجة إلى تغييرات إيجابية وبناءة في العلاقة بين دول القرن الإفريقي، بما في ذلك تلبية حاجة إثيوبيا في إيجاد منفذ على ميناء عصب، وأحقية إثيوبيا في الحصول على هذا المنفذ أصعب بكثير من قدرتها وحقها في استغلال مياه النيل لتنميتها دون الحاق الضرر بالآخرين.

ونظرا إلى ضرورة حل القضايا المحددة آنفا فليس لدي أدنى شك بأن إثيوبيا ستفرض وجودها كرائد اقتصادي على مدى الـ25 إلى 50 سنة القادمة. أما المتغير الرئيسي فهو قدرتها على حل أزمتها الحالية وتأسيس حكم شامل وتشاركي. في هذا الصدد لن تبقى إثيوبيا دولة تعتمد على المساعدة الغذائية. في الواقع، ستعود إثيوبيا بالنفع على منطقة القرن الإفريقي بأكملها وشمال إفريقيا والشرق الأوسط في العقود القادمة وسيكون ازدهارها بمثابة منارة التعايش السلمى بين الطوائف الدينية وخاصة المسلمين والمسيحيين.
___________________________________
د. اكلوك بيرارا - بروفيسور أكاديمي وجامعي إثيوبي، ومهتم بقضايا المياه في إثيوبيا

المراجع
1. Joseph Emanuel Blayechettai, The hidden Mystery of Ethiopia, 1926
2. Drusilla Dunjee Houston, Wonderful Ethiopians of the Ancient Cushitic (Cushite) Empire.
3. Erlich Haggai, Saudi Arabia and Ethiopia: Islam, Christianity and Politics Entwined 2006.
4. Graham Hancock, The sign and the Seal: The Quest for the lost Ark of the Covenant, 1993 Erlich, Haggai, The Cross-and the River: Ethiopia, Egypt and the Nile.
5. Lynne Rienner Publishers, Boulder, 2012
 يشير هكاى في نقاشه حول النيل إلى ميزة غالبا ما يتم تجاهلها من قبل معظم الخبراء وهى العلاقة الثقافية والدينية الواسعة بين مصر وإثيوبيا التي تكشف القواسم المشتركة .أول هذه القواسم يتعلق بالعقيدة القبطية. إثيوبيا ذات الأغلبية المسيحية تربطها علاقات وطيدة بالأقباط في مصر. وهذا التقليد القديم في إطار هذه العقيدة مع قدرة إثيوبيا على استيعاب جميع الأديان الثلاثة الرئيسية: المسيحية واليهودية والإسلام ينذر بإمكانية التبادلية ويتطلب الاعتراف بتميز إثيوبيا ومساهمتها.
Rahman .A.Majeed, the geopolitics of water in the Nile Basin. Global Research. July, 24, 2011
أشار رحمان إلى خطر الحرب في حالة عدم وجود حل متكافئ يخدم جميع الأطراف. من وجهة نظري, تقدم مبادرة حوض النيل إطارا جيدا لمزيد من المفاوضات ولا يمكن للبلدان العربية أن تشعل الوضع الذى لا يخدم مصالح الجميع.
Than, Ken. Ethiopia: Why a massive Dam on Nile? National Geography News. July 14, 2011.
Sarah Field of the Heritage Foundation, Qatar‘s influence in the Sahel, February 12, 2013

ABOUT THE AUTHOR