المجتمع المسلم في روسيا المعاصرة يافع وعجوز معًا

يواجه المسلمون الروس بشكل جماعي مجموعة من التحديات الخطيرة، تحول دون قدرتهم على الحديث بصوت واحد مرتفع حول الشؤون الداخلية. من هذا المنطلق تسعى هذه الورقة إلى بحث التغيرات التي يمر بها المسلمون في المجتمع الروسي في سياق الإطار التاريخي الفعلي لها.
20131027102440158734_20.jpg

 

المصدر [الجزيرة]

 

ملخص
لا تسكن الأقلية المسلمة في روسيا في بيئة متجانسة. ويشترك مسلمو روسيا مع مليار ونصف المليار مسلم في جميع أنحاء العالم في أنهم يواجهون باستمرار تحديات للأفكار الإسلامية تتخذ أشكالاً مختلفة. والمجتمع المسلم في هذه الدولة يافع وعجوز في الوقت نفسه؛ فهو قديم بمعنى أن أعضاء هذا المجتمع الذين يميزون أنفسهم بالإسلام يقطنون هذه الأراضي الشاسعة منذ عدة قرون. وهو شاب لأنه جزء من الدولة الروسية الحديثة، والتي احتفلت مؤخرًا بالذكرى السنوية العشرين لها مؤخرًا.
وهناك مجموعة من التحديات الخطيرة التي يواجهها المسلمون الروس بشكل جماعي؛ حيث يسعون إلى التغلب على التناقضات التي تمنعهم من أن يتحدثوا بصوت واحد مرتفع حول الشؤون الداخلية. ومن هذا المنطلق تسعى هذه الورقة إلى وضع التغيرات التي يمر بها المسلمون في المجتمع الروسي في سياق الإطار التاريخي الفعلي الذي انبثق عنه التطور الاجتماعي.
وتخلص الورقة إلى أنه لا توجد وصفات كلية للمجتمع المسلم غير المتجانس في روسيا. وسيكون التطور النوعي فيما يتعلق بقضايا الدولة الروسية المهمة تحديًا لهذا المجتمع في المستقبل. وإذا كانت العقود الماضية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قد خُصصت لوضع البنية التحتية الضرورية، سواء المادية أو المؤسسية؛ فقد حان الوقت الآن للدفع بالعلاقات البينية الإسلامية إلى مستوى أعلى. ومن شان ذلك فقط أن يمكِّن الإسلام ليصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية السياسية لروسيا.

كما هي الحال في أماكن أخرى من العالم؛ فإن الأقلية المسلمة في روسيا لا تسكن في بيئة متجانسة تشمل أنماط حياة ثابتة ومؤسسات واضحة المعالم؛ فمع تطور المجتمعات، يسعى الإسلام ومعتنقوه إلى تكييف أنفسهم مع تغير المعايير في مرحلة ما بعد الحداثة مع استمرارهم بالالتزام بعقائدهم. ويشترك هؤلاء مع مليار ونصف المليار مسلم في جميع أنحاء العالم في أنهم يواجهون باستمرار تحديات للأفكار الإسلامية تتخذ أشكالاً مختلفة، وتحث أتباع هذه الديانة على إعادة النظر في إرث الماضي.

هذا هو واقع المسلمين في روسيا؛ فالمجتمع المسلم في هذه الدولة يافع وعجوز في الوقت نفسه؛ فهو قديم بمعنى أن أعضاء هذا المجتمع الذين يميزون أنفسهم بالإسلام يقطنون هذه الأراضي الشاسعة منذ عدة قرون، وهو مجتمع شاب لأنه جزء من الدولة الروسية الحديثة، والتي احتفلت مؤخرًا بالذكرى السنوية العشرين لها.

وهناك مجموعة من التحديات الخطيرة التي يواجهها المسلمون الروس بشكل جماعي؛ حيث يسعون إلى التغلب على التناقضات التي تمنعهم من أن يتحدثوا بصوت واحد مرتفع حول الشؤون الداخلية. ومن هذه الناحية نجد أنهم لم يتجاوزوا بعد العلمنة الراديكالية التي سادت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي. وتبرز الأسئلة التي تسعى المؤسسة المسلمة في روسيا إلى الإجابة عليها على خلفية التحولات السياسية والأيديولوجية الكبيرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وطوعًا أو كرهًا نجدها تدفع الخطاب في روسيا باتجاه القضايا المشتركة بين الدول الإسلامية وتحولاتها النوعية. وتعتمد طبيعة المجتمع المسلم الروسي فيما يتعلق بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المنظور القريب على قدرة الأمة على مواجهة القضايا الساخنة في الوقت الحاضر. ومن هذا المنطلق تسعى هذه الورقة إلى وضع التغيرات التي يمر بها المسلمون في المجتمع الروسي في سياق الإطار التاريخي الفعلي الذي انبثق عنه التطور الاجتماعي.

 

 الإسلام في الاتحاد السوفيتي
 
لم يتمتع أي دين في الإمبراطورية السوفيتية، بما في ذلك الإسلام، بالحرية حتى مرحلة التحرر في أواخر الثمانينيات، والتي تلاها انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991. وحتى نكون أكثر دقة، مرت فترة قصيرة في تاريخ الاتحاد السوفيتي، وتحديدًا من عام 1917 إلى منتصف عشرينيات القرن الماضي حظي فيها المسلمون بمعاملة مختلفة جذريًا عن السنوات اللاحقة.

فبهدف ترسيخ الإنجازات التي حققتها ثورة أكتوبر/تشرين الأول عام 1917، كان المطلوب حشد تأييد الجماهير العريضة. وفي ديسمبر/كانون الأول من عام 1917 خاطب البلاشفة "جميع العمال المسلمين في روسيا والشرق الذين دُمّرت مساجدهم ودور عبادتهم، وانتُهكت معتقداتهم وعاداتهم من قبل القياصرة والظلمة في روسيا"(1). وتعهد البلاشفة عبر هذا النداء بالسماح بكامل الحريات الدينية، معلنين ما يلي:

"نعلن أن معتقداتكم وعاداتكم ومؤسساتكم الوطنية والثقافية حرة ومصونة من الآن فصاعدًا، ولكم الحق في تنظيم حياتكم الوطنية بحرية ودون إعاقة، فهذا حقكم. واعلموا أن حقوقكم إلى جانب حقوق جميع شعوب روسيا محروسة بقوة الثورة ومؤسساتها التي تمثل نواب السوفيت من العمال والجنود والفلاحين"(2).

قبل ثورة 1917، كان مختلف المجموعات العرقية والمنظمات التي يمثلها مسلمون روس غير متجانسين تسعى إلى الحصول على التمثيل في المؤسسات التي تحكم الإمبراطورية الروسية؛ فعلى سبيل المثال شكّل ممثلو الشعب التركي، ومعظمهم من التتار والبشكورت، حركة اجتماعية سياسية فكرية أطلق عليها اسم Jadidism  (من كلمة "جديد" العربية)، ازدهرت في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت هذه حركة إصلاحية تقدمية طليعية بمعالم قومية تشكّلت من العلماء الشباب في المقام الأول والفلاسفة والعلماء والشخصيات العامة من أصحاب الفكر التجديدي، من أمثال حسين فايزهانوف وشهاب الدين المرجاني. وكان هدفهم إحداث نقلة نوعية في مجتمعاتهم وعملوا على حفز المشاركة الشعبية وإبراز ضرورة توعية العامة والتنوير باعتبار ذلك نوعًا من الاجتهاد.

وقبل قيام ثورة أكتوبر/تشرين الأول عام 1917، والتي أشعلت الحرب الأهلية بين عامي 1917-1923، تشكّلت مجموعة متكاملة من الحركات القومية التي تمثل المسلمين الروس. فبين عامي 1905-1917 نشأت عدة مجالس للمسلمين على مستوى عموم روسيا فضلاً عن تلك المحلية وذلك في جميع أنحاء أراضي الإمبراطورية. وقد طرحت هذه التجمعات أجندة قوية نوعًا ما وخططًا طموحة، والتي تضمنت من بين أمور أخرى مسائل إنشاء أحزاب سياسية مسلمة، والحصول على حكم ذاتي للشعوب المسلمة وغيرها من القضايا المتعلقة بالمشاركة السياسية(3).

ولهذا السبب كان من الضرورة بمكان بالنسبة للبلاشفة كسب ود المثقفين المسلمين وأقوامهم؛ فبالنسبة للمشاعر الوطنية القوية لشعوب آسيا الوسطى وسيبيريا ومنطقة الفولغا والقوقاز، كان يمكن لتطلعات هذه الشعوب القديمة للحكم الذاتي السياسي وبناء الدول الخاصة بهم أن تشجع على بروز قوى ثورية غير ناضجة. من ناحية أخرى كان الهدف النهائي للبلاشفة ليس مجرد إقامة الدولة السوفيتية على أنقاض الإمبراطورية الروسية. كانت الغاية هي القيام بثورة عالمية تقودها الطبقة العاملة. وهكذا خطط الشيوعيون أن يقربوا إلى أفهام المسلمين الروس ماهية الخطة النهائية. لكن ذلك انطوى على عملية ذات وجهين؛ حيث قام البلاشفة بشكل متزامن بإدخال عدد من الإصلاحات رافقتها الدعاية الإلحادية اللحوحة بهدف علمنة الحياة اليومية للدولة على غرار النمط الأوروبي.

على الرغم من أن محاولات المسلمين إنشاء حكم ذاتي وطني وديني وسياسي قد باءت بالفشل خلال سنوات الحرب الأهلية، لم يبدأ البلاشفة حتى منتصف العشرينيات حملتهم المعادية للدين علنًا، وذلك في عهد ستالين. وقد انطوت عملية الاستئصال الجذري للدين من المجال السياسي والبيوت على عملية تصفية جسدية واسعة للقيادات الدينية، وإغلاق للمساجد واضطهاد سياسي للمتدينين، وهي الحملة المعروفة كجزء من إرهاب ستالين. وبحلول منتصف الحرب العالمية الثانية، كان هناك بالكاد ما يزيد عن 1500 مسجد تعمل رسميًا في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية. وبالإضافة إلى ذلك، في عامي 1943-1944، تعرض حوالي 600 ألف من شعوب كراشاي والشيشان وأنغوشيا وتتار القرم والأذريين وبعض الشعوب المسلمة الأخرى لعملية إعادة توطين قسري في سيبيريا وآسيا الوسطى تحت ذريعة تعاونهم مع الغزاة النازيين(4).

 

الإسلام كجزء من هوية روسيا

على الرغم من أن الدين لم يسبق أن كان محظورًا رسميًا، كان الإلحاد مغروسًا في الفكرة الأساسية للدولة السوفيتية، وكان التنصل من العقيدة الدينية واحدًا من الركائز الأيديولوجية الرئيسية التي اعتُنقت لتعلو في أفق عملاق العالم الأحمر. وقد أدى محو الهوية الدينية الوطنية والدفع بالإسلام -من بين الديانات الأخرى- إلى هامش الدولة السوفيتية إلى بروز خطر على الدولة، ذلك أنه مع حل الاتحاد السوفيتي، واجهت روسيا خطر التفكك بسبب النزعة الانفصالية العرقية والدينية، والتي تطورت إلى أعمال حربية مأساوية.

وبعد تجاوز المرحلة الحرجة بخسائر كبيرة، برزت مسألة كيفية بناء علاقات داخلية موثوقة مع السكان المسلمين الموزعين على 57 مجموعة عرقية متفاوتة الحجم. عمومًا شكّل انهيار الاتحاد السوفيتي أول لحظة في تاريخ روسيا أُقر فيها بحرية العقيدة والانتماء الديني الشخصي باعتبارها حقوق إنسان أساسية بصرف النظر عن الدين أو القومية.

ويشكّل المسلمون اليوم نسبة تقارب 10 بالمائة من سكان روسيا؛ مما يجعلهم ثاني أكبر مجموعة دينية بعد المسيحيين الأرثوذكس. و"الإسلام الروسي" لا يوجد فقط داخل حدود الاتحاد الروسي؛ أولاً: من الواضح أنه يشارك في العمليات العالمية العابرة للحدود التي يشهدها الإسلام في أماكن أخرى في العالم. ثانيًا: لأنه يشمل تجمعًا تاريخيًا وليس جغرافيًا يمتد إلى ما يتجاوز الحدود الروسية. والأمة الإسلامية في روسيا غير متجانسة إلى حد ما، وتضم تنوعًا من الأفراد الذين يمثلون العقليات القومية المختلفة وأناسًا ملتزمين بتقاليد إسلامية مختلفة. وعرقيًا، يضم المجتمع المسلم الروسي مجموعات مختلفة تمتد من شمال القوقاز إلى الشعب التركي في منطقة الفولغا، والأتراك من جمهوريات آسيا الوسطى على تنوعهم الواسع وحتى المنتمين إلى الثقافة الفارسية. وفي الوقت الحاضر يتعزز التواصل بين هذه المجموعات بسبب عوامل العولمة، وحرية التنقل والترابط الاقتصادي العالمي.

وبحلول نهاية العقد الأول من هذا القرن كانت روسيا قد أعادت تعريف نفسها وخلقت صورة إيجابية إلى حد ما عن نفسها في العالم الإسلامي. وقد حققت روسيا إنجازًا كبيرًا في مساعي حكومتها لتحظى البلاد بالقبول في المجتمع الإسلامي العالمي. وهو ما عبّر عنه بوتين بقوله: "يعد الإسلام بحق جزءًا لا يتجزأ من حياة روسيا الحديثة الدينية والاجتماعية والثقافية، وتستند تقاليدها على القيم الخالدة من الخير والرحمة والإنصاف. والملايين من مواطنينا هم من أتباع هذا الدين القديم"(5). وبسعي شخصي منه أصبحت روسيا مراقبًا في منظمة التعاون الإسلامي عام 2003. وتشارك روسيا في الحوار مع حماس وحزب الله، وتحافظ في الوقت نفسه على علاقات مستقرة مع إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية. وكان ميدفيديف أول مسؤول بهذا المستوى يلتقي مع خالد مشعل. وعلى النقيض من القوى الغربية، وقفت روسيا ضد الغزو الأميركي للعراق ودعمت لبنان عام 2006. وفي الوقت نفسه عززت روسيا وأعادت تنظيم علاقاتها مع قوى إقليمية مثل إيران وسوريا ومصر والمملكة العربية السعودية وقطر.

وعلى الرغم من الضوء الأخضر الذي صدر من قبل الكرملين، فإن الناشطين السياسيين المسلمين لم يستطيعوا الاستفادة الكاملة منه. وقد عبّرت المؤسسة الإسلامية عن أسفها لأن بعض الجماعات تستخدم الضغوطات السياسية ضدها. ومن المؤكد أن وجود خلل على مستوى الحكومة يعد أحد الأسباب التي أفقدت الإسلام النفوذ الذي يستحقه. ولكنه ليس مهمًا بقدر غياب الضغوط السياسية القوية المتماسكة التي ينبغي أن يمارسها المسلمون أنفسهم. جاء العام 2013 والإسلام الروسي المؤسسي لم يزل عاجزًا وغير منظم، ونشهد حاليًا اغتيال مفتين وأئمة ونشطاء بارزين بشكل متكرر، حتى في المناطق المستقرة سياسيًا.

كان العام 2012 الأكثر خطورة في ساحة الشؤون البينية الإسلامية للفترة الماضية؛ فقد دفع عدد من الشخصيات العامة حياتهم بسبب نشاطاتهم الاجتماعية؛ ففي فبراير/شباط من هذا العام تم تفجير سيارة نائب مفتي ستافروبول كراي كرمان إسماعيلوف في بياتيغورسك؛ وفي مارس/آذار اغتيل إمام مسجد داغستان غيتينماغومد أبدلغابوروف في هجوم إرهابي؛ وفي إبريل/نيسان تعرض الناشط المسلم الشاب صاحب الكاريزما ميتين مهدييف للطعن بوحشية في موسكو؛ أما ولي الله حضرت يعقوبوف، والذي كان يشغل منصب نائب مفتي تتارستان حتى عام 2011، فقد وُجد ميتًا في يوليو/تموز عام 2012؛ وقُتل الشيخ الصوفي سعيد أفندي الشرقاوي، وهو أحد أكثر الزعماء الروحيين احترامًا في داغستان في انفجار في شهر أغسطس/آب، وقُتل نائب مفتي أوسيتيا الشمالية إبراهيم دوداروف بالرصاص في ديسمبر/كانون الأول(6).

إن كانت الهجمات على الزعماء المسلمين بدافع الكراهية الدينية هي التي كانت سائدة في شمال القوقاز سابقًا؛ فإن العام 2012 أظهر أن جذور المشكلة أعمق مما كانت تبدو. كانت الدوافع وراء بعض من هذه الاغتيالات المحيرة غامضة للغاية ويصعب التعليق عليها. ولكن حقيقة أن كل هؤلاء الضحايا كانوا أتباع مذهب Wasatiyyah (المشتقة من الكلمة العربية "وسطية" أو الاعتدال) ويعارضون التطرف والإرهاب بشدة تتحدث عن نفسها. وبغض النظر عمّن يقف وراء هذه الأفعال غير الإنسانية، فإن هدفها الرئيسي هو زرع الذعر في قلوب الناس(7).

للأسف لا يوجد عمليًا أي مفهوم متكامل داخل الحكومة، سواء على المستوى الاتحادي أم الإقليمي، لتوحيد الجهود لمواجهة التطرف. أما مؤسسة المجالس الروحية، والتي ظلت تقليديًا تتجاهل الحياة الإسلامية في روسيا، فإنها تمر بأوقات غير مستقرة(8). ليس هناك من مراكز نفوذ محددة بوضوح أو أية محاولات فاعلة لإيجاد سبل مشتركة للعمل. والمؤسسات الحكومية والعامة مبعثرة وتعاني من سوء الإدارة، وتفتقر إلى وجود منطقة أيديولوجية وسطى لخلق أرضية صلبة للتطوير المشترك(9).ولم تستطع تلك المؤسسات حتى الآن أن تتجاوز الأزمة التي استمرت لعقود من القمع المعادي للدين، وبالتالي فهي لا تزال ضعيفة. ونظرًا لنقص الموارد البشرية والمادية، فإن المنظمات الإسلامية لا يمكن أن تتجاهل تمامًا الآليات العاملة في الوسط الاجتماعي.

ويمكن أن تعزى مشكلة التفكك المؤسسي جزئيًا إلى عملية تغير الأجيال. ويجب أن تُفهم هذه العملية في المقام الأول بشكل إيجابي، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من تطور الأفكار، وبوصفها محاولة للتوفيق بين الإسلام والحداثة على المستوى الإقليمي. الجيل السابق من الخريجين السوفيت من بخارى وطشقند كانت توحدهم أيديولوجيا مشتركة في الحقبة السوفيتية؛ وكثير منهم لا يزال "في منصبه". وهؤلاء الناس من نفس العمر تقريبًا، وحصلوا على التعليم نفسه، وينتمون إلى نفس التقليد الديني. ولكننا اليوم نلاحظ تشكل الأمة بزعامة قيادات شابة. وهم يمثلون قوى متعددة الاتجاهات إلى حد ما؛ فالبعض منهم من خريجي مصر أو المملكة العربية السعودية أو تركيا وما إلى ذلك، ومن البديهي أنهم لا يعرفون بعضهم البعض شخصيًا ويميلون إلى ربط أنفسهم مع معسكرات أيديولوجية مختلفة ويتصرفون بشكل متحيز وعدواني تجاه بعضهم البعض.

ومن وجهة نظر موضوعية، نرى أن قضايا الإسلام في الشؤون الداخلية الروسية سوف تجذب بشكل متزايد اهتمامًا أكبر من العامة، من المسلمين وغير المسلمين على حد سواء. ومع غياب الجيل القديم من مسلمي الاتحاد السوفيتي السابق تدريجيًا لتحل محلهم القيادات الشابة، فإن عدد المتدينين الذين يمارسون الدين عن وعي في تصاعد. وعلى عكس آبائهم الذين تربوا في عصر العلمانية والإلحاد الراسخ، فإن الشباب اليوم متعطشون لملء الفراغ الناتج عن المحاولات الراديكالية لكن الفاشلة لهدم الهوية الدينية للدولة.

ونظرًا لعمليات استئصال الدين في الاتحاد السوفيتي، فإن الصلات بين الأجيال ليست قوية بما فيه الكفاية لتمرير التقاليد لأولئك الذين وُلدوا في العالم الجديد. ومع تزايد أهمية تكنولوجيا المعلومات ووسائل الإعلام الاجتماعية، فإن الزعماء الروحييين التقليديين يفقدون حقهم الحصري في إعادة إنتاج القيم الإسلامية والتقاليد والمعارف من خلال تمريرها إلى الجيل الجديد. إن إمكانية الوصول إلى المعلومات تعد واحدة من أهم القيم في عالم اليوم كما هو واضح. وقد ازداد عدد المطبوعات والدوريات والمواقع على شبكة الإنترنت وظهر العديد من المساجد والمدارس الدينية في السنوات العشرين الماضية لتعزز انتشار القيم الإسلامية.

ويكمن الجانب السلبي في أنه سيكون هناك دائمًا أشخاص يتمتعون بالمهارة الكافية لاستخدام واستغلال التكنولوجيا من أجل تحقيق أهدافهم الخاصة. والمسلم الروسي العادي قد تضرر فكريًا وعاطفيًا بسبب المسائل التي تتعلق بحماية القيم القومية والدينية، فهو فريسة سهلة للمتطرفين الذي يلعبون على وتر العواطف المتأثرة بالموضوعات الحساسة التي مضى عليها قرون، مثل حرية العقيدة والحفاظ على اللغة والحكم الذاتي القومي.

 

الخلاصة

حدثت منذ عقدين تحولات سياسية وأيديولوجية أدت إلى تطورات كثيفة لم يسبق لها مثيل في المجتمع المسلم الروسي؛ فمن حيث تطور الهوية الإسلامية، سوف تشهد روسيا أيامًا من الاضطراب وعدم الاستقرار في المستقبل القريب. وسوف تتفاقم هذه بسبب عدة عوامل، منها التحديات المذكورة أعلاه وهي التناقض والتطرف وما يتعلق بالبحث عن طرق لتوحيد المراكز الإسلامية المختلفة.

وإحدى هذه المشكلات تتعلق بالموجة الأخيرة من كره الأجانب، والخوف من الإسلام والمشاعر المعادية للهجرة والتي تنتشر على ما يبدو حتى في البلدان الأكثر ليبرالية في أوروبا الغربية. ولا ينجو المجتمع الروسي من تأثير العرض المتحيز للمعلومات من قبل وسائل الإعلام العالمية المهووسة بـ"الخطر الإسلامي". وكذلك فإن محاولة إلقاء اللوم فيما يتعلق بكومة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية على المهاجرين مفهوم منتشر شعبيًا يشبه كثيرًا نزعة التشدد القومي في أوروبا في أواخر الثلاثينيات، ويستغله السياسيون الشعبويون بلا تردد للتأثير في عقول الناخبين المحتملين.

لكن سوق العمل الروسي في كل مدينة كبيرة ومتوسطة مليء بالعمال من جمهوريات آسيا الوسطى ومن المهاجرين الداخليين من القوقاز. ويرى الكثير أن وجودهم مهدد بسبب الراديكالية الإسلامية والتطرف والإرهاب(10). وعلى الرغم من ذلك، وفقًا لتكهنات خبراء الاقتصاد، فإن الاقتصاد الروسي سوف ينمو في المستقبل القريب وسيكون هناك حاجة ماسة إلى المزيد من القوى العاملة. وبما أن العمالة الوافدة غير الدائمة لا تحتاج إلى التجنيس، لن يكون هناك بالكاد أية مؤسسة اجتماعية بديلة عن المسجد تبلغ في تأثيرها على كلا الجانبين ما يبلغه(11). وبالتالي، وبصرف النظر عن ضرورة بناء قاعدة مستقرة يمكن أن توحد الإسلام الروسي، فإن هناك مهمة عاجلة أمام الزعماء الروحيين لتسهيل اندماج المهاجرين وإقناع الشعب الروسي بتقبل وجودهم الدائم.

ومن الصعوبات الأخرى التي لا يمكن حلها إلا من خلال جهد مشترك المعارضة الشعبية الرجعية للأسلمة المتزايدة. ويعد فرض القيود على بناء المساجد في موسكو أو التشريعات المنحازة والمناهضة لليبرالية التي أُقرت مؤخرًا، ومنها "حظر مظاهر الكفر في الأماكن العامة"- بغض النظر عما يعنيه ذلك- هي أمثلة من الممارسات الظلامية على أعلى مستوى حكومي.

لا توجد وصفات كلية للمجتمع المسلم غير المتجانس في روسيا. وسيكون التطور النوعي فيما يتعلق بقضايا الدولة الروسية المهمة الرئيسية أمام هذا المجتمع في المستقبل. وإذا كانت العقود الماضية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قد خُصصت لوضع البنية التحتية الضرورية، سواء المادية أو المؤسسية؛ فقد حان الوقت الآن للدفع بالعلاقات البينية الإسلامية إلى مستوى أعلى. ومن شأن ذلك فقط أن يمكِّن الإسلام ليصبح حقًا جزءًا لا يتجزأ من الهوية السياسية في روسيا.
___________________________________
* كارينا فايزولينا، باحثة روسية متخصصة في العلاقات الدولية.
*ترجم النص عن الانجليزية محمود العابد
 
 

المصادر والمراجع
1- ?.?.????????? (2010) ????????????? ?????????? ? ??????: ??????? ? ????????????? (??????: ??? ???? «????»), ???. 105

2-First published in the paper of transitional Soviet government, no 6, 7 December (24 November) 1917. ?? ???? ?????????? ??????????? ?????? ? ???????, ‘?????? ?????????? ???????? ? ????????????? ?????????????’.

3- ?.?.??????? (2007) ?????? ??????? ????????? ? ?????????? ?????????? ??????? (??????: ?????????-???????????? ?????), ???. 162-170.

4- T. H. Shireen  (2004) Islam in Russia: The politics of identity and security (NY: ME Sharpe), p.30.
5- RIA Novosti (2012) ‘Putin says Islam is an integral part of Russia’s religious life’, 30 August, http://ria.ru/religion/20120830/733504906.html.
6-See ‘The 2012 Chronic’ in the Annual Journal of Moscow Muftiyat, ?????: ????????? ??????????? ?????? ????????? ?????????? ????????? ??????????? ????? ??????, 1 March, no 1.  
7- See the article by the deputy mufti of the Spiritual Board of Muslims of European Russia, D. Muhetdinov (2013) ‘Hunting the clerics’, 6 August, http://damir-hazrat.livejournal.com/104304.html.
8- D. Muhetdinov (2013) ‘Islam in Russia in modern period’, 5 July, http://damir-hazrat.livejournal.com/101912.html.
9- A.R.Mukhametov (2012) ‘The hot 2012’, ANSAR, 29 December, http://ansar.ru/person/2012/12/29/36138?print
10- See the report of Russian International Affairs Council, RIAC (2013) Politics of migrants’ integration. Challenges, Potential, Risks (Moscow: ?????????).
11- A. Kobzev, M. Moshkin  (2011) ‘Prophet in the strange land. Muslim leaders are called for spiritual education of migrants’, Moscow News, 21 November, http://www.mn.ru/society_ethnic/20111121/307436390.html.

 

ABOUT THE AUTHOR