مستقبل السلفية المقاتلة بسوريا

مثّلت الثورة السورية فرصة لانخراط القوى السلفية المقاتلة بعد أن بات الصراع مسلحا وانخرطت القوى الشيعية فيه، لكن استراتيجياتها تضاربت بين البعدين الوطني والأممي.
201412311353735580_20.jpg
صعود السلفية المقاتلة في الثورة السورية (أسوشييتد برس)

ملخص
تميزت السلفية السورية لحظة اندلاع الثورة بعدة سمات حددت مساراتها؛ فقد كانت تركز على الإصلاح المجتمعي وتبتعد عن النشاط السياسي، وكان بعضها ينجذب إلى النشاط الجهادي نتيجة بروز القاعدة واحتلال العراق، فكانت تتأرجح بين رفض السياسة أو المراهنة على العنف، فلذلك وجدت صعوبة في التعامل مع الثورة السورية في بداياتها لأنها كانت سياسية بامتياز وترفض العنف.

على أن الحراك الثوري والضغوط الخارجية والهوية الوطنية، ستدفع السلفية الوطنية إلى تنسيق مواقفها ومزيد من التماسك، والتعاون مع القوى المدنية السورية، والقبول بالمشاركة السياسية مع كل الأطراف بعد أن تتبين أن القتال ليس كافيًا للتوصل إلى تسوية للصراع المسلح بسوريا.

المقدمة

تتميز المرحلة الحالية للثورة السورية بصعود القوى السلفية في المواجهة المسلحة مع النظام السوري، مع أنها لم تكن بارزة في بداية الثورة، وكانت الرهانات منصبة على الجيش الحر الذي تشكّل في بدايته من جنود انشقوا عن النظام والتحق بهم عدد من الثوار الذين فقدوا الأمل في كفاية الاحتجاجات السلمية لإسقاط النظام.

ويرجع هذا الصعود المسلح للقوى السلفية في قيادة العمل العسكري بسوريا إلى عامل الثورة، التي مثّلت تحديًا للقوى السلفية يحمل مخاطر على وجودهم ويتيح فرصًا لتحقيق أهدافهم.

وبناء على ذلك، تتمحور هذه الورقة حول ثلاث نقاط رئيسية: الإشكالات التي واجهتها السلفية خلال الثورة، وكيفية تفاعلها مع تلك الوقائع، وأخيرًا دور المجوعات السلفية في المستقبل سواء كان ذلك كجزء من الحل أو كعائق له.

المفاجأة الثورية

تميزت السلفية السورية لحظة اندلاع الثورة بعدة سمات حددت مساراتها؛ فقد كانت تركز على الإصلاح المجتمعي وتبتعد عن النشاط السياسي، وكان بعضها ينجذب إلى النشاط الجهادي نتيجة بروز القاعدة واحتلال العراق، فكانت تتأرجح بين رفض السياسة أو المراهنة على العنف، فلذلك وجدت صعوبة في التعامل مع الثورة السورية في بداياتها لأنها كانت سياسية بامتياز وترفض العنف.

وزاد من شدة الصدمة أن السلفية السورية تعاني من خلل القيادة؛ فقد أشار الباحث أرنو لنفن (اسم مستعار لتوماه بيريه) المختص في السلفية السورية إلى أن "رغم أن سوريا قدمت عددًا لا بأس به من الشخصيات السلفية المعاصرة المهمة؛ فإنها في الواقع دولة المشرق العربي التي تعاني فيها هذه الحركة من أشد سوء التمثيل مقارنة بدول عربية أخرى (...) خاصة بعد أن أصبح منذ أحداث سبتمبر/أيلول 2001 مجرد الانتماء إلى مثل تلك الحركات سببًا كافيًا لدخول السجن".

هناك أسباب عدة لذلك، منها طبيعة التيارات السلفية المحلية خلال العقود الماضية التي منعت ظهور تيار سلفي موحّد في سوريا، والطابع الإصلاحي الاجتماعي السائد عند الحركات السلفية السورية التي كانت توصف عادة بالإصلاحية المعتدلة، ثم فشل المواجهة العسكرية المباشرة مع النظام السوري في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي والتي انتهت بطرد قيادة الإخوان المسلمين من سوريا، فتبنت الحركات السلفية استراتيجية إصلاح المجتمع وتجنّب أية اشتباكات مباشرة مع النظام الذي اشتدت قبضته الأمنية بعد الأحداث المذكورة.

من جانب آخر، فإنه رغم تكوّن بعض البذور الجهادية فهي لم تمثّل يومًا خطرًا أو تهديدًا حقيقيًا للنظام،  فمثلاً بعد احتلال العراق وعودة المقاتلين السوريين اعتقلهم النظام السوري تلبية لمطالب الإدارة الأميركية في إطار الحرب ضد الإرهاب بعد أن كان يوفر لهم تسهيلات المشاركة في قتال القوات الأميركية بالعراق. وقد تشكّلت بعد الاعتقال خلايا سلفية-جهادية في السجون السورية،  كان من بينهم الذين شكّلوا نواة جبهة النصرة الذين أفرج عنهم النظام السوري بمرسوم العفو العام الذي أصدره في يونيو/حزيران 2011.

ونتيجة هذا الاستقطاب داخل التيار السلفي بين جناح يرفض السياسة وجناح يراهن على العمل المسلح، لم تجد السلفية السورية في البداية قبولاً في الثورة لأنها سلمية ومدنية. لكن في المقابل كان النظام في تصريحاته يصر على كون السلفية المقاتلة القائد الفعلي للثورة من أجل نزع الشرعية عن مطالب الثورة وعزل الثوار داخليًا وخارجيًا؛ فكانت ردة فعل الثوار على مثل تلك الادعاءات إعلاء هتافات مثل: "لا إخوان ولاسلفية، نحن بدنا الحرية"، وما شابه ذلك. غير أنه برز مع الوقت عاملان فتحا للقوى السلفية الجهادية نافذة تدخل عبرها إلى الثورة السورية، وهي عسكرة الثورة، والاصطفاف الطائفي الذي تلاها.

كانت عسكرة الثورة النتيجة المباشرة لفشل المظاهرات السلمية في شق صفوف النظام واستعماله للعنف الذي أدى بدوره إلى تصدع على أساس طائفي. هذان عاملان يخدمان السلفية الجهادية لأنها تراهن على القتال، فباتت تحظى -حسب رأيهم- بشرعية قتال الزنادقة الشيعة ونظام علماني يحارب الإسلام. وزاد من هذا التوجه أن الدول المحيطة بسوريا التي تعاني من تصدعات طائفية، مثل العراق ولبنان، أفرزت تيارات سلفية تدعو إلى حماية أهل السنة من التسلط الشيعي.

علاوة على ذلك، فإن الدول الإقليمية في دعم الثورة السورية، كالسعودية، تضع على رأس أولوياتها الدفاع عن أهل السنة في وجه ما يُسمى المد الشيعي، وتعتبر سوريا ساحة أساسية في هذه المعركة. وقد توقع الباحث العراقي نبراس الكاظمي أن تصبح سوريا أرضًا للجهاد  لأن النظام اتبع سياسات متسامحة مع التشيع الذي يعد عدوًا للحركات الجهادية السلفية.

قاد انخراط القوى السلفية الجهادية في قتال النظام السوري إلى تحولات في بنياتها الداخلية وعلاقاتها بمحيطها، أعادت في النهاية تشكيلها حسب تبدلات موازين القوى الداخلية والخارجية؛ فأصبحت الخلافات بين تيارات السلفية المختلفة مكشوفة في كل من المجالات الفكرية والسياسية والتنظيمية. زد على ذلك الدور الدولي المتصاعد في إدارة الملف السوري حسب أجندات متضاربة، بالإضافة إلى هاجس القوى العظمى من الإسلاميين بشكل عام والسلفيين والجهاديين بشكل خاص؛ ما أدى إلى تباينات واضحة في كيفية تعامل هذه الحركات مع تلك الإشكالات وغيرها. 

استراتيجيات سلفية

تنوعت استراتيجيات القوى السلفية في مواجهة هذه الفرص والمخاطر؛ فبعضها ربط نشاطه في سوريا بالجهاد العالمي (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، وبالتالي لا تتضمن أجندته مطالب الثورة السورية، وبعضها جمع بين الانخراط في الجهاد العالمي ولكن في الإطار السوري (جبهة النصرة) أي إنه ينوي إقامة الخلافة داخل الأراضي السورية حصرًا. والبعض الآخر حصر نشاطه في الجهاد داخل سوريا (الجبهة الإسلامية السورية) دون ارتباطه بالجهاد العالمي، ووافق على التعاون مع القوى المسلحة الأخرى حتى وإن كانت علمانية مثل كتائب الجيش الحر.

لكن الدور العسكري البارز لهذه المجموعات يتجاوز كثيرا تمثيلها السياسي؛ إذ إن وزنها في تشكيلات المعارضة السياسية في الخارج ضعيف كل الضعف، وذلك لأن المعارضة ترفض التوجه السياسي لهذه التشكيلات  التي ترفض من جهتها تمثيل المعارضة للثورة (كما حصل قبيل مؤتمر جنيف2).

وقد أسندت هذه القوى السلفية المقاتلة خياراتها الداخلية بروابط خارجية للحصول على الدعم السياسي والمادي، فبينما راهنت الدولة الإسلامية على دعم الدولة الإسلامية في العراق، راهنت باقي القوى السلفية التي تبتعد عن القاعدة على دعم الدول التي تسعى إلى إسقاط النظام السوري لكسر النفوذ الإيراني.

على سبيل المثال، هناك شخصيات ذات نفوذ في دول مثل الإمارات أو السعودية تدعم بعض الفصائل، وقد جعل هذا الدعم الفصائل المستفيدة منه أكثر جذبًا للفصائل الأخرى وللعناصر المسلحة لأنه يوفر وسائل أفضل للقتال؛ فتشكلت علاقة تحصل بموجبها الجماعات السلفية المسلحة على الولاء الأيديولوجي مقابل تقديم تسهيلات قتالية للعناصر الملتحقة بها. لكن تنامي هذه الجماعات السلفية والتحاق عدد من الغربيين بها أثار مخاوف الدول الغربية من أن تكون في المستقبل هدفًا للجهاديين بعد انتهاء الصراع في سوريا، فاتجهت دول مثل الأردن والسعودية (كدول وليس كأفراد طبعًا)، وهما حليفتا الولايات المتحدة، إلى ضبط الأمر ومنع -قدر الإمكان- أية مبادرة شخصية لتسليح الكتائب، لكن من جانب آخر، أرسلت السعودية أسلحة كرواتية، في عملية كشف عنها المدوّن براون موسس، إلى الكتائب التي تنتمي إلى الجيش الحر في محافظة درعا الجنوبية لمساعدته على محاصرة دمشق وتقوية نفوذ المملكة في الكتائب المعتدلة.

موازين القوى

مال الكثير من التحليلات إلى تراجع نفوذ القوى السلفية المقاتلة،  لأنها عاجزة عن تشكيل جسم متماسك، ولأنها تواجه عزلة خارجية، لكن التطورات الأخيرة أعطتها فرصًا عديدة للتنامي، مثل اتجاه القتال في سوريا إلى وجهة طائفية. إضافة إلى أن انسحاب القوى الغربية جعل المملكة السعودية تأخذ زمام الأمور وتضع على رأس أولوياتها صد النفوذ الإيراني. وقد دفعت هذه التحولات المواتية أغلب الفصائل السلفية المقاتلة إلى السعي نحو التماسك في إطار الجبهة الإسلامية السورية.

تتميز هذه الجماعات السلفية الوطنية المقاتلة بأنها، رغم اختلافاتها في المسألة الديمقراطية، تشترك في الوطنية، فيمكن وصفها بأنها سلفية وطنية مقاتلة، فمثلاً حركة أحرار الشام ترفض الديمقراطية، لكن قيادتها مستعدة لتشكيل جسم سياسي يشارك الأحزاب السياسية الأخرى في سوريا المستقبل.  وذلك خلافًا لما قاله أبو محمد الجولاني في مقابلته الشهيرة  التي اعتبر فيها القتال في سوريا مرحلة من مراحل الجهاد العالمي واعترف بأنه لولا الثورة، لما توفرت لهم الفرصة للانخراط في الجهاد في سوريا.

هناك عامل أثّر أيضًا على السلفيين فجعلهم يُغلِّبون البعد الوطني على الأممي ويستعملون عبارات مثل: الشعب السوري والتفكير بالمشاركة السياسية؛ وهو إعلان زعيم القاعدة أيمن الظواهري عن وجوب بقاء كل من الدولة الإسلامية في العراق وجبهة النصرة منفصلين والالتزام فقط بالتعاون في القضايا المشتركة؛ ما أثّر بطبيعة الحال على نظرية عالمية الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية وفرض بحكم الأمر الواقع الانفصال بين القاعدة في العراق والشام. هذه الاتجاهات تقوي التماسك داخل الإطار الوطني السوري، ويجعل السلفية المقاتلة أقرب للإخوان المسلمين أكثر من الفكر الجهادي العالمي.

في المقابل، تواجه الدولة الإسلامية في العراق والشام رفض كل من القوى الخارجية ذات التأثير الكبير على التسوية بسوريا (ما أدى أخيرًا إلى إيقاف الإمدادات غير الفتاكة التي كانت ترسلها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى الجيش الحر خوفًا من وصولها إلى "الأيدي الخاطئة")، ومن مختلف القوى السورية بما فيها الفصائل السلفية الوطنية التي أعلنت الحرب على الدولة الإسلامية واعتبرتها عدوًا مثل النظام السوري. ومن الجدير بالذكر أن لواء داوود قد انشق من الدولة الإسلامية في العراق والشام وخيَّر المقاتلين الأجانب بين العودة إلى بلادهم وبيعته بدلاً من زعيمهم السابق البغدادي.

ومن المؤشرات التي ستجعل الدولة الإسلامية بالعراق والشام تتجه نحو مزيد من الضعف والاضمحلال أنها تٌوجِه عملياتها القتالية نحو البيئة الحاضنة لها، وهي المناطق التي أخذتها المعارضة المسلحة من نظام الأسد، ومن المعروف في حرب العصابات أن قوة التنظيمات المسلحة تكمن في متانة علاقتها بالوسط الذي تعيش فيه، كما اتضح في تجربة ماوتسي تونغ التي لخصها في قوله: ينبغي أن يكون المقاتل وسط الناس مثل السمكة وسط الماء.

ثم إن الدولة الإسلامية في العراق والشام (التي تنتمي إلى الجهاد العالمي) تقوي تماسك النظام بدفع مختلف الطوائف إلى الاحتماء به كما حدث في محافظة الرقة؛ حيث قامت الدولة الإسلامية بتدمير تمثال السيدة العذراء والكنيسة. هذه الممارسات تتعارض مع الاتجاه الوطني للكتائب السلفية السورية، فرفضت هذه الممارسات لأنها ستؤدي إلى تفتيت سوريا، وقد وصل الخصام بين الفريقين حدَّ المواجهة كما تبين في ريف اللاذقية حيث هاجمت الدولة الإسلامية قرى علوية عديدة، فتوحدت عدة كتائب من الجيش الحر وأخرى "إسلامية" ضدها لمنع الصراعات الطائفية.

لذلك، فإن سعي الدولة الإسلامية إلى السيطرة على مناطق لشن هجماتها الطائفية وقتال الأكراد سيكون مآله الفشل، ونفس المآل سيكون لسيناريو سيطرة القاعدة على المناطق المحررة حتى تضطر الجميع إلى القبول بها أو القبول بالأسد، وذلك بخلاف التوقعات الغربية وتخوفاتها من سيطرة القاعدة على سوريا لأنها أقرب إلى إثارة المخاوف الدولية لتبرير امتناع القوى الغربية عن التدخل أو تسليح المعارضة المسلحة.

أما جبهة النصرة فمعظم عناصرها من السوريين لكن ارتباطها بالقاعدة وسعيها لتطبيق سياسة شرعية لم يكونا ضمن مطالب الثورة. هذا الازدواج يطرح احتمال اندماج عدد من عناصرها في تيار السلفية الوطنية، خاصة بعد انتقال معظم مقاتليها الأجانب إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام.

أما الجبهة الإسلامية فهي خليط من قوى عسكرية لها قيادات سلفية مثل حركة أحرار الشام وجيش الإسلام وأخرى محافظة مثل حركة التوحيد، فمعظم مقاتلي الجبهة ليسوا سلفيين، وإن كانت قيادات الصف الأول والثاني سلفية في أغلب فصائلها. وتمتلك الجبهة الإسلامية القوة العسكرية القادرة على مواجهة النظام وبذلك تستطيع أن تكون بديلاً عسكريًا عن الجيش الحر الذي لا يحصل على أسلحة بسهولة. وبما أن تكشلها يجعلها غير قادرة على تطبيق صارم للشريعة فيمكنها أن تقنع القوى الغربية بالحوار معها للتوصل إلى اتفاق يجعلها شريكًا في الحكم وأداة احتواء ضد تنظيمات الجهاد العالمي، وقد بدأت بعض التحركات في هذا الاتجاه،  رغم الشكوك في نوايا هذه الحركات. غير أن عدم رضا قادتها على المشاركة في جنيف2 أدى إلى انسحابها من العملية.

ولكن، إقصاء القوى السلفية الوطنية عن العملية السياسية يمكن أن يؤدي إلى تكريس الصراع الطائفي على الأرض، والسعي إلى الاستقلال بمناطق سوريَّة تكون تحت سيطرة السلفية المقاتلة كبديل عن فشلها في إسقاط النظام والسيطرة الكاملة على الإقليم السوري أو فشلها في المشاركة السياسية في نظام حكم توافقي.

يُعزز من غلبة الاتجاه الوطني على تشكيلات السلفية المقاتلة، أن جيش المجاهدين يمثل قوى متنامية ستؤثر في صياغة مستقبل سوريا، وهو جيش تشكل حديثاً من انضمام مجموعة من الألوية والكتائب في مدينة حلب وريفها الغربي، ويعد نموذجاً مختلفاً عن التكتلات والجبهات العسكرية الإسلامية، فهو لا يمثل توجهاً سلفياً، كما أنه يتألف من ألوية ومقاتلين معظمهم كانوا طلبة جامعيين وموظفين مدنيين، وخلافاً لمعظم القوى العسكرية الثورية الأخرى يتألف هذا الجيش بشكل رئيسي من أبناء مدينة حلب العريقة (تجمع فاستقم كما أمرت، لواء الأنصار)، في حين أن التشكيلات العسكرية في معظم أنحاء سورية يغلب عليها التكوين الريفي، وهو أمر حال دون أن تكون بيئة مناسبة لتقبل الفكر السلفي، ويميل التجمع إلى دولة مدنية وطنية بطبيعة الحال، وإن كان يأمل أن تكون إسلامية معتدلة، لكن الهوية السورية الوطنية متمكنة بشكل واضح، وهو أمر يجعل تصنيف جيش المجاهدين غير ممكن إلا في إطار القوى العسكرية الوطنية.

الميل الوطني المديني وعدم هيمنة فكر سلفي في جيش المجاهدين رشَّحه ليكون أول القوى  وأشدَّها في قيادة معركة إخلاء الأراضي السورية من تنظم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وطردهم.

يُفسر تكوين جيش المجاهدين ذو الطابع المديني النفور الشديد من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، كما يفسر الطابع الريفي والنزعة السلفية المتمكنة لدى بعض كبار قيادات الجبهة الإسلامية الميل باتجاه تجنب الصدام مع تنظيم الدولة، ولكن لواء التوحيد الذي يعد أحد أبرز القوى العسكرية في ريف حلب الشمالي يتكون من خليط من أبناء المدينة والريف كان أسرع القوى العسكرية المنطوية تحت عباءة الجبهة للانخراط في المعارك ضد تنظيم الدولة.

سطوة الوطنية

الحاصل، إن الحراك الثوري والضغوط الخارجية والهوية الوطنية، ستدفع السلفية الوطنية إلى تنسيق مواقفها ومزيد من التماسك، والتعاون مع القوى المدنية السورية، والقبول بالمشاركة السياسية مع كل الأطراف بعد أن تتبين أن القتال ليس كافيًا للتوصل إلى تسوية للصراع المسلح بسوريا ولا يمكن لهم التفرد تحت راية "القوى الفاعلة على الأرض"؛ حيث يوجد الكثير من النشاطات المدنية على سبيل المثال.

السيناريو الأكثر واقعية هو أن يتم التقارب المصلحي بين الكتائب المعتدلة المتمثلة في الجبهة الإسلامية وجيش المجاهدين، وباقي الفئات في المعارضة لمواجهة النظام والدولة الإسلامية، خاصة أنها تبني مشروعية وجودها على الهوية الوطنية السورية، وهي هوية متنوعة تشمل أديانًا مختلفة وطوائف عديدة، ولا يمكن لهذه الفصائل السلفية أن تكتسب هذه الشرعية إلا إذا اتسقت سياساتها مع هذا التنوع، لكن في المقابل تصبح الكتائب الجهادية المرتبطة بالقاعدة عائقًا لذلك، وهو عائق حاول الظواهري إزالته حين طلب أن تبقى للنصرة اليد الطولى في سوريا وليس للدولة الإسلامية، ويعود بالتالي أغلب المقاتلين الأجانب إلى بلادهم؛ ما يجعل دور القاعدة ضعيفًا ومتناقصًا مع الوقت، لكن إصرار البغدادي واعتبار نفسه أميرًا للمؤمنين ورفضه الامتثال لسلطة الظواهري سيجعل المواجهة مستمرة مع السلفية السورية المقاتلة، وهي مواجهة ستحصد منها مكاسب سياسية حيث إنها تضرب خطاب النظام السوري الذي يصف جميع المعارضة المسلحة بالقاعدة، ويؤكد للقوى الدولية أن هناك مصلحة مشتركة في مقاتلتها.
__________________________________
نعومي راميريث دياث - باحثة إسبانية في الإسلام السياسي بالمشرق  في جامعة أوتونوما في مدريد.

ABOUT THE AUTHOR