تميز التصويت على دستور 2014 بمشاركة النساء والشيوخ ومقاطعة غالبية الشباب (أسوشييتد برس) |
ملخص إن نتائج الاستفتاء الأخير على الدستور، بالرغم حجيتها القانونية وما يمكن أن يترتب عليها من شرعية جديدة، ستبقى في رأي كثير من المراقبين نتائج خادعة ولا يمكن البناء عليها وحدها كأساس للانتقال بالبلاد من حالة الاقتتال السياسي لمرحلة التوافق والمصالحة المجتمعية والوطنية. كما أن الأكيد أن الدستور الجديد، الذي كُتب في لحظة بالغة الصعوبة وتحت ظلال الاستقطاب والتطاحن السياسي وفي ظل موازين قوى بدا فيها الجيش اللاعب الرئيس دون منازع، يبقى نصوصًا على الورق حتى وإن كان بعضها جيدًا من حيث المبدأ. كما أنه بدون رافعة سياسية تقود البلاد إلى الوفاق الوطني وتجاوز الشرخ القائم والخروج من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، فإنه لن يكون من الدقة وصف الدستور الجديد بأنه يمثل عقدًا اجتماعيًا جديدًا يعكس حالاً من الرضى المجتمعي العام بين المصريين ويعبّر عن آمالهم وتطلعاتهم نحو المستقبل تمامًا كما لم يكن الدستور السابق محققًا لهذه الغاية. |
مقدمة
مع إعلان النتائج الرسمية للاستفتاء على الدستور المصري المعدل الذي جرى في الرابع عشر والخامس عشر من يناير/كانون الثاني 2014، هدأ غبار المعركة التي سبقت ورافقت هذا الاستفاء، وما تبعها من حملة لحشد وتعبئة المواطنين للنزول بكثافة إلى صناديق الاقتراع لتأييد الدستور. ومع انقشاع الغبار، تحاول هذه الورقة تقديم قراءة في نتائج هذا الاستفتاء، وما تضمنته من دلالات وما تطرحه من تساؤلات، تساهم الإجابة عليها في رسم ملامح المشهد السياسي في مصر والذي يشهد حالة من الاستقطاب السياسي الشديد.
تعميق الاستقطاب
يتبين من خلال رصد التعليقات والتحليلات الكثيرة حول نتائج الاستفتاء الأخير أن ثمة أكثر من قراءة لهذه النتائج، وفقًا للموقع السياسي لكل طرف من أطراف الأزمة في مصر وموقفه من الدستور المعدل بل وموقفه من مجمل العملية السياسية التي بدأت عقب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في الثالث من يوليو/تموز 2013. فمؤيدو السلطة الانتقالية وما أُطلق عليه: خريطة المستقبل؛ رأوا في النتائج التي أفرزها الاستفتاء والتصويت الكاسح بنعم، حسب النتائج الرسمية، لصالح الدستور الجديد، انتصارًا "لإرادة المصريين التي تجسدت في مظاهرات 30 يونيو/حزيران". كما اعتبر هؤلاء المؤيدون أن النتائج تؤسس لشرعية جديدة في مصر تمحو ما قبلها من أوضاع سياسية تمثلت في وجود رئيس منتخب وغيره من مؤسسات سياسية منتخبة، وتفتح الطريق لاستكمال مؤسسات الدولة. ويستند أنصار هذا الفريق في موقفهم إلى النتائج الرسمية التي أظهرت نسبة تأييد كبيرة للدستور تجاوزت 98 في المائة من نسبة الذين شاركوا بأصواتهم في الاستفتاء، وهي نسبة يرون أنها تقوم دليلاً على أن التغيير الذي جرى في الثالث من يوليو/تموز بإزاحة مرسي لم يكن انقلابًا عسكريًا بل كان استجابة لإرادة الجماهير.
في المقابل، فإن المعارضين وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها المنضوون ضمن تحالف دعم الشرعية، شككوا في صحة نتائج الاستفتاء الذي وصفوه بـ"استفتاء الدم" من حيث نسبة المشاركة أو نسبة التأييد للدستور المعدل، ودللوا على ما اعتبروه هزيمة لمعسكر الانقلابيين بنسبة المشاركة الهزيلة والمقاطعة الواسعة من قبل المواطنين لهذا الاستفتاء. ولم يتوقف أنصار هذا الفريق كثيرًا عند نسبة التأييد للدستور بل ركَّزوا في موقفهم الرافض للنتائج عند نسبة المشاركة المتدنية والتي قدرتها مصادر الإخوان المسلمين بنحو 11 في المائة من إجمالي من يحق له التصويت. ورغم أن اللجنة العليا للانتخابات أقرت بالتراجع اللافت في نسبة التصويت بين المصريين في الخارج والتي بلغت حوالي 14 في المائة وذلك مقارنة بأكثر من 42 في المائة في الاستفتاء على دستور 2012، إلا أنها عزتْ ذلك إلى إلغاء التصويت بالبريد الذي كان معمولاً به في السابق. لكن تحالف دعم الشرعية اعتبر ذلك دليلاً على صحة معلوماته عن تدني نسبة المشاركة وقدم التهنئة لأنصاره وللشعب المصري على هذه النتيجة "هنيئًا لكم ولشعبنا المصري البطل في الداخل والخارج نجاح المقاطعة الإيجابية بشكل تاريخي عظيم، وسقوط استفتاء الدم سقوطًا مدويًا".(1)
أما حزب مصر القوية فإنه، رغم خلافه مع تحالف دعم الشرعية، فإنه أعلن رفضه الكامل لنتائج الاستفتاء الرسمية، واعتبرها تشكّل عودة بالبلاد لمصاف الدول الديكتاتورية "التي تعتبر المعارضة خيانة والرأي المخالف عمالة.... مصر قد عادت رسميًا إلى نادي البلاد السلطوية الشمولية حيث الاستفتاءات ذات التسعات، وحيث حشد كل موارد الدولة وإعلامها الموجه حكوميًا كان أو خاصًا، وحيث الانقياد التام لإرادة الفرد وجماعات المصالح".(2)
لكن الشكوك التي أحاطت بنتائج الاستفتاء الأخير لم تقتصر على القوى الرافضة في الداخل، بل قابلتها مخاوف وتساؤلات لدى الأطراف الخارجية ولاسيما الولايات المتحدة التي لم تخفِ قلقها مما أحاط بهذا الاستفتاء من ظروف لم توفر شروط النزاهة؛ وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية جون كيري في تصريحات نقلتها صحيفة نيويورك تايمز أشار فيها إلى الملاحظات المقلقة التي أبداها المراقبون الدوليون لعملية الاستفتاء، وعلى رأسها حالة الاستقطاب السياسي الحاد التي جرى في ظلها واعتقال العديد من معارضي هذا الاستفتاء.(3)
الصمت المدوي
إذا ما تجاوزنا حالة الجدل والاستقطاب السياسي التي تعيشها مصر والتي انعكست بقوة على الموقف من نتائج الاستفتاء، فإن هذه النتائج حملت الكثير من الدلالات المهمة:
أولاً: إن نسبة المشاركة في الاستفتاء وفقًا للنتيجة الرسمية التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات بلغت 38,6 في المائة من إجمالي الناخبين؛ حيث بلغ إجمالي الذين أدلوا بأصواتهم عشرين مليونًا و367 ألف ناخب من أصل 53 مليونًا و423 ألفًا هم من يحق لهم التصويت. وبلغت نسبة المؤيدين للدستور 98,1 في المائة من إجمالي المشاركين، فيما بلغت نسبة من قالوا: لا 1,9 في المائة فقط. هذه النسبة تزيد على نسبة من شاركوا بالتصويت في الاستفتاء على دستور عام 2012 الذي جرى في ظل حكم الرئيس مرسي والتي بلغت نحو 32 في المائة من إجمالي الناخبين، وبلغت حينها نسبة المؤيدين للدستور 64 في المائة بينما بلغت نسبة المعارضين نحو 36 في المائة. غير أنه من الضروري الإشارة إلى فارقين مهمين بين الاستفتاء الأخير والاستفتاء على دستور عام 2012:
-
الأول: أنه في الاستفتاء على دستور 2102 لم تكن هناك مقاطعة بل شارك الجميع، مؤيدون ومعارضون، على عكس ما جرى في الاستفتاء الأخير الذي قاطعه الإخوان المسلمون ومناصروهم ثم لحق بهم حزب مصر القوية بزعامة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح الذي تعرض أنصاره للتضييق الأمني وجرى إلقاء القبض على بعضهم خلال حثهم المواطنين بالتصويت بلا؛ وهو ما يعني أن الأجواء التي جرى فيها استفتاء عام 2012 كانت أفضل حيث لم تتم ملاحقة أي مواطن بسبب موقفه الرافض للدستور آنذاك.
-
أما الفارق الثاني، كانت نتائج استفتاء 2012 أكثر قبولاً بنظر الكثيرين بما فيهم أحزاب المعارضة ممثلة في جبهة الإنقاذ الوطني آنذاك؛ لكن نتائج الاستفتاء الأخير كانت موضع تشكيك واتهام من قبل جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها وحلفائها بل ومن جانب بعض القوى السياسية الأخرى من خارج تحالف دعم الشرعية.
ثانيًا: شهد الاستفتاء على الدستور المعدل إقبالاً لافتًا من قبل المرأة وكبار السن، وقد أرجعه البعض إلى أن هذه الفئات هي الأكثر تعرضًا لوسائل الإعلام وما تضخه يوميًا من دعاية وحشد وتعبئة للتصويت على الدستور والتخويف من مخاطر عدم المشاركة، يضاف إلى ذلك الدعوة التي اختص بها الفريق عبدالفتاح السيسي المرأة في إحدى كلماته حيث دعا الأم المصرية لاصطحاب أبنائها وأقاربها للذهاب للتصويت.
ثالثًا: التراجع اللافت في نسبة مشاركة الشباب رغم أنهم يشكّلون النسبة الأكبر في تكوين سكان مصر حاليًا. وقد رصد عدد من المنظمات الحقوقية مثل تحالف (رقيب) الذي يضم عددًا من المنظمات الحقوقية ضعفًا واضحًا في المشاركة من جانب الشباب خاصة الحركات والائتلافات الثورية، لكنه لم يقدم تفسيرًا لذلك. بينما أكدت داليا زيادة، المدير التنفيذي لمركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، أن المركز، من خلال مراقبيه الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف وخمسمائة مراقب في كل محافظات مصر، طرح هذا السؤال على الشباب عن أسباب مقاطتعهم فتبين "أنهم أُصيبوا بالإحباط، ويرون أن النخبة القديمة ستتقلد المناصب بدلا منهم بعد إقرار الدستور، وكانت لديهم تخوفات من إعادة نظام مبارك من جديد".(4)
ورغم أن منظمات المجتمع المدني لم تقدم أرقامًا واضحة عن نسبة مشاركة الشباب فإن أكثر فئة عمرية قاطعت هذا الاستفتاء وفقًا لتقرير مركز ابن خلدون كانت الفئة من 20 إلى 25 عامًا(5)، وعلق البعض على هذه المفارقة بالقول: إن الاستفتاء كان "انتصارًا لحزب الكنبة -النساء وكبار السن- بينما كان إحجامًا من قبل حزب الثورة" في إشارة للشباب الذي كان طليعة ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني ومفجر شرارتها.(6)
وهناك من حصر المقاطعة في عدة أسباب:
-
الهجوم الضاري على ثورة 25 يناير/كانون الثاني والذي تصاعد منذ الثلاثين من يونيو/حزيران وتمثل في حملة تشويه طالت معظم شباب الثورة والنشطاء، وبلغ الأمر حدّ أن بعض الإعلاميين وصفوا ما جرى في 25 يناير/كانون الثاني بأنه (نكسة). وقد شاركت في هذه الحملة قنوات فضائية يملكها رجال أعمال محسوبون على نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك وإعلاميون وكتّاب وصحفيون كانوا جزءًا من نظام مبارك.
-
الظهور اللافت لرموز وشخصيات محسوبة على نظام مبارك وعودتها لا لتصدر المشهد السياسي فحسب بل لتصدر حملة الدعاية للتصويت بنعم على الدستور؛ وهو ما أثار مخاوف وهواجس من عودة النظام القديم، مثل ظهور كل من الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب السابق والدكتور مفيد شهاب وزير الشؤون البرلمانية الأسبق، وكلاهما من رموز نظام مبارك.
-
الحملة الدعائية والإعلامية الملحة على النزول وتأييد الدستور والتي تحولت من حملة لتوعية المواطينن بمواد الدستور وترك حرية الاختيار لهم إلى حملة للحشد والتعبئة؛ الأمر الذي رأى فيه هؤلاء الشباب نوعًا من الإملاء والتعامل مع المواطنين كقطيع وليس كأحرار يحق لهم الاختيار ما بين التأييد والمعارضة.
-
الممارسات الأمنية التي اتسمت بقدر كبير من القسوة والعنف بحق الشباب من النشطاء السياسيين والتي وصلت لحد اعتقال العشرات بل المئات ممن شاركوا في مظاهرات 30 يونيو/حزيران وأيدوا إزاحة مرسي، وتزامن ذلك مع القبض على العشرات من الشباب لمجرد أنهم عبّروا عن رأيهم الرافض للدستور.
-
محاكمة وسجن عدد من شباب الثورة ورموزها البارزين، من أمثال أحمد دومة وأحمد ماهر وعلاء عبدالفتاح وغيرهم بذريعة مخالفة وانتهاك قانون التظاهر.
-
تصاعد الشعور بالإحباط واليأس في نفوس الشباب على مدى ثلاث سنوات منذ ثورة يناير/كانون الثاني؛ حيث لم تُحقَّق مطالبهم؛ ما دفع قطاعًا كبيرًا منهم للانكفاء والانعزال عن المشاركة في الهم العام.
رابعًا: يرى كثير من المحللين أن نتائج الاستفتاء وما أفرزته من تأييد كاسح، حسب النتائج الرسمية، لم تكن تصويتًا على مواد الدستور فحسب بل كانت تصويتًا على جملة من الأمور في ذات الوقت؛ فالبعض رأى أنه تصويت على الفريق عبد الفتاح السيسي وخوضه للانتخابات، والبعض الآخر رآه تصويتًا على خارطة المستقبل، والبعض الثالث رآه تصويتًا على عزل الدكتور مرسي وما جرى في 3 يوليو/تموز، ورابع وجده تصويتًا لصالح عودة الاستقرار والانتقال من حالة الفوضى الأمنية والسياسية لبناء الدولة المصرية، فيما رآه آخرون تصويتًا على استعادة الدولة الوطنية المصرية والحفاظ عليها "هو دعم للدولة في مواجهة اللا دولة وتأييد للبديل الوطني المصنّع محليًا والذي يضع الخارج في حساباته في مواجهة البديل المصنّع أميركيًا ويُفرض على الداخل".(7)
لكن اللافت في هذه المسألة أن كل الاستفتاءات الدستورية التي شهدتها مصر بعد الثورة أي منذ استفتاء 19 مارس/آذار 2011 وحتى الاستفتاء الأخير، تميزت بنفس الأمر ففي استفتاء مارس/آذار جرى تصوير الأمر على أنه ليس مجرد استفتاء على إعلان دستوري بل هو استفتاء على المجلس العسكري الذي كان يحكم مصر في ذلك الوقت واستفتاء على الاستقرار وعلى الشريعة؛ ما أدى في النهاية إلى حالة من الاستقطاب الطائفي بين مسلمين ومسيحيين. واستفتاء ديسمبر/كانون الأول عام 2012 إعتبره الإخوان ليس فقط استفتاء على الدستور بل استفتاء على شرعية الرئيس مرسي وعلى شعبية الإخوان في مواجهة تشكيك خصومهم من القوى المدنية، بينما اعتبره حلفاؤهم من السلفيين استفتاء على الشريعة الإسلامية. وهذا ما يُظهر أن حالة الوفاق الوطني التي ينبغي أن تميز أي استفتاء على الدستور، باعتباره عقدًا اجتماعيًا جديدًا، قد غابت عن كل الاستفتاءات السابقة. ولا يبدو أن الوصول لحالة التوافق الوطني المنشود سيكون أمرًا سهلاً في ظل استمرار المشهد السياسي في مصر على حاله من أجواء الاستقطاب والتجاذب والاقتتال السياسي؛ الأمر الذي يقودنا للتساؤل عن المستقبل بعد إقرار الدستور المعدل.
تساؤلات المستقبل
بقدر ما أفرزت نتائج الاستفتاء دلالات فإنها تطرح الكثير من التساؤلات المتعلقة بمستقبل المشهد السياسي في مصر والذي يبدو مفتوحًا على احتمالات شتى، ومن بينها:
أولاً: إلى أي حد يمكن الارتكان إلى نسبة التأييد الكبيرة، التي أظهرتها نتائج الاستفتاء، للقول بأن هذا الدستور دستور توافقي يعبّر بصدق عن رضا مجتمعي على عكس الدستور السابق؟
في واقع الأمر، إن ما سبق من اتهامات لدستور 2012، بأنه دستور غير توافقي ولا يحظى بإجماع وطني يليق بعقد اجتماعي بين المصريين، يمكن أن يوجه بسهولة للدستور الحالي؛ وذلك من زاويتين: إذا كانت القوى المدنية اعتبرت أن المشاركة في استفتاء 2012 والتي بلغت 32 في المائة لا تليق بالدستور الجديد للبلاد؛ فإن نسبة المشاركة في استفتاء 2014 -وفقًا للأرقام الرسمية- بقيت عند حدود هذه النسبة أو أكثر منها قليلاً، وفي الحالتين فإن ثلثي القوة الناخبة لم يشاركا في الاستفتاءين.
أما الزاوية الثانية، فهي الأجواء الاستقطابية التي جرى فيها الاستفتاءان؛ ففي الأولى شهدت الساحة السياسية استقطابًا حادًا بين جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها التي كانت تدعو للحشد والمشاركة وبين القوى المدنية ممثلة في جبهة الإنقاذ الوطني التي وقفت موقفًا معارضًا للدستور ودعت لمقاطعة الاستفتاء قبل أن تعود وتعلن المشاركة والتصويت بلا على هذا الدستور. وقد تكرر ذات الأمر وإن بصورة أكثر حدة واستقطابًا في المرة الأخيرة؛ حيث قاطعت جماعة الإخوان وحلفاؤها هذا الاستفتاء بل وانضمت اليها قوى سياسية أخرى مثل حزب مصر القوية وبعض القوى الشبابية والثورية مثل حركة 6 إبريل وغيرها. ولابد هنا من الإشارة إلى أن الأجواء التي رافقت الاستفتاء على دستور 2012 كانت أفضل بكثير من أجواء الدستور المعدل التي تم خلالها تغييب الصوت المعارض بالكامل إما عبر المقاطعة أو ملاحقة كل من يعلن موقفًا معارضًا، ولعبت وسائل الإعلام دورًا رئيسيًا في هذا الصدد، بل إن الحملة الإعلامية لتعبئة المواطنين في اتجاه التأييد كان لها في رأي البعض أثر عكسي تمامًا؛ "حيث أدى الإلحاح على تمرير الدستور إلى الامتناع الانتقامي عن التصويت تمردًا وعنادًا أو عقابًا".(8)
ثانيًا: إلى أي حد يمكن اعتبار تمرير الاستفتاء على الدستور بهذه النتيجة مقدمة لإنجاز استقرار سياسي حقيقي والخروج من حالة الفوضى السياسية الحالية إلأى مرحلة بناء المؤسسات؟
لا توحي الأجواء التي جرى فيها الاستفتاء على الدستور والتي غاب عنها التوافق الوطني بأن مصر مُقدِمة على حالة من الهدوء السياسي، كما أن المراهنة على إقرار الدستور وحده كأساس للاستقرار دون أن ترافقه إجراءات وخطوات أخرى على صعيد تحقيق المصالحة المجتمعية وصولاً إلى توافق وطني على الحدود الدنيا من القواسم الوطنية المشتركة، يبدو أمرًا محفوفًا بالمخاطر ودونه الكثير من الصعوبات والعقبات. ولعلنا نذكر أن شعار جماعة الإخوان المسلمين خلال حملة الحشد لدستور 2012 كان "بالدستور العجلة تدور" باعتبار أن هذا الدستور مقدمة للاستقرار وهو ما لم يحدث نتيجة غياب التوافق الوطني.
ثالثًا: هل تعكس نسبة التأييد الكاسحة التي ظهرت في الاستفتاء وفقًا للنتيجة الرسمية، والتي تعيد للذاكرة نسب الاستفتاءات سيئة السمعة التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل ثورة يناير/كانون الثاني، تأييدًا للدستور أم أنها كانت محكومة باعتبارات وأسباب أخرى لا علاقة لها بالدستور ولا مواده؟
يرى الكثيرون أن نسبة التأييد تلك لم تكن منصبة بالأساس على مواد الدستور لاسيما وأن غالبية من شاركوا في الاستفتاء لم يقرأوا، ربما، مشروع الدستور أصلاً، فضلاً عن أن حملات الدعاية وأجواء التخويف التي صاحبت هذه الحملات لم تتح فرصة أمام هؤلاء الناخبين لحرية الاختيار، ولم يكن أمامهم سوى التصويت بنعم، ووصل الأمر ببعضهم أن سخر من هذه الأجواء بالقول: "إن المواطنين كانوا مخيرين بين نعم أو نعمين"، ولم يكن هناك مجال لكلمة "لا" أصلاً.
من هنا، فإن التفسير الأكثر دقة لنسبة التأييد العالية، إذا سلّمنا بالنتائج الرسمية للاستفتاء، لا تعود فقط إلى أن كل المعارضين للدستور قاطعوا الاستفتاء، فلم يذهب بالتالي إلا المؤيدون، بل لأن المؤيدين أنفسهم قالوا: نعم، لأسباب شتى؛ إما تأييدًا للسيسي أو خوفًا على الدولة ورغبة في الاستقرار أو دعمًا لخريطة المستقبل ومنحها شرعية عبر الصناديق. وعلى ضوء ذلك فإن التصويت هذه المرة لم يكن لصالح الدستور المعدل ضد الدستور السابق، بل إن هناك من يرى أن الوثيقة الدستورية الجديدة أبقت على نفس المواد المثيرة للجدل التي كانت في الدستور السابق ولاسيما المتعلقة منها بوضع المؤسسة العسكرية، و"هي مواد تقف عقبة أمام بناء نظام ديمقراطي سليم وتجعل هذه المؤسسة كدولة فوق الدولة".(9)
رابعًا: هل الاستفتاء على ضوء النتائج المعلنة يرسي شرعية جديدة بديلة للشرعية التي كانت قائمة قبل الثلاثين من يونيو/حزيران؟