(الجزيرة) |
ملخص بينما يرى دارسون أن "الحوادث المتفرقة والنادرة من الاغتيالات على يد متطرفين لم تفلح في ضرب التعايش السلمي بين أتباع الديانات المتنوعة" يشكّك باحثون آخرون في مقولة التعايش السلمي تلك. وتخلص الورقة إلى أنه وعلى الرغم من الجذور التاريخية للتوتر الطائفي بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية، فإن كلتا الطائفتين حافظتا على نمط من التعايش بينهما، هو أقرب إلى "التعايش السلبي"؛ فلم يدخل الطرفان في صراع طائفي ممتد أفقيًا أو زمنيًا، ومع ذلك ما زالت هناك "هوة نفسية" بينهما أسهمت فيها مجموعة من العوامل. ولا شك في أن قيام الحكومة الهندية بتشكيل "لجنة ساتشر" لدراسة حيثيات حقوق الأقلية المسلمة، يمثل خطوة في الطريق الصحيح لجسر التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الأقلية المسلمة والأغلبية الهندوسية، ولكن المهم في هذا الشأن هو فاعلية تطبيق التوصيات التي خرجت بها اللجنة. |
مقدمة
قامت جمهورية الهند، منذ استقلالها عام 1947، على مبدأين أساسين، هما: الديمقراطية والعَلمانية؛ لذا كثيرًا ما يتفاخر المسؤولون الهنود بأن بلدهم يعد أكبر الديمقراطيات في العالم، وأنه بالرغم من كونه أكثر الدول العالم تنوعًا دينيًا وعرقيًا ولغويًا، فإنه يمثل نموذجًا للتسامح والتعايش السلمي. بيد أن الهند منذ الاستقلال شهدت اضطرابات طائفية وعِرقية، كما حصل في آسام عام 1984، ومومباي عام 1992-1993، وجوجارات عام 2002، وأوريسا عام 2008، وكانت الطائفية السبب في مقتل قائدين تاريخيين للهند؛ فالمهاتما غاندي، قائد حركة استقلال الهند، اغتيل على يد هندوسي متعصب في يناير/كانون الثاني 1948؛ لتسامحه تجاه المسلمين ودعوته لاحترام حقوق الأقلية المسلمة، واغتيلت كذلك أنديرا غاندي رئيسة الوزراء، على يد سيخي متطرف في أكتوبر/تشرين الأول 1984، انتقامًا لرد الدولة العنيف تجاه حركة العصيان السيخية واقتحام معبدهم الذهبي في أمريستار.
وبينما يرى دارسون أن تلك "الحوادث المتفرقة والنادرة لم تفلح في ضرب التعايش السلمي بين أتباع الديانات المتنوعة، ولا المسّ بقيم التسامح التي تكفل للجميع احترام معتقدات الأخرى"،(1) يشكّك باحثون آخرون في مقولة التعايش السلمي تلك، إلى حد أن أحد الباحثين ذهب إلى القول: إن مبدأي الديمقراطية والعلمانية اللذين تتفاخر بهما الهند لم يفلحا في "لملمة شتات الأمة الهندية أو بالأدق الأمم الهندية داخل حدود الدولة؛ ذلك أن حالة التطرف بين الأغلبية الهندوسية طغت على حقوق الأقليات الأخرى على كافة المستويات، بل إنها وصلت إلى المسّ بجوهر التعايش السلمي بين الأغلبية والأقليات".(2)
والواقع، أن الاضطرابات الطائفية بين الأغلبية الهندوسية والأقلية المسلمة تعد من أكثر الصدامات عنفًا في تاريخ البلاد؛ وعليه، تسعى هذه الورقة لتسليط الضوء على العلاقة بين تلكما الطائفتين في المجتمع الهندي، وتقصّي العوامل التي تؤثر فيهما. وتحاول الورقة الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما ماهيّة العلاقة بين المسلمين والهندوس في المجتمع الهندي؛ أهي علاقة تعايش سلمي كما تُصور، أم علاقة صراع، أم أنها علاقة تحتل منزلة بين تلكما المنزلتين؟ وما العوامل المؤثرة في تلك العلاقة؟
الإرث التاريخي للعلاقة بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية
مثّل عام 1947 لحظة فارقة في تاريخ العلاقة بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية؛ ففي ذلك العام قُسّم شبه القارة الهندية إلى كيانين مستقلين: الهند وباكستان. وقبل التقسيم وبعده حدثت هجرة جماعية للمسلمين إلى باكستان، وأخرى للهندوس والسيخ إلى الهند؛ ما أدى إلى اقتلاع مجتمعات بأكملها من جذورها، وحصول دمار اقتصادي هائل، واندلاع عنف طائفي لم يشهد شبه القارة الهندية له مثيلاً من قبل، وكان من نتائجه "سقوط أكثر من مليون مسلم على يد الأصوليين الهندوس".(3)
ولكنّ الخلاف بين المسلمين والهندوس لم يبدأ في ذلك العام فقط، إنما هو يعود إلى عهد الاستعمار البريطاني؛ فبعد أن أطاح الإنجليز بحكم آخر السلاطين المسلمين في دلهي (بهادر شاه)، إثر حرب الاستقلال عام 1857 التي حارب فيها المسلمون والهندوس جنبًا إلى جنب؛ سعوا لبثّ الشقاق بين الجماعتين، وتبني سياسات تهدف إلى انحطاط المجتمع المسلم وترقية المجتمع الهندوسي، من خلال اتباع حكومة الهند البريطانية "سياسة تقريب العناصر الهندوكية إليها لتستعين بهم في القضاء على الخطر الذي يتهدد بريطانيا في بلاد الهند"،(4) كما تم تقويض كل أوضاع المسلمين الاقتصادية والثقافية، وأُقصيت النخبة المسلمة المتعلمة من تسلم الوظائف الحكومية، وتُعُمِّد تجهيل المسلمين، فبين عامي 1858 و1878 تخرج 57 مسلمًا فقط في جامعة كلكتا (التي كانت تعد حينئذٍ مركز التعليم الرئيسي في جنوب آسيا) من أصل 3100 خريج.(5) ولكن لمـّا أخذت شوكة الهندوس تقوى، وبرز تيار منهم ينادي باستقلال الهند وتحررها، اتبع البريطانيون سياسات معاكسة؛ فقرّبوا المسلمين، ومنحوهم امتيازات خاصة، ولم يكتفوا بهذا، بل عملوا على تشجيع الهوية الدينية والطائفية، لتفتيت حركة المطالبة بالاستقلال.(6)
وشهد المجتمع الهندي انقسامًا تجسد في الاستقطاب السياسي بين حزب المؤتمر الذي يغلب عليه الهندوس، وحزب الرابطة الإسلامية الذي ادّعى تمثيل المسلمين كافة. ومع تقدم الهنود من أجل الحرية والاستقلال في النصف الأول من القرن العشرين، كان المحتم وقوع صدام بين الحزبين، وخاصة أنهما يتبنيان رؤيتين متناقضتين؛ فبينما تبنّى حزب المؤتمر رؤية تقوم على هند موحدة علمانية، فإن حزب الرابطة الإسلامية برئاسة محمد علي جناح تبنى نظرية الأمتين التي تقوم على إقامة وطن منفصل للمسلمين، بدعوى أنه لا يمكن للأقلية المسلمة أن تعيش بمساواة مع الأغلبية الهندوسية في دولة واحدة.(7)
وعلى أية حال، لم يحلّ التقسيم المشكلات بين الهندوس والمسلمين، بل أدى إلى تدهور وضع المسلمين في الهند؛ فقد وجّه القوميون الهندوس اللوم إلى المسلمين على تقسيم البلاد، ولأن قادة المجتمع المسلم وكثيرًا من أعضاء الطبقة المهنية قد هاجروا إلى باكستان، وكذلك أغلبية السكان المسلمين، فقد تقوضت قوة المسلمين الذين بقوا في الهند.(8)
وفي إطار سعي قادة الهند التاريخيين، ولاسيما جواهر لال نهرو، للتغلب على الخصومات المثارة بسبب العقيدة في المرحلة التي سبقت الاستقلال وفي أثناء عملية التقسيم، فقد تم تبني العلمانية والحقوق الدينية في الدستور الذي أُقر عام 1950؛ فسادت حقبة من الوفاق الظاهري والتعايش المتناغم، وإن كان تخللها وقوع بعض أعمال العنف الطائفي. لكن حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين شهدت تزايدًا لوتيرة التوتر بين الأقلية المسلمة والأغلبية الهندوسية، التي بلغت ذروتها في أحداث العنف الطائفي التي وقعت في مومباي في الفترة من ديسمبر/كانون الأول 1992 إلى أواخر يناير/كانون الثاني 1993، نتيجة لتدمير الهندوس مسجد بابري بمدينة أيودهيا في ولاية أتار باراديش، من أجل بناء معبد لإله الهندوس "راما" مكانه.(9) وقد أدت هذه الأحداث إلى مقتل نحو ثلاثة آلاف هندي، كما أنها كانت السبب في اندلاع أحداث عنف أكثر وحشية في ولاية جوجارات عام 2002، كانت حصيلتها مقتل نحو ألفي شخص معظمهم من المسلمين، وحرق منازل وتهجير الآلاف منهم.
ومما ينطوي على دلالة مهمة، أن تلك الأحداث، ارتبطت بحزب بهاراتيا جناتا، القومي الهندوسي؛ ففي الأولى كان الحزب بقيادة زعيمه لال كريشنا أدفاني، هو من عبّأ آلاف الهندوس ليسيروا في المسيرة التي انتهت بهدم مسجد بابري، أما في أحداث عام 2002، فإن قيادات في الحزب كان لها دور رئيس في تأجيج العنف، وقد أُدين نفر منهم لاحقًا من قبل القضاء الهندي.(10)
صعود اليمين الهندوسي
يلعب الدين في المجتمع الهندي دورًا مهيمنًا في كل مناحي الحياة،(11) ومن هنا، نجد أن العلمانية التي تبنتها الدولة الهندية ليست تلك التي تروم إقصاء الدين من الفضاء العام، بل هي العلمانية التي تحترم الأديان كلها بدرجة واحدة، وتسمح للحكومة بالتدخل في الشؤون الدينية لإتاحة فرص متساوية أمام جميع الهنود لممارسة شعائرهم الدينية المختلفة.(12)
لكن اليمين الهندوسي ينظر إلى العلمانية كتعبير ملطف لسياسة استرضاء المسلمين؛ وحيث إنه يطرح أن هناك تطابقًا بين الهندوسية والهوية القومية للبلاد، فإنهم بذلك يحولون الهندوسية إلى قومية دينية. وهذه الدعوة في جوهرها تنطوي على إقصاء للهويات والأقليات الأخرى؛ لذا ربط كثير من الباحثين تفاقم التوتر بين المسلمين والهندوس في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بتنامي نفوذ الحركة القومية الهندوسية "التي تتبنى نهجًا مغايرًا للقادة التاريخيين وللأساس العلماني الذي اعتمده الدستور الهندي للحفاظ على وحدة البلاد".(13) ووصل هذا النفوذ إلى ذروته بوصول حزب قومي هندوسي إلى الحكم لأول مرة منذ الاستقلال، من خلال تأليف حزب بهاراتيا جناتا (أو حزب الشعب الهندي) حكومة أقلية في الفترة بين عامي 1998 و2004. وهذا الحزب -الذي تأسس عام 1980- يمثل الذراع السياسية لمنظمة "آر إس إس" (راشتريا سويام سيوك سنج) التي تأسست عام 1925، والتي تتبنى نزعة قومية خالصة، وتُتهم بتشجيع التعصب الهندوسي وكراهية الأقليات، ولاسيما الأقلية المسلمة.(14)
يرى القوميون الهندوس أن الهند ستكون أكثر تصالحًا مع نفسها إذا تم تعريفها بشكل أشد اقترانًا بالهندوسية، ديانة غالبية السكان الهنود، وأن "الهندوتفا" Hindutva -وهو الاسم الذي يطلقونه على الثقافة القومية الهندوسية- تعد السمة المميزة للقومية الهندية، كما يرون أن "الأقلية المسلمة تشكّل التهديد الأكثر خطورة على الأغلبية الهندوسية، بكونها "جسمًا غريبًا" مقحمًا في المجتمع الهندوسي»؛(15) لذا عملت الحركة القومية الهندوسية على إقصاء الجماعات الدينية الأخرى، وبالأخص الجماعة المسلمة، وعرقلت أي شكل من أشكال عملية الاستيعاب أو الاندماج لهذه الجماعات في الدولة الهندية؛ وهو ما أفضى إلى شعور المسلمين بالتهميش والنبذ في إطار المجتمع الهندي.
ولا يكتفي القوميون الهندوس بتعبئة الهندوس داخل الهند، بل يعمل المجلس الهندوسي العالمي، وهو منظمة غير حكومية أُسست عام 1964، على تعبئة الشتات الهندوسي ونشر "القيم الروحية والأخلاقية الهندوسية" فيما بينهم. ويدعي المجلس أنه يمثل العالم الهندوسي كله، وأنه يعبّر عن النظرة العالمية إلى الهندوتفا. ويوجد للمجلس 12 فرعًا في بريطانيا، و25 فرعًا محليًا في الولايات المتحدة الأميركية، وفرعان في كندا، وستة فروع في أوروبا، وفروع عدة في دول غير غربية. وتهتم حركة الشتات المعتنقة للهندوتفا بحقوق الأقلية الهندوسية في الدول الغربية، وحقوق الأغلبية الهندوسية في الهند، في الوقت ذاته.(16)
تعرض التيار اليميني الهندوسي، ممثلاً بحزب بهاراتيا جناتا، لنكسة حينما لقي هزيمة ماحقة في الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2009، مقابل التحالف التقدمي المتحد الذي يقوده حزب المؤتمر. وبينما اعتبر بعض المراقبين نتيجة تلك الانتخابات ردة فعل انتخابية مؤقتة، بدليل أنه بقي حزبًا حاكمًا في عدد من الولايات الهندية، فإن محللين آخرين رأوا في تلك الخسارة تراجعًا عامًا للحزب، ودليلاً ملموسًا على فشل أيديولوجية الحزب وسياساته؛ إذ يبدو أن الشارع الهندوسي لم يعد يأبه كثيرًا لأيديولوجية الحزب القائمة على سيادة الهندوسية، وسياساته الاستقطابية الأخرى، بل إن باحثين عدّوا الخسارة تلك التي مُني بها الحزب، مؤشرًا على انحسار التصورات القومية الهندوسية بشأن المجتمع الهندي والدولة الهندية.(17)
من "شهيد جانج" إلى "بابري": دور الرموز الدينية
في ليلة السابع من يوليو/تموز عام 1935 زحف السيخ على مسجد شهيد جانج في لاهور بإقليم البنجاب، فدمروه كلية، بدعوى أنه أُقيم على موقع مقدس لدى السيخ؛ ما أثار احتجاجات واسعة بين مسلمي البنجاب بالهند، نتج عنها مقتل عشرات من المسلمين، وأثبت رد فعل المسلمين أنهم "لا يترددون مطلقًا في تقديم أية تضحية في سبيل حماية رموز العقيدة والله"، بحسب مولانا ظفر علي خان، أحد قيادات المسلمين في تلك الحقبة.(18) وبعد أقل من ستين عامًا على تلك الحادثة، في السادس من ديسمبر/كانون الأول عام 1992، يزحف آلاف القوميين الهندوس على مسجد بابري بمدينة أيودهيا في ولاية أتار باراديش، ويقومون بتدميره، بدعوى أنه أُقيم على موقع هندوسي مقدس، ويؤكد المسلمون مرة أخرى مقولة خان، آنفة الذكر، فيقع مئات منهم صرعى في سبيل الدفاع عن رموز العقيدة.
ولم يكن مسجد بابري هو الرمز الإسلامي الوحيد الذي تعرض للاستهداف الطائفي، بل هناك مساجد ومواقع كثيرة واجهت المصير نفسه؛ كمسجد ومجمع شرار الشريف في كشمير عام 1995، وضريح شاه الحمدان عام 1997، والمسجد الجامع في صافابور بمقاطعة بارامولا عام 1998، والمسجد الجامع التاريخي في كشتوار في 2001، ومسجد في سيرينجار مع حرق القرآن الكريم عام 2002؛ ما دفع مؤتمر وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي لاحقًا)، الذي انعقد في دوشنبه في طاجيكستان، في الفترة 18-20 مايو عام 2010، إلى أن يصدر بيانًا يُعرب فيه عن قلقه العميق إزاء استهداف المقدسات الإسلامية في الهند.(19)
والحق أنه ليس المسلمون وحدهم الذين لا يترددون مطلقًا عن تقديم أية تضحية في سبيل الدفاع عن رموزهم الدينية، بل كذلك أتباع الأديان الأخرى في الهند، وتحديدًا الهندوس والسيخ، وهذا ما يمثل أحد أسباب تضرر العلاقات بين الطوائف الدينية، ولاسيما إذا علمنا أن هناك كثيرًا من الأماكن المقدسة التي هي محل تنازع بين الطوائف.
وفي الوقت الذي تمثل فيه الرموز الدينية موضعًا محتملاً للصراع والتنازع بين الطوائف، توجد رموز دينية تجسد حالة وئام بين المؤمنين، مثل: ضريح حضرة خواجة معين الدين حسن الشيشتي، وهو من الأولياء المسلمين من العصور الوسطى، في بلدة آجمر، الذي يجتذب الأتباع من أديان الهند على اختلافها بين هندوس وسيخ ومسيحيين وزرادشت ويانيين. ومن بين آلاف المتعبدين المحتشدين عند الضريح تبركًا بالولي المسلم يقول هريتش شارما، وهو هندوسي: "إنني أصلي هنا كل صباح ومساء لأنني أؤمن بهذا الولي تمام الإيمان. إنه يستجيب دعواتي ويحقق المُحال"، مضيفًا: إنه "لو كان هناك ثلاثة أو أربعة أضرحة مثل هذا الضريح في مختلف أنحاء الهند، لما كانت توترات لتقع بين الهندوس والمسلمين في هذا البلد".(20)
الأقلية المسلمة في الهند وسياسات التهميش
يؤلّف المسلمون ثاني أكبر أقلية دينية في الهند، فهم يشكّلون نسبة 13.4 في المائة من إجمالي السكان (أي: نحو 138 مليون نسمة من أصل مليار و29 مليون نسمة)، في حين أن الهندوس يمثلون الأغلبية، بنسبة تصل إلى 80.5 في المائة، ولا تزيد نسبة كل من الأقليات الدينية الأخرى، مثل: السيخ والمسيحيين والبوذيين، عن 2 في المائة. ويتوزع المسلمون في كل أنحاء الهند تقريبًا، لكنهم يتركزون عدديًا بشكل رئيس في ولايات أُتار باراديش، وبيهار، وغرب البنجال، ومهارشترا، وأندرا باراديش، وكيرلا، وآسام، وجامو وكشمير.(21) ويعيش معظم المسلمين في القرى؛ إذ تصل نسبة هؤلاء إلى نحو 73 في المائة، في حين أن المسلمين الذين يقطنون المناطق الحضرية لا تتعدى نسبتهم 27 في المائة.(22)
وينقسم مسلمو الهند إلى قسمين، هما: مسلمو الشمال، ويتبعون المذهب الحنفي ويتكلمون اللغة الأوردية والبنجالية، ومسلمو الجنوب، ويتبعون المذهب الشافعي ويتحدثون اللغة التامولية، إضافة إلى وجود مسلمين شيعة في بعض الولايات وبالأخص في حيدر آباد. وتهتم بشؤون هذه الأقلية عدة جمعيات، أهمها: مجلس المشاورة، والجماعة الإسلامية (الهند)، وجمعية علماء الهند، والجمعية التعليمية الإسلامية لعموم الهند. ويوجد لدى هذه الأقلية جامعات لتدريس العلوم الإسلامية وأخرى للعلوم المدنية، ومن أهمها: جامعة ديوبند، وندوة العلماء في لكهنو، ومدرسة الإصلاح، والكلية الإسلامية في فانيا آبادي، والجامعة العثمانية في حيدر آباد، والجامعة الملية في دهلي. أما التعليم الأوّلي فتهتم بشؤونه مدارس ومكاتب منتشرة في أماكن وجود تلك الأقلية، يعاني أغلبها من كثافة الفصول وقلة الكوادر المتخصصة.(23)
ويشعر المسلمون بأن هويتهم الثقافية مهددة بالذوبان في المجتمع الهندي، الذي يغلب عليه الطابع الهندوسي، ويدّعي المسلمون أن الحكومة تحاول تكريس هذا الطابع في المؤسسات الإعلامية والثقافية والتعليمية (ومن ذلك الاستخدام الواسع للرموز والأساطير الهندوسية في المناهج التعليمية؛(24)؛ لذا بذلوا جهودًا كبيرة -خاصة في بناء المؤسسات التعليمية- من أجل الحفاظ على هويتهم الإسلامية ولغتهم الأوردية، إلا أن ثمار هذه الجهود لا تصل إلى مستوى الطموح المطلوب، لأسباب، منها: قلة الإمكانيات في المؤسسات التعليمية الإسلامية، وضعف التنظيم والتنسيق بين المؤسسات والجماعات الإسلامية في الهند.(25)
وعلى الرغم من أن الدستور الهندي كفل المساواة بين المواطنين، ومسؤولية الدولة عن رعاية وحماية وضمان حقوق الأقليات، في لغتها ودينها وثقافتها،(26) فإن الأقلية المسلمة يتغذى لديها شعور منذ فترة طويلة بأنها تتعرض لتمييز مؤسسي، وتهميش واضح، وهذا ما أقرت به "لجنة ساتشر" التي شكّلتها الحكومة عام 2005؛ لدراسة أوضاع المسلمين الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية؛ فقد كشفت اللجنة عن أن المسلمين يقبعون في أسفل السلم الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الهندي، وأن كل المؤشرات التنموية الخاصة بالمسلمين هي الأدنى على صعيد البلاد ومقارنة بالأقليات الأخرى (مثل: مؤشر معرفة القراءة والكتابة، ومؤشر الالتحاق بالتعليم المدرسي أو التعليم العالي، ومؤشر التوظيف في القطاع الحكومي، ومؤشر التوظيف في مؤسسات الأمن والشرطة، ومؤشر التوظيف في البنوك وكبرى مؤسسات القطاع الخاص)، في حين أن مستوى الفقر بين المسلمين هو الأعلى في البلاد. بيد أن أهم ما تضمنه تقرير اللجنة هو الإشارة إلى أن نسبة تمثيل المسلمين في مؤسسات الدولة تقل كثيرًا عن نسبتهم السكانية، وأن المسلمين يشعرون بتهديد في هويتهم، وفي إحساسهم بانعدام الأمن النفسي.(27)
ونتيجة لانشطار شبه القارة الهندية إلى دولتين على أساس ديني، وما نجم عن هذا الانشطار من تنازع بين الهند وباكستان، وخصوصًا على إقليم جامو وكشمير ذي الأغلبية المسلمة والذي كان سببًا في اندلاع أربع حروب بينهما، فقد كان لهذا الصراع تداعيات على مسلمي الهند؛ إذ يشعرون بالعزلة في المجتمع الهندي، ويتعرضون للتشكيك الدائم بانتمائهم الوطني؛ حيث يواجهون إشارات متكررة بأنهم لا يُعدون هنودًا حقيقيين، وأنهم موالون لباكستان؛ وهو الأمر الذي يجعلهم يشعرون بأنهم تحت ضغط مستمر لإثبات أن ولاءهم للهند لا لباكستان.(28) ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، أصبح غلاة القوميين الهندوس ينظرون إلى المسلمين على أنهم متطرفون وإرهابيون، وأخذوا يروِّجون للخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، وزادت هذه النظرة بعد الهجوم على البرلمان الهندي في ديسمبر/كانون الأول 2001، وهجمات مومباي الإرهابية عام 2008.
ومما ينطوي على دلالة مهمة في هذا السياق، ما ذكره جسوانت سينج، وزير خارجية الهند السابق وأحد القيادات المنشقة عن حزب بهاراتيا جناتا، في ثنايا كتاب صدر له عام 2009، عن أوضاع المسلمين المزرية في الهند، فأشار إلى أنهم "مهمَلون"و"محرومون". ويقول حرفيًا: "انظر إلى عيون المسلمين الهنود؛ وإذا ما رأيتَ الآلام التي تعبّر عنها عيونهم، فإن عليك أن تتساءل: إلى أية دولة ينتمي هؤلاء؟ فنحن نعاملهم كما لو كانوا غرباء". ويخلص من ملاحظاته تلك إلى القول: "لا شك أن المسلمين الهنود دفعوا ثمن انفصال باكستان عن الهند".(29)
الخاتمة
تقوم الهند دستوريًا على الديمقراطية والعلمانية، ونتيجة لهذه الأسس استطاعت الهند أن تحافظ على وحدتها بالرغم من التنوع الفريد للمجتمع الهندي في أعراقه ودياناته ولغاته وثقافاته. وهذا لا يمنع من القول: إن هناك "تحيزًا إثنيًا" كامنًا ضمنيًا في التجربة الديمقراطية الهندية، بحسب الباحث الهندي سينج (30) Gurharpal Singh.
وعلى الرغم من الجذور التاريخية للتوتر الطائفي بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية، فإن كلتا الطائفتين حافظتا على نمط من التعايش بينهما، هو أقرب إلى "التعايش السلبي"؛ فلم يدخل الطرفان في صراع طائفي ممتد أفقيًا أو زمنيًا، ومع ذلك ما زالت هناك "هوة نفسية" بينهما أسهم فيها مجموعة من العوامل، أهمها: سياسات الاستعمار البريطاني، والإرث التاريخي المتمثل في آلام انشطار شبه القارة الهندية إلى بلدين على أسس دينية، وتداعيات الهجرة الجماعية والمتبادلة فيما بين حدود البلدين، وقضية جامو وكشمير التي تغذي الأحقاد المتبادلة، وسياسات التهميش والتمييز ضد المسلمين، ومناهج التعليم أحادية التوجه، والرموز الدينية التي كانت محل تنازع واقتتال، وأخيرًا تنامي النزعة القومية الهندوسية.
ولا شك في أن قيام الحكومة الهندية بتشكيل "لجنة ساتشر" لدراسة حيثيات حقوق الأقلية المسلمة، يمثل خطوة في الطريق الصحيح لجسر التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الأقلية المسلمة والأغلبية الهندوسية، ولكن المهم في هذا الشأن هو فاعلية تطبيق التوصيات التي خرجت بها اللجنة. كما أن تحديد الأغلبية الهندوسية لرؤيتها تجاه الدولة الهندية وموقع القومية والدين منها، يسهم في تقويض أسس الاحتقان في المجتمع الهندي الذي هو في تنوعه الشديد أشبه بالفسيفساء. ومن المهم الإشارة أخيرًا إلى أن تنمية العلاقات بين الهند وباكستان، والتوصل إلى حل لقضية جامو وكشمير، ستترك أثرها الكبير في تعزيز اندماج المسلمين في المجتمع الهندي.
____________________________________
هاني سليمان – باحث من الأردن متخصص بقضايا التحول الديمقراطي
الهوامش والمراجع
1- ذكر الرحمن: «الهند: التعايش السلمي بين الأديان»، صفحة وجهات نظر، صحيفة الاتحاد (أبو ظبي)، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2012، متاح على الرابط: (http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=68456).
2- المحرر السياسي: «الهند بين التطرف والفوضى»، صفحة مدارات ساخنة، صحيفة البيان (دبي)، 6 ديسمبر/كانون الأول 2008، متاح على الرابط:
(http://www.albayan.ae/paths/1228317705778-2008-12-06-1.698595).
3- خليل حسن: «منشأة الحركات الأصولية وتداعياتها»، دراسة مقدمة إلى المؤتمر الإقليمي الأول بعنوان: القضايا الإقليمية الناشئة: التحدّيات والرؤى المستقبلية، مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الجيش اللبناني، بيروت، 29 مارس/آذار-1 إبريل/نيسان 2011.
4- أحمد محمد الساداتي، تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية وحضارتهم (القاهرة: دار نهضة الشرق، 2001)، ص386.
5- انظر:
Aryn Baker, "India's Muslims in Crisis," The Time, November 27, 2008, available at (http://www.time.com/time/world/article/0,8599,1862650,00.html).
6- للاطلاع على وجهات النظر المختلفة بخصوص دور البريطانيين في تشجيع الهوية الدينية والطائفية، انظر: مشير الحسن: مسلمو الهند بين التطرف والاعتدال، ترجمة: عبد الحفيظ الندوي (أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2009)، ص114-115.
7- للمزيد حول هذه الجذور التاريخية، انظر: سجاد أشرف، «العلاقات الهندية-الباكستانية: الأسس المشتركة ونقاط الخلاف»، سلسلة محاضرات الإمارات، العدد 147 (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2010)، ص7-9.
8- انظر:
Varshney Ashutosh, "Ethnic and Religious Conflicts in India," February 11, 2010, available at (http://www.culturalsurvival.org/ourpublications/csq/article/ethnic-and-religious-conflicts-india).
9- انظر: Kinnvall and Svensson, op. cit., pp. 277 & 282.
10- من قيادات الحزب الذين أُدينوا، مايابين كودناني الزعيمة السابقة في حزب بهاراتيا جناتا، والوزيرة السابقة، انظر: «الحكم على وزيرة هندية سابقة بالسجن 28 عامًا لدورها في أعمال شغب عام»، صحيفة أخبار الخليج (المنامة)، 1 سبتمبر/أيلول 2012، متاح على الرابط: (http://www.akhbar-alkhaleej.com/12580/article/47329.html).
11- مشير الحسن، مرجع سابق، ص16.
12- انظر: ذكر الرحمن: «الهند: التعايش السلمي بين الأديان»، مرجع سابق، وانظر أيضًا:
Catarina Kinnvall and Ted Svensson, "Hindu nationalism, diaspora politics and nation-building in India," Australian Journal of International Affairs Vol. 64, No. 3, June 2010, p. 279.
13- خليل حسن، مرجع سابق.
14- راؤول سارنايك: «القومية الهندوسية: وئام مع المسلمين أم انقسام؟»، موقع "بي بي سي عربي"، 16 فبراير/شباط 2004، متاح على الرابط: (http://news.bbc.co.uk/go/pr/fr/-/hi/arabic/world_news/newsid_3493000/3493857.stm).
15- هذه المقولة منسوبة لجولوالكر المنظِّر الأكبر لمنظمة "آر إس إس"، نقلاً عن: Kinnvall and Svensson, op. cit., p. 281.
16- للمزيد حول المجلس الهندوسي العالمي ودوره تجاه الشتات الهندوسي، انظر: Kinnvall and Svensson, op. cit., pp. 284-286.
17- انظر: Kinnvall and Svensson, op. cit., p. 287.
18- للاطلاع على وصف للأحداث التي ارتبطت بمسجد شهيد جانج وتداعياتها على جماعة المسلمين، انظر: دافيد جيلمارتين، «حادثة مسجد شهيد جانج: مقدمة الباكستان»، في: إدموند بيرك وغيرا لابيدوس (محرران)، الإسلام والسياسة والحركات الاجتماعية، ترجمة: محروس سليمان (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2000)، ص231-267.
19- نص البيان منشور في الرابط الآتي:
(http://www.moqatel.com/openshare/Wthaek/title1/KhargiaMIs/3486.doc_cvt.htm).
20- راؤول سارنايك، مرجع سابق.
21- هذه البيانات مستندة إلى إحصاء عام 2001، كما ورد في تقرير لجنة ساتشر:
The Sachar Committee, "A report on Social, Economic and Educational Status of the Muslim Community of India," November 2006, New Delhi, p. 6, available at (http://minorityaffairs.gov.in/sites/upload_files/moma/files/pdfs/sachar_comm.pdf).
22- انظر: Varshney Ashutosh, op. cit..
23- محمد عبد العاطي، «الأقليات المسلمة في العالم»، موقع "الجزيرة نت"، 3 أكتوبر/تشرين الأول 2004، متاح على الرابط:
(http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/fa45fbf5-7985-4462-b74e-b5fa1362b15b).
24- انظر: Varshney Ashutosh, op. cit..
25- محمد عبد العاطي: مرجع سابق.
26- نقلاً عن: The Sachar Committee, op. cit., p. 1.
27- لجنة ساتشر، هي اللجنة التي ألّفها مانموهان سينج، رئيس الوزراء الهندي عام 2005، برئاسة القاضي راجندر ساتشر الرئيس السابق لمحكمة دلهي العليا؛ لدراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية لمجتمع المسلمين في الهند، ووضعت اللجنة تقريرًا مفصلاً بهذا الخصوص نُشر على الموقع الإلكتروني للحكومة الهندية. انظر: المرجع السابق.
28- جيل مكجيفيرينج: «أزمة المسلمين في الهند»، موقع "بي بي سي عربي"، 7 يونيو/حزيران 2002، متاح على الموقع:
(http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_2031000/2031930.stm).
29- نقلاً عن: ذكر الرحمن: «بهاراتيا جناتا: تناحر داخلي»، صفحة وجهات نظر، صحيفة الاتحاد (أبوظبي)، 5 سبتمبر/أيلول 2009، متاح على الرابط: (http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=47793).
30- نقلاً عن: محمد بن جماعة: «التعددية الثقافية في تجارب الدول المعاصرة (2/7): نموذج الهند»، موقع "التنوع الإسلامي"، 14 يوليو/تموز 2010، متاح على الرابط:
(http://www.alwihdah.com/identity-and-citizenship/religious-identity-and-national-identity/multiculturalism-in-contemporary-experiences-2-7-case-of-australia.htm).