أزمة الدستور في مصر والسيناريوهات المتوقعة

مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، اندلع التوتر مجددا حول صلاحيات المجلس العسكري في المرحلة القادمة، فهناك أحزاب تلجأ إليه ليحد من صعود الإسلاميين المتوقع، وهناك قوى أخرى تخشى من قضائه على النظام الديمقراطي المأمول.
2011116131234862734_2.jpg

فاجأت الحكومة ممثلة في نائب رئيسها لشؤون التحول الديمقراطي الجميع، أحزاباً وقوى سياسية واجتماعية، بطرح وثيقة "إعلان المبادئ الأساسية لدستور الدولة المصرية الحديثة"، ووثيقة "معايير تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد للبلاد"، فنشأت أزمة كبيرة أحدثت توتراً جديدا يضاف إلى توترات شتى. ولكن هذا التوتر الجديد قد يكون هو الأكثر خطراً إذا لم تُعالج المشاكل التي تثيرها الوثيقتان بعقل وحكمة خلال الأيام القليلة القادمة.

عوامل التوتر في الوثيقتين

يعود هذا التوتر إلى عاملين رئيسييْن يرتبط أحدهما بالآخر، وهما: الطابع المفاجئ لإعلان الوثيقتين من ناحية، ومحتواهما من الناحية الثانية.

فقد باغتت الحكومة الأحزاب والقوى السياسية التي تستعد لانتخابات برلمانية تبدأ في 28 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بإعلان وثيقتين يصعب، وربما يستحيل، التوافق عليهما بصيغتهما الراهنتين.

ويعود عنصر المفاجأة إلى أن النقاش، الذي بدأ في مايو/أيار الماضي حول وثيقة المبادئ الدستورية، كان قد خفَت في الفترة الأخيرة ولم يتوقع أحد أن يبدأ مجدداً بعد أن انغمست الأحزاب والقوى السياسية في الاستعداد لانتخابات وشيكة.

وتعود قصة الوثيقة الدستورية في بدايتها إلى مطالبة بعض الأحزاب والشخصيات الليبرالية واليسارية بما أسموه "مبادئ فوق دستورية" أو "مبادئ حاكمة للدستور"، خوفاً من انفراد الإسلاميين بوضع الدستور الجديد إذا حصلوا على أغلبية في الانتخابات المقبلة. ورفض الإسلاميون، ومعهم أحزاب وشخصيات ليبرالية، هذا التوجه باعتباره محاولة لفرض وصاية على الشعب وحرمانه من حقه في الاختيار، ودعوا إلى توافق وطني على مبادئ عامة استرشادية غير ملزمة توضع بين يدي الجمعية التأسيسية التي سينتخبها البرلمان الجديد لوضع مشروع الدستور.

وعندما أُعيد تشكيل حكومة عصام شرف في يوليو/تموز الماضي، قام علي السلمي من خلال موقعه فيها (نائب رئيسها لشؤون التحول الديمقراطي) بإجراء مشاورات مع عدد كبير من الأحزاب والقوى السياسية، سعياً إلى التوافق على صيغة قيل وقتها إنها يمكن أن تطمئن القَلِقين من انفراد الأغلبية البرلمانية المفترضة بصياغة مشروع الدستور، ولا تصادر في المقابل دور البرلمان الذي سينتخبه الشعب في هذه العملية، وتحترم المبدأ الديمقراطي التأسيسي وهو أن الشعب مصدر السلطات.

وجاءت الصياغة الأولى لمشروع وثيقة المبادئ الدستورية متوازنة، حيث تضمنت 20 مبدأً أساسيا ونصت على أنها ليست مبادئ فوق دستورية.

ومع ذلك ظل الخلاف قائماً بين من يريدون إضفاء صفة الإلزام عليها بحيث تلتزم بها الجمعية التأسيسية التي ستضع مشروع الدستور، ومن يرفضون ذلك ويرون أن على هذه الجمعية أن تسترشد بها فقط.

وقبل أن ينتهي هذا الجدل، أصابت علي السلمي مشكلة صحية استدعت سفره للعلاج في الخارج، حيث مكث ما يقرب من شهرين. فظل هذا الملف معلقاً، إذ لم تواصل الحكومة العمل فيه. كما خفَت الجدل العام حوله. وبدا في مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن ثمة اتجاها عاماً نحو التوافق على حل للخلاف يقتدي بتجربة تونس في إصدار ما أطلق عليه "وثيقة إعلان المسار الانتقالي"، في مؤتمر وطني شارك فيه رؤساء وقادة الأحزاب الأساسية ووقّعوا خلاله هذه الوثيقة أمام الرأي العام.

فكانت المرة الأخيرة التي أثير فيها موضوع الوثيقة الدستورية، قبل المفاجأة الأخير، في اجتماع عقده الفريق سامي عنان نائب رئيس المجلس العسكري وعدد من أعضاء المجلس مع رؤساء 13 حزبا سياسياً في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. فقد نوقش هذا الموضوع خلال الاجتماع، وحدث تفاهم على أن يجتمع عدد محدود من رؤساء الأحزاب يمثلون مختلف الاتجاهات لوضع الصياغة النهائية للمشروع، الذي كان السلمي قد بدأ العمل عليه، وعرضها على باقي الأحزاب للتوافق عليها، ثم عقْد مؤتمر وطني موسع تنقله محطات التلفزة ويوقّع فيه الحاضرون الوثيقة، ويعلنون التزامهم ذاتيا بها بحيث يكون الأمر عهداً بينهم وبين الشعب دون وسطاء أو إلزام أو وصاية.

وتضمن البيان الذي صدر عن ذلك الاجتماع نصاً كان واضحاً فيه أن المقصود وثيقة يلتزم بها الموقعون عليها نتيجة اقتناعهم بها وتوافقهم عليها، وليس خضوعاً لإلزام يُفرض عليهم من أعلى. ولذلك لم تكن المفاجأة التي باغتت الحكومة الجميع بها الأسبوع الماضي هي إعادة طرح المسألة الدستورية في وقت حرج عشية الانتخابات فقط، ولكن النكوص عن ذلك الاتفاق أيضا، فضلا عن طرح وثيقة تتضمن معايير لتشكيل الجمعية التأسيسية التي سينتخبها البرلمان الجديد.

وأتاح طرح الوثيقتين معاً الالتفاف على الطابع غير الملزم للوثيقة عبر منح المجلس العسكري سلطة واسعة تمكَّنه من التحكم في عملية إعداد مشروع الدستور، فضلاً عن الامتيازات التي أعطيت له وللقوات المسلحة.

حدود التوافق والتعارض حول وثيقتي الدستور

راهنت الحكومة في طرحها لهاتين الوثيقتين على دعم الأحزاب والشخصيات الليبرالية واليسارية التي تخشى تصاعد دور الإسلاميين ونفوذهم وتعتبرهم خصمها الرئيسي. ولكنها قدمت لهم "صفقة" مكلفة سياسياً، لأنها تقرن محاصرة الأغلبية البرلمانية القادمة (إذا جاءت إسلامية) وتحجيم دورها في صنع الدستور الجديد بمنح المجلس العسكري والقوات المسلحة وضعاً مميزاً في داخل الدولة، سياسيا ومالياً.

ولذلك تباينت مواقف هذه الأحزاب والشخصيات بين من قبلوا الوثيقتين كما هما، ومن رفضوا الامتيازات الممنوحة للقوات المسلحة (اختصاص المجلس العسكري دون غيره بكافة شؤون الجيش، واشتراط موافقته على أي تشريع يتعلق به، حتى إذا حصل على أغلبية ساحقة في البرلمان، وسرية ميزانيته)، ومن اكتفوا بالتحفظ على هذه الامتيازات.

ويجمع هذه المواقف استعداد مبدئي لقبول الوثيقتين مع بعض التعديلات التي تحد من امتيازات المجلس العسكري والقوات المسلحة. وهذا هو ما راهنت عليه الحكومة مجدداً، عندما أجرت تعديلاً في الوثيقة الأولى يحد من غلواء تلك الامتيازات. وبموجب هذا التعديل، لا يكون للمجلس العسكري حق "الفيتو" على أي تشريع يتعلق بالقوات المسلحة بل حق إبداء الرأي فقط. كما لم تعد ميزانية الجيش سرية تماما، إذ أضيف نص على أن يقوم مجلس الدفاع الوطني الذي يرأسه رئيس الجمهورية (بمراجعة واعتماد ميزانية القوات المسلحة). والأرجح أن هذا التعديل يجعل الوثيقتين أكثر قبولا لدى معظم الأطراف الليبرالية واليسارية.

غير أن هذا التعديل لم يرق إلى الحد الأدنى لمطالب الأحزاب والقوى، التي رفضت الوثيقتين شكلا ومضمونا ولوّحت بإجراءات تصعيدية وتنظيم مليونية يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. وبالرغم من أن اللون الإسلامي بأطيافه المختلفة (الإخوان وحزبهم "الحرية والعدالة"، والسلفيون بأحزابهم وجمعياتهم الدعوية والاجتماعية وشيوخهم) هو الغالب بين هذه الأحزاب والقوى، فهي تشمل أيضا أحزابا وشخصيات ليبرالية وناصرية، وخصوصا حلفاء حزب الحرية والعدالة في "التحالف الديمقراطي" مثل أحزاب الغد الجديد والكرامة والعمل والحضارة والإصلاح والنهضة وغيرها، وأحزابا أخرى جديدة أهمها حزب العدل الذي أسسته مجموعة من شباب ثورة 25 يناير. وهناك أيضا بعض المرشحين المحتملين للرئاسة مثل محمد البرادعي ومحمد سليم العوا والشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل وأيمن نور وعبد الله الأشعل، وكذلك عمرو موسى الذي يحرص على لهجة أكثر مرونة في التعبير عن موقفه الذي لا يختلف كثيرا عن هذه الأحزاب والقوى الرافضة للوثيقتين.

ويجمع هؤلاء الرافضون أنهم لا يعترضون على الامتيازات الخاصة بالقوات المسلحة والمجلس العسكري فقط، بل على دور هذا المجلس في عملية صنع الدستور الجديد أيضا. ويشمل هذا الدور، وفقا للوثيقة الثانية الخاصة بمعايير تشكيل الجمعية التأسيسية، حق المجلس في رفض أي نص يرد في مشروع الدستور الذي تضعه هذه الجمعية ومطالبتها بإعادة النظر فيه، فإذا لم تفعل أحاله إلى المحكمة الدستورية. كما يشمل الانفراد بإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية إذا لم تنته من عملها خلال ستة أشهر من تاريخ تشكيلها.

وهم يعترضون أيضا على أن يكون أعضاء هذه الجمعية من داخل البرلمان عشرين فقط مقابل ثمانين من خارجها، ويرون أن هذه ليست الوسيلة الأفضل لضمان تمثيل مختلف فئات المجتمع وأطيافه فيها. وتبدو الائتلافات الشبابية التي عادت إلى العمل عبر مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة أقرب إلى الرافضين جذريا، ولكن دون أن تتطابق معهم بشكل كامل.

السيناريوهات المتوقعة لتطور الأزمة الدستورية

يمكن تصور أربعة سيناريوهات محتملة على النحو التالي:

1- السيناريو الأفضل
التسوية أو الحل الوسط: يتطلب هذا السيناريو مرونة من جانب كل من الحكومة والقوى الأكثر جذرية في رفضها للوثيقتين الدستوريتين.

ويبدو هذا السيناريو بعيد الاحتمال بالرغم من وجود إمكانية له. وهي تكمن في أن الرافضين معنيون بالوثيقة الثانية بالأساس، وخصوصا بعد التعديل الذي أُجري على الأولى وحدَّ من امتيازات المجلس العسكري والجيش. فهم يريدون إلغاء دور هذا المجلس في الاعتراض على أيٍّ من مواد مشروع الدستور، وفي تشكيل جمعية تأسيسية بديلة إذا لم تنجز الجمعية الأصلية عملها في ستة أشهر. ويطالبون أيضا بإلغاء النص في المادة التاسعة من الوثيقة الأولى، على أن تكون القوات المسلحة هي حامية الشرعية الدستورية.

فإذا استجابت الحكومة لهذه المطالب، وأبدى المطالبون بها في المقابل مرونة بشأن ميزانية القوات المسلحة وقبلوا التعديل الذي أتاح مناقشتها على نطاق ضيق، في إطار مجلس الدفاع الوطني وإبقاء التشكيل المقترح للجمعية التأسيسية بواقع 80 من خارج البرلمان و20 فقط من أعضائه، يمكن لهذا السيناريو أن يرى النور.

2- السيناريو الأسوأ
المواجهة التي تحمل في طياتها نُذُرَ صدام عنيف: إذا تشبث كل طرف بموقفه كما هو، واتجه رافضو الوثيقتين إلى تفعيل تلويحهم بمليونية احتجاجية ودعوا إليها بالفعل يوم الجمعة 18 نوفمبر/تشرين الثاني، قد تكون هذه بداية مواجهة يصعب توقع المدى الذي يمكن أن تبلغه. فإذا تم تنظيم المليونية، قد لا يكون في إمكان من دعوا إليها أن تنصرف الحشود في نهاية اليوم دون الحصول على أي تنازل من الحكومة أو المجلس العسكري. وفي هذه الحال قد يدعون إلى اعتصام في ميدان التحرير وميادين أخرى، على نحو قد يحمل خطر صدام كبير بين الجيش وقوى صاحبة شعبية واسعة في الشارع. وبالرغم من عدم إمكان استبعاد هذا السيناريو، فهو قد لا يكون الأرجح لأنه يؤدي إلى خسائر صافية للطرفين (الحكومة والمجلس العسكري من ناحية ورافضو الوثيقتين من الناحية الثانية)، أما خسارة مصر وشعبها فستكون أفدح.

3- سيناريو تدخل المجلس العسكري لإنهاء الأزمة
يفترض هذا السيناريو إدراك المجلس العسكري خطر تصاعد الأزمة على نحو يدفع إلى تدخله، وكأنه لا صلة له بها أو بالوثيقتين اللتين تقول الحكومة إنهما لم تُعرضا عليه. فإذا تدخل المجلس وقرر الاستجابة للمطالب الأساسية للرافضين جذريا والتحفظات القليلة الباقية لدى بعض المعارضين الآخرين، سيكون في موقفه هذا نهاية طيبة للأزمة. ويستطيع المجلس، في هذه الحال، أن يستند على ما حدث في اجتماعه الأخير برئاسة الفريق عنان مع رؤساء 13 حزبا في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بشأن الاكتفاء بعدد من المبادئ الدستورية المتوافق عليها بالفعل وتوقيعها في مؤتمر وطني عام، بدون حاجة إلى إصدارها في صورة إعلان مبادئ أو إعلان دستوري.

4- سيناريو تراجع رافضي الوثيقة واتجاههم إلى التهدئة
يفترض هذا السيناريو أن يعيد هؤلاء حساباتهم بطريقة تُركز على حساب المخاطر في المقام الأول، وينتهوا إلى أن التصعيد المتبادل قد يؤدي، بل يرجح أن يقود، إلى إرجاء الانتخابات البرلمانية إلى أجل غير مسمى، فيصبحوا هم الخاسرين أو الأكثر خسارة.

5- السيناريو الذي قد يكون راجحا
ثمة قاعدة عامة في منهج بناء السيناريوهات تقضي بأن السيناريو الأفضل والأسوأ هما الأقل رجحانا في الأغلب الأعم. وربما تصح هذه القاعدة هنا أيضا، فالسيناريو الأفضل يفترض حكمة بالغة يصعب العثور على دليل عليها في الحياة السياسية المصرية في الأشهر الأخيرة، والسيناريو الأسوأ يفترض حماقة هائلة ليس هناك ما يدل على أنها باتت هي السمة السائدة في مصر.

ومع ذلك يظل صعبا استبعاد هذين السيناريوهين في تحليل أزمة شديدة التعقيد من هذا النوع. غير أن سيناريو تدخل المجلس العسكري لتقديم تنازلات وتراجع الرافضين الأكثر جذرية في موقفهم قد يكونان أكثر رجحانا. ويتوقف ترجيح أحدهما على موقف الأطراف الليبرالية واليسارية التي لا تزال لديها تحفظات قليلة على الوثيقة الأولى بعد تعديلها، والائتلافات الشبابية التي توسعت الفجوة بينها وبين المجلس العسكري لأسباب أهمها إصراره على محاكمة بعض أعضائها عسكريا، وازدياد الميل في أوساطها إلى تحميله المسؤولية عن عدم تحقيق أهداف الثورة. فبالرغم من أن معظم هذه الائتلافات ليس معنيا بالانتخابات بشكل مباشر، فهي تتطلع إلى بناء دولة ديمقراطية.

وبالرغم من أن معظمها يشاطر أطرافاً ليبرالية ويسارية مخاوفها من الإسلاميين وما يُطلق عليه "دولة دينية"، فهي تخشى عسكرة الدولة بالدرجة نفسها وربما أكثر، لأن بعضها دخل في أكثر من صدام ضد المجلس العسكري.

ولذلك ربما يكون موقف هذه الائتلافات، إلى جانب بعض الأطراف الليبرالية واليسارية، هو المرجح لأي من السيناريوهين: تنازل المجلس العسكري أو تراجع رافضي الوثيقتين. فإذا وقفت مع الرافضين أو اقتربت من موقفهم، قد يكون سيناريو تنازل المجلس العسكري مرجحا، وإذا اقتربت من موقف هذا المجلس أو التزمت الحياد ستُضعف مركز الرافضين جذريا على نحو قد يعزز سيناريو تراجعهم عن التصعيد على الأقل إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية التي يحرصون على عدم تعطيلها.