أثر المبادرة العربية على الأزمة السورية

المبادرة العربية وضعت النظام السوري أمام امتحان الجدية ووضعت المجلس الوطني أمام امتحان كسب الشرعية، ويبدو أن الأول يناور لتوفير الوقت للحل العسكري أما الثاني فيطلب بالأساس الحماية للشعب السوري.
201111613105767734_2.jpg

ليست هناك مؤشرات على الأرض توحي بأن النظام السوري جاد في تطبيق ما يخصه من بنود المبادرة العربية. لم يتوقف العنف للحظة واحدة من جانبه، بل استمر نزيف القتلى فبلغ 20 قتيلا في اليومين التاليين لإعلان موافقته على المبادرة. ولم يُجر أيَّ انسحاب للجيش والآليات العسكرية من المدن أو الأحياء، ولا حتى محاولة للإيحاء بذلك، ولم يَفِد مراقبون من الجامعة العربية لمراقبة الأوضاع في البلد والتزام السلطات السورية بتعهدها (يفترض أن يحضروا بعد عيد الأضحى)، ولم يسمح لأية وسيلة إعلام عربية أو دولية بتغطية ألأوضاع السورية. على أن النظام أعلن عن إطلاق سراح معتقلين في سياق "الأحداث" الجارية في سوريا، حسب التعبير الذي استخدمته المبادرة العربية، لكن دون ضمان بالإفراج عنهم جميعا، ولا عن أكثريتهم، وذلك في غياب أية آليات رقابة موثوقة من قبل الجامعة والمجلس الوزاري العربي على تطبيق النظام للمبادرة. نتذكر أن النظام أصدر عفوين في ربيع هذا العام بعد تفجر الثورة السورية، وقت كان عدد المعتقلين أقل من اليوم، لكنه في المرّتين أفرج عن عدد قليل منهم.

إفراغ المبادرة العربية

أعلنت وسائل الإعلام السورية عصر يوم السبت، 5 نوفمبر/تشرين الثاني، الإفراج عن 553 معتقلا ممن "لم تتلطخ أيديهم بالدم". وبينما قد لا يتجاوز هذا الرقم 2% أو أقل من مجموع المعتقلين، فإن الملاحظ في شأن الإعلان أنه لم يربط ذلك بتاتا بالمبادرة العربية. وبعد ساعات من إعلان إطلاق سراح أولئك المعتقلين، لم يظهر أن أيا منهم كان من معتقلي الثورة المعروفين، ولا يوجد ما يؤكد أنهم ليسوا سجناء عاديين، وأن الخطوة كلها مناورة من النظام لإفراغ المبادرة العربية من أي مضمون حقيقي.

وإلى هذا كله، يبدو أن السلطات السورية بصدد إعداد رواية تسوَّغ تنصلها من المبادرة. فقد أنكرت وقوع أي قتلى من المتظاهرين في البلاد يوم الجمعة، 4 نوفمبر/تشرين الثاني، علما أن وسائل الإعلام العربية والدولية تعتمد أرقاما موثقة بالأسماء والمواقع للضحايا، يَعُدها نشطاء حقوقيون مرتبطون بشبكات تنسيق وتداول للمعلومات تغطي البلد، وتحوز معلوماتهم صدقية لدى مؤسسات عالمية. على أن السلطات السورية أقرت بجرح شرطي ومقتل فرد من "عصابة مسلحة" في بلدة "كناكر" بريف دمشق في نفس جمعة "الله أكبر". وبالنظر إلى خضوع وسائل الإعلام الرسمية للسلطة التنفيذية، فإنها لا تملك الحياد الضروري الذي يضمن صدق الأخبار التي تبثها، علاوة على عدم وجود وسائل إعلام خارجية تؤكد الروايات الرسمية.

في اليوم نفسه، خرج وزير الداخلية السورية يحث المتورطين في حمل السلاح وتداوله على تسليم أنفسهم للجهات الأمنية خلال أسبوع، مقابل تعهد السلطات بتركهم إن لم يكونوا متورطين في القتل. ومقصد النظام من ذلك هو استعمال نص المبادرة العربية، الذي يطالب بإخلاء المدن من مظاهر التسلح للقضاء على العناصر المسلحة المناوئة له، وكأنه غير مقصود بإخراج قواته المسلحة من المدن.

وفي كل الأحوال، فإن النظام يراهن على كسب الوقت، وتقضي مصلحته أن يستغل المبادرة العربية لذلك، وأن يمنع تشكل إجماع عربي يناهضه ثم يكون غطاءً لتشكل إجماع دولي ضده أيضا، يصعب هذه المرة على روسيا والصين خرقه.

أما الجانب الثاني من المبادرة العربية، الخاص بالحوار بين النظام والمعارضة، فلا يبدو بعد أن الطرف الرسمي السوري بلور موقفا بشأنه. وما يحتمل أن يفعله في هذا الشأن هو المزج بين كسب الوقت من خلال البحث المطول عن المكان الذي يفترض أن يجري فيه الحوار، والترويج لمعارضين قريبين من مواقفه، واللعب على نقاط الاختلاف بين معارضة داخلية يصفها بالشرف (هيئة التنسيق الوطنية)، ومعارضة خارجية يصفها بالعمالة (المجلس الوطني السوري)، وكذلك على تباين الموقف من المبادرة.

العنصر الخارج عن حسابات النظام والذي لم يجد له حلا، هو الاحتجاجات الشعبية السلمية. فالمبادرة العربية سكتت عن هذا العنصر الأهم في المشهد السوري، والذي أحدث الفرق الأكبر في تاريخ سوريا في عهد بشار الأسد، بل ومنذ بداية الحكم البعثي قبل نحو نصف قرن.

المعارضة: لا للحوار نعم للحماية

من جهة الثورة، بدا الموقف من المبادرة العربية مركبا. من جهة، هناك تشكيك في المبادرة مصدره عدم الثقة بالجامعة العربية التي تأخرت 8 أشهر قبل إطلاقها مبادرة يبدو أنها تعتبر بقاء النظام أمرا مسلما به، وهناك عدم الثقة في التزام النظام بها، واستخدامه إياها لربح الوقت.

لكن من جهة أخرى، بدا أن المبادرة توفر حماية من نوع ما للنشاط الاحتجاجي، إذا جرى الالتزام بها من طرف النظام، وربما تعود بمكاسب أخرى للثورة (رقابة إعلامية، إفراج عن المعتقلين). وبالفعل انبعثت إلى التظاهر مناطق كانت تراجعت أو خمدت منذ بعض الوقت، وخرجت مناطق أخرى بقوة أكبر. وكان واضحا أن النظام تحسَّب كثيرا لهذا الاحتمال فحاصر مساجد تنطلق منها المظاهرات (في دمشق ودرعا ودير الزور واللاذقية) وأحكم حصار أحياء القابون وبرزة في دمشق، وبلدات المعظمية و"حرستا" قرب دمشق، واستمر في حصار وقصف حي بابا عمر في حمص، بما في ذلك قطع الكهرباء والماء والاتصالات عنه.

ورغم كل ذلك سجلت النشاطات الاحتجاجية زخما قويا، وبدا أن مظاهرات الجمعة، 4 نوفمبر/تشرين الثاني، بمثابة رسالة إلى الجامعة العربية، تُشهِدها بأن النظام يخادع ويراوغ بإعلان قبوله مبادرتها.

في المحصلة، المبادرة العربية لعبت على المدى القصير لمصلحة الثائرين بطريقتين اثنتين: أولاهما، أنها شكلت حافزا لتجدد عزيمة النشاط الاحتجاجي الذي لم يتوقف، وكان من شأن هذا الحافز أن يكون أكبر بكثير لو توقف النظام لبعض الوقت عن القتل. والثانية، أنها كشفت عدم جدية النظام واستمراره في المناورة لتوفير مزيد من الوقت للخيار العسكري، لكن هذا سيؤدي - إن استمر- إلى تشديد محاصرته عربيا ودوليا.

على أنه يتوقف الكثير من النتائج على الاستثمار السياسي لهذه المكاسب الجزئية. وفي هذا السياق، رحب المجلس الوطني السوري بالجهد العربي، وتحفَّظ على المبادرة لأنها تساوي بين الجلاد والضحية بإغفالها ذكر المسؤول عن العنف، فتوحي بوجود طرف آخر غير النظام يمارسه، ولأنها لا توفر حماية للشعب السوري.

ورفض المجلس "الحوار" مع النظام، وأصر على "التفاوض" حول ترتيبات انتقال السلطة. وفي كلمته مساء السبت، 5 نوفمبر/تشرين الثاني، فضّل الدكتور برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري تجاهل المبادرة العربية، لكنه ذكَر الجامعة العربية كطرف معني بتوفير الحماية للشعب السوري.

معركة الشرعية

الأمر المهم في التفاعلات الجارية، هو قدرة المجلس الوطني على انتهاز فرصة المبادرة فيفرض نفسه كطرف سياسي لا مجال لتجاهله في صنع مستقبل سوريا، فتكون واقعة جديدة وغير مسبوقة في تاريخ سوريا السياسي طوال نصف قرن.

لقد كان الشعب السوري يتيما سياسيا ومفتقرا إلى التمثيل المستقل والموثوق طوال أكثر من نصف عمر كيانه السياسي الحديث. وعلى هذا النحو، يمكن للمبادرة العربية أن تكون عنصرا في صيرورة سياسية تفضي إلى تشكيل فاعل سياسي سوري جديد. وقد يكون هذا هو التعديل الأهم لموازين القوى بين النظام والشعب السوري الثائر، والخطوة الأكبر نحو تقرير السوريين مصيرهم بحرية.