السياقات الدستورية للأزمة السياسية في ليبيا

عرفت المرحلة الانتقالية في ليبيا سبعة تعديلات دستورية، لم تعالج أزمات هذه المرحلة؛ حيث جاءت في سياق انقسام سياسي عميق بين النخبة السياسية التي شغلت مواقع سياسية في نظام "القذافي" والنخبة السياسية الجديدة. وبالتالي، لم تسهم هذه الطريقة في حل الأزمات بقدر ما رسخت جذورها.
20141216121047998734_20.jpg

عرفت المرحلة الانتقالية في ليبيا سبعة تعديلات دستورية، لم تعالج أزمات هذه المرحلة. حيث جاءت في سياق انقسام سياسي عميق بين النخبة السياسية [الجزيرة]


ملخص

أسهمت السياسات الانتقالية في ليبيا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2011 في وضع البلاد في أزمة سياسية ممتدة. تطورت لحالة انقسام مؤسسي واندلاع صراع مسلح بين تيارين، بين عملية "الكرامة" وعملية "فجر ليبيا". وفي الوقت الراهن، يبدو هنالك العديد من المعوقات التي تواجه طرح صيغة دستورية أو سياسية للخروج من الفترة الانتقالية. ويبدو كذلك التساؤل حول مدى قدرة الإطار الدستوري الانتقالي على معالجة التباين والخلافات العميقة بين الأطراف السياسية. وانتشار اتهامات متبادلة بـ"الإرهاب" وتنامي كيانات مسلَّحة بشكل يُضعف حجية القانون. وقد شهدت الفترة الانتقالية في ليبيا سبعة تعديلات دستورية، ويمكن القول: إنها لم تكن معالجة صحيحة لأزمات الفترة الانتقالية، ليس بسبب ضعف صياغتها، ولكن لأنها جاءت في سياق انقسام سياسي عميق ما بين النخبة السياسية التي شغلت مواقع سياسية في نظام "القذافي" وبين النخبة السياسية الجديدة. وبالتالي، لم تسهم هذه الطريقة في حل الأزمات بقدر ما رسخت جذورها.

مقدمة

يساعد تحليل الإطار الدستوري في الكشف عن التغيرات التي شهدتها الفترة الانتقالية، وتفسير الدوافع وراء صياغته والتعديلات التي طرأت على "الإعلان الدستوري الانتقالي المؤقت" وانعكاسها على الأزمة السياسية في ليبيا، وبالتالي تحديد الموقف إزاء مسار البناء الدستوري للدولة. وهنا، تبدو أهمية تناول العوامل التي أدت لإجراء العديد من التعديلات الدستورية.

تعد التجربة الانتقالية في ليبيا مثيرة للاهتمام؛ ذلك أنها مرَّت بأزمات كثيرة ومحاولات انقلابية، لكنها ظلت دون حسم للخلافات السياسية، بما يعكس صعوبة استبعاد طرف من العملية السياسية. وتأتي أهمية التجربة الدستورية الليبية من حيث إنها جاءت في سياق تنوع أدوات الصراع السياسي، السلمية والعسكرية، كما أن دور السلطة القضائية في الفصل في المنازعات الدستورية يسهم في إعادة ترتيب المشهد السياسي والمراكز القانونية لسلطات الدولة، وهو ما يشير إلى أهمية قراءة التعديلات الدستورية وعلاقتها بالأزمة السياسية في ليبيا.

البدايات الدستورية للفترة الانتقالية

شهد الإعلان الدستوري الانتقالي في ليبيا العديد من التعديلات التي غيَّرت من جوهر المسار الانتقالي والمراكز القانونية للمؤسسات الدستورية؛ حيث يمثل الإعلان الدستوري الانتقالي مدخلاً للتعرف على توجهات الفترة الانتقالية. ويوضح توزيع السلطات في الإعلان الدستوري الفلسفة الكامنة في التوجه نحو بناء النظام السياسي الانتقالي. وتتحدد أهمية الصياغات الأولى، ليس فقط في ضبط الاختصاصات والصلاحيات، ولكنها تكشف عن طبيعة واتجاه التغيرات التي تجري عليه عبر الزمن. وقد منح الإعلان الدستوري اختصاصات واسعة للمجلس الوطني الانتقالي على اعتبار كونه سلطة سيادية تعبِّر عن الثورة؛ حيث يعد السلطة العليا في الدولة ويباشر أعمال السيادة، بما في ذلك التشريع ووضع السياسة العامة للدولة، كما هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب الليبي. وتضمنت المادة 30 الدور الانتقالي للمجلس الوطني، وخصوصًا ما يتعلق بالترتيب للمرحلة الانتقالية الثانية وتكوين السلطة الجديدة (المؤتمر الوطني العام).
حصل المجلس الوطني على سلطة تعديل الإعلان الدستوري (المادة 36 (بأغلبية ثلثي الأعضاء، وذلك رغم قصر الفترة الانتقالية الأولى، والتي تمتد من إعلان سقوط القذافي، وبحد أقصى 240 يومًا. وشكَّلت هذه الصلاحية مدخلاً لحدوث تغيرات كبيرة على الإعلان الدستوري.

وقد انتقلت هذه السلطات للمؤتمر الوطني مع استمرار التداخل بين الوظائف التشريعية والتنفيذية، وكان أهمها تعيين رؤساء الهيئات العليا واختيار "الهيئة التأسيسية" لصياغة مشروع الدستور، وإصدار القوانين اللازمة للخروج من المرحلة الانتقالية. وقد ربط الإعلان الدستوري تتابع السير في تكوين المؤسسات بصدور القوانين وليس ببداية انعقاد المؤتمر الوطني، وكانت هذه الجزئية مثار جدل بين الأحزاب السياسية، وذلك فيما يتعلق بتفسير مدى ولاية المؤتمر. حيث برزت نظرتان: تقوم الأولى على احتساب الفترة الزمنية حتى انتخاب السلطة التشريعية الجديدة، وبلغت 12 شهرًا حيث تنتهي في 7 يوليو/تموز 2013. أما وجهة النظر الثانية فتذهب إلى أن مسار الفترة الانتقالية يتوقف على قدرة الهيئة التأسيسية على المضي بعملية إعداد الدستور وإصداره كدستور دائم.

محتوى التعديلات الدستورية

شهد الإعلان الدستوري سبعة تعديلات دستورية، ارتبطت كلها بإعادة توزيع السلطة السياسية ما بين المؤتمر الوطني العام والهيئة التأسيسية والمفوضية العليا للانتخابات. وفيما أجرى المجلس الوطني ثلاثة تعديلات دستورية، اضطلع المؤتمر بأربعة تعديلات، وكان أهمها تغيير التعديل الثالث (6 يوليو/تموز 2012) لاختصاص المؤتمر الوطني باختيار الهيئة التأسيسية لانتخابات مباشرة. وهو ما يُعتبر تخليًا عن جوهر خطة الانتقال الدستوري، وإلغاء الوظيفة الأساسية للمؤتمر الوطني؛ وهو ما يعني تقلص وظيفة المؤتمر لتقتصر على وضع الضوابط والمعايير اللازمة لتكوين الهيئة التأسيسية.

اتجهت تعديلات المؤتمر الوطني لتثبيت وضع ما بعد "القذافي" وبلورة النظام السياسي الجديد؛ حيث تصدى التعديل الرابع (1 سبتمبر/أيلول 2012) لتحقيق الإجماع على القرارات والقوانين التي تؤثر على هيكل الدولة والموافقة عليها بأغلبية 120 صوتًا. وتناول التعديل الخامس ما اصطُلح على تسميته بالتحصين الدستوري للعزل السياسي في 11 إبريل/نيسان 2013؛ حيث اعتبر أن عزل بعض الأشخاص ومنعهم من تولي المناصب العامة لفترة مؤقتة لا يشكِّل إخلالاً بحقوق المواطنة، والفرص المتساوية الوردة في (المادة 6) من الإعلان الدستوري.

وشكَّلت تعديلات فبراير/شباط وشهر مارس/آذار 2014 ذروة الجدل الدستوري؛ حيث وضعت أساس مرحلة انتقالية ثالثة اتسمت بالتوسع في صلاحيات الهيئة التأسيسية وإعادة هيكلة سلطات الدولة، تكون بدايتها إجراء انتخابات تشريعية مبكرة (المادة 30/2) لتكوين "مجلس النواب" ثم انتخاب رئيس للدولة، لكنه ترك لمجلس النواب حسم طريقة انتخاب رئيس الدولة المؤقت خلال 45 يومًا من انعقاده، بحيث لا تتجاوز الفترة الانتقالية 18 شهرًا كحد أقصى من انعقاد الهيئة التأسيسية، ولا يجوز تمديدها سوى باستفتاء شعبي.

وهناك تعديل آخر يتعلق بالقَسَم الدستوري (المادة 19) حيث شهد تغيرًا في مضمونه وأولوياته، وانتقل من التأكيد على استقلال الدولة ووحدة أراضيها وأولوية ثورة فبراير/شباط، إلى تبني تعديلات في شهري فبراير/شباط ومارس/آذار 2014 تخلَّت عن الإشارة لوحدة البلاد، والاقتصار على الالتزام بسلامة أراضي الدولة. وكان من اللافت أنه تم تعديل القَسَم الدستوري دون تعديل (المادة 19)، وهذا ما يُعدُّ تناقضًا واضحًا في الإطار الدستوري الذي يحوي نصين مختلفين لنفس القاعدة الدستورية.

كما يُشكِّل صدور حكم قضائي في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بإبطال التعديل الدستوري السابق تعديلاً إضافيًّا؛ حيث يعيد ترتيب المراكز القانونية للمؤسسات؛ إذ يتصدى لإلغاء نتائج الانتخابات وحل مجلس النواب. ويمكن القول: إن مسار التعديلات اقترب من إعادة هيكلة سلطات الدولة، وفيها ينفرد رئيس الدولة بسلطات تنفيذية واسعة، بما فيها إعلان حالة الطوارئ وإقالة رئيس الحكومة بالتشاور مع رئيس مجلس النواب، والاختصاصات الأخرى (المادة 13) في الإعلان الدستوري. وهي بشكل عام، تتلاقى مع المقترحات التي تلقاها المؤتمر حول الجدول الزمني لانتهاء الفترة الانتقالية وصدور الدستور. ويعبِّر بيان المؤتمر (9 فبراير/شباط 2014) عن استجابة المؤتمر للمطالب السياسية المثارة في تلك الفترة، واعتبرها بمثابة حرية التعبير. وتضمن البيان قرارات المؤتمر بشأن عدة مطالب، جاء في مقدمتها تشكيل لجنة لإجراء التعديل الدستوري ووضع قانون الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

اتجاهات التعديلات الدستورية

يبيِّن الاتجاه العام للتعديلات الدستورية خصوصًا التي أجراها "المجلس الوطني" أنها تفكِّك السلطات الانتقالية؛ فالتعديل الأول قد تدارك غياب تعريف طبيعة الهيئة، أما التعديل الثالث فقد ركَّز على فصلها عن المؤتمر الوطني. وبشكل عام تكشف التعديلات الدستورية عن حالة من السلطات المجزأة، ولعل الاتجاه العام للتعديلات التي أجراها المجلس الوطني سارت باتجاه احتواء المؤتمر الوطني وإبعاده عن عملية إعداد مشروع الدستور.

ومن الأهمية ملاحظة التقارب الزمني؛ حيث جاءت تعديلات المجلس الوطني على فترات متقاربة؛ حيث كانت في 13 مارس/آذار و10 يونيو/حزيران و5 يوليو/تموز و1 سبتمبر/أيلول من عام 2012، و11 إبريل/نيسان  2013، ثم 5 فبراير/شباط و11 مارس/آذار 2014، وبهذا التتابع استمرت التعديلات على مدى الفترة الانتقالية. وبشكل يعكس اتساع مرونة الإعلان الدستوري واختلال مرجعيته كحجة قانونية. وباستثناء التعديل الخاص بالعزل السياسي، اتجهت التعديلات الأخرى لتفكيك السلطات الانتقالية. 

لعل النتيجة المهمة تتمثل في أن التعديلات جعلت عملية الدستور شديدة التعقيد؛ فقد صار مشروع الدستور يتم على ثلاث مراحل بعد إقرار انتخاب الهيئة بدلاً من اختيارها: إعداد قوانين الانتخاب، وانعقاد هيئة الناخبين لاختيار أعضاء الهيئة، ثم انعقاد هيئة الناخبين للاستفتاء على مشروع الدستور بأغلبية الثلثين. وهو ما ترتب عليه بدء عملية سياسية منفصلة عن السلطة العليا في الدولة؛ مما أنتج سلطات مناظرة لكل من المؤتمر والهيئة؛ حيث صارت هيئة مستقلة استقلالاً تامًّا عن السلطة التشريعية والسيادية وصاحبة الاختصاص الوحيد في صياغة مشروع الدستور. ولم يحدد الإطار الدستوري طريقة أو نظامًا لمراجعة أعمالها أو كيفية التصرف في حالة إخلالها بالدستور.

السياق السياسي للتعديلات الدستورية

تشكَّلت التعديلات الدستورية في سياق جدل سياسي متصاعد حول مستقبل الدولة مع تشتت نتائج انتخابات يوليو/تموز 2012 وعدم حصول حزب أو كيان سياسي على الأغلبية المطلقة، والتراجع الواضح في تمثيل الأحزاب في انتخابات يونيو/حزيران 2014.

وتشير خبرة اتجاهات التصويت في المؤتمر الوطني إلى مفارقة، حيث إنه رغم فوز تحالف القوى الوطنية بالأغلبية النسبية (86 مقعدًا) ونصف أصوات الناخبين، لم يستطع تحقيق الأغلبية في كل التصويتات، باستثناء فوزه بمنصب رئاسة الوزراء، ولم يتمكن من توجيه السياسة التشريعية. وقد حدث تغير في موقف التحالف بعد إقرار التحصين الدستوري للعزل السياسي؛ حيث اقترح مبادرة في 12 إبريل/نيسان 2013 تتضمن العودة لدستور 1951 وتعديلاته في عام 1963 لتجنب حدوث أزمة سياسية. وتم التأكيد عليها في مبادرات 4 نوفمبر/تشرين الثاني و22 ديسمبر/كانون الأول 2013 و5 فبراير/شباط 2014 والتي وضعت تصورًا كاملاً لمرحلة انتقالية جديدة. وقامت المقترحات على نقل سلطة المؤتمر لمجلس رئاسي تُشكِّله الهيئة التأسيسية كما يقوم بالوظائف التشريعية. ويتكون المجلس الرئاسي من ممثل الهيئة رئيسًا وعضوية رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس المحكمة العليا. وتكون مهمته تشكيل حكومة مصغرة لتسيير الأعمال ومراجعة قانون العزل السياسي. وقد مهدت هذه المبادرات لجدل واسع حول تغيير الإطار الدستوري، شاركت فيه كيانات قبَلية وتحول في وقت لاحق لأزمة أمنية انخرطت فيها الجماعات المسلحة في الصراع السياسي.

وهناك أيضًا ما يتعلق بتركيبة النخبة السياسية خلال فترة المجلس الوطني؛ حيث برز توجه لاحتواء ثورة فبراير/شباط؛ حيث سعى محمود جبريل لتكوين "جسم يكون هو عنوان الثورة" ويكون قادرًا على ملء الفراغ بعد سقوط القذافي. ويمكن القول: إن هذه الترتيبات توضح طبيعة النخبة التي تحكمت في مسار ثورة فبراير/شباط، وهي تنتمي عضويًّا لنظام القذافي، واتسمت بالفعالية في التحرك واتخاذ القرار، بحيث تمكنت من السيطرة على المجلس الوطني وتشتيت المؤتمر الوطني. وهناك بعض المصادر التي تضيف إليهم علي الترهوني الذي حصل على منصب نائب رئيس المجلس الانتقالي ثم رئيس الهيئة التأسيسية.

ويمكن القول بارتباط مبادرات التحالف وملتقى القبائل (6 يوليو/تموز 2013) لإعادة هيكلة السلطة ووقف عمل الأحزاب السياسية، بضعف دورهم في توجيه السياسة التشريعية، وصدور قانون العزل السياسي. وتطورت هذه المواقف للمطالبة بحل المؤتمر واعتباره منعدمًا بعد 7 فبراير/شباط 2014، وهنا تأتي أهمية تصور الجهويات لشكل الدولة، والذي جاء في تعديل القسم الدستوري؛ حيث تعكس الميول الفيدرالية نزعات انفصالية، صارت تشكِّل خيارًا معلنًا.
لم تستطع كتلة "الوفاء لدماء الشهداء" أو "العدالة والبناء" الصمود أمام مقترحات تغيير المسار الانتقالي؛ حيث قدم العدالة والبناء مبادرة في 13 فبراير/شباط 2014 تتضمن القبول بإجراء انتخابات مبكرة للخروج من الأزمة السياسية، وشكَّلت هذه المبادرة أساس تعديلات 5 فبراير/شباط 2014، وهو ما يفسر رفض التحالف الوطني للمبادرة وإصراره على الدخول لانتخابات تشريعية ورئاسية.

آثار الأزمات الدستورية

لم يكن إجراء انتخابات مجلس النواب وإعلان نتائجها في 20 يوليو/تموز 2014 مخرجًا من الأزمة السياسية، بل أسهم في نشوب أزمة دستورية جديدة بسبب انعقاده في "طبرق" وذلك على خلاف الترتيبات الدستورية. وهو ما أدى لنشوب نزاع قضائي كانت نتيجته صدور قرار الدائرة الدستورية في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بإبطال الفقرة (30/11) من الإعلان الدستوري والتي سبق تعديلها في 11 مارس/آذار 2014 باعتبار أن إصدارها خالف اللائحة الداخلية للمؤتمر الوطني، وهو ما يترتب عليه بطلان الانتخابات التشريعية لمجلس النواب.

ورغم أن الوضع الدستوري الراهن يتيح إجراء انتخابات سلطة تشريعية جديدة، فإن احتدام الأزمة السياسية وتنازع الشرعية بين المؤتمر الوطني ومجلس النواب يسرِّع بالدخول في أزمة شديدة من شأنها تشتيت سلطات الدولة ومؤسساتها.
بشكل عام، ترتب على التعديلات الدستورية وجود مسارين للأزمة السياسية: يتمثل الأول في اندلاع صراع مسلح بين المنضوين تحت مظلة "عملية الكرامة" للمطالبة بالإطاحة بالوضع الدستوري القائم، والمنضوين تحت مظلة عملية "فجر ليبيا" للمطالبة باستمرار المسار الانتقالي. وهذا التباين يعكس عمق الأزمة الراهنة.

أما المسار الثاني، فكان في تبلور الانقسام السياسي ووجود ثنائية في مؤسسات الدولة؛ فقد نشبت أزمة دستورية لدى انعقاد مجلس النواب في "طبرق" في 2 أغسطس/آب 2014 ، أدت لاستئناف انعقاد "المؤتمر الوطني" وتشكيل حكومة إنقاذ وطني استنادًا لاستمرار احتفاظه بالسلطة و"التفويض الشعبي" المؤيد لعملية "فجر ليبيا" بعد سيطرتها على "طرابلس" في 24 أغسطس/آب 2014، ومسارعة مجلس النواب باتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بهيكل الدولة. لكن رغم صدور قرار الدائرة الدستورية ظل مجلس النواب يمارس صلاحياته، ليس على أساس فاعلية أعضائه، ولكن استنادًا للدعم من خارج ليبيا.

وفيما يتعلق بالهيئة التأسيسية فإنه وفق (المادة 12) من تعديلات فبراير/شباط 2014 تعتبر الهيئة التأسيسية قد تجاوزت المدة الدستورية بحلول 24 أغسطس/آب الماضي، وبغضِّ النظر عن هذه الجزئية، يُلاحَظ أن "الهيئة" بدت غامضة في السير بمشروع الدستور، وكانت أقل التزامًا بالقواعد الدستورية. ويعكس عدم التزامها بتقديم تقرير للمؤتمر الوطني في مايو/أيار 2014 عن التقدم في مهمتها رغم أهميته في تقرير مسار الفترة الانتقالية، ضعف الآمال في إسهامها في حل الأزمة السياسية أو التخفيف منها.

خاتمة

سوف تؤدي تعقيدات الصراع في ليبيا للمفاضلة بين خيارات حدية تتوقف على الأحكام القضائية التي تصدر بخصوص العزل السياسي في 28 ديسمبر/كانون الأول 2014، مما يضع البلاد على مفترق طرق. وهناك احتمال كبير بأن تفصل الدائرة الدستورية في الطعن استنادًا على الثقة في قدرتها على التصدي لقضية تعيين "أحمد معيتيق" رئيسًا للوزراء والفصل في النزاع على التعديلات الدستورية.

وبغض النظر عن إلغاء العزل السياسي أو استمراره، يواجه الإطار الدستوري القائم واحدًا من بديلين، إما استمرار الأزمة الحالية بكل مكوناتها بسبب غياب القدرة على حسم الصراع، بما يؤدي لتعطيل مؤسسات الدولة؛ حيث يسهم تردد الأمم المتحدة في القبول بحكم الدائرة الدستورية في زيادة تعقيد الأزمة. والبديل الآخر هو أن تتمكن الأمم المتحدة من تطوير مفاوضات "غدامس". وهنا تتزايد احتمالات وقف العمل بالإعلان الدستوري باستثناء استمرار الهيئة التأسيسية، بحيث تتشكل السلطات التشريعية والتنفيذية بالتوافق بين القوى الفاعلة في الدولة، ولكنه يظل مسارًا غير واضح الملامح ويفتقر للحاضنة الاجتماعية أو الثورية. لعل المعضلات التي تواجه كل البدائل الممكنة تتمثل في عدة عوامل، مثل غموض مصير مشروع الدستور، وشدة التباين بين كل الأطراف السياسية، وانفلات المعارك العسكرية، واتساع دور بعثة الأمم المتحدة؛ مما يفتح آفاق حلول خارج السياق القانوني.
_________________________________________________
*خيري عمر، أكاديمي وباحث في العلوم السياسية.

المراجع

1. الإعلان الدستوري الليبي المؤقت، 3 أغسطس/آب 2011.
2. المجلس الوطني الانتقالي المؤقت-ليبيا، التعديل الدستوري رقم (1) لسنة 2012 بشأن تعديل بعض فقرات المادة (30) من الإعلان الدستوري، طرابلس، بتاريخ: 20 من ربيع الآخر 1433ه الموافق 13 مارس/آذار 2012.
3. المجلس الوطني الانتقالي المؤقت، تعديل دستوري رقم (3) لسنة 2012، صدر في طرابلس بتاريخ الموافق 5 يوليو/تموز 2012.
4. المؤتمر الوطني العام، التعديل الدستوري رقم (4) لسنة 2012 في شأن تعديل التعديل الدستوري رقم (1) لسنة 2012، صدر في طرابلس بتاريخ 1 سبتمبر/أيلول 2012.
5. المؤتمر الوطني العام-ليبيا، التعديل الخامس للإعلان الدستوري المؤقت، صدر في طرابلس بتاريخ 1 من جمادى الآخرة 1434هـ الموافق 11 إبريل/نيسان 2013.
6. المؤتمر الوطني العام، التعديل الدستوري السادس، صدر في طرابلس بتاريخ 5 من ربيع الآخر 1435هـ يوافق 5 فبراير/شباط 2014 .
7. المؤتمر الوطني العام، التعديل الدستوري السابع، صدر في طرابلس بتاريخ 10 من جمادى الأولى 1435ه الموافق 11 مارس/آذار 2014 .
8. محمود جبريل، حوار مع غسان شربل: فوجئنا باعتراف ساركوزي بنا وكانت لموقفه أسباب سياسية وشخصية. قطر دعمتنا لكن عبر خطين متوازيين وحليفها الأول كان تيار الإسلام السياسي(1(، صحيفة الحياة، السبت 8 فبراير/شباط 2014.
9. حزب العدالة والبناء، بيان حزب العدالة والبناء بشأن دعوة أعضاء مجلس النواب للالتزام بالإعلان الدستوري، 5 أغسطس/آب 2014.
10. بيان المؤتمر الوطني العام بشأن الأوضاع الحالية في البلاد، طرابلس، 23 أغسطس/آب 2014.

ABOUT THE AUTHOR