(الجزيرة) |
ملخص البلقان هي إحدى ساحات المواجهة المتوقعة بين روسيا والغرب؛ وذلك كجزء من تداعيات الصراع الذي نشأ في أوكرانيا ولا يزال مستمرًّا حتى اللحظة، تملك روسيا سلاح الفيتو؛ واستعملته ضد استقلال كوسوفو، وتملك روابط دينية مع بعض دول المنطقة كالصرب مثلاً؛ فضلاً عن دورها الاقتصادي الحيوي في مجال الطاقة؛ الذي تحتاجه أوروبا، إضافة إلى عضويتها في مجلس إدارة هيئة تنفيذ معاهدة السلام في البوسنة والهرسك، وتستطيع أن تعرقل من خلاله انضمام هذا البلد إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي؛ قد تفقد روسيا بعضًا من تأثيرها في البلقان؛ خاصة إذا ما قرر الاتحاد الأوروبي تسريع إجراءات انضمام بعض الدول إليه؛ ما سيعني تعزيز فضائه الاستراتيجي وتقليص الاحتقانات الداخلية في تلك الدول؛ فضلاً عن وجود خطط للاستغناء عن الغاز الروسي وإن لم تر النور حتى اللحظة. |
"روسيا عائدة إلى البلقان وإلى منطقة البحر الأسود"(1)، هكذا صرَّح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 خلال اجتماع منظمة البحر الأسود للتعاون الاقتصادي المنعقد في إسطنبول، ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت تلك العودة تتجسَّد، ليس فقط في الجوار القريب من روسيا كما هي الحال مع أوكرانيا، بل -أيضًا- بعيدًا عن حدودها وتحديدًا في شبه جزيرة البلقان الجبلية.
على إثر المواجهة المفتوحة بين الغرب وروسيا حول أوكرانيا، أصبح بوتين يبحث عن نقاط ساخنة محتملة تمكِّنه من الضغط على التحالف الأورو-أطلنطي، وتبحث روسيا عن إيجاد إحدى تلك المناطق الساخنة في منطقة البلقان؛ حيث يمرُّ عدد من بلدانها بمرحلة ما يُسَمَّى الانتقال والاقتراب التدريجي من عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؛ ففي تلك البلدان -التي لا تزال تعاني من تبعات ملفَّات حارقة لم تُغلق بعدُ- تسعى روسيا إلى استغلال الفراغ السياسي والمؤسساتي المفتوح الذي تركه الاتحاد الأوروبي -أساسًا وقبل أي شيء- بسبب البيروقراطية البغيضة وعدم توحيد المواقف السياسية تجاه البلقان، وكذلك بفعل العلاقات التاريخية والدينية التي تربط روسيا بهذه البقعة من العالم.
في الواقع تستغلُّ روسيا كلَّ الإمكانات لترسيخ وجودها في البلقان، مرسلة بهذا رسالة واضحة إلى الغرب بأنها لا تزال قوَّة عالمية مهيبة، أو تؤكِّد للغرب على الأقل أنَّ عليه مراعاة مصالحها الحيوية والاستراتيجية العالمية، ولا يفوتنا هنا أن موسكو تتصرَّف بالطريقة نفسها ووفق المبدأ نفسه في علاقاتها مع العالم العربي، وتتبع الأسلوب ذاته أيضًا.
مرتكزات النفوذ الروسي في البلقان
يعتمد الكرملين اليوم سياسة التأثير وتفعيل النفوذ في منطقة غرب البلقان، وتقوم تلك السياسة على ثلاث ركائز أساسية:
تكمن أولى مرتكزات تلك السياسة في كون روسيا -باعتبارها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة- تملك حقَّ الفيتو؛ وهو ما يسمح لموسكو بتعطيل كل القرارات التي يمكن أن يُصدرها مجلس الأمن الدولي بشأن غرب البلقان، وتكون متعارضة مع الأهداف السياسية لروسيا في تلك المنطقة، وقد استعملت روسيا فعليًّا حق الفيتو -منذ عام 2007- لتعطيل ومعارضة قرار كانت أعدَّته عُدَّة دول غربية داخل مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة للاعتراف الدولي باستقلال دولة كوسوفو.
الركيزة الثانية التي يعتمد عليها الكرملين في بسط نفوذه في غرب البلقان هي تاريخية العلاقات الثقافية، وسياسة الارتباط التي تتبعها روسيا مع شعوب ودول جنوب شرق أوروبا التي لها تقاليد أرثوذكسية، ويبدو جليًّا أن روسيا تعتمد على مواصلة تعزيز علاقات التضامن تلك مع الدول الواقعة في جنوب شرق أوروبا؛ التي أصبحت أعضاء في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، أو هي على طريق الانضمام إلى هاتين المنظمتين.
أما الركيزة الثالثة التي تعتمد عليها موسكو في جنوب البلقان؛ فهي قوة المكانة التي أحرزتها العلاقات التجارية والاقتصادية بين روسيا وبلدان المنطقة؛ فروسيا هي المصدِّر الأوَّل للطاقة نحو بلدان المنطقة، وهي اليوم -أيضًا- تُقَدِّم نفسها بصفتها مستثمرًا وشريكًا تجاريًّا(2).
كل واحدة من هذه الركائز كانت موجودة من قبل؛ إلا أنَّ وتيرة اعتمادها ودفعها إلى الأمام ازدادت أكثر مع الخلافات الناشبة بين الغرب وروسيا؛ بخاصة ذلك الخلاف المتعلِّق بقضية تصدير الغاز إلى دول أوروبا ودول البلقان؛ التي تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي؛ وذلك منذ فترة طويلة.
لذلك فليس غريبًا أن يكون مشروع خط أنابيب إمدادات الطاقة الروسي المسمَّى "يوجني توك" -المعروف باسم السيل الجنوبي (ساوث ستريم)- أحد أعمق القضايا جدلية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا خلال الفترة القريبة الماضية؛ ومشروع "يوجني توك" خطَّطت روسيا لبنائه مع شركائها الأوروبيين، لنقل إمدادات الغاز الطبيعي الروسي عبر الجبل الأسود وبلغاريا، ثم منهما عبر صربيا في اتجاه النمسا، وفي اتجاه آخر عبر اليونان ليبلغ إيطاليا(3). أُريد لهذا المشروع في الأصل أن يحلَّ جزئيًّا محلَّ استكمال مشروع "الخط الأزرق"؛ الذي ينطلق من تركيا عبر بلغاريا فصربيا باتجاه المجر والنمسا، الذي يُعَدُّ منافسًا لخطِّ إمدادات الغاز المعروف باسم "خط نابوكو".
على إثر الإعلان عن انطلاق مشروع خطِّ "يوجني توك" لإمدادات الغاز، بدأت تحذيرات المسؤولين الأوروبيين في بروكسل تُوَجَّه إلى الدول الأعضاء والدول الساعية إلى عضوية الاتحاد الأوروبي بأنَّ العقد الذي أبرمته مع روسيا يتضمن خروقات عدَّة للوائح الجمعية الأوروبية للطاقة، وأنه على أعضاء الجمعية مراجعة وتصحيح عقودها مع روسيا إذا ما رغبت في عدم خضوعها لعقوبات.
بعد دعوة الرئيس البلغاري روزن بليفنيلييف إلى وقف كل الأنشطة المتعلِّقة بخطِّ الأنابيب "يوجني توك" في بلده إلى أن تتوافق مع القوانين الأوروبية، فإن صربيا -بشكل خاص- وجدت نفسها في وضعية حرجة بعد انطلاق أشغال المشروع على أراضيها؛ فهي من ناحية تُريد الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع روسيا، ومن ناحية ثانية كان عليها إعلان وقف تقدِّم العمل في المشروع. ووضعية صربيا كما هي صعبة فيما يتعلَّق بقضية العقوبات المفروضة على روسيا وضرورة تطبيقها، فوضعيتها -أيضًا- صعبة فيما يتعلَّق بموقفها من قضية "يوجني توك"، وهو ما يجعلها بين نارين؛ وهي الدولة الحريصة على تحقيق عضوية الاتحاد الأوروبي.
هذا الإشكال لم يجد طريقه إلى الحلِّ، وأعلنت موسكو -عقب الزيارة المفاجأة للرئيس فلاديمير بوتين إلى أنقرة في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2014- عن إيقاف العمل على مشروعها -ساوث ستريم- متَّهمة كلاًّ من بلغاريا والاتحاد الأوروبي بالوقوف وراء إفشال المشروع؛ وأعلن بوتين من أنقرة عن بدء زيادة ضخِّ إمدادات الغاز إلى تركيا بحوالي مليار متر مكعَّب؛ إضافة إلى تخفيض سعره بنسبة تبلغ 6%، كما أعلن أليكس ميلر -مدير شركة "غاز بروم" العملاقة- عن توقيع اتفاقية تفاهم بين موسكو وأنقرة من أجل بناء خطِّ إمدادات للغاز يمرُّ عبر البحر لينقل ما يبلغ 63 مليار متر مكعَّب من الغاز سنويًّا(4).
نُشير هنا إلى أن الإعلان عن إحلال مشروع الاتفاق الروسي-التركي هذا محلَّ مشروع "ساوث ستريم" كان مخطَّطًا له حتى قبل زيارة بوتين إلى أنقرة؛ فقد أعلن كلٌّ من أليكس مليار -مدير شركة غاز بروم- عن الجانب الروسي، وتانر يلديز -وزير الطاقة والموارد الطبيعية- عن الجانب التركي، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2014 عن توصُّل الجانبين إلى التسريع في رفع سعة أنبوب إمدادات الغاز "بلو ستريم"(5)، من 16 إلى 19 مليار متر مكعَّب في السنة(6). ويُذكر أن أنبوب "بلو ستريم" يمرُّ عبر البحر الأسود؛ حيث ينطلق من محطَّة بريغوفايا إلى محطة دوروسو قرب سمسون، ومنها يصل عبر النقل البرِّي إلى أنقرة؛ وبهذا الشكل فإنَّ الغاز الروسي يصل إلى الأرض التركية ومنها إلى الحدود الأوروبية ليصل إلى مستهلكيه الأوروبيين.
لكن على الرغم من كلِّ ما تقدَّم، فإنَّ أغلب المراقبين يرون أنَّ الأمر لا يعدو كونه تكتيكًا سياسيًّا، وأنَّ الحديث عن مشروع "ساوث ستريم"، نظرًا إلى أهميته الاستراتيجية البالغة للأطراف المشاركة فيه، لم ينتهِ بعدُ، وأنَّه سيعود إلى واجهة الأحداث عاجلاً أم آجلاً، وعندها ستجد صربيا وباقي دول البلقان أنفسها أمام خيارين كلاهما صعب.
في الواقع يبدو أن أبلغ تأثير للنفوذ الروسي في البلقان والأكثر وضوحًا هو في صربيا؛ لكنه -أيضًا- واضح إلى حدٍّ كبير في البوسنة والهرسك؛ التي يعيش على أرضها عدد مهمٌّ من السكان الأرثوذكسيين المنتمين إلى صرب البوسنة؛ الذين تبلغ نسبتهم حوالي 37% من مجموع السكان.
أما في بلدان البلقان الأرثوذكسية الأخرى؛ التي تربطها علاقات تاريخية وثقافية وثيقة بروسيا، فنجد أنها أصلاً بلدان أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفي هذا السياق ليس لديها مجالات واسعة من المناورة بحكم ضرورة خضوعها للقوانين الأوروبية؛ التي تلزمها بتوحيد مواقفها السياسية على مستوى الاتحاد الأوروبي.
لذلك فإنَّ صانعي القرار في موسكو يرون في دول البلقان -التي لم تنتمِ بعد إلى منظومة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو- ذلك الفضاء الجيوسياسي المهمّ الذي يتيح لروسيا إمكانية لعب ورقة إيقاف توسُّع الاتحاد الأوروبي شرقًا، ويسمح للكرملين بخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني داخل الفضاء الأوروبي ذاته.
ولهذه الأسباب نجد أن صربيا والبوسنة والهرسك، باتتا القضيتين الأهم اللَّتين شغلتا الإعلام الدولي، وتناولتهما مراكز البحوث والدراسات في بحث مدى تأثير النفوذ الروسي في البلقان.
روسيا وصربيا
تتميَّز العلاقات الروسية-الصربية بعمق تاريخي؛ يمتدُّ منذ فترة إعادة إحياء فكرة توحيد السلافيين، ولروسيا عبر التاريخ اهتمام استراتيجي بالبلقان، وهو ما قد تبلور من خلال سياسة الدولة الروسية الإمبريالية؛ حيث كانت تتعامل مع المنطقة باعتبارها فضاء استراتيجيًّا بالغ الأهمية لأمنها ولاستقرار حدودها الجنوبية والجنوبية-الغربية، كما أنه جزء من سعيها المحموم والدائم للوصول إلى المياه الدافئة، وتحرص روسيا في هذا الإطار على تحقيق طموحاتها عن طريق توظيف المعطى الديني (الأرثوذكسية)؛ الذي هو قاسم مشترك بين عدد من شعوب البلقان (رومانيا، بلغاريا، صربيا، مقدونيا، اليونان)، وأيضًا من خلال طبيعة العلاقات الثقافية/التاريخية التي تجمعها ببلدان المنطقة.
في القرن التاسع عشر كانت الدعوة إلى توحيد الشعوب السلافينية تلقى استجابة واسعة، وترحيبًا كبيرًا من قِبَل أغلب الشعوب السلافية؛ التي لم يكن لها في ذلك الوقت دولة وطنية جامعة، وكانت السياسة الإمبراطورية الروسية الرسمية تجاه دول البلقان في ذلك الوقت متمحورة حول دعم المقاومة السلافينية من أجل التحرير، وفي المقام الأول تأتي الشعوب المسيحية؛ التي لاقت دعمًا معتبرًا من طرف شرائح مجتمعية روسية واسعة؛ لكن على الرغم من التقارب الواضح حول فكرة توحيد السلافينيين، فإنَّ الأهداف الاستراتيجية الروسية كانت موجَّهة نحو الرغبة الجامحة في السيطرة على نهر الدردنيل؛ وهو الهدف الذي لا يزال إلى اليوم الدَّافع والمحرِّك لسياسة روسيا في المنطقة(7).
من ناحية أخرى فإن روسيا وعلى امتداد عقد التسعينات من القرن الماضي، كانت على الدوام الدولة الوحيدة في العالم الداعمة لنظام صربيا بقيادة سلوبودان ميلوشيفيتش(8)، على الرغم من عدوانه على دول المنطقة وفي مقدِّمتها دولة البوسنة والهرسك، وكرواتيا وكوسوفو؛ فالدعم الروسي غير المحدود تواصل وبلا شروط حتى بعد الكشف عن المجازر التي ارتكبتها القوات الصربية في حقِّ سكان فوكوفار الكرواتية ومسلمي سريبرينيتسا البوسنية، ومحاولة التطهير العرقي التي طالت ألبانيي كوسوفو.
تحاول روسيا اليوم توظيف علاقاتها تلك، وبخاصة مع صربيا، التي تُعَدُّ أكبر البلدان الأرثوذكسية في المنطقة، وهي -أيضًا- البلد البلقاني الوحيد الذي لا يزال موقفه غير محسوم تمامًا بشأن التقارب مع الغرب؛ بل تحاول بلغراد الحفاظ على وضعها الحيادي تجاه حلف الناتو, وذلك في الوقت ذاته الذي تسعى فيه إلى الانتفاع بالمزايا التي سيُقَدِّمها لها الاتحاد الأوروبي في حال الانضمام إليه، دون التخلِّي عن علاقاتها المميزة مع روسيا.
في أقل من شهر واحد زارت شخصيتان روسيتان من الوزن الثقيل صربيا؛ وهما: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكان الشخص الثاني هو بطريرك موسكو وعموم روسيا كيريل. وقد أُقيم عرض عسكري احتفالاً بقدوم بوتين، لم تشهد المنطقة له مثيلاً منذ سقوط جدار برلين.
ونُظِّمت في بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2014 على أرض صربيا مناورات تكتيكية لمواجهة هجمات إرهابية مفترضة تحت اسم "سريم 2104"؛ حيث تناقلت وسائل الإعلام صورًا لطائرات روسية عملاقة تحمل مدرعات عسكرية تمَّ إنزالها جوًّا؛ وعلى الرغم من أن صربيا تستعدُّ -أيضًا- لإجراء مناورات مشابهة مع بعض دول الاتحاد الأوروبي، غير أن الرسالة التي وصلت إلى هذه الدول من خلال التعاون الصربي-الروسي، لم تلقَ ترحابًا من قبلها.
وبهذا يبقى السؤال قائمًا: إلى أي مدى يمكن لصربيا الاستمرار في تأدية هذا الدور المزدوج بين رغبتها في الانضمام إلى قيم الغرب ومنظومته المتمثلة في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وبين حفاظها على علاقاتها المميزة مع روسيا؟
روسيا والبوسنة والهرسك
عند الحديث عن النفوذ الروسي داخل دولة البوسنة والهرسك، فمن الضروري الإشارة إلى أنَّه إضافة إلى المرتكزات الثلاثة في سياسة روسيا، فهي عضو في مجلس إدارة هيئة تنفيذ معاهدة السلام "PIC"، وهذه العضوية على قدر من الأهمية؛ ليس فقط في التأثير على دولة البوسنة وتطوُّر العملية السياسية داخلها، وإنما -أيضًا- قد تكون عاملاً معطِّلاً في طريق التحاق البوسنة والهرسك بعضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو(9).
والمسجل إلى اليوم هو دعم الممثل الروسي -داخل هيئة تنفيذ اتفاقية السلام- لكلِّ مواقف الأحزاب السياسية الناشطة داخل الكيان المسمى (ريبوبليكا صربسكا)، وقد كانت تلك المواقف السياسية لأحزاب صرب البوسنة في أغلبها مشجعة لرئيس الكيان (ميلوراد دوديك) في المضي قدمًا في فرض توجُّهاته السياسية الانفصالية، في المقابل قدم دوديك لروسيا استجابته العلنية لشروطها من أجل فرض هيمنتها على مجمل القطاع النفطي في الكيان الصربي من البوسنة والهرسك.
نجح رئيس ريبوبليكا صربسكا ميلوراد دوديك وحزبه تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين، خلال الأعوام الثمانية الماضية، وبدعم روسي واضح وكبير، في سدِّ الطريق أمام انضمام دولة البوسنة والهرسك إلى عضوية الحلف الأورو-أطلنطي؛ حيث استطاع إفشال اعتماد كل مشاريع الإصلاحات التي كان من شأنها تعزيز قدرات المؤسسات الرسمية للدولة البوسنية في إدخال التعديلات الضرورية على هيكلياتها ونظم عملها؛ التي يشترطها كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لانضمام دولة البوسنة والهرسك إليهما.
في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2014، أظهرت روسيا، ولأول مرَّة وعلى أعلى المستويات، مخالفتها للتوافق القائم حول مستقبل البوسنة والهرسك، وأظهرت -أيضًا- معارضتها لسياسة المجتمع الدولي المتبعة في البوسنة والهرسك، وكان ذلك عندما امتنعت روسيا -دون غيرها من أعضاء مجلس إدارة هيئة تنفيذ معاهدة السلام الخمسة عشر- عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة تمديد مهمَّة القوات الأوروبية لحفظ السلام في البوسنة والهرسك لسنة إضافية(10)؛ إلا أنَّ الممثل الروسي الدائم في مجلس التابع للأمم المتحدة (فيتالي تشوركين) دعا خلال النقاش حول البوسنة والهرسك إلى سحب الوجود العسكري من البوسنة في أقرب الآجال، كما دعا إلى ما وصفه بـ"وقف التدخُّل الخارجي في شؤون دولة البوسنة والهرسك". وعلَّل السفير الروسي موقف بلاده بقوله: "هناك أمثلة سيئة لدول أُجبرت تحت الضغط الخارجي على اعتماد سياسة المضي في طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي".
وكان تصريح تشوركين هذا قد فُسِّر من قبل كثيرين داخل البوسنة والهرسك وفي الاتحاد الأوروبي، بأنَّه تأكيد للشكوك التي سرت حول دور روسي نشط للحدِّ من مساعي البوسنة والهرسك، ليس فقط للانضمام إلى حلف الناتو فقط؛ بل -أيضًا- لالتحاقها بعضوية الاتحاد الأوروبي. وتبيَّن -أيضًا- من خلال الموقف الروسي أن موسكو لا تسعى إلى عرقلة انضمام البوسنة إلى المنظمتين المذكورتين عبر التحالفات القائمة بينها وبين ريبوبليكا صربسكا فحسب؛ بل -أيضًا- عبر توظيف قوتها داخل أعلى المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة.
ويرى الباحث المتخصص في شؤون البلقان توبياس فليسّينكمبير في المركز الأوروبي الدولي للتكوين (CIFE)، أنَّ التصويت الروسي في مجلس الأمن يعني أنَّه إشارة قوية من روسيا بأنَّ لها تأثيرًا سلبيًّا أو إيجابيًّا على ما يجري في البلقان؛ ويقول: إن روسيا "إذا أخذنا بعين الاعتبار امتناعها عن التصويت، فإنها كانت دومًا مساندة لانضمام البوسنة والهرسك إلى الاتحاد الأوروبي". ورأى أن "تصريحات تشوركين الجديدة تدعو للقلق؛ لأنَّ قراءة ما بين سطورها يمكن أن يُؤَدِّيَ إلى استنتاج أنَّ موقفها السابق قد تغيَّر؛ لكن موسكو طمأنت غالبية سكان البوسنة والهرسك وحكومتهم والأحزاب السياسية التي تتفاوض حول تشكيل الحكومة عقب الانتخابات الأخيرة، حتى إنها طمأنت -أيضًا- رئيس ريبوبليكا صربسكا ميلوراد دوديك، بأنَّها تساند عملية الانتقال نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ لهذا فلا أرى في هذه التصريحات ما يدعو إلى التشاؤم... الشيء الأكيد الذي تغير في استراتيجية روسيا في البوسنة والهرسك يكمن أساسًا في معارضتها تمديد مهمة القوات الأوروبية في البوسنة، وهو ما كان بإمكان موسكو تحقيقه لو أرادته من خلال استعمال حقِّ الفيتو".
ويؤكد توبياس أنَّ تصريحات فيتالي تشوركين تلك ستعطي تأثيرًا عكسيًّا؛ لأن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي سيثيرون أثناء اجتماعهم القريب قضية المبادرة الألمانية-البريطانية حول منهج جديد في التعاطي مع عملية انضمام البوسنة والهرسك إلى "الاتحاد الأوروبي"، حيث "بات واضحًا أن البوسنة والهرسك تحتاج إلى دعم أقوى" من أجل تحقيق عضويتها(11).
خاتمة
إن استعراض روسيا لتأثيرها وحضورها في منطقة البلقان على هذا النحو الذي لا يخلو من "استفزاز"، قد يكون له تأثير عكسي على مصالحها في المنطقة التي تشهد تغيُّرات متلاحقة قد تُغَيِّر من أجندات روسيا، وتجعلها غير ذي فائدة على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى، لاسيما أنَّ التشكيل الجديد لممثلي الاتحاد الأوروبي في افتتاح الدورة الحالية شهد بداية توجُّه نحو مناقشة اكتفاء الاتحاد الأوروبي بالتوسُّع الذي بلغه إلى الآن، وترجيح خيار إيقاف عملية قبول عضوية دول جديدة، وهو ما تناوله وكتب عنه منذ مدَّة طويلة عدد من الوجوه السياسية والصحفية، وهو ما يمكن رصده -أيضًا- بوضوح في الشروط الصعبة التي وضعها بعض دول الاتحاد أمام الدول الراغبة في الانضمام إليه، وهي شروط لم تكن قائمة قبل ذلك.
كما أنَّ الخطر من عودة روسيا إلى البلقان قد لفت انتباه بروكسل؛ ليس فقط باتجاه الشرق والحدود مع روسيا؛ بل -أيضًا- نحو البلقان وباتجاه بلدان أوروبا الشرقية التي لم تحصل بعد على عضوية الاتحاد الأوروبي. اليوم ومع ذلك فإن رسائل ومبادرات جديدة تصدر عن برلين ولندن على وجه التحديد، تصبُّ في اتجاه تسريع ضمِّ البوسنة والهرسك وصربيا وغيرها من بلدان البلقان إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
إضافة إلى ذلك فإن عددًا من الخطط يتمُّ وضعه حاليًّا في منطقة البلقان، تهدف هذه الخطط إلى تجنُّب الاعتماد على الغاز المستورد من روسيا؛ وإحدى تلك الخطط هي احتمال بناء محطة تسييل غاز طبيعي في منطقة كيرك في كرواتيا، أو في منطقة أخرى (مثل منطقة ميناء بلوتشا الكرواتي الذي تمتلك البوسنة والهرسك جزءًا منه)، وسيستقبل هذا الميناء الغاز المستورد من أميركا لسدِّ احتياجات ليس فقط دول البلقان، بل -أيضًا- ليكون بديلاً مضمونًا عن غاز روسيا المصدَّر إلى كامل أوروبا.
كذلك كان هناك مشروع تناولته الدوائر الدبلوماسية البوسنية والكرواتية حول إمكانية بناء محطة تسييل للغاز الطبيعي لاستقبال الغاز المستورد من دولة قطر؛ إلا أن هذه المشاريع لم تجد بعدُ طريقها إلى التنفيذ على الرغم مما يقال عن اهتمام قطري بتمويل بعضها. كما أنَّ هناك إمكانية إعادة التفكير في تفعيل مشروع استغلال الغاز الطبيعي الكامن في حقول الملح الموجودة في منطقة توزلا الواقعة في شمال البوسنة والهرسك، وقد يمثِّل هذا المشروع، في حال إطلاقه، مخزونًا استراتيجيًّا للغاز لدولة البوسنة والهرسك، وأيضًا لباقي دول القارة الأوروبية.
هذه المشاريع وغيرها لن ترى النور قريبًا، على الرغم من الدعوات التي وجَّهها عدد من ممثلي دول المجر وبولندا وسلوفاكيا وتشيكيا إلى واشنطن لمدِّ أوروبا الشرقية والغربية بالغاز الطبيعي الأميركي؛ الأهم في كل هذا هو وجود هذا التوجُّه البلقاني-الأوروبي للاستغناء عن الغاز الروسي، مما يضع ضغطًا كبيرًا على موسكو، وقد يُكَلِّفها ثمنًا باهظًا في المستقبل.
ومهما يكن من أمر فإن السياسة الروسية الجديدة في البلقان أعادت شبه القارة البلقانية إلى صدارة المشهد الجيوسياسي، وجعلت منها مرَّة أخرى منطقة اهتمام بالغ لعدد من القوى الدولية، وقادم السنوات وحده كفيل بأن يحكم على صواب أو خطأ السياسة الروسية، وما إذا كانت ستحقِّق مكاسب من ورائها أم أنَّها ستفشل في توسيع مناطق نفوذها.
__________________________________________________
محمد يوسيتش - متخصص في شؤون البلقان ومنسِّق "الشبكة البحثية-الإسلام في جنوب شرق أوروبا".
ملاحظة: النص أُعدَّ في الأصل باللغة البوسنية لمركز الجزيرة للدراسات، ترجمه كريم الماجري إلى اللغة العربية.
المصادر
1- العنوان: "روسيا عائدة إلى البلقان" مقتبس من "وكالة فرنسا للأنباء" بتاريخ 15 من نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
http://dalje.com/hr-svijet/rusija-se-vraca-na-balkan/56824
2- Relji?, Dušan, “Russlands Rückkehr auf den Westlichen Balkan“ SWP-Studien, S-17, juli, Berlin, 2009
3- For more details: http://www.gazprom.com/about/production/projects/pipelines/south-stream/
4- Andreas Becker, Politi?ki kraj plinovoda Ju?ni tok, Radio DW, 2.12.2014. http://www.dw.de/politi%C4%8Dki-kraj-plinovoda-ju%C5%BEni-tok/a-18106416
5- For more details:
http://www.gazprom.com/about/production/projects/pipelines/blue-stream/
6- Dokumentacioni centar ?asopisa Vreme, „Velika naftna igra“, 23.10.2014. http://www.vreme.com/cms/view.php?id=1238975#plavi tok
7- Sonja Biserko Uloga „Rusije i njen utjecaj na Balkan“, str. 3
8- Boris Jelcin, „Pono?ni memoari“, str. 244.
9- تشكَّلت هيئة تنفيذ معاهدة السلام، بُعيد التوقيع على معاهدة دايتون إبان مؤتمر السلام الذي انعقد في لندن (8 و9 من ديسمبر/كانون الأول عام 1995) ؛ تتألف الهيئة من عضوية 55 بلدًا ومنظمة، تقدِّم جميعها مساعدات مختلفة في إطار دفع تنفيذ بنود اتفاقية السلام؛ فهي تضمن تقديم الدعم المالي، وتُشارك بتقديم جنود في إطار القوات الأوروبية، أو تقوم بتنفيذ عمليات (عسكرية وأمنية...) بشكل مباشر داخل البوسنة والهرسك، كما يضمن دور الهيئة توفير عدد من المراقبين. وللهيئة مجلس إدارة معنيٌّ مباشرة بتنفيذ بنود معاهدة السلام، يرأسه ممثل سامٍ يعمل بصفته جهة تنفيذية للهيئة نفسها، والجدير بالذكر أن مجلس الإدارة يحدِّد التوجُّه السياسي الذي يعمل الممثل السامي في إطاره، ويترأَّس الممثل السامي -المقيم في سراييفو- أسبوعيًّا اجتماعًا عامًّا يحضره ممثلو الدول والمنظمات الأعضاء في مجلس إدارة الهيئة بالبوسنة والهرسك.
لمزيد من المعلومات عن الهيئة انظر:
For more details, see PIC on: http://www.ohr.int/pic/archive.asp?sa=on
10- Mandat EUFOR-a produ?en, Rusija suzdr?ana, Dnevni avaz, 12. 11. 2014, Prema izvještaju ruske novinske agencija "TASS"
11- Slanjanki?, Azer „Nova strategija Rusije u BiH?“, Radio Deutsche Welle, 12.11.2014., Vidi: http://www.dw.de/nova-strategija-rusije-u-bih/a-18059086