ثورات متحركة: التحولات في العالم العربي 2010-2014

تعثر الثورات في مناطق كثيرة بالعالم العربي يشبه حالات ثورية كثيرة سابقة، حيث تتبع انهيار النظام القديم، صراعات على السلطة، فتحصل الفئات الأكثر قسوة وراديكالية، في كثير من الأحيان، على ميزة تكتيكية، تجعلها الأقدر على كسب التأييد الشعبي بفضل توفيرها الأمن لبلد أنهكته الاضطرابات.
201529102419358734_20.jpg
تقلبات متتالية [الجزيرة]
ملخص

إنه من الضروري أن يكون واضحًا أن أحداث 2010-2014 في شمال إفريقيا وبلاد الشام هي في الحقيقة ثورات. وقد يجادل البعض، مستاء بسبب أن الآمال في التغيير الديمقراطي قد تبددت، بأن هذه ليست ثورات. ويدَّعي هؤلاء النقاد أن شيئًا لم يتغير -فمصر لا تزال تحت قبضة نظام استبدادي بقيادة ضابط عسكري سابق أو أن الأمور قد ساءت، أو تدحرجت نحو حالة من الفوضى فقط، كما هي الحال في ليبيا وسوريا. قد يكون هذا صحيحًا في هذه اللحظة، ولكنه لا يقدح في كون هذه الأحداث ثورات.
الثورات بطبيعتها قد تأتي في بعض الأحيان بأعتى الديكتاتوريات أو بالفوضى كنتائج قصيرة الأجل؛ فالثورتان: الفرنسية والروسية جلبتا معًا سنوات من الحروب الأهلية الشرسة والإرهاب، كما أن العديد من الثورات أنتجت ثورات مضادة وديكتاتوريات، ولكن هذا لا يعني أنها لم تكن أحداثًا ثورية. فنحن بحاجة لتجاوز الأسطورة (التي نادرًا ما يدركها الناس) أن الثورات تُحدِث تحولات مفاجئة من نوع نظام سياسي ما إلى آخر مختلف تمامًا.

مقدمة

عندما سُئل رئيس مجلس الدولة الصيني شوان لاي، خلال زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون للصين عام 1972، عن رأيه في أثر الثورة الفرنسية، قال قولته الشهيرة: "من المبكر معرفة ذلك". يبدو في الواقع أنه اعتقد أن السؤال كان حول الثورة الطلابية الفرنسية عام 1968 في وقت سابق بأربع سنوات فقط. المهم في الأمر أن الحذر على أية حال عين الحكمة: ذلك لأن الاضطرابات الثورية عادة ما تستغرق سنوات أو حتى عقود، لتؤتي أكلها.

الثورة في فرنسا عام 1789 كانت نتيجتها في البداية دمارًا هائلًا وحالة إفلاس، ولكن بعد بضع سنوات ظهر نابليون الأول كزعيم فذ تولى قيادة فرنسا للسيطرة على أوروبا بأكملها. وأما في الصين بعد عام 1949، فقد تولى ماو تسي تونغ قيادة البلاد من حرب أيديولوجية مدمرة إلى أخرى، من "القفزة الكبرى إلى الأمام" التي أنتجت مجاعات هائلة إلى "ثورة البروليتاريا الثقافية العظمى" التي دمرت أجيالًا من رأس المال البشري في هجومها على المدارس والمتعلمين. وبحلول عام 1980، كان الناتج المحلي الإجمالي لكل الصين قد انخفض إلى أقل من نصف الناتج المحلي لفرنسا، غير أن اقتصاد الصين بعد جيل لاحق، أصبح بفضل بعض العمليات الحسابية أكبر اقتصاد في العالم.

تقلبات الثورة

أحببت ذكر هاتين الحالتين لأبيِّن أنه مهما كانت الأمور تبدو كارثية في السنوات القليلة الأولى من الثورة، فإنها يمكن أن تتحول بشكل مختلف تمامًا في بضع سنوات منذئذٍ. ما يهم في تشكيل المستقبل هو ما إذا كانت تعبئة السكان تسير على نحو فعال، سواء ظهرت قيادة شرسة ومنضبطة أو واسعة الأفق ومستوعبة للكل، وما هي التحديات والفرص التي يوفرها النظام السياسي والاقتصادي العالمي. الثورات العربية أظهرت نسقًا كاملًا من التحولات على هدى هذه المتغيرات، وبالتالي كانت هناك مجموعة واسعة من النتائج حتى الآن:

إنه من الضروري أن يكون واضحًا أن أحداث 2010-2014 في شمال إفريقيا وبلاد الشام هي في الحقيقة ثورات. وقد يجادل البعض، مستاء بسبب أن الآمال في التغيير الديمقراطي قد تبددت، بأن هذه ليست ثورات. ويدَّعي هؤلاء النقاد أن شيئًا لم يتغير -فمصر لا تزال تحت قبضة نظام استبدادي بقيادة ضابط عسكري سابق أو أن الأمور قد ساءت، أو تدحرجت نحو حالة من الفوضى فقط، كما هي الحال في ليبيا وسوريا. قد يكون هذا صحيحًا في هذه اللحظة، ولكنه لا يقدح في كون هذه الأحداث ثورات.

الثورات بطبيعتها قد تأتي في بعض الأحيان بأعتى الديكتاتوريات أو بالفوضى كنتائج قصيرة الأجل؛ فالثورتان: الفرنسية والروسية جلبتا معًا سنوات من الحروب الأهلية الشرسة والإرهاب، كما أن العديد من الثورات أنتجت ثورات مضادة وديكتاتوريات، ولكن هذا لا يعني أنها لم تكن أحداثًا ثورية. فنحن بحاجة لتجاوز الأسطورة (التي نادرًا ما يدركها الناس) أن الثورات تُحدِث تحولات مفاجئة من نوع نظام سياسي ما إلى آخر مختلف تمامًا. هذا وضع مثالي غالبًا، يشوبه الإدراك المتأخر. وحتى الثورة الأميركية عام 1776، يشار إليها أحيانًا بالثورة المثالية التي بشَّرت بالديمقراطية الدستورية في العالم الجديد، وهي عملية طويلة إذ خاضت المستعمرات الأميركية حربًا امتدت عقدًا من الزمان ضد الأسياد البريطانيين، تلتها اضطرابات محلية وارتباك تحت الدستور الكونفيدرالي. والدستور الذي نبجِّله اليوم لم يُعتمد حتى عام 1787، بعد سنوات عديدة منذ انطلاقة الشرارة الأولى للثورة في ليكسينغتون وكونكورد. وحتى ذلك الحين كانت الثورة لا تزال ناقصة حقًا؛ إذ ظلت العبودية وعدد من القضايا المهمة قائمة، كإجراء مراجعة قضائية للبت في دستورية القوانين، ليتم حسمها في السنوات اللاحقة.

الثورة النموذجية تمر بعدة مراحل، تبدأ مع انهيار النظام القديم، وتشمل فترة أولى من شهر العسل، مفعمة بالنشاط الانتخابي والحماس، ثم بعد ذلك تأتي فترة صراع على السلطة بين فصائل النخبة الذين يعملون أحيانًا على تأليب الإصلاحيين المعتدلين ضد المتطرفين، وأحيانًا المتطرفين ضد أعداء الثورة. هذه الصراعات على السلطة تؤدي في كثير من الأحيان إلى الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية. وقد يحسم هذه الصراعات إما الجماعات المتطرفة أو المحافظة بتوليها السلطة المطلقة وسعيها لتدمير خصومها. أو أنها قد تصل إلى طريق مسدود وحروب أهلية ممتدة؛ فانهيار النظام الإمبراطوري في الصين عام 1911 أعقبته حروب أهلية امتدت حتى عام 1949. وفي بعض الحالات قد تتوصل فصائل النخبة إلى تسوية أو اتفاق وإنتاج نظام شامل وأكثر ديمقراطية، غير أن هذه النتيجة لا تتحقق إلا في ظل ظروف خاصة نوعًا ما، والتي سوف نتطرق لها أدناه.

الخطأ الرئيسي الآخر في مناقشة أحداث 2010-2014 هو اعتبار القوى والفعاليات الثورية مجرد "إرهابيين"؛ فعلى سبيل المثال في اليمن، ركزت حكومة الولايات المتحدة على مكافحة الجماعة الجهادية الإسلامية السنية ممثلة في تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وأهملت الظروف الأوسع نطاقًا من حيث انهيار الدولة وما ترتب على ذلك من ظهور الجماعات المتنافسة المشاركة في الصراع على السلطة. صعود الحوثيين الشيعة -الذين يرفعون لافتات تعلن "الله أكبر، الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"- كجهات فاعلة ومهيمنة وقادرة على إزاحة الحكومة في صنعاء لم يكن متوقعًا، ولا يزال المسؤولون الحكوميون الأميركيون يجهلون أمر الحوثيين ويسيئون فهمهم، بينما يركزون بشكل ضيق جدًّا على التهديد الإرهابي من القاعدة في جزيرة العرب. وينطبق الشيء نفسه فيما يتعلق بالسياسة الأميركية تجاه الدولة الإسلامية في سوريا وبلاد الشام. هذه المجموعة اعتُبرت أيضًا مجرد منظمة إرهابية أخرى، بدلًا من الاعتراف بها كجماعة راديكالية ثورية تسعى لبناء دولة.

الثورات العربية: مسارات مختلفة

بالتالي لابد من تحليل أحداث 2010-2014 في العالم العربي في إطار "الثورات" وليس باعتبارها مثالًا أسطوريًّا. لابد من دراستها في ضوء نسقٍ كاملٍ من العمليات الثورية كما نفهمها، من حيث انهيار الدولة إلى الصراع على السلطة والثورة المضادة، إلى ظهور الديكتاتوريات، والفوضى، أو في حالات نادرة أنظمة أكثر ديمقراطية.
تونس تقدم ما يشبه المفارقة؛ فقد كانت الثورة الأكثر نجاحًا؛ من حيث استبدال الديمقراطية الشاملة بالديكتاتورية الفاسدة، وفي نفس الوقت كانت أقل عنفًا من نظيراتها التي حدثت، ولكن هل هي حقًّا مفارقة؟ ما نعرفه عن تاريخ الثورات هو أن تلك التي تنطوي على أقل العنف، لاسيما تلك القادرة على تجنب الحرب الأهلية أو الدولية، من الأرجح أن تؤدي إلى نتائج ديمقراطية مستقرة. ومن هنا كانت الثورة التونسية غير عادية من مختلف الأوجه: أولًا: تم إبعاد الجيش عن السياسة، بحيث لم يدعم نظام زين العابدين بن علي ولم يتدخل بعد رحيل الديكتاتور ليدعم مجموعة معينة أو ينخرط في السلطة. ثانيًا: لم يكن هناك تهديد ذو جدوى من الثورة المضادة من الجماعات المسلحة. ثالثًا: النخب من مختلف المجموعات الذين ناضلوا من أجل الثورة -كقيادة حزب النهضة الإسلامي والجماعات الليبرالية المؤيدة للديمقراطية، والإصلاحيين من صفوف النظام القديم- اتفقوا على العمل معًا والتخلي عن السلطة طواعية بعد خسارة الانتخابات، بدلًا من تأجيج الاستقطاب والسعي لاحتكار السلطة.

وقد ساعد كل هذه العوامل عدة عوامل أخرى خفية تتفرد بها تونس عن سائر الدول العربية؛ فبفضل جهود طويلة الأمد يعود تاريخها إلى حكم الحبيب بورقيبة، أصبحت تونس على مستوى عالٍ من تعليم المرأة والمشاركة النسائية في منظمات المجتمع المدني والمنظمات السياسية، وقادت المرأة جهودًا متواصلة بحثًا عن حل وسط بدلًا من النصر الكامل، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى التعليم المتقدم للمرأة؛ إذ بدأت تونس التحول الديمغرافي بشكل أسرع من غيرها من الدول العربية، وبالتالي أصبح لديها نسبة أقل من الشباب -وخاصة الشباب تحت سن الـ20- بخلاف المجتمعات العربية الأخرى. ونعلم أن أكثر المجتمعات نضجًا عادة ما تكون أقل تعرضًا للتقلبات من المجتمعات الأكثر شبابًا. وأخيرًا، كان لتونس مؤسسات مجتمع مدني أفضل تطورًا -نقابات المحامين والمعلمين واتحادات العمال الآخرين- التي ساعدت على قيادة الاضطراب الشعبي وجعله معتدلًا طوال فترة الثورة.

لا تزال هناك مشاكل في تونس بطبيعة الحال -لا يمكن إحداث تحولات سياسية كبرى في أي مكان دون مواجهة تحديات مهمة. ومع ذلك، فإن هذه التحديات- متمثلة في معالجة الاختلالات الإقليمية، واستعادة القوة الاقتصادية، وبناء مؤسسات الحكم الفعَّالة والمشروعة -يجب أن تكون تحت السيطرة بفضل استمرار التعاون بين النخب الرئيسية. إن التعاون هو المفتاح- حتى تاريخ كتابة هذه السطور فإن الحكومة العلمانية الجديدة بقيادة الحبيب الصيد لم تحصل على دعم من أحزاب المعارضة الرئيسية الثلاثة: حزب النهضة والجبهة الشعبية، وآفاق تونس. إذا لم تنبثق حكومة جديدة من الانتخابات الشعبية الأخيرة، فإن تونس يمكن تنزجَّ مرة أخرى إلى عدم الاستقرار. (1)

وأما مصر فتبدو كأنها حالة واضحة من الفشل الثوري؛ إذ كانت مصر قبل 25 يناير/كانون الثاني 2011، ديكتاتورية عسكرية، ومصر في عام 2015 تحت ديكتاتورية عسكرية. ومع ذلك، يمكن القول أيضًا: إن فرنسا قبل عام 1789 كانت تحكمها عائلة بوربون الملكية، وأنها في عام 1814 كانت يحكمها نظام بوربون الملكي. الثورة والثورة المضادة، مهما يكن ما بينهما. الفرق الكبير هو في التعبئة الشعبية؛ فقبل عام 2010، لم يحتشد المصريون لأكثر من خمسين عامًا، منذ ثورة جمال عبد الناصر عام 1952، جماعيًّا دعمًا لتغيير الحكومة. ثم حدث ما حدث مرتين في تتابع سريع؛ فقد تحرك المصريون في عام 2011 لاحتلال المواقع الرئيسية في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، وغيرها من المراكز لقلب نظام حسني مبارك الديكتاتوري. وفعلوا نفس الشيء في عام 2013 في دعم انقلاب مضاد للثورة أسقط نظام محمد مرسي المنتَخب ديمقراطيًّا. على الرغم من أن مرسي أصبح رئيسًا في انتخابات حرة وتنافسية تعتبر الأولى في تاريخ مصر الممتد لخمسة آلاف عام، وبالتالي مثَّل طفرة ثورية حقًّا، إلا أنه انتُخب بأغلبية ضئيلة من قبل المصريين الذين خرجوا للتصويت؛ وبالتالي كان لديه ولاية ضعيفة في أحسن الأحوال، ولكنه قرر أن يتحدى كلًا من الجيش وجميع الفصائل المختلفة للمعارضة السياسية؛ الشيء الذي لم يكن ليتسامح معه لا الجيش ولا المعارضة من الجماهير؛ فأدى استقطاب النخبة إلى التعبئة المضادة للثورة من قبل النخب المعارضة، وبعد ذلك إلى سقوط مرسي بسرعة واستبدال المشير السابق عبد الفتاح السيسي به. لذا فقد استنتج البعض أن الثورة المضادة قد أرجعت الساعة إلى الوراء، وأصبحنا مرة أخرى في 2010.

بالرغم من ذلك، فإن التعبئة الجماهيرية التي حدثت في الفترة 2011-2013 لا يمكن التراجع عنها بسهولة، وليس خافيًا، أن في المراحل الأولى للثورات، قد تستعيد الثورات المضادة السلطة. كانت هذه هي الحال في المكسيك، على سبيل المثال، قبل قرن من الزمان عام 1913 عندما أطاح الجنرال فيكتوريانو هويرتا بحكومة فرانسيسكو ماديرو المنتخبة ديمقراطيًّا من السلطة، بعد عامين فقط من إزاحة ماديرو وأنصاره للديكتاتور بورفيريو دياز. وبحلول يوليو/تموز عام 1914 تنازل هويرتا بنفسه عن السلطة، بعد أن واجه معارضة متنوعة. ويبدو حكم السيسي في مصر أكثر صلابة، ولكن إمكانية حدوث انتفاضات جماهيرية لا تزال قائمة تحت السطح. وعلى الرغم من التعامل بقسوة مع الاحتجاجات المتزايدة -حيث قُتل ما يصل إلى عشرين شخصًا خلال الاحتجاجات الأخيرة التي رافقت الذكرى السنوية لثورة 25 يناير/كانون الثاني- فقد أعادت جماعة الإخوان المسلمين التعبئة من تحت الأرض، فضلًا عن أن مستوى الاستياء لا يزال مرتفعًا بين أولئك الذين سعوا لإيجاد نظام أكثر ديمقراطية وحكومة مسؤولة. علاوة على ذلك، فإنه باختيار الحكم بطريقة استبدادية، مع الإقصاء الكامل للمعارضة الليبرالية والإخوان المسلمين، يكون السيسي قد اتخذ مسارًا مختلفًا جدًّا عن قادة تونس الذين سعوا لإيجاد ائتلاف حكم واسع وشامل. وقد شجع السيسي الاستقطاب ووضع أسسًا لمزيد من الصراع، وهو النمط الذي أدى في الثورات الماضية إلى مزيد من التطرف وتجدد اندلاع الحراك السياسي الجماهيري.

يعتمد الوضع كثيرًا على قدرة حكومة السيسي على الوفاء بوعودها الخاصة بتنشيط النمو الاقتصادي، وأما إذا أخفق في ذلك، فقد يستطيع أن يدفع لأنصاره في الجيش والحكومة، ليستمر في قمع المعارضة. وإذا استمر الاقتصاد في الانهيار، تنخفض موارد السيسي، فيجد أن صعوده عبارة عن دورة واحدة فقط في قصة الثورة المصرية الحالية في القرن الحادي والعشرين، وهي القصة التي يمكن أن تستغرق عقودًا لتؤتي أُكُلها.

وأما في ليبيا واليمن، البلدين الآخرين اللذين طُرد قادتهما أيضًا من السلطة، وكذلك في سوريا، تحتدم الحرب الأهلية. الحروب الأهلية الثورية عادة ما تكون طويلة ووحشية وقد تستغرق من أربع إلى خمس سنوات في أحسن الأحوال. والحروب الأهلية الثورية أيضًا عادة ما تنتج التطرف الأيديولوجي، مع صعود المتطرفين إلى صدارة المشهد. وفي كل الحالات الثلاث، نجد أن جذور القوى التي تصعد إلى السلطة طائفية -كالميليشيات الإسلامية في ليبيا وسوريا، والزيدية الشيعية في اليمن-. مرة أخرى، هذه دينامية مألوفة في الثورات؛ فبعد انهيار النظام القديم، تتبعه صراعات على السلطة، وفي هذه الصراعات تحصل الفئات الأكثر قسوة، في كثير من الأحيان، على ميزة تكتيكية، والمجموعات الأكثر راديكالية هي التي غالبًا ما تكون الأقدر على كسب التأييد الشعبي. ذلك لأن في ظروف انهيار الدولة والفوضى، ينحاز الناس قبل كل شيء إلى المجموعة التي يمكن أن تحميهم. وفي كثير من الحالات، تكون الجماعات المتطرفة القاسية والملتزمة عقائديًّا هي من يمكن أن تفعل ذلك. وعليه، فليس من المرجح أن تنتهي الحروب الأهلية في ليبيا واليمن وسوريا قريبًا، وفي الوقت نفسه توفر أرضًا خصبة للحركات المتطرفة على نحو يمكِّنها من أن تتزايد وتترسخ وتنمو. قد يمتد الأمر لسنوات لتهدأ هذه النزاعات، وخصوصًا عندما تشارك فيها القوى الأجنبية -روسيا والولايات المتحدة وتركيا والسعودية وإيران- في دعم هذا الطرف أو ذاك لحماية أهدافها الخاصة.

يمكن فهم ظاهرة الدولة الإسلامية بطريقة أفضل في هذا السياق -حيث إنها تجاوزت الوضع الثوري إلى بناء دولة جديدة راديكالية، وثورية- ونظرًا لانهيار السلطة في شرق سوريا وغرب العراق في أعقاب الثورات التي اندلعت ضد الأنظمة الفاسدة على نحو متزايد وضد الطائفية (العلوية في سوريا والشيعية في العراق)، فقد انفتح المجال لمختلف الفئات لإيجاد دعم شعبي لسلطة بديلة. تنظيم القاعدة في العراق، أبرز تلك الجماعات وأشرسها وأكثرها انضباطًا فكريًّا، هو الذي تولَّى دورًا قياديًّا واختار تطوير الإدارة المحلية، وإنشاء الدولة الإسلامية في سوريا وبلاد الشام. قيادة الدولة الإسلامية تستخدم التكتيك القديم، المعروف عند الثورات الفرنسية والروسية والصينية، ألا وهو "نشر الإرهاب" لتأكيد سلطتها على منطقة كبيرة.

غير أن الدولة الإسلامية ليست مجرد منظمة إرهابية أخرى، بل كسبت خبراء مهرة من النظام العراقي السابق صدام حسين وشرعت في تنفيذ برنامج لبناء الدولة، وسعت واكتسبت مجنَّدين من المجتمعات السنية في جميع أنحاء أوروبا وشمال إفريقيا، وحصلت على الأسلحة والمال، واستطاعت بالتالي تنظيم قوات عسكرية فعالة. ولها خطاب أيديولوجي ثوري مقنع، مدعية أن قتالها إنما لاستعادة الكرامة والقوة لجميع السُّنَّة الذين تم قمعهم من قبل القوى الغربية الكافرة والأنظمة الشيعية الزنديقة، وأنها تهدف إلى خلق عالم أكثر عدلًا وازدهارًا للمسلمين السنة بقلب الأنظمة الشيعية والطغاة الكاذبين الذين تدعمهم تلك القوى الغربية على حد سواء.

لقد ثبت أن الآمال في إسقاط الدولة الإسلامية بسرعة أصبحت خائبة، ذلك لأن خصوم الأنظمة الثورية على مرِّ التاريخ يقللون من شأنها. لقد ظنَّ صدام حسين أنه يمكنه سحق الجمهورية الإسلامية الوليدة في إيران، إلا أنه هو الذي سُحق. وظن كل من الروس والأميركيون أن بوسعهما تدمير طالبان في أفغانستان، إلا أنهما اعترفا بعدم قدرتهما على ذلك بعد عقود من القتال. واليوم نجد أن البلدان التي تدعي معارضة الدولة الإسلامية لا يمكنها حتى الاتفاق على استراتيجية لمحاربتها؛ فتركيا والمملكة العربية السعودية اشترطتا الانضمام إلى القوات الأميركية فقط إذا كان الهدف النهائي في القتال هو إسقاط نظام بشار الأسد، بينما اشترطت ايران الانضمام إلى هذا القتال إذا تم تأكيد استمرار حكم الأسد. استراتيجية المملكة العربية السعودية القائمة على بناء جدار بينها وبين جزء من العراق الذي تسيطر عليه الدولة الإسلامية قد يكون لحماية الدولة الإسلامية وحماية السعوديين. وقد تخسر الدولة الإسلامية بعض المعارك، مثل مدينة كوباني أو غيرها من المدن. ومع ذلك، فمن المرجَّح أنها قد تتحمل مثل هذه الخسائر إذا استفادت من انقسامات معارضيها. ويبدو أن أحد التجليات غير المتوقعة للثورات العربية سيكون دولة ثورية راديكالية جديدة في قلب الشرق الأوسط.

على عكس ما كان متوقعًا، وربما من أكبر المفارقات، أن الدولة التي ربحت أكثر من الثورات العربية ليست دولة عربية على الإطلاق، وهي جمهورية إيران الإسلامية. بدت إيران عام 2011، أنها سوف تكون معزولة ولا أحد يعيرها اهتمامًا. وبينما سبق أن سحقت ايران انتفاضتها الشعبية عام 2009، بدا في تونس ومصر وسوريا، وفي أماكن أخرى أن شعوب الدول العربية كانت تتوق إلى الحرية وتطيح بالديكتاتوريات التي طال أمدها. وبعد مرور شهر العسل الثوري الأولي، غرقت هذه الدول في موجة من الثورة المضادة والحروب الأهلية، وأصبحت إيران في وضع أفضل مكَّنها من الاستفادة من انهيار النظام. اليوم يسيطر حلفاء إيران على قلب سوريا، وعاصمة اليمن، وما تبقى من العراق، بينما حليفها حزب الله يلعب دورًا رئيسيا في لبنان. وفي الوقت نفسه، يجد خصوم إيران الكبار كتركيا والمملكة العربية السعودية أنفسهم غير قادرين -على نحو متزايد- على التأثير، فضلًا عن نزاعاتهم داخلية.

تقلبات قادمة

ربما الشيء الوحيد المؤكد حول الثورات هو أنه مهما يكن عليه الوضع في السنة الأولى أو الثانية من العملية الثورية، فمن المرجح أن يكون الوضع مختلفًا تمامًا في بضع سنوات لاحقة. والثورات العربية لا تزال في خضم الحالة الثورية، وبوسعنا أن نتوقع تغييرات أخرى مفاجئة من حيث الاتجاه ونتائج التحول في السنوات المقبلة. من المؤكد لنا جميعًا هو أنه من الصعب على أية قوة منفردة -سواءً كانت أجنبية أو محلية- تحديد المسار المستقبلي للمنطقة، وكما هي الحال مع أغلب الثورات، فإن الصراعات التي تُرِك لها العنان ستستمر لسنوات، وربما عقود.
_________________________________________________
* جاك غولدستون: خبير في الثورات بمركز وودرو ويلسون للأستاذية، وأستاذ بجامعة جورج ماسون. كتابه "الثورات: مدخل موجز" منشور بمطبوعات جامعة أكسفورد في 2014.

الهوامش:
(1) الورقة مكتوبة بالانجليزية قبل تشكيل الحكومة التونسية.

ABOUT THE AUTHOR