الديمقراطية الإفريقية في سيـاق التغيرات الدستورية: الحالة الكونغولية

يقدم هذا التقرير قراءة للمشهد السياسي في جمهورية الكونغو وكيف يتفاعل السياسي بالاجتماعي في هذا البلد الإفريقي. كما يعطي التقرير قراءة لصراع اللاعبين السياسيين في البلد وعلى رأسهم الرئيس الحالي ساسو انغيسو الذي ظل يدير المشهد إدارة لم تخل من تعثرات وانسداد في المسار السياسي.
2015121111343123734_20.jpg
الرئيس الكونغولي دنيس ساسو انغيسو الذي حكم البلاد أكثر من 31 سنة [رويترز]

ملخص

مع تأسيس الدول الوطنية في إفريقيا وخصوصا تلك التي كانت ضمن المستعمرات الفرنسية غداة حصول دول القارة على الاستقلال ظهرت طبقة المؤسسين السياسيين الأوائل ممن تكونوا في المدارس الفرنسية، وتم تأطيرهم من أجل تسلُّم السلطة والتكفل بإدارة البلدان وملء الفراغ الذي ستخلِّفه مغادرة الفرنسيين. والواقع أن ما كانت تطمح إليه الشعوب الإفريقيـة من انعتاق وتحرر تجسدا في مكافحة الاستعمار لم يكن هو المشروع الذي تتبناه النخب الوطنية المدرَّبة والمكوَّنة من طرف الاستعمار الفرنسي. فقد كانت هذه النخب تسعى لتأسيس وتوطيد حكمها. وبالنسبة لجمهورية الكونغو بشكل خاص فإن استلام الرئيس آبي فيلبيرت يولو، المقرب من السلطات الاستعمارية للسلطة غداة الاستقلال كان خيبة أمل لمطامح الشعب الكونغولي.

ومع وصول الرئيس ساسو انغيسو للسلطة وقعت الكونغو في قبضة الأنظمة المنبثقة عن المؤسسة العسكرية، وظل الدكتاتورية أبرز شعار للمشهد السياسي. وقد عرفت الكونغو مسارا تعدديا مع بداية تسعينيات القرن الماضي غير أن الرئيس انغيسو ظل في السلطة رغم الاستحقاقات الانتخابية التي جرت. ومع أنه هزم في استحقاق سابق من تلك الاستحقاقات إلا أنه عاد عودة قوية إلى السلطة وهي عودة كرست مسارا سياسيا أعاد الكونغو للتأزم السياسي وانسداد أفق التغيير.

يُعتقد على نطاق واسع أن إفريقيا عرفت إدخالَ الوثيقة الدستورية والتشريعات القانونية المتفرعة عنها بالتزامن مـع نهاياتِ الحقبة الاستعمارية، حين اجتاحت هذه الظاهرة بشكل متسـق معظمَ الدول الإفريقية حديثـة الاستقلال، وفي كثير من أنحاء القارة تمخضت الدساتير المبكـرة عن أنماط أخرى من الانتهاكات الداخلية التي لا تقل استبدادًا عـن الاستعمار الخارجي. لم يكن من المتوقـع أن مرحلة ما بعد الاستقلال ستشهد التأسيس من قِبل النخب الإفريقية لنمط متصل من السلطة يعطي أهمية كبرى لدور شخص الحاكم في ظل نظام سياسي يقف على رافعـة الحزب الواحد، لقد مضى الآن خمسة وخمسون عامًا على استقلال أغلب دول جنوب الصحراء حيث يُلاحَظ تزايد حرص الأنظمة على منع التعددية الحزبية والحياة الديمقراطية.

إن تفاعـلات البيئة السيـاسيـة ذات الصلة بعملية التحول الديمقراطي بإفريقيا لم تنشأ من فراغ وإنما حدثت انسجامًا مع الإرث الإفريقي المَكرِّس للزعامات الفردية والتفرد بإدارة السلطة والحكم، وربما مكَّنت الخصوصيات الثقافية والإثنيـة لبعض الزعماء الأفارقة من الاستمرار في الحكم وبسط النفوذ على الدولة ومرافقها الإدارية ومؤسساتها الدستورية دون أن تتيح للأفراد أو المواطنين العاديين خلال سنين وعقود أن يحظَوْا بضمان المشـاركة أو بحرية الاختيار إلا بالقدر الضئيل وضمن دائرة اجتماعية وحزبية ضيقة.

لكي نفهم معنى الفعل أو السلوك على المستوى الفردي يرى ماكس فيبر(1) أنه لابد من النظر إلى النوايا والدوافع والأسباب والاهتمامات التي تكمن وراء سلوك الجماعة الإفريقيـة، فـما بالك إذا كان الأثر متأتيًا من الأديان الوثنية وتقاليـد الحكماء المشـاعة بيـن الأوساط الاجتماعية التي ينحدر منها الحكام الجدد غالبًا، ومنها يستمدون مشروعيتهم السياسية. لقد كانت هذه المجتمعات تدار دائمًا بمضمون الحكمة الشائعة "السلطة تبقى حيث الجماعة"، والتي يؤكد من خلالها الأفارقة علي مبدأ توارث السلطة بشكل عام.

تحتفـظ الأعراف والتقاليد الإفريقية ما قبل الاستعمار الأوروبي بتـراث نسبي مـن الاستقرار السياسـي وخاصة إذا تعلق الأمر باستتباب الحكم المركزي لشخص معيـن أو الهيمنة السياسية لجماعة أو عرق معين. وهكذا يـدار الحكم السياسـي بطريقة المجتمعات البدوية بحيث يعتمد المرء على التحالفات النَسَبِيَّةِ والقبليةِ بوصفها أعرافًا ونُظُمًا قادرةً على تطويـع الأوضاع السياسية لصالح الحاكم.

ولتحديد المجال، فقـد اعتاد الفرد والجماعة في المجتمعات التقليدية بدول غرب إفريقيا على "الخضوع لسطوة المشاعر العُرفية والمصالح القَبَلية وإلى استفراد وتبجيـل رئيس أو شيخ القبيلة بالسُّلطة المركزية والسُّلطـة التقديرية فيما يتعلق باستخدام القوة والعقاب والتمتع بحق اتخاذ القرار والتنفيـذ"(2)، ومن أجل ترسُّخ هذه المعتقدات الشعبية يذهب الكاتب مويس تشومبيه Moïse Tshombe (توفي 1969) إلى أن الناس العاديين في إقليم كاتانغا في الكونغو (زائير) بدَوْا غير مقتنعين بالاستقلال ومغادرة البلجيكيين البيض ما دام لم يُؤكَّد لهم ذلك من قِبل ملك لوندا التقليدي مواتا يامفو. من بين هـذه المجتمعات يمكننا إيراد حالة ممالك الكونغو (Les Kongo)، التاكييص (Tékés) أو إثنية الأمبوشيس (Mbochis) بالكونغو الفرنسية؛ حيث تجنح هذه المجتمعات المنغلقة على نفسها حتى الآن إلى الاعتقاد بسطوة الأعراف الاجتماعية على القيم الحداثوية بما في ذلك التشريعات الدستورية. والملاحَظ تشبث رجال السياسة بالكونغو بهذه الأعراف المتوارثة سعـيًا منهم لضمان مكانة سياسيـة في الدولة الحديثة أو لتحقيـق انسجام اجتماعي مأمول في كل الأوقات، وحتمًا ستقود هذه الدوافع إلى انتشار الفساد وإساءة استخدام السلطة العامة.

من الصعب أن يجد الباحث ما يكفي من سجل الأجداد حول الحقب الغابـرة من حياة القبائل الإفريقية، لكن الروايات المحكية حول حركات النزوح الداخلي وأحجامها وأسبابها السياسية غالبًا ما تؤكِّد هجرة إثنية الإمبوشيس(3) الناطقة بلغة "البانتـو" من منطقة البحيرات الكبرى بإفريقيا الوسطى، في بدايات القرن التاسع عشـر لأسباب تتعلق بالصراعات الإثنية هنالك قبل أن تستقر قبائلها في شكلها النهائي سنـة 1850 بشمال جمهورية الكونغو الفرنسيـة، وضمن الجزء الغربي من جمهوريـة الكونغو الديمقراطية، كما أنها استوطنت دولة الغابون من الناحيـة الشرقية. وتمثِّل الإمبوشيس أقلية ديمغرافية في الكونغو (15% من التعداد العام للسكان) لكنها استطاعت التغلب في وقت مبكــر على السكان الأصليين من قبائل الأقزام أو "البيغمي"(4) واستعباد أكثريتهم. وفي التاريخ المعاصر حافظ رجالها على السلطـة المركزية في الكونغو-برازافيل فمنذ العام 1963 كان جميع الرؤساء ما عدا الرئيس باسكال ليسوبا (1992-1997) منحدرين من عِرقية الأمبوشيس.
 

أسباب وسيـاق اعتماد الدساتير في الكونغو

أفرزت مرحلة تأسيس الدولة الوطنية في إفريقيا ما بعد الاستعمار طبقة "مختارة" من الآباء المؤسسين ممن جرى تكوينهم من قِبل الإدارة الاستعمارية من أجل تسلُّم السلطة والتكفل بإدارة البلدان "المُحرَّرة" وملء الفراغ الإداري الذي سيخلِّفه الاستعمار الغربي. كشفت هذه المرحلة عن اتساع الفجوة بين رغبات الشعوب الإفريقيـة في ترجمة كفاحها ضد الاستعمار في القضاء على مواريثه، والنخب الوطنية المدرَّبة والمكوَّنة في إرساليات الاستعمار التبشيرية ومدارسه التعليمية التي تسعـى إلى التـشبث بالإرث الاستعماري من أجل تدعيم ركائز قوتها السياسية الناشئة.

بصفة عامة، شهدت الروح القومية الإفريقية انتعاشًا كبيرًا فـي ذلك الحيـن مما ساعد على إفـراز زعماء في صفوف الشباب الإفريقي من صنف الزعيم "كوامي نكروما" من ساحل الذهب (الاسم القديم لغانا)، وغيره ممن اكتسب شهرة وصِيتًا في حركات التحرر الوطني المطالِبة بتحرر الدول الإفريقية التام كخطوة تسبق إمساــك الأفارقة لزمام المبادرة في بلدانهم. أمَّا في جمهورية الكونغو الفرنسية -موضع بحثنا- فقد عبَّر الوطنيون الكونغوليون عن خيبة أملهم بعــد إعلان استقلال جمهورية الكونغو سنة 1960، حيث استلم السلطة الرئيس "آبي فيلبيرت يولو" وهـو أحد أبناء الإرساليات الفرنسية، فكان واحدًا من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في الكونغو-برازفيل، لدرجة أنه طيلة العقود التي أعقبت حكمه ظلَّ موضع "لعنة علـى بلاده" لما عُرف عنه من غرابة الأطوار والفساد والتسلط، من بين ذلك ادعاؤه النبوة بصفه أول رسول "زنجي"(5)، ومع كل هذا يُطلَـق عليه لقـب "الأب المؤسِّس!".

ترافقت ملامح إخفاق مشروع الدولة الوطنية في الكونغو مع استلام أول نظام سياســي وطني بقيادة الرئيس فيلبيرت يولو؛ مما دفع بالحركات الشبابية ذات التوجهات الاشتراكية والروح القومية الإفريقية لشـنِّ انتفاضة شعبية مشهودة سُمِّيت فيما بعد بـــ"الثلاثاء المجيدة" اضطُرَّ على إثرها الرئيس "يولو" إلى تقديم الاستقالـة للجيـش الكونغولي سنة 1963، وهكــذا شُكِّلتْ حكومــة مدنية مؤقتة بقيـادة "ألفونس ماسامبا-ديبا" وكان أن عُهد إليها بإصدار الوثيقة الدستورية الثانية لجمهورية الكونغو. من الناحية النظرية إذا اعتمدنا رأي ريموند كاري دي مالبيرغ (Raymond Carré de Malberg) فإن ميلاد أية دولة إنما "يُحتسب من الوقت عينه الذي تؤسِّس فيه أول دستور لها"(6)، وكان أن أصدرت الكونغو أول وثيقة دستورية لهــا سنة 1961(7).

أعلنت الكونغو-برازفيل استقلالها عن فرنسا يوم 15 أغسطس/آب 1960، لكن إصدار الدستور تأخَّر بسبب مناقشات سيـاسية ضمن طاولة مستديرة كان قد توالى انعقاد جلساتها منذ سنة 1959 للتحضيـر للاستقلال. تسبَّبت هذه الطاولة المستديرة في اندلاع صدامات عِرقية قادتها إثنية الإمبوشيس ضد أنصار آبي فيلبيرت يولو، أسفرت تلك الأعمال العـدائية عن سقـوط 120 قتيلًا وأكثر من 300 جريح أغلبهم من شعب اللاري الناطق بالكونغولية والذي ينتمي له الرئيس يولو، فكان أن وجَّهت السلطات الاستعمارية الفرنسية تهمة "التحريض على الفتنة والتمرد، والسلب والنهب" لزعيم الإمبوشيس جاك أوبينغولت(8)، مقابل التمكين لغرمائه التقليديين.

 ماذا حدث للكونغو؟

"كان على الدول الإفريقية حديثة الاستقلال في الستينات أن تشرع في إقامة دعائم هذا الكيان الجديد المتعطش لإثبات سيادته بكافة مظاهرها، والتي كان الدستور أهمَّها. إن هذه الدساتير تحكمت في صياغتها الزُّمَر العسكرية الحاكمة لدول ما بعد ما الاستعمار"(9). غير أن التنظير في مواد هذه الدساتير لم يقف دون تورط المؤسسة العسكرية الإفريقية في الانقلاب على المقتضيات الدستورية، وفي الحالة الكونغولية عرفت الجمهورية اعتماد سبعة دساتير من بينها ثلاثة قُدِّمت من طرف الرئيس الحالي دنيس ساسو انغيسو، وهكـذا جرى الاستفتاء على آخرها يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2015 لتنال الوثيقة الجديدة موافقة 92% من الأصوات المعبَّر عنها.اشتكت المعارضة الكونغولية من تغيير الوثيقة الدستورية التي لم تكن لتسمح للرئيس بالترشح ضمن ولاية ثالثة واعتبرها تحالف "الجبهة الجمهورية لاحترام النظام الدستوري والتغيير الديمقراطي (Frocad)" انتكاسة للديمقراطية(10).

وصفت الجبهة الرئيس ساسـو انغيسو بالاستبدادي واستنكرت مضايقاته لنشطائها ومحاصرته للقيادات الراديكالية، أمَّـا رئيس الجبهة "بول ماري أمبويليه" فقـد أخبر وسائل الإعلام بأن الشرطة كانت تحاصـر المظاهرات التي ينظمها الشباب الكونغولي في المناطق الجنوبية من برازفيل عاصمة الكونغو وأطلقت الذخيرة الحيـة فـوق رؤوس المعارضين "تعمَّدت قوات الأمن إطلاق النار والذخيرة الحية في الهواء، بالإضافة إلى إطلاق القنابل المسيلة للدموع بين الصفوف، كما حلَّقت طائرة هليكوبتر فوق المتظاهرين عندما كنت أتكلم"(11).

وقعت الكونغو سريعًا في قبضة الأنظمة المنبثقة عن المؤسسة العسكرية، فعملت الزُّمَـر العسكرية على الاستفادة من تناقضات الحرب الباردة الدائرة حينها بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، ولعل أكبر دليل على ذلك هو اعتماد الدستور الثالث للبلاد سنة 1969 بحيث فرض نظام الحزب الواحد إبَّان حكم ماريين انغوابي(12) الذي غيَّر تسمية البلاد لتصير "جمهورية الكونغو الشعبية" بعدما كانت الكونغو-برازفيل، وبعد تبنِّي نظامه الأيديولوجية الماركسية-اللينينية، كانت فاتورة هذا التوجه إلغاء البرلمان وتغيير ألوان العلم والنشيـد الوطنيين.

في تلك الحقبة السياسية من التاريخ الإفريقي تفاقمت الانقسامات الإثنية والقبلية بسرعة لتمثِّل أكبر حاجز أمام مساعي الساعيــن للاندماج الوطني؛ فقــد غدا الصراع ذا طبيعة إثنية خالصة، واتضـحت المطامع الأجنبية لدول الجوار ولجوء دول متعددة لمساندة الأطراف المتصارعة. كما أظهـر المجتمع الدولي تجاهلًا كبيرًا لإراقة دماء المتصارعيـن على السلطة.

خلال الفترة ما بين 1997-1999 اندلعت بيـن القوات الحكومية والمقاتلين التابعين لدنيس انغيسو أعمال عنف تطورت إلى أحداث على شاكلة الاقتتال الأهلي مما أسفـر عن مصرع ما يناهز العشرة آلاف كونغولي، غير أن هذه الأحداث المأساوية شكَّلت معبرًا أوصل انغيسو إلى سُدَّة الحكم، ففي 25 أكتوبر/تشرين الأول 1997 أدَّى اليمين الدستورية رئيسًا للبلاد.

فور توليه الحكم، أعلن ساسو انغيسو أنه "مستعد للسماح بعـودة الحياة الديمقراطية"، لكن هـذا المسعى لم يطُل كثيرًا حيث أجهضه تجـدد القتال مع الجماعات المعارضة والمتمردة قبل توقيع اتفاقيات السـلام في 1999. شكَّلت الانتخابات المواليـة فرصة سانحة لفوز انغيسو بما يقارب 90% من الأصوات أمام منافسيه الرئيسيين باسكال ليسوبا وبيرنارد كوليلاس اللذين شكَّكا فورًا في نزاهة الاقتراع.

التحول الديمقراطي في الكونغو

بعـد سقوط المعسكر الاشتراكي عمل نظام الرئيس الحالي على اكتساب الشرعية الديمقراطية فأقدم على عقــد مؤتمر وطني أشـرك فيـه أبرز معارضيه ليقرر في أعقابه تسييـر فترة انتقاليـة أفضت بدورها إلى الإعلان عن الدستور الخامس منذ استقـلال البـلاد، ألغـى انغيسو صفة الجمهورية الشعبية الكونغولية بعد ما انقلب علـى التوجهات الماركسية للنظام واتجه مباشرة لإعادة الهيكلة الاقتصادية من أجل العـودة بالبلاد إلى الليبرالية الاقتصادية.

في ديسمبر/كانون الأول 1989 أعلن النظام عن نهاية سيطرة الحكومة على الاقتصاد الوطني والحـد من مستويات الفساد الحكومي كما أعلن الرئيس عن إصدار عفو جزئي عن السجناء السياسيين. وفي سبتمبـر/أيلول 1990 سمح للأحزاب السياسية المعارضة لحكمه بمزاولة مناشطها السياسية ثـم أدى زيارة دولة "رمزية" إلى الولايات المتحدة الأميركية، وفي وقت لاحق من نفس العام تلقَّى نظامه سلسلة جديدة من قروض صندوق النقد الدولي المشروطة. إن أقل ما يمكن قوله عن هذه التدابير: إنها فضحت الانتهازية الواضحة لحكام برازفيل حيال تناقضات الحرب الباردة وصراع المعسكرين: الرأسمالي والاشتراكي.

وكما رأينا، فقـد سعـى الساسة الكونغوليون إلى الاحتفاظ بكثير من ملامح الفترة الاستعمارية ولاسيما سياسات القمع والإكراه المادي وتشريـع مجالات احتكــار الحُكم؛ حيث ضمَّن المُشرِّع الكونغولي دستـور البلاد الأول احتكار التعدديـة الحزبية والسياسية عبر إرساء دعائم الحزب الواحد، وفي المقابل أفسـحت النصوص الدستورية المجال أمام نخب كونغولية مؤهَّلة لأن تستغل أدوارًا اقتصادية وسياسيـة في بلادها حديثة التأسيس. مقابل تسخيـر الدولة وأجهزتها حَصَلَت الكوادر الكونغولية مواقع اجتماعية وإثنية متقدمة دون ابتكار أي تحول ديمقراطي جاد؛ ففي جمهورية الكونغو، كما في دول إفريقيا جنوب الصحراء، سُمِحَ للأنظمة الوطنية بتجريب وتعديل وترقيع دساتير لا تتصل بالواقع الفعلي الذي تعيشه بلدانها كما لا تعكس المتطلبات الفعليـة لشعـوبها، وإنما ترتبط ارتباطًا وثيقا بالمصالح الشخصية لحكامها وتوجهات الأنظمة الفردانية والأيديولوجية وحتى الإثنية.. في نهاية المطاف استلهمت هذه الدول دساتيرها الوطنية بصفة مشوَّهة من دستـور الجمهورية الفرنسية الخامسة. إن التورط الفرنسي في إفريقيا يتجاوز المرجعيـة التشريعية إلى مجالات المنافع الاقتصادية ونهب وتبديد ثروات بلد كالكونغو-برازفيل؛ ذات الخصائص الاقتصادية الهائلة من حيث الطفرة النفطية والثروات المنجمية بالإضافة إلى الأخشاب المدارية مثل الأبانوس.

ساسـو انغيسو وتحديات الولاية الرئاسية الجديدة

جمهورية الكونغو-برازفيل، نسبة إلى عاصمتها ولتمييزها عن جارتها الكونغو الديمقراطية التي تُسمَّى بدورها أحيانًا الكونغو-كينشاسا، تطلُّ عبر شريط ضيق على المحيط الأطلسي، فيما تُقدَّر مساحتها الصغيرة نسبيًّا بـ 342 ألف كيلومتر مربع تحدها الدول التالية: الغابون، والكاميرون، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأنغولا، فيما يبلغ عـدد سكانها ما يقرب من 4,5 ملايين نسمة. كانت هذه الجمهورية الصغيرة عُرضـة لضغـوط متواصلة من الجهات المانحة والمناشدات الغربية القاضيـة بجرِّ قادتها لتعميم التعددية الحزبية والانفتاح على الممارسات الديمقراطية، فخلال مرحلة إعادة الهيكلة المؤسسية وولوج البلاد للاقتصاد الحر مارس البنك الدولي دورًا لا يُستـهان به في مجال تقديم القروض مقابل تجذير أنماط من "الحوكمة الرشيدة" في الممارسات الإدارية لمشاريع التنمية، كما شكَّل مؤتمر الدول الإفريقية والفرنسية المنعقد في "لا بول" يونيو/حزيران 1990، نقطة تحول مهمة في توجهات الرئيس الكونغولي دنيس ساسو انغيسو. مع مطلع العشرية الأخير من القرن العشرين وصلت القارة السمراء موجةٌ رابعة من الدمقرطة(13) فكان عرَّابَ هذه المرحلة الرئيسُ الفرنسيُّ السابق فرانسوا ميتران الذي أفضى خطابه الشهير إلى انفتاح منطقة إفريقيا جنوب الصحراء على الممارسات الديمقراطية. ومع أن التجربة تعرضت للتشويه على سواحل القارة الإفريقية المضطربة إلا أنها شكَّلت نشازًا في الكونغو ففـي العام 1992 خسر انغيسو الانتخابات أمام منافسه باسْكال ليسوبا(14)، ليتحول بعدها إلى قيادة المعارضة في البلاد.

بعد عودته القوية إلى السلطة لم يعد من الوارد، أن يُعيد انغيسو تجربة إشــراك أحزاب المعارضة الكونغولية في تسيير شؤون الحكم، أو أن يخطط لانفتاح سياسي آخر أو أن يلج تدشين إصلاحات اجتماعية وديمقراطية قد تنال من أركــان نظامه، يقـول مناصرو الحزب الحاكـم: إن الحوار السياسي الذي انعقـد ما بين فبراير/شباط ويونيو/حزيران من سنة 1991 وأفضـى إلى حكومة انتقالية برئاسة المعارِض آندريه ميلونغو قـد ألَّبَ الرأي العام الكونغولي على انغيسو حيث حصل بعدها مباشـرة في أغسطس/آب 1992 على نسبة 17% من الأصوات التي أهَّلته حينها للحلول في المركز الثالث.

الآن وبعد 30 سنة من الحُكم، ما أبرز التحديات التي يُنتظر أن تواجه الرئيس الساعي إلى التجديد لنفسه في ولاية ثالثة العام القادم؟

على خلفية الاستفتاء على الدستور الكونغولي الجديد أقرَّت المحكمة الدستورية، نتائج الاقتراع المؤيد للدستور الجديد بـ92.32% من الأصوات المصرَّح بها، بينما وصلت نسبة المشاركة رسميًّا إلى 71.16%. يتيـح الاستفتاء لرئيس الكونغو تعديل الدستور، سعيًا وراء رفع عقبتين تحولان دون ترشحه لولاية ثالثة، ففي 2016 يستكمل انغيسو ولايته الثانية والأخيرة طبقًا للدستور الكونغولي السادس غير أنه يجد نفسه مجبرًا على فكِّ عقبة السنِّ القانونية للمرشَّح والمحدَّدة بـ70 عامًا؛ حيث إنه تجاوز بالفعل الـ 71 من عمره، بالإضافـة إلى فتح عهدة ثالثة لم يكن الدستور يسمح بها.

أمام هذه السابقة الدستورية رفضت الأحزاب السياسية المنضوية تحت لواء "الجبهة الجمهورية لاحترام النظام الدستوري والتداول الديمقراطي" و"المبادرة من أجل الديمقراطية في الكونغو" (وهما التحالفان الرئيسيان للمعارضة في الكونغو) التعاطي مع نتائج الاستفتاء لأسباب مختلفة؛ ففي تصريحات لوسائل الإعلام الدولية، تعهَّـد "بول ماري مبولي" بكشف تناقضات النظام وإظهار عدم قدرة الرئيس دنيس ساسو انغيسو على تسيير البلاد.

تعتقـد المعارضة الراديكالية أن الفساد يُثقِل كاهل الدولة الكونغولية كما يلاحــق الإخفاق سياسات النظام الاقتصادية، ويستأنس أصحاب هذا الموقف بتصنيف البنك الدولي(15) الكونغو-برازفيل ضمن "الشريحة الدُّنيا من البلدان متوسطة الدخل"، فيما تصل نسبة خط الفقر 16.7% للعام 2011، وتُظهــر مؤشرات التنمية التي تكشف عنها المؤسسة الدولية عـن وصول نسبة البطالة في صفوف الشباب إلى 10.6%، وعلــى صعيد تعزيز المشاركة السياسية للفئات الهشَّة لا تزال نسبة المقاعد التي تشغلها النساء في البرلمان 7%. وعلاوة على هذه المؤشرات تراهن المعارضة الراديكالية على غياب الإرادة السياسية لدى حزب العمل الكونغولي الحاكم في الكونغو، حيال معالجة ملفات الأمن والاستقرار الناتجين عن الركود الاقتصادي وتبديد الثروات إلى جانب انعدام الثقة بين الأقطاب السياسيـة الرئيسية في البلاد وكـذلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وسياسات الإقصاء والتهميش التي تطول الإثنيات المتعددة.

يعتقـد المراقبون أن قدرة المعارضة الراديكالية على التحرك والتعبئة الشعبية تقتصر على العاصمة برازفيل بالإضافة إلى الأقاليـم الجنوبية كولاية بوول، فيما تنتعش حظوظ الحزب الحاكم في وسط البلاد وشمالها حيث معقل الرئيس ساسو انغيسو، وهنا يتعلق التحدي بطموح ساسو انغيسو بالاستمرار في حكم الكونغو؛ الأمر الذي يهدد بإرساء قواعد نظام حكم شبيه بالأنظمة الملكية. بيـد أن وجود معارضة منهَكة لا يمنع من القول: إن إرادة الشعب الكونغولي من الصعب أن تُقهر، وليس غريبًا والحالة هذه أن تصفِّق الجماهير حين تدرك أن الجيش والحكومة لا يختلفان كثيرًا من حيث المزايا والمنافع عن الساسة المدنيين.
_________________________________________________
*عبيد ولد إميجن: كاتب موريتاني مهتم بالشؤون الإفريقية.

الإحالات
1- ماكسيميليان كارل إميل فيبر ‏(1864–1920): عالم ألماني في الاقتصاد والسياسة، وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث.

2- حول عملية التحول السياسي في إفريقيا يمكن الاستزادة عبر المدونة التالية، وقد تم تصفحها في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
http://maraji3-elondy.blogspot.com/2011/04/blog-post_8548.html 

3– عن عِرقيات الكونغو يمكن العودة إلى عدد من المواقع، من بينها موقع كونغو-بوليس الذي تم تصفحه في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
http://congopolis-brazza.blogspot.qa/2010/07/les-ethnies-au-congo.html

4- للاستزادة حول القبائل التي تعيش في الغابات على صيد الحيوانات، كتب الباحث نويل كوجيا بالفرنسية مقالًا مفيدًا في "ليبر آفريك" تم تصفحه في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
http://www.libreafrique.org/Kodia_pygmees_160112

5- أطلق عليه أتباعه تسمية رسول المسيح Jésus-Matswa. انظر: مقالة بالفرنسية بعنوان: "رؤية بروتستانتية للطوائف المسيحية بإفريقيا"، في الرابط التالي وقد تم تصفحه في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
https://www.google.com.qa/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=17&cad=rja&uact=8&ved=0ahUKEwionqP2s7XJAhVFuhQKHfQSCzw4ChAWCDMwBg&url=http%3A%2F%2Fhorizon.documentation.ird.fr%2Fexl-doc%2Fpleins_textes%2Fpleins_textes_5%2Fb_fdi_02-03%2F01123.pdf&usg=AFQjCNFt_XeGcbqRy_isOrK5RbpswNmjIg&sig2=IV9WxFSRRI-Jdk1ZRRK2IA&bvm=bv.108194040,d.ZWU

 6– انظر: "دو مالامبيرغ والحقوق الدستورية في الثورة الفرنسية" في الموقع التالي، وقد تم تصفحه في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2015: https://ahrf.revues.org/583

7- أول وثيقة دستورية في موقع "كونغو-ليبرتي" تم تصفحه يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
 http://congo-liberty.com/?p=4059

8– انظر موقع "آي تي إي سورسس"، وقد تم تصفحه في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
http://www.itnsource.com/shotlist//RTV/1959/02/27/BGY503110492/?s=evacuations

9- "الدساتير الإفريقية: الحاجة لانتفاضة دستورية وقوانين جديدة"، بحث للأكاديمي الجزائري بوحنية قوي، موقع مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ التصفح 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
http://studies.aljazeera.net/issues/2015/03/201532112647866325.htm

 10- عبَّرت فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن قلقها إزاء تمسك الرئيس ساسو انغيسو بالسلطة، ورفض المجتمع الدولي الاعتراف بنتائج الاستفتاء الدستوري.

11- انظر جريدة "لوموند-إفريقيا" الفرنسية، وقد تمت تصفح الموقع في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
http://www.lemonde.fr/afrique/article/2015/10/20/brazzaville-internet-mobile-et-signal-rfi-coupes-avant-un-meeting-de-l-opposition_4793082_3212.html

12– انظر مقالة بالفرنسية تحت عنوان: "مارين نغوبي: أسرار جريمة نكراء" في الرابط التالي، وقد تم تصفحه في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
http://www.dac-presse.com/actualites/a-la-une/politique/811-marien-ngouabi-les-petits-secrets-dun-odieux-assassinat.html

13- موجة الدمقرطة الثالثة: يُقصَد بها -وفقًا لتعريف هنتنجتون- تلك الموجة التي بدأت مع تحوُّل دول إسبانيا والبرتغال واليونان في مطلع السبعينات من القرن السابق، وذلك تمييزًا لها عن الموجة الأولى التي بدأت مع نشأة الديمقراطية الأميركية والبريطانية في القرن التاسع عشر، والموجة الثانية التي بدأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ونعتقد نحن أن تحوُّل الدول الإفريقية جنوب الصحراء نحو الديمقراطية يمثِّل الموجة الرابعة.

14- حول الزعيم باسكال لوسوبا يمكن العودة إلى العديد من المواقع والدراسات، ومن أبرزها موقع "كونغو-ليبرتي" في الرابط التالي الذي تم تصفحه في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
http://congo-liberty.com/?p=3638
15 - مؤشرات التنمية بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2015:
http://data.albankaldawli.org/country/congo-republic#cp_wdi

ABOUT THE AUTHOR