إثيوبيا ترفض أي حديث عن وقف البناء في السد لحين انتهاء المفاوضات (رويترز) |
ملخص تناقش هذه الورقة مسار المفاوضات الحالية بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سدِّ النهضة الإثيوبي، والعقبات التي تعترض هذا المسار، لاسيما على ضوء ما أسفرت عنه الجولة الأخيرة من المفاوضات التي عُقدت في الخرطوم أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي. وتُقدِّم الورقة قراءة في نتائج هذه الجولة، التي جاءت ضمن ما عُرف بـ"وثيقة الخرطوم"، وما إذا كانت هذه النتائج تُشكِّل أساسًا لتسوية شاملة للخلافات بشأن السد والأضرار المترتبة عليه بالنسبة لمصر والسودان. وتوضح الورقة من خلال استعراض بنود هذه الوثيقة، أن ما جرى في الجولة التفاوضية الأخيرة في الخرطوم كان محاولة لإنقاذ العملية التفاوضية ومنع وصولها لطريق مسدود. وتركِّز الورقة بشكل خاص على حسابات الموقف المصري في هذه المفاوضات، والاعتبارات والأسباب التي تدفع مصر للتمسك بها، رغم الإصرار الإثيوبي على بناء السدِّ بنفس المواصفات الفنية المثيرة للقلق. وتستعرض الورقة الآثار والأضرار التي ستلحق بمصر إذا ما تم الانتهاء من بناء السد بنفس مواصفاته الفنية الحالية، كما تحاول الإجابة على سؤال عمَّا إذا كانت مصر تملك خيارات وبدائل أخرى غير مسار المفاوضات. |
مقدمة
بعد مفاوضات شاقَّة استمرت على مدى ثلاثة أيام وخيَّمت عليها أجواء من التوتر، وقَّع وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا في العاصمة السودانية يوم 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي ما أُطلق عليها "وثيقة الخرطوم"، وتتضمن عددًا من النقاط لتسوية الخلافات الحالية بشأن مشروع سدِّ النهضة الذي تشيده إثيوبيا قرب حدودها الغربية مع السودان. وتؤكد هذه الوثيقة على الالتزام الكامل ببنود إعلان المبادئ، الذي وقَّعه قادة الدول الثلاث في شهر مارس/آذار الماضي بالخرطوم، كما تقضي بالاحتكام لنتائج الدراسات الفنية التي ستقوم بها شركتان فرنسيتان للاستشارات الهندسية حول المواصفات الفنية للسد، والآثار المترتبة عليه فيما يخص الحصص المائية لكلٍّ من مصر والسودان(1). وقد أوضح وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، في البيان الذي تلاه في ختام الاجتماعات، أن الشركتين، هما: "بي آر إل"، وهي الشركة التي اختارتها إثيوبيا، التي ستقوم بإنجاز 70 في المئة من الدراسات، بينما ستتولى شركة أرتليا إنجاز نسبة الثلاثين في المئة الباقية، على أن يبدأ العمل في إنجاز هذه الدراسات مطلع شهر فبراير/شباط المقبل، ويستغرق ما بين ثمانية أشهر وعام، وستكون نتائج هذه الدراسات ملزمة للدول الثلاث(2).
واتفقت الدول الثلاث على عقد جولة جديدة من المباحثات، مطلع فبراير/شباط المقبل، بمشاركة وزراء الخارجية والري بهدف استكمال بناء الثقة بينهم(3).
ويأتي التوصل لـ"وثيقة الخرطوم" بعد إحدى عشرة جولة من المفاوضات الفنية والسياسية عُقدت على مدى ثلاثة أعوام، وتنقلت بين عواصم الدول الثلاث لحسم الخلافات بينها حول السد الذي شرعت إثيوبيا في بنائه عام 2012. فهل ستسهم هذه الوثيقة في حلِّ الخلافات القائمة بين الدول الثلاث بشأن مشروع سد النهضة الإثيوبي؟ أم أنها مجرد خطوة محدودة على طريق طويل لتسوية الكثير من القضايا الخلافية؟ أم أنها لم تكن سوى محاولة لإنقاذ المفاوضات؟ وهل تُبدِّد هذه الوثيقة مخاوف الجانب المصري من الأضرار التي سيسبِّبها المشروع لاسيما أنها لم تتطرق للسعة التخزينية للسد ولا لسنوات ملء الخزان؟ وما آفاق هذه الأزمة والبدائل المتاحة أمام مصر في حال جاءت نتائج الدراسات لتؤكد صحة هذه المخاوف، وفي ظل إصرار إثيوبيا على مواصلة بناء السد؟
نزع فتيل الأزمة لا حلها
تعكس بنود الوثيقة الأخيرة تمسك الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا) بالمسار التفاوضي وحرصها على عدم إفشاله، دون أن يعني ذلك أنها تمكَّنت من تسوية الخلافات الجوهرية حول المشروع، سواء لجهة الآثار السلبية المتوقعة على دولتي المصب، أو فيما يخص المواصفات الفنية والإنشائية لهذا المشروع. فلم تتطرق الوثيقة، كما أشرنا آنفًا، إلى مسائل جوهرية مثل إمكانية إعادة النظر في السعة التخزينية للسد والتي تبلغ 74 مليار متر مكعب من المياه، أو ارتفاعه الذي يصل لنحو 145 مترًا. وحتى فترة ملء الخزان، التي تصر إثيوبيا على أن تكون خلال خمس سنوات فقط، تُرك تحديدها لنتائج الدراسات الفنية. ومن هنا، يمكن القول بأن الوثيقة الأخيرة كانت بمثابة خطوة لنزع فتيل الأزمة بين الدول الثلاث بشأن الخلافات القائمة أكثر من كونها تسوية كاملة لهذه الخلافات؛ فوفقًا لهذه الوثيقة استجابت إثيوبيا لبعض المطالب المصرية والسودانية، بتعهدات مكتوبة بشأن بعض النقاط الخلافية فيما يتعلق بسرعة الانتهاء من الدارسات الفنية للمشروع، والاتفاق على الاحتكام في ذلك للشركتين الفرنسيتين المشار إليهما، وعدم انفراد شركة "بي آر إل" بالدراسات، كما كانت تريد أديس أبابا، والالتزام بالنتائج التي تتوصلان اليها. كما تنص الوثيقة على "التزام إثيوبيا الكامل بما جاء في البند الخامس بإعلان المبادئ والخاص بمبدأ التعاون في الملء الأول وإدارة وتشغيل السد بناء على نتائج الدراسات الفنية المشتركة", وهو ما اعتبرته القاهرة خطوة مهمة على طريقة الاستجابة للشواغل والهواجس المصرية(4).
في المقابل، تُظهر الوثيقة أن القاهرة قد تخلَّت، على ما يبدو, عن بعض مطالبها من أجل إنجاح الجولة الأخيرة من المفاوضات؛ فقد خلت بنودها من أية اشارة لوقف العمل في المشروع لحين الانتهاء من الدراسات الفنية، وذلك كما كان يطالب الجانب المصري؛ وهذا يعني أن إثيوبيا ستواصل بناء السد كما هو مخطط له، حيث يُتوقع الانتهاء منه في عام 2017. ويرفض الجانب الإثيوبي أية دعوة لوقف العمل في المشروع، بل إن أديس أبابا، وعشية الاجتماع السداسي الأخير في الخرطوم، فاجأت الجانبين: المصري والسوداني بالإعلان عن إعادة النيل الأزرق لمجراه الطبيعي، بحيث تمر مياهه من خلال جسم السد للمرة الأولى منذ البدء في تشييده، وذلك تمهيدًا لبدء تخزين المياه خلفه(5). ومع أنها قامت بهذه الخطوة قبل أكثر من شهر من تاريخ المفاوضات، فإن اختيار توقيت الإعلان عنها كان، كما يرى المراقبون، رسالة واضحة بأن إثيوبيا لن توقف العمل في المشروع تحت أي ظرف. ورغم أن الجانب الإثيوبي أكَّد أن هذه الخطوة لا تعني بدء تخزين المياه خلف السد، فقد اعتبر بعض الخبراء أنها تتناقض مع ما نصت عليه بنود إعلان المبادئ، والذي أكَّدت عليه وثيقة الخرطوم؛ إذ ينص هذا الإعلان في أحد بنوده على ضرورة التنسيق والتشاور بين الدول الثلاث فيما يخص بدء ملء الخزان للمرة الأولى وكذلك الخطوات التشغيلية للسد. كما أن إعادة النيل الأزرق لمجراه الطبيعي توضح أن إثيوبيا قد انتهت من معظم الإنشاءات في جسم السد، في وقت كانت المفاوضات بين الدول الثلاث تراوح مكانها.
وبينما يعتبر الجانب المصري ما جاء في الوثيقة من تأكيد على الالتزام الكامل بوثيقة إعلان المبادئ، ولاسيما البند الخامس منها، أحد المكاسب المهمة التي حققتها مصر، فإن العديد من الخبراء يقلِّلون من شأن هذه المسألة، خصوصًا أن الإعلان نفسه يتضمن العديد من العبارات الغامضة والفضفاضة التي تتيح لكل طرف تفسيرها وفقًا لمصالحه. وفضلًا عن أنه لا يتضمن أية إشارة لحصة مصر المائية (55.5 مليار متر مكعب) فإن الإعلان يخلو أيضًا من أي ضمانات واضحة تلزم الأطراف المختلفة بما جاء فيه(6).
من هنا، يمكن وصف المفاوضات الحالية بأنها مفاوضات "إنقاذ ما يمكن إنقاذه" عبر تقليل الآثار المترتبة على المشروع لا تعديله، فبينما خلت "وثيقة الخرطوم" من أية إشارة إلى المطلب الخاص بإعادة النظر في سعة السدِّ التخزينية، التي يُجمع خبراء كثيرون على أنها ستؤثِّر بشكل مؤكد وخطير على حصة مصر المائية، اكتفى الجانب المصري بطلب زيادة عدد الفتحات في أسفل السدِّ، للسماح بزيادة التدفقات المائية إلى النيل الأزرق. وحتى هذا الطلب رفضه الجانب الإثيوبي، فبعد أن كانت إثيوبيا وافقت خلال مفاوضات الخرطوم على تشكيل لجنة فنية لدراسة الطلب المصري وبحْث "ما إذا كانت هذه الفتحات المطلوبة ضرورية وقابلة للتطبيق من الناحية الفنية"، عادت أديس أبابا لتُعلن على لسان مسؤول العلاقات العامة بوزارة المياه رفضها لهذا المقترح, وأنه لا توجد حاجة لزيادة الفتحات، وأن الفتحتين الحاليتين تتيحان ما يكفى من المياه لدولتي المصبِّ "مصر والسودان"(7).
مما سبق يتضح أن الدراسات الفنية، التي سينجزها المكتبان الفرنسيان, ستركِّز فقط، وهذا هو الأرجح، على تحديد المدى الزمني الأنسب لفترة ملء بحيرة السد، بما يقلل من تأثير عملية الملء على حصتي دولتي المصب من المياه، ولن تتطرق لأية مسائل أخرى بعد أن أغلقت إثيوبيا الباب تمامًا أمام أي حديث عن إجراء تعديلات جوهرية على المواصفات الإنشائية أو الفنية أو السعة التخزينية للسدِّ. وفضلًا عن أن هذا المطلب يصطدم برفض إثيوبي قاطع، فإن الوقائع على الأرض قد تجاوزته؛ حيث انتهت إثيوبيا مما يقرب من 50 في المائة من الإنشاءات كما يشير بعض التقارير.
القبول بالأمر الواقع
يمكن القول إذن: إن "وثيقة الخرطوم" وإن كانت خطوة جيدة في المسار التفاوضي الطويل بشأن سدِّ النهضة, فإنها تبين بوضوح أن سقف المطالب المصرية تراجع بشكل واضح فلم يعد الجانب المصري يتحدث عن رفض بناء السد، أو حتى مجرد المطالبة بوقفه مؤقتًا لحين الانتهاء من المفاوضات، بل أصبح الهدف المنشود هو تقليل حجم الخسائر والآثار السلبية المترتبة عليه. ومن ثم أصبح سقف المفاوضات يدور حول زيادة عدد الفتحات في جسم السد (وهو ما رفضته إثيوبيا، كما أشرنا لأسباب فنية)، أو العمل على تمديد فترة ملء بحيرة السد لأطول مدة ممكنة لتقليل حجم النقص الذي في حصة مصر المائية جرَّاء ذلك. وبينما تراهن القاهرة على أن تأتي نتائج الدراسات الفنية لتعزِّز موقفها في هذا الصدد من خلال التأكيد على أن يتم إطالة أمد فترة الملء، فإن ذلك لا يبدو كافيًا خصوصًا أنه لا توجد ضمانات حقيقية وملزمة بتنفيذ الجانب الإثيوبي لنتائج هذه الدراسات، التي ربما لن تظهر إلا مع اكتمال المشروع بشكل نهائي ليصبح أمرًا مفروضًا.
ولاشك أن هذه المعطيات تعكس التحول الدرامي في مواقف مصر من قضية مياه النيل وتخلِّيها عن أحد ثوابتها في هذا المجال، وهو تحول بدأت ملاحه في أواخر عهد مبارك وتعمَّقت بعد ذلك نتيجة الظروف السياسية والأمنية التي عاشتها مصر عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني. فلطالما عارضت القاهرة بقوة في السابق قيام إثيوبيا ببناء سدود على مجرى النيل، ووصل الأمر حدَّ التهديد باستخدام القوة العسكرية لمنع ذلك. كما ظلَّت مصر متمسكة بمبدأ ضرورة الإخطار المسبق من قبل أيٍّ من دول حوض النيل بشأن اقامة أي مشروعات على مجرى النهر، والتأكيد على الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل وفقًا لاتفاقيتي 1929 و1959. وظلَّ هذا الموقف ثابتًا طوال فترة حكم الرئيس عبد الناصر ومن بعده السادات وحتى نهاية عهد مبارك. وقد ظلَّت إثيوبيا ملتزمة بهذه الشروط المصرية، رغم عدم اعترافها بالاتفاقات الدولية أو الحقوق المائية التاريخية لمصر، حتى عام 2011، حين أعلنت عن إنشاء مشروع سدٍّ مائي على مجرى النيل الأزرق في منطقة "بنيشنقول" قرب حدودها الغربية مع السودان. وقد استغلت في ذلك الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة في مصر، وانشغال المصريين في همومهم الداخلية عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني، لتعلن عن بناء السد الذي أطلقت عليه في البداية اسم سد "بودر" أو "حداسه" قبل أن يتم تغييره ليصبح سدَّ الألفية الكبير، بسعة تخزينية 16.5 مليار متر مكعب وأسندت عملية إنشائه لشركة "ساليني" الإيطالية. وفي إبريل/نيسان 2012 تم وضع حجر الأساس للمشروع الذي تغير اسمه للمرة الثالثة ليصبح سدَّ النهضة الإثيوبي الكبير، لكن المفاجأة كانت في إجراء تعديلات كبيرة على المواصفات الفنية والإنشائية للمشروع، بحيث أصبحت سعته التخزينية، كما سبقت الإشارة، 74 مليار متر مكعب وارتفاعه نحو مائة وخمسة وأربعين مترًا، بينما يبلغ طوله على مجرى النيل الأزرق قرابة ألف وثمانمائة متر؛ ما يجعله أكبر سد مائي في إفريقيا. وتُقدَّر تكلفة بناء السد بنحو خمسة مليارات دولار، يُتوقع أن تصل إلى 8 مليارات دولار في نهاية المشروع، وسيكون بمقدوره بعد اكتمال تشييده إنتاج نحو ستة آلاف ميغاوات من الطاقة الكهربائية، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف الطاقة الكهربائية للسد العالي في مصر. وتعوِّل إثيوبيا كثيرًا على هذا المشروع الضخم في تلبية احتياجاتها من الطاقة وإقامة مشروعات تنموية في البلاد، وتنفي نيتها استخدامه في أي مشروعات زراعية، خصوصًا أنه يقام في منطقة صخرية مرتفعة شديدة الوعورة ولا تصلح لإقامة أي مشروعات زراعية. لكن الخطورة المترتبة عليه بالنسبة لمصر والسودان تكمن، كما أشرنا سابقًا، في سعته التخزينية الهائلة ومخاطر انهياره، ولعل ذلك ما جعل البلدين يربطان موافقتهما على بناء السد بالمشاركة في الإشراف على عملية ملء الخزان وتشغيله وبحث إطالة فترة الملء، فضلًا عن التأكد من المواصفات الإنشائية للمشروع.
ومع تسليم الجانبين المصري والسوداني بسد النهضة كأمر واقع، جرى، في شهر مايو/أيار 2012، تشكيل لجنة فنية تضم خبراء من الدول الثلاث لمتابعة تطورات عملية البناء في المشروع، ودراسة علاقتها بالتقرير الفني الذي أعدته لجنة دولية حول الآثار المتوقَّعة لهذا المشروع. وقد سعت القاهرة في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي لفتح قنوات حوار مع إثيوبيا بهدف إيجاد حلٍّ للازمة يُرضي الطرفين، لكن الاجتماع الذي عقده مرسي بقصر الرئاسة لمناقشة موضوع السد، بحضور عدد من السياسيين وقيادات الأحزاب وأُذيعت تفاصيله على شاشة التليفزيون المصري، تسبَّب في أزمة بين البلدين استغلتها إثيوبيا لوقف المفاوضات بينما استمر العمل في بناء السد.
وعقب إطاحة الجيش بمرسي في 3 يوليو/تموز 2013 وانتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا، أعلن السيسي عن رغبته في تحسين العلاقات بين مصر وإثيوبيا وفتح صفحة جديدة وتسوية الخلاف بشأن سدِّ النهضة، بما يحقق تطلُّعات إثيوبيا في التنمية وفي الوقت ذاته يحافظ على حقوق مصر المائية. وتُوِّجت هذه المساعي بتوقيع قادة مصر وإثيوبيا والسودان في الخرطوم على ما سُمِّي "إعلان المبادئ الخاص بسد النهضة"، الذي اعتبره البعض أول موافقة رسمية مصرية صريحة على حقِّ إثيوبيا في بناء السد، وتنازلًا عن حقوق مصر المائية حيث لم يتضمن أية إشارة للاتفاقيات التاريخية الخاصة بالنهر، بينما اعتبره المسؤولون المصريون نقطة تحول لإنهاء الأزمة.
آثار سلبية مؤكدة
وفي انتظار نتائج الدراسات الفنية التي سيقوم بها المكتبان الفرنسيان حول الآثار السلبية المترتبة على المشروع؛ فقد حذَّر العديد من الدراسات والتقارير من أن بناء السدِّ بالمواصفات الحالية، ستكون له نتائج سلبية كبيرة ومؤكدة على مصر والسودان على حصتهما المائية والمشروعات التنموية في البلدين، فضلًا عن الآثار البيئية الكبيرة.
وقد رصد تقرير لجنة الخبراء الدوليين الخاص بتقييم آثار بناء سد النهضة التي جرى الاتفاق عليها بين الدول الثلاث في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2011، العديد من المخاوف بشأن المشروع سواء البيئية أو الاجتماعية؛ حيث يوضِّح هذا التقرير الذي تم الانتهاء منه وتسليمه للدول الثلاث، في شهر مايو/أيار 2013، أن الدارسات الهندسية ودراسات الأمان التي قدَّمتها إثيوبيا لا تصل الى المستوى التقني المطلوب للبدء في المشروع، وأنها (الدراسات) لم تمكِّن اللجنة من تقييم التأثير الحقيقي للسد على تدفق المياه لدولتي المصب. كما يحذِّر التقرير من مخاطر ملء خزان السد في سنوات الجفاف وتأثيره على السودان ومصر، إضافة إلى الإضرار بمصادر المياه الجوفية على طول النيل الأزرق، كما يحذِّر من الآثار البيئية على الكائنات الحية والنباتات نتيجة غمر مساحات شاسعة من الأراضي بالمياه بسبب المشروع؛ إذ تُقدَّر المساحة المقرر غمرها بالمياه 1874 كيلو مترًا مربعًا(8).
وفيما يخص الجانب المصري فإن خطورة الآثار المترتبة على سدِّ النهضة تتضح بالنظر إلى الموقف المائي الحالي لمصر التي تعيش مرحلة ما يسمى "الشُّح المائي"، وهي المرحلة التي تسبق "الفقر المائي" نتيجة الزيادة السكانية المطَّردة؛ إذ يُقدَّر العجز المائي الحالي لمصر بنحو 24 مليار متر مكعب، كما يُقدَّر متوسط نصيب المواطن المصري من المياه حاليًا بنحو 650 مترًا مكعبًا سنويًّا، في حين المتوسط العالمي هو ألف متر مكعب(9).
وقد كشفت وثائق حكومية سرية نشرتها الصحافة المصرية مؤخرًا، أن الدراسة التي أعدَّها "جورج كابيوس" الخبير الأميركي في شؤون المياه والسدود بناء على طلب الحكومة المصرية، أظهرت أن سد النهضة سيتسبب في انخفاض المخزون الاستراتيجي لمصر من المياه بنحو 30 مليار متر مكعب، وأن العجز المائي في سنوات ملء السد سيصل إلى 18 مليار متر مكعب أي 32 في المائة من حصة مصر المائية. وحذَّرت هذه الدراسة من أن عملية الملء سيكون لها تأثير كارثي على مصر في حالة حدوث جفاف(10).
لكن خبراء آخرين يتوقعون أن تنقص حصة مصر المائية بنحو 12 مليار متر مكعب على الأقل سنويًّا خلال فترة الملء، إذا ما تمت على مدى خمس سنوات كما يخطط الجانب الإثيوبي، وهو ما سيؤدي إلى نتائج كارثية، من بينها: بوار نحو 200 ألف فدان من الأراضي الزراعية، وتوقف جميع المشروعات التنموية الخاصة باستصلاح المزيد من الاراضي, والتأثير على منسوب المياه الجوفية في مصر، فضلًا عن نقص منسوب المياه في بحيرة ناصر خلف السد العالي؛ الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض الطاقة الكهربائية التي ينتجها السد بنسبة تتراوح ما بين 20 و40 في المئة(11).
ثمن الأخطاء الكبيرة
يتبين من المأزق الصعب الذي تواجهه القاهرة في مفاوضات سدِّ النهضة حاليًا، أن مصر، كما يرى كثيرون، تدفع ثمنًا فادحًا للأسلوب الذي أدارت به هذا الملف منذ البداية، والذي اتسم بقدر كبير من قلة الكفاءة والاستخفاف والتجاهل، وهو ما أوصل الموقف إلى هذه الدرجة من الصعوبة والخطورة التي باتت تمس بقسوة الأمن المائي المصري. ورغم أن السلطة الحالية تدير هذا الملف الخطير بدرجة واضحة من قلة الكفاءة والاعتماد على كبار الموظفين والفنيين، فإنه لا يمكن تحميل النظام الحالي وحده مسؤولية ما آل اليه الموقف التفاوضي المصري؛ إذ إن ذلك كان نتاج سنوات طويلة من الإهمال المصري لإفريقيا والانسحاب من الفضاء الإفريقي في عهد مبارك وما صاحبه من تراجع لافت في حضور وتأثير مصر على الساحة الإفريقية. وقد فاقم من ذلك حالة الضعف والاضطراب السياسي التي تعيشها مصر منذ ثورة يناير/ كانون الثاني، وانكفاء المصريين على مشاكلهم الداخلية، وهي المرحلة التي أعلنت فيها إثيوبيا عن بدء بناء السد. كما زاد من صعوبة الموقف المصري، خصوصًا بعد تولي السيسي، غياب التنسيق والانسجام بين الموقفين المصري والسوداني في المفاوضات رغم المخاطر المشتركة لبناء السد على البلدين. وقد استغلت إثيوبيا حالة الاحتقان والتوتر في العلاقات المصرية-السودانية، نتيجة الخلاف على بعض الملفات العالقة، لكسب مزيد من الوقت وفرض الأمر الواقع على الجانبين.
خاتمة
يمكن القول: إن الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا) نجحت في اجتماعها الأخير بشأن سدِّ النهضة في إنقاذ المسار التفاوضي من أن يصل لطريق مسدود، وربما كانت مصر أحرص على ذلك من إثيوبيا بالنظر لحجم التنازلات التي قدمتها، لاسيما أن المسؤولين المصريين يدركون كلفة تبعات إعلان فشل هذه المفاوضات والانسحاب منها؛ فكل البدائل الأخرى إما صعبة ودونها عقبات كثيرة، مثل التحكيم الدولي أو تدويل الأزمة، أو شبه مستحيلة، كاللجوء للخيار العسكري (كما يطالب البعض). وتتضح فداحة المأزق الذي تواجهه مصر حاليًا، ليس فقط في تخلِّيها عمَّا كانت تعتبره أحد الثوابت التاريخية فيما يخص مياه النيل، ولا لأنها قبلت ببناء السدِّ كأمر واقع، بل في أنها تبدو غير قادرة حتى على تعديل مواصفاته الفنية لتقليل خطره على الأمن المائي المصري، في ظل إصرار إثيوبي على رفض إجراء أي تعديلات على هذه المواصفات.
ومع ذلك، فإن هناك من يرى أن بعض المكاسب التي حققتها مصر ومعها السودان في جولة المفاوضات الأخيرة، والتي تمثَّلت في الاستجابة لبعض مطالبهما، قد تكون بداية جيدة ولو متأخرة لتصحيح مسار العملية التفاوضية حول السد. لكن هذا المسار يبدو طويلًا ومليئًا بالمزالق والثغرات، التي قد تصل به إلى طريق مسدود في أية لحظة، خصوصًا في ظل عدم وجود ضمانات حقيقية وواضحة لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، باستثناء المراهنة على حُسن النوايا ومبدأ المنفعة المشتركة. ولعل هذه الحقائق تفرض على الدولة المصرية أن تستعد جيدًا لكل الاحتمالات وتبحث في مختلف البدائل التي يمكن اللجوء اليها في حال فشل المسار التفاوضي. فربما تكون مصر الرسمية تأخرت كثيرًا في تحركها لمواجهة المخاطر المترتبة على مشروع سدِّ النهضة، ولكن هذا لا يعني عدم التحرك الآن وحشد كل الطاقات في هذه المواجهة التي تتعلق بأمن مصر ووجودها. وأمام مصر جملة من الخيارات التي يمكن اللجوء اليها بهدف تعزيز موقفها التفاوضي، ومنها:
-
أولًا: تشكيل لجنة قومية تضم كل الخبراء والمتخصصين سواء في مجال المياه أو القانون الدولي ورجال السياسة من كل الاتجاهات لوضع تصور متكامل لكيفية التعاطي مع أزمة سدِّ النهضة، ومناقشة مختلف البدائل والسيناريوهات المتاحة، سياسية كانت أم قانونية، انطلاقًا من مبدأ أن مياه النيل قضية لا تخص النظام الحاكم بل تعني المصريين جميعًا.
-
ثانيًا: تنقية الأجواء مع السودان وتسوية كل الملفات والخلافات العالقة، بما يؤدي لتعزيز التنسيق بين البلدين في مواجهة المخاطر المشتركة جرَّاء هذا المشروع.
-
ثالثًا: العمل على إعادة النظر في علاقات مصر الإقليمية مع بعض الأطراف الفاعلة وذات التأثير على الساحة الإثيوبية، مثل: تركيا وقطر، بما قد يساعد في الضغط على إثيوبيا، فضلًا عن استغلال علاقات دول مؤثِّرة مثل السعودية والإمارات بما لهما من استثمارات ضخمة في إثيوبيا.
-
رابعًا: تكثيف التحركات السياسية والدبلوماسية إقليميًّا وإفريقيًّا ودوليًّا لشرح المخاطر والأضرار المترتبة على بناء السد وما يمثِّله من تهديد وجودي لمصر التي تعتمد في حياتها بشكل أساسي على مياه النيل، وتوضيح المخاوف المصرية المشروعة بهذا الصدد، انطلاقًا من التأكيد على أن مصر ليست ضد حق إثيوبيا أو أيٍّ من دول حوض النيل في التنمية والنهضة، ولكن دون أن يكون ذلك على حساب المصلحة المصرية.