تعددت العمليات الإرهابية التي استهدفت رجال الأمن والجيش والسياح الأجانب في تونس واتسع نطاقها في السنوات الأخيرة لتشمل العاصمة وتمتد إلى مدن أخرى كان أبرزها مدينة سوسة الساحلية. وفي مارس 2016 هاجمت مجموعة مسلحة مدينة بنقردان التي تقع على الحدود مع الجارة الجنوبية ليبيا في حركة فُهم منها رغبة تنظيم الدولة (داعش) في احتلال المدينة وإعلانها ولاية تابعة له. وقد رافق تلك العمليات جدل واسع في أوساط التونسيين حول طبيعة الإرهاب وأهدافه ومن يقف وراءه، إلا أن الموقف منه ظل موحدا باتجاه مقاومته، وإن اختلفت الأشكال والمقاربات مع تعاقب الحكومات بعد الثورة. لا شك أن موقع تونس الجغرافي، بجوار ليبيا التي تعيش حالة من السيولة الأمنية وغياب سلطة مركزية قادرة على مراقبة الحدود وحركة السلاح والمسلحين، يزيد من خطر الإرهاب عليها، وهو ما دفع السلطات التونسية إلى اتخاذ إجراءات دفاعية مكلفة وإقامة حواجز على الحدود بين البلدين. ولكن نجاح تلك الإجراءات مشروط بتجاوز الجدل حول المفاهيم والتعريفات والتوحد في مواجهة هذا الخطر الذي يستهدف الجميع.
مقدمة
بعد أقل من أربعة أشهر على التفجير الانتحاري الذي استهدف حافلة للأمن الرئاسي بقلب العاصمة تونس، والذي تبناه تنظيم "داعش" وذهب ضحيته 12 فردًا من الحرس والضباط، استيقظ التونسيون صبيحة السابع من مارس/آذار الماضي (2016) على أنباء مذهلة حول هجوم أشد، شنَّته مجموعة تابعة لذات التنظيم، استهدف مدينةَ بن قردان الجنوبية المحاذية للحدود مع ليبيا.
الصورة العامة التي نقلتها وكالات الأنباء عن وقائع التصدي للمهاجمين، وعن ملاحقة الفارِّين التي استمرت أيامًا، أفادت بأن المواجهة كانت ملحمة ميدانية عزَّزت الروح المعنوية لقوات الجيش والأمن، وأظهرت ما لها من قدرات قتالية عالية. وقام دليل عيني على أن الإرهاب لا يملك حاضنة شعبية في تونس، خلافًا لما كان يقال من أن المناطق الداخلية والجنوبية للبلاد تشكِّل بؤرة لإنتاج تلك الظاهرة واحتضانها.
لكن استقصاء دلالات الهجوم وتداعياته ضمن السياق التاريخي لظاهرة الإرهاب في تونس يكشف مفارقة لافتة مفادها أن حالة التوافق التي تسود المشهد السياسي العام في هذا البلد بعد الثورة تقابلها حالة من التنافر في وجهات النظر داخل الأوساط الفكرية والسياسية حول مفهوم الإرهاب وأسباب نشأته في البلاد. وقد باتت أجواء التوتر الناشئة عن تلك الحالة تشكِّل عامل إرباك ليس فقط لاستراتيجية مقاومة الإرهاب وإنما للحياة السياسية برمتها.
سوابق العنف السياسي
من الثابت تاريخيًّا أن الهجمات المرتبطة بظاهرة العنف السياسي لم تكن نتاجًا مبتكرًا لمرحلة ما بعد الثورة في تونس؛ فقد سبق أن كان هذا البلد هدفًا لأكثر من هجوم مسلح زمنَ نظام ابن علي، خاصة في عشريته الأخيرة(1). إلا أن وقع تلك الهجمات في تلك المرحلة كان محدودًا نسبيًّا، نظرًا إلى هيمنة آلة الرقابة على الإعلام وتحكمها في تغطية الأحداث بغرض التقليص من هولها وتكييف اهتمام الناس بها من ناحية، ونظرًا كذلك إلى أن جانبًا كبيرًا من الرأي العام كان من ناحية أخرى يعتبر أن نظام الحكم في تلك المرحلة يتحمل مسؤوليةً ما عن الهجمات الشبابية المسلحة، لكونه قد أخفق في إدماج تلك الفئة العمرية اجتماعيًّا، وألحق بأوسع فئات الشعب ضررًا عامًّا رفع درجات الاحتقان وولَّد أسبابًا كثيرة للانفجار.
لكن تغيُّر طبيعة الحكم بعد الثورة في اتجاه الديمقراطية وإطلاق حرية الإعلام، جعل موقف التونسيين من الهجمات المسلحة يشهد تطورًا ملحوظًا. فبفعل تصاعد وتيرة تلك الهجمات، تشكَّل تدريجيًّا رأي عام داخلي أكثر إدراكًا لطبيعتها المعولمة، وأكثر مناهضة للجماعات التي تقف وراءها، بعد أن بيَّنت الوقائع أن أغراض تلك الجماعات لا تلتقي في شيء مع ما نشده التونسيون في ثورتهم من أهداف تتعلق خاصة بالحريات وبالديمقراطية.
هذا الوعي الناشئ عبَّر عن نفسه أولَ الأمر باستهجان عام للهجمات المسلحة التي وقعت بشكل معزول في السنتين الأولى والثانية للثورة بمناطق ريفية نائية نسبيًّا(2). ما زاد ذلك الاستهجان عُمقًا وانتشارًا أن الهجمات قد استهدفت، علاوة على أجهزة الأمن، قوات الجيش الوطني التي تحظى باحترام كبير في الأوساط الشعبية ولدى عموم النخب، خاصة بعد انحيازها إلى صف الثورة وثباتها على ذلك. وهذا ما جعل عموم التونسيين يعتبرون أن استهدافها إنما هو استهداف للثورة ذاتها، فوق كونه سببًا في هدر طاقات الدولة وإلهاء الحكومة عن مهامها الأصلية في إدارة الانتقال الديمقراطي، وتحقيق التنمية الاقتصادية، وتوفير مواطن الشغل للشباب.
في المرحلة الانتقالية التي سبقت انتخابات 13 أكتوبر/تشرين الأول 2011 التأسيسية والرئاسية، تداولت على السلطة في تونس حكومتان انتقاليتان ترأَّستهما على التوالي شخصيتان تنتميان إلى منظومة ما قبل الثورة، هما: محمد الغنوشي والباجي قائد السبسي. هاتان الحكومتان لم تريا مُوجِبًا لاعتبار تونس مهددة بخطر الإرهاب. مَرَدُّ ذلك إلى أن العمليات المسلحة في تلك المرحلة كانت تبدو فردية، محدودة الأثر وبعيدة جغرافيًّا عن مراكز السلطة والعمران. ورغم إعلان وزارة الداخلية في أكثر من مناسبة أن التحقيقات الأمنية قد أثبتت انتماء المتورطين في الهجمات إلى التيار السلفي، فإن السلطة إذَّاك لم تلجأ إلى تصنيف أيٍّ من التنظيمات التابعة لذلك التيار في خانة الإرهاب أو حظر نشاطه بل ظلَّت كل التنظيمات تعمل في العلن، مستفيدة من تمتع عدد من أعضائها المسجونين سابقًا بقانون العفو التشريعي العام الذي كان أول مرسوم أصدرته سلطة ما بعد الثورة برئاسة فؤاد المبزع المنتمي بدوره إلى منظومة الحكم القديمة.
عوامل الاختلاف في مقاربة الإرهاب
استمرت حكومة الائتلاف الثلاثي (الترويكا) التي انبثقت عن أول انتخابات بعد الثورة، بقيادة حمادي الجبالي، في انتهاج ذات السياسة إزاء الظاهرة السلفية أثناء الشهور الأولى من تولِّيها السلطة. ويمكن رَدُّ ذلك إلى عوامل، أهمها:
أولًا: اعتبار تلك الحكومة أن أغلب الأنشطة المسموح بها ذات طابع دعوي، وكان من بين مستندات ذلك الموقف ما كانت جماعة "أنصار الشريعة" (المنسوبة إلى التوجه الجهادي) تعلنه في تلك المرحلة من أن تونس بالنسبة إليها هي "أرض دعوة" وليست "أرض جهاد". غير أن التحقيقات الأمنية التي كشفتها وزارة الداخلية لاحقًا عن التنظيم السري لتلك الجماعة قد أفادت أن ذلك الإعلان لا تصدِّقه الوقائع.
ثانيًا: اعتقاد قيادات في "حركة النهضة" التي تقود حكومة الترويكا أن نهج التعامل المتساهل من شأنه أن يشجِّع أبناء التيار السلفي على دخول المربع الديمقراطي والالتزام بقواعد العمل العلني والقانوني. ففي ذلك، حسب اعتقادهم، خدمة للبلاد وللفكر الإسلامي معًا، وربما توفير لرصيد انتخابي إضافي لحركتهم. وهذا اعتقاد بيَّنت الأحداث اللاحقة خطأه واستناده ليس فقط إلى سوء تقدير سياسي، وإنما إلى سوء دراية بحقيقة أطروحات الفكر السلفي المسمَّى "جهاديًّا".
ثالثًا: وجود تيار مرتفع الصوت داخل الرأي العام المناصر للثورة يعتبر أن الهجمات المسلحة التي عرفتها البلاد تقف وراءها شبكات مالية وأمنية تابعة لـ "الدولة العميقة" وتعمل لصالح الثورة المضادة. مؤدَّى هذه المقاربة أن الإرهاب هو محض "صناعة"، يحصل بعضها في الداخل وبعضها في الخارج، ويستعملها أعداء مصالح الشعب والمناهضون لهويته ولقيمه الأصيلة بغاية إجهاض أي مشروع يهدف إلى الدفاع عن تلكم المصالح والقيم. فلا مجال، والحالة تلك، إلى استخدام عنوان "مقاومة الإرهاب" لأغراض أيديولوجية ومجتمعية معادية.
وقد انتصر لهذه الأطروحة كثير من الإسلاميين، إضافة إلى "رابطات حماية الثورة"، وأحد أطراف ائتلاف الترويكا الحاكم آنذاك وهو "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" الذي كان يقوده رئيس الجمهورية السابق، محمد منصف المرزوقي. في هذا السياق تحديدًا يمكن تنزيل انفتاح قصر قرطاج الرئاسي في تلك المرحلة على شيوخ السلفية بكل اتجاهاتهم تقريبًا.
رابعًا: وجود تيار مقابل من المثقفين العلمانيين في تونس دأب أصحابه على التعبير عن مواقفهم من المسألة الدينية عبر وسائط فنية وإعلامية بدت للرأي العام استفزازية شكلًا ومضمونًا(3). وقد تزامن بعض التظاهرات التي أقاموها مع أحداث عالمية تعلَّقت بمساس بعض وسائل الإعلام الغربية والمنتجين السينمائيين في أميركا بمقدسات المسلمين وبشخصية الرسول محمد صلَّى الله عليه وسلَّم تحديدًا. وهو ما أثار في البلاد غضبًا عامًّا واحتجاجات ميدانية كان من ضمنها هجوم جمهرة من المتظاهرين على السفارة الأميركية بتونس، في 14 سبتمبر/أيلول 2012، الذي كان لأنصار التيار السلفي فيه دور أساسي.
هذه العوامل متضافرة جعلت حكومة الترويكا تختار نهج التروي في حسم الموقف من علاقة التيار السلفي بالإرهاب مستصحبة في ذلك سياسة الحكومتين السابقتين في اعتبار أن ذلك التيار يمثِّل أحد المكونات الموضوعية للمشهد الثقافي والمجتمعي في البلاد.
منشأ الجدل ومداره
في ذات الوقت، كان عدد من المثقفين والفاعلين السياسيين يطالبون بضرورة التصدي لجميع الأنشطة السلفية حتى في شكلها الدعوي والثقافي. وكانوا يستندون في ذلك إلى دواع بعضها أيديولوجي خالص، وبعضها يتعلق بتقديرٍ مفاده أن تلك الأنشطة ليست غاية في ذاتها وإنما هدفها المضمر هو تهيئة محضن اجتماعي للإرهاب بدأت نُذره تلوح من خلال الهجمات المسلحة والأنباء المتواترة عن تهريب السلاح إلى البلاد، علاوة على تدريبات قيل إنها تجري في بعض المناطق منها جبل الشعانبي المحاذي للحدود الجزائرية غربًا.
رغم امتناع السلطات الأمنية عن التفاعل إيجابيًّا مع هذه الدعوات والروايات في البداية، إلا أن معطى مفاجئًا جعل الحكومة تتجه إلى حسم الموقف في موضوع علاقة السلفيين الجهاديين بالإرهاب. تمثَّل هذا المعطى في الاغتيال السياسي التي استهدف الزعيم اليساري، شكري بلعيد، في 6 فبراير/شباط 2013، وتكرر بعد ستة أشهر بذات الطريقة ضد الزعيم العروبي محمد البراهمي(4).
إذا كانت حادثة الاغتيال الأولى قد أدَّت إلى استقالة حمادي الجبالي من رئاسة الحكومة بعد فشل مقترحه الداعي إلى تشكيل حكومة تكنوقراط، فإن الحادثة الثانية قد دفعت رئيس الحكومة الجديد علي العريض (المنتمي هو الآخر إلى حركة النهضة) إلى اتخاذ قرار حاسم بتصنيف جماعة "أنصار الشريعة" تنظيمًا إرهابيًّا، في 27 أغسطس/آب 2013، وحظر أنشطته. كان ذلك بناء على ما توافر لديه من تحقيقات أمنية قال: إنها أثبتت تورط التنظيم في الإرهاب تخطيطًا وممارسة. وانطلقت إثر ذلك جملة من إجراءات الحظر، وحملة ملاحقات أمنية ومتابعات قضائية ضد المنتمين إلى الجماعة المذكورة.
بدا في الظاهر حينذاك أن إجماعًا وطنيًّا قد انعقد حول مبدأ مقاومة الإرهاب، وكيفيته، وتعيين الأطراف المتورطة فيه من أجل محاسبتها وفق القانون. لكن الأمر جرى في الواقع على غير هذا النحو، إذ بدل أن تتجه الأجواء إلى دعم التوحد الوطني حول هذا الملف، تحوَّلت مسألة الإرهاب إلى مادة للجدل الإعلامي ولمزيد من الاصطفاف الأيديولوجي والصراع الحزبي. فقد أبدى الفاعلون في الساحة العلمانية واليسارية حرصًا شديدًا على التحكم في الوجهة الفكرية والسياسية التي ينبغي أن يتخذها التعامل مع هذا الملف.
وقد كرسوا ذلك عمليًّا في سياق تفاعلهم مع مقترح تنظيم "مؤتمر وطني لمناهضة الإرهاب" الذي تبنَّاه أكثر من طرف مدني وسياسي في البلاد، بما في ذلك الحكومة؛ حيث سارع لفيف من الأكاديميين وأهل الثقافة إلى استباق الحدث بتنظيم ما أسموه "مؤتمر المثقفين لمناهضة الإرهاب" في محاولة لضبط إيقاع المؤتمر الوطني المرتقب. وأصدروا في اختتام مؤتمرهم بيانًا بتاريخ، 12 أغسطس/آب 2015، جاء فيه أن "الإرهاب الجهادي يستلهم رؤاه ومبادئه وتصوراته من الإسلام السلفي الوهابي ومن الأيديولوجيا السياسية لجماعة الإخوان المسلمين"(5).
هذه العيِّنة من الخطاب الذي اعتمده "بيان المثقفين"، وغيرها، جعلته يبدو للمراقبين محاولة لفرض تعريف مؤدلج للإرهاب يقلِّص من أسبابه الاجتماعية والاقتصادية ومن أبعاده المعولمة، ويركِّز في المقابل على أسبابه المذهبية الدينية القابلة لكثير من النقاش فكريًّا. لقد بدا ذلك بعيدًا عن الالتزام بشروط المقاربة الشاملة والموضوعية. وعبَّر كثير من منتقدي البيان عن خشيتهم من أن يؤدي إلى ضرب التعليم الديني والتضييق على المساجد وعلى جمعيات العمل الخيري بشبهة سَمْتها الإسلامي. كما استهجنوا ما بدا في البيان من رغبة واضحة لدى أصحابه في ربط الإرهاب بطرف حزبي بعينه يراد إدانته بكل الوسائل من خلال الإشارة إلى "جماعة الإخوان المسلمين".
ولئن تجنَّب نصُّ البيان ذكر الحزب المراد إدانته بالاسم، فإن بعض التنظيمات التي تتحرك في الفضاء الأيديولوجي لمؤتمر المثقفين، وأبرزها "الجبهة الشعبية"، قد سبق أن تكفَّلت بذلك عندما ظلَّت باستمرار تتهم "حركة النهضة" صراحة بالمسؤولية عن اغتيال الزعيمين بلعيد والبراهمي. هذه الأجواء الخلافية المشحونة بالتوتر ظلَّت في السنين الثلاثة الأخيرة تستعر بمناسبة كل عملية إرهابية تشهدها البلاد. وظلت، مع الأسف، تمثِّل أهم سبب لتعطيل انعقاد مؤتمر وطني جامع لمناهضة الإرهاب. فتنظيم مؤتمر من هذا القبيل يفترض وجود حدٍّ أدنى من التوافق بين أطرافه على أن غايته هي خدمة مصلحة الوطن العليا، وإلا تحوَّل إلى حلبة لتصفية الحسابات السياسية.
لقد شُنَّ العدوان على مدينة بن قردان، والتونسيون -حكومة وأحزابًا وتنظيمات مدنية- على غير اتفاق حول موعد عقد مؤتمرهم الوطني لمناهضة الإرهاب. وإذا كان بعض المراقبين قد عبَّروا عن شكهم في إمكانية عقد مؤتمر من هذا القبيل في ظل تحول الجدل حول الموضوع إلى ظاهرة مزمنة، فإن ذلك لم يحجب عن الرأي العام أهمية المكاسب التي حققها التصدي للعدوان الإرهابي في بن قردان.
أثر "الغزوة" العكسي
مع كل عملية إرهابية، اعتاد المحللون في تونس على الإطناب في البحث عن دلالاتها والرسائل التي قد يكون الإرهابيون أرادوا توجيهها من خلالها؛ فبمجرد أن وقع الهجوم على متحف مدينة باردو مثلًا، في 18 مارس/آذار 2015، وتلاه الهجوم على منتجع مدينة سوسة السياحي، في 26 يونيو/حزيران 2015، اتجهت التحليلات إلى اعتبار أن الهجومين شكَّلا مؤشرًا على أن الإرهاب قد انتقل من الأرياف النائية إلى المدن الآهلة، وأنه بضربه لقطاع السياحة وهجومه على مَعْلَمٍ مُحاذٍ لمقر "مجلس نواب الشعب" فإنه صار يستهدف اقتصاد البلاد ويهدد سيادة الدولة في آن. وجاء التفجير الانتحاري الذي استهدف حافلة الأمن الرئاسي في العاصمة، بتاريخ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ليؤكد هذه الاستنتاجات.
رغم ذلك، ظل التونسيون إلى وقت قريب يميلون إلى الاعتقاد بأن خطر الإرهاب الذي يواجهونه يُعد محدودًا بالمقارنة مع ما تواجهه بلدان عربية أخرى، خاصة في المشرق. ربما يكون مردُّ هذا الاعتقاد إلى كون الهجمات التي وقعت في تونس كانت متفرقة، ونفَّذها أفراد معدودون (وأحيانًا فرد واحد) بواسطة أسلحة خفيفة وفي مناطق أغلبها جبلي وبعيد عن مراكز السيادة. هذا ما قدَّم صورة مضلِّلة تفيد بأن الوقع الإعلامي للهجمات أكبر بكثير من حجمها الحقيقي ومن خطرها الفعلي. لكن الهجوم على مدينة بن قردان خرج عن تلك الصورة، وأعطى فكرة أدق، ولكنها صادمة للرأي العام التونسي، عن حقيقة المشروع الإرهابي الذي يتربص بالبلاد.
فبالنظر إلى حجم الهجوم وعدد منفِّذيه (الذين يبدو أنهم قاربوا المئتين)، وبالنظر إلى أسلوب التكتيك القتالي الذي اعتمدوه والأسلحة التي استعملوها، بدا واضحًا أن الأمر قد تعلَّق بـ"غزوة" كان هدفها انتزاع المدينة من سلطة الدولة القائمة، وإعلانها "إمارة داعشية". ذلك ما عبَّر عنه الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، في تعليقه الفوري على العملية بعد ساعات من انطلاقها. بهذا الاعتبار، يمكن القول: إن الهجوم قد مثَّل منعطفًا خطيرًا. فهو، إذ كشف حقيقة المخطط الإرهابي، لفت الانتباه إلى حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الدولة والمجتمع لمواجهة ذلك المخطط.
لا شك أن انطباعًا فوريًّا مريحًا قد حصل لدى الرأي العام الداخلي والخارجي بفعل ما أظهرته قوات الأمن والجيش من بسالة وقدرات قتالية أثناء خوض المعركة. فرغم طابع الهجوم المباغت، وابتعاد ساحته عن حاضرة السُّلطة المركزية، ووقوعه في بيئة كان يظنها البعض ميَّالة إلى مناهضة الدولة، وربما إلى التمرد عليها، نظرًا إلى معاناتها تاريخيًّا من سياسات التهميش الاقتصادي والاجتماعي، فقد تمكَّنت القوات النظامية من إحباط الهجوم وتكبيد مقترفيه خسائر بشرية فادحة تجاوزت الخمسين قتيلًا، علاوة على الموقوفين الذين تجاوز عددهم الستين. وقد تم ذلك بسند شعبي غير مسبوق. كان ذلك انتصارًا ميدانيًّا حقيقيًّا. لكن الارتياح الذي خلَّفه كان مشوبًا بحذر، فمعركة بن قردان أشعلت ضوءًا أحمر نبَّه التونسيين إلى أمرين:
- الأول: أن الخطر الإرهابي الذي يتربص بهم لم يعد يهدِّد "صفو الأمن العام" فحسب، كما كان الاعتقاد سائدًا، وإنما صار يهدد الكيان الوطني في أصل وجوده وفي سيادة دولته، ويهدد مستقبل التجربة الديمقراطية الناشئة عن الثورة، ونمط المجتمع التونسي في آن.
- الثاني: أن لذلك الخطر أبعادًا إقليمية ودولية معقَّدة لم تكن مكشوفة بالشكل الكافي، فجاء هجوم بن قردان ليسلِّط عليها مزيدًا من الضوء، وينبِّه إلى ما تقتضيه من احتياطات وتدابير.
واقعة بن قردان في سياقها الإقليمي
أكد الهجوم على المدينة الجنوبية أن التوجس الذي طالما أبدته السلطات التونسية إزاء أوضاع الاضطراب والانفلات الأمني في بلد الجوار الليبي كان في محله. فقد سبق أن أفادت أنباء متواترة أن عددًا كبيرًا من العناصر التونسية المتشددة قد اتخذ من ليبيا طوال السنوات الخمس الأخيرة ملاذًا للتمركز شبه الآمن.
كان واضحًا أن الهدف من ذلك التمركز هو التدريب والإعداد اللوجستي، بالتنسيق مع مجموعات متعددة الجنسيات، بعضها قادم من جبهات القتال في العراق وسوريا، للانخراط في تفاصيل الصراع الليبي، وللقيام بعمليات مسلحة في إطار محاولة المشروع الداعشي التمدد في المغرب وإفريقيا. وقد كشفت معلومات أمنية أن عدَّة عمليات تهريب للأسلحة نحو تونس قد وقعت عبر الحدود الليبية ضمن هذا السياق، وأن تأثير ذلك قد تجاوز الحدود الغربية للبلاد التونسية إلى الجزائر وبلدان أخرى منها مالي.
التحقيقات مع موقوفي بن قردان، التي كشفت أن الهجوم قد وقع التخطيط له من داخل التراب الليبي، أدخلت على التونسيين إحساسًا مُرًّا بأنهم باتوا يدفعون ضريبة إخفاق المحاولات الإقليمية والدولية المتكررة لمساعدة الفرقاء الليبيين على التوافق بعد الإطاحة بنظام القذافي. فغياب الدولة الليبية المركزية القادرة على بسط سلطتها وتأمين حدودها لم يعد يمثِّل خطرًا على ليبيا وحدها، وإنما على تونس أيضًا.
هذا ما يفسِّر تعويل السلطات التونسية على نفسها عندما بادرت باتخاذ احتياطات أمنية مكلِّفة لحماية حدودها، بإقامة منطقة عازلة وساتر ترابي على مسافة 250 كلم وحفر خندق مائي. ولم يمض على إعلان الانتهاء من تلك الأشغال، في 6 فبراير/شباط 2016، ثلاثة أيام حتى وردت أنباء عن هجوم نفَّذه الطيران الأميركي على مدينة صبراطة الليبية، في 19 فبراير/شباط 2016، قيل: إنه استهدف مركزًا لتونسيين منتمين إلى تنظيم "داعش". بوقوع الهجوم على بن قردان بعد أيام، توقَّع كثيرون أن أولئك المستهدَفين في صبراطة ربما كانوا يتهيأون للمشاركة فيه ضمن ما صار البعض يسميه "كسر الحدود"(6) بين البلدين على نحو ما جرى بين العراق وسوريا.
تحت وقع الأحداث المتسارعة، تدافعت الدبلوماسية التونسية الرسمية والحزبية(7)، والدبلوماسية الدولية الحريصة على الاستقرار في المنطقة، إلى تكثيف جهود الوساطة التي ساعدت في وقت قصير لاحق على جعل الفرقاء الأساسيين في ليبيا يقبلون بحكومة التوافق التي دعمتها الأمم المتحدة، ويعملون على تيسير انتصابها في العاصمة طرابلس، بناء على اتفاق مدينة الصخيرات المغربية، وهو ما حدث فعلًا خلال أسابيع قليلة.
خاتمة
أمام هذه التحديات الجسيمة التي بات الإرهاب يفرضها على تونس، هل بقي من مبرر وجيه لاستمرار الخلاف بين أبناء البلد الواحد حول تعريف الظاهرة الإرهابية وكيفية مواجهتها؟
إذا كان ثمة من يعتقد أن الخلاف حول المفاهيم قابل لأن يُحسَم إعلاميًّا فهو واهم، والأفضل حينئذ أن تبقى المقاربات الفكرية حول الإرهاب موكولة إلى دوائر البحث والمفكِّرين النزهاء حتى يقوموا بها بعيدًا عن إكراهات الصراع. أمَّا إذا حصرنا الاختلاف فيما هو قابل للحسم إجرائيًّا، أي ما يتعلق بالوقائع والمسؤوليات، آنذاك يمكن التوصل إلى تفاهم أساسه اعتراف الطرف (أو الأطراف) المتهم بالتواطؤ مع الإرهاب بمواطن خطئه التي نُقدِّر أنها تنحصر في سياسة التروي التي اعتمدها في معالجة ملف الإرهاب. وشتَّان بين التروي والتواطؤ على اعتبار أن التروي إنما هو موقف حقوقي يحرص على عدم أخذ الناس بالشبهة، ويعتبر المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته، بينما التواطؤ مشاركة في الجريمة يعاقب عليها القانون.
ما زاد على ذلك من اتهام يتعلق بالمسؤولية عن دماء ضحايا الإرهاب، فالحِسُّ المدني والمسؤولية الوطنية يفرضان على كل من يزعم ذلك أن يُسلِّم للقضاء بحقِّ البتِّ حصرًا في الموضوع، وإلا كان هو ذاته المتهَم.
____________________________
بنعيسى الدمني - باحث من تونس
1 ـ أبرز الهجمات التي وقعت في تونس قبل الثورة، الهجوم الذي استهدف معبد "الغريبة" اليهودي بجزيرة جربة، في 11 إبريل/نيسان 2002، وخلَّف 21 قتيلًا من بينهم تونسيون وفرنسيون. إضافة إلى الاشتباك الذي بدأ ليلة 23 ديسمبر/كانون الأول 2006 إلى غاية 3 يناير/كانون الثاني 2007 قرب مدينة سليمان (التي تبعد 35 كلم عن العاصمة) بين قوات من الأمن والجيش ومجموعة مسلحة يقودها عون أمن سابق غادَرَ البلاد، ثم وقع تجنيده بمدينة ميلانو الإيطالية في صفوف "الجماعة الإسلامية للدعوة والقتال" الجزائرية، قبل أن يشكِّل تنظيم "أسد بن الفرات".
2 ـ أول عملية إرهابية شهدتها تونس بعد الثورة وقعت في محيط مدينة "الروحية" (بمنطقة الشمال الغربي) بتاريخ 18 مايو/أيار 2011، تمثَّلت في اشتباك مسلح بين قوات من الأمن والجيش وبين مسلحيْن اثنين، انتهى بقتل الأخيرين واستشهاد عنصرين من قوات الجيش أحدهما ضابط سام هو المقدم محمد الطاهر العياري. تلت ذلك بعد أقل من عام عملية مدينة "بئر علي بن خليفة" (بولاية صفاقس)، بتاريخ 1 فبراير/شباط 2012، تمثَّلت في اشتباك بين قوات من الأمن والجيش وثلاثة مسلحين، قُتل اثنان منهم واعتُقل الثالث، وحُجزت كميات من الأسلحة والذخائر.
3 ـ من أبرز التظاهرات الثقافية التي أقيمت بُعيد الثورة واعتُبرت مستفزة للضمير الديني: بَثُّ إحدى قاعات العرض بالعاصمة فيلمًا سينمائيًّا بعنوان "لا رَبِّي لا سيدي" من إخراج تونسية مغمورة (تدعى نادية الفاني)، وبَثُّ إحدى القنوات التليفزيونية الخاصة مسلسلًا إيرانيًّا بعنوان "برسيبوليس" مدبلجًا باللهجة التونسية وموجَّهًا للأطفال، بالإضافة إلى معرض تشكيلي أُقيم بـ"قصر العبدلية" في المرسى (إحدى ضواحي العاصمة) وأثارت مضامينه كثيرًا من الجدل والاحتجاج.
4 ـ وقع اغتيال زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحَّد، شكري بلعيد، بإطلاق الرصاص عليه أمام مسكنه، في 6 فبراير/شباط 2013، واغتيال زعيم التيار الشعبي الحاج محمد البراهمي بنفس الطريقة في 25 يوليو/تموز 2013.
5. بيان المثقفين التونسيين ضد الإرهاب، الصباح، 14 أغسطس/آب 2015، الرابط: http://www.assabah.com.tn/article/106439/%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8
6. "داعش" يضرب في تونس: معركة كسر حدود مع ليبيا؟، السفير، 8 مارس/آذار 2016، الرابط: http://assafir.com/article/5/479907
7 ـ قام رئيس "حركة النهضة" راشد الغنوشي بأكثر من مبادرة دبلوماسية تتعلق بالوضع في ليبيا، مستفيدًا من علاقاته بطيف واسع من مكونات الساحة السياسية والاجتماعية هناك.