يتسم المشهد السياسي التونسي، في وقته الراهن، باستقرار هشٍّ هو نتيجة طبيعية لسياسة التوافق (على الحد الأدنى) التي ما فتئت القوى السياسية "الفاعلة" تنتهجها تناغمًا مع مقتضيات مرحلة الانتقال الديمقراطي التي أعقبت الثورة وامتدت على مدى السنوات الخمس الماضية. ويظل مآل هذا المشهد السياسي مرهونًا بتجلِّيات مستقبل منظور قد يعاد فيه رسم الخارطة السياسية ومراجعة صيغ الائتلاف الراهنة باتجاه تشكيل تحالفات جديدة يصورها أملُ الراغبين فيها وتُبعثر أوراقها الوقائع الميدانية.
واليوم وقد تطورت العلاقة بين قيادة "النهضة" وقيادة "النداء" بعد أن ذاب الجليد الذي كان قائمًا بينهما، بات بالإمكان التطبيع منظوميًّا بين الحزبين، بمعنى التنسيق الضيق في مضمار العمل السياسي من أجل تعزيز المواقف والمواقع تبادليًّا وتنسيقها ثنائيًّا وصولًا إلى تدشين طور متقدم من العلاقة بين الحزبين قد يتخذ شكل تآلف أو تحالف جديد تُخاض به الاستحقاقات السياسية القادمة (إمكانية خوض الانتخابات البلدية القادمة في قوائم مشتركة و/أو تشكيل حكومة ثنائية التركيبة تقودها شخصية سياسية مستقلة تحظى بثقة الطرفين وباحترام الطبقة السياسية وعموم المواطنين...). وهذا سيناريو محتمَل من بين سيناريوهات أخرى كثيرة باتت تُطرح في غرف المداولات الحزبية وكذلك في الحلقات النقاشية المفتوحة واللقاءات التي تبثها أو تنشرها وسائل الإعلام.
مقدمة: الراهن والمرهون في المشهد السياسي التونسي
يتسم المشهد السياسي الحالي في تونس باستقرار هشٍّ هو نتيجة طبيعية لسياسة التوافق (على الحدِّ الأدنى) التي ما فتئت القوى السياسية "الفاعلة" تنتهجها تناغمًا مع مقتضيات مرحلة الانتقال الديمقراطي التي أعقبت الثورة وامتدت على مدى السنوات الخمس الماضية. ومع أن الحزبين الأولَيْن في الترتيب الذي أفرزته نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة (أكتوبر/تشرين الأول 2014) قد أوجدا صيغة توافقية للتعايش والحكم معًا شملت توزيع المناصب وترتيب المواقف وتقريب وجهات النظر، إلا أن تصدع حزب "نداء تونس" وانهماك حزب "النهضة" في الإعداد لمؤتمره التاريخي القادم الذي سيُعقد أواخر الشهر الجاري قد أسهما بشكل واضح في رسم مشهد سياسي باهت قد تتوهج ألوان طيفه بحلول الصيف القادم الذي يُتوقع أن يكون مليئًا بمستجدات الأحزاب ولاسيما تلك التي بدأت بعد استعداداتها لعقد مؤتمراتها على غرار "نداء تونس" و"مشروع تونس" و"آفاق تونس" و"الاتحاد الوطني الحر".
وكما هو واضح، فمآل المشهد السياسي التونسي مرهون بتجليات مستقبل منظور قد يعاد فيه رسم الخارطة السياسية ومراجعة صيغ الائتلاف الراهنة باتجاه تشكيل تحالفات جديدة يُصوِّرها أمل الراغبين فيها وتُبعثرها الوقائع الميدانية، من ذلك مثلًا فكرة تشكيل "كتلة جمهورية" تضم كل "الأحزاب الديمقراطية الوسطية" المتحررة من القيود الأيديولوجية الصارمة من أجل تعديل موازين القوى ومواجهة حزب النهضة الذي يُتوقع أن يخرج من مؤتمره القادم قويًّا ومتجددًا ومدنيًّا قلبًا وقالبًا. أمَّا أحزاب المعارضة فهي مشتتة وغير متجانسة فيما بينها مما جعلها ضعيفة التأثير في توجهات الحكومة وفي الخيارات السياسية عمومًا. وهنا نسجِّل رغبة "الجبهة الشعبية" المعارضة في توسيع نطاق تحالف مكوناتها اليسارية والقومية من أجل استيعاب المزيد من الأحزاب والشخصيات من تينك العائلتين؛ حيث بادرت في الآونة الأخيرة إلى إعادة انتخاب حمة الهمامي ناطقًا رسميًّا باسمها وإطلاق "مبادرة سياسية لإنقاذ البلاد" على قاعدة "تجميع القوى الديمقراطية والمدنية والاجتماعية" و"عزل النهضة ومَنْ والاها أو لَفَّ لَفَّها أو مشى في صفها، ولاسيما من اشترك معها في الحُكم بعد الثورة". وبين هؤلاء وأولئك، يتقدم رئيس حكومة التكنوقراط السابق، السيد مهدي جمعة، حثيثًا، متصدرًا نتائج استطلاعات الرأي، مع أنه لم يؤسِّس حزبًا سياسيًّا جديدًا ولم ينضم إلى أي كيان سياسي قديم، واكتفى بتأسيس مركز تفكير استراتيجي نشيط صحبة مجموعة من أعضاء حكومته السابقة ومن الأكاديميين والخبراء بغية تقديم "البدائل"(1) التي تحتاجها تونس لتحقيق "تحول شامل يفتح أبواب الأمل أمام التونسيين".
ملامح المشهد السياسي التونسي الراهن
بعد مضي أكثر من خمس سنوات على "ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول-14 يناير/كانون الثاني"، ورغم تنظيم نسختين غير مسبوقتين من الانتخابات التشريعية الحرة والنزيهة، لا يزال المشهد السياسي التونسي الذي أفرزته تجربة "الديمقراطية الناشئة"(2) في طور التشكل وإن بات بعض ملامحه واضحًا. وفي هذا المعنى، يمكننا الحديث بكثير من الاطمئنان العلمي عن أقطاب أو عائلات سياسية تتزعمها أحزاب أو تشكيلات سياسية تكونت (أو هي بصدد التكون) على قاعدة الخلفية الفكرية و/أو السياسية المشتركة؛ فالعائلة السياسية الإسلامية تتكون من طيف واسع من الأحزاب بعضها وسطي مدني يحاكي ملمح الأحزاب العلمانية -وهذه حال حزب حركة النهضة وحزب البناء الوطني وحزب الإصلاح والتنمية- وبعضها يرفع راية السلفية المستنيرة -على غرار حزب العدالة والتنمية وحزب الرحمة- بينما يتمترس البعض الآخر وراء الأفكار السلفية التي تحوم حول دولة الخلافة -مثلما يفعل حزب التحرير-. لكن أبرز تلك الأحزاب وأكثرها حضورًا وتأثيرًا في المشهد السياسي هو حزب حركة النهضة الذي بات الحزب الأول في البلاد سواء من حيث عدد أنصاره ومنخرطيه أو من حيث عدد أعضاء كتلته البرلمانية أو من حيث تأثيره في صنع القرار السياسي مع أنه لا يتوفر إلا على تمثيلية رمزية في الحكومة الحالية.
أمَّا العائلة الدستورية فهي الأخرى تتكون من مجموعة من الأحزاب التي تعتبر نفسها سليلة حزب الدستور بصيغه المتعاقبة على مدى زمني يناهز القرن، بدءًا بالحزب الحر الدستوري وانتهاء بالتجمع الدستوري الديمقراطي، مرورًا بالحزب الدستوري الجديد والحزب الاشتراكي الدستوري. ومع أن حزب حركة نداء تونس هو آخرها من حيث الظهور، إلا أنه أكثرها بروزًا على الساحة السياسية رغم تصدعه وانقسامه إلى ثلاث تيارات متمانعة، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2015، إثر خلاف حاد حول صيغة إنجاز مؤتمره التأسيسي. ويعود الحضور القوي لهذا الحزب بأجنحته وروافده المختلفة إلى إمساكه بزمام الحكم وسيطرته على أغلب دواليب الدولة من خلال اندماج قطاع كبير من "الحرس القديم" ورموز "الدولة العميقة" في صفوفه. ورغم تآكل هذا الحزب بشكل سريع بسبب استقالة عدد كبير من كوادره ونوابه بالبرلمان والتحاق أغلبهم بحركة "مشروع تونس" التي أسسها أمينه العام السابق، محسن مرزوق، إلا أنه ظل يسيطر على مقاليد الحكم مستفيدًا من إسناد الائتلاف الحزبي الحاكم له من خلال دعم مؤسِّسه الباجي قائد السبسي، رئيس الجمهورية الحالي، وتأكيد الثقة في حكومة الحبيب الصيد ذات الأغلبية الندائية رغم أدائها الضعيف. وغير بعيد عن نداء تونس نجد "حزب المبادرة" و"حزب الوطن" و"الحركة الدستورية" وغيرها من الأحزاب الدستورية الصغيرة التي تأسست في خضم طفرة إنشاء الأحزاب التي أعقبت الثورة (2011) وتزعمتها شخصيات سياسية من المنظومة السابقة.
أمَّا العائلة اليسارية، فعلى الرغم من تكتل قطاع واسع من أحزابها الراديكالية في "جبهة شعبية" ينسِّق أعمالها ويعبِّر عن لسان حالها رئيس حزب العمال التونسي، إلا أن تأثيرها المباشر في الحياة السياسية لا يزال محدودًا بسبب تمثيلها الضعيف في أجهزة الدولة. على أن ذلك لا يمنعها من ممارسة الضغط السياسي عبر المنظمات الوطنية، ولاسيما الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تعتبره خيمتها المحصنة وملاذها الآمن، وعبر وسائل الإعلام المختلفة التي اخترقت معظمها وطوعت خطوطها التحريرية لخدمة أفكارها وتوجهاتها. وإذا كان ذلك دأب الأحزاب اليسارية عالية الأدلجة، فإن سميَّتَها ذات التوجه الاجتماعي الديمقراطي التي تعتبر نفسها أحزابًا وسطية لم تشذَّ هي الأخرى عن ذلك التوجه الرامي إلى توظيف كلٍّ من المجتمع المدني والفضاء الإعلامي في معاركها السياسية. لكن هذه الأحزاب "المعتدلة" فشلت فشلًا ذريعًا في جمع شتاتها والائتلاف في كيان موحَّد بسبب غلبة الأنوية على قياداتها العليا وزعمائها التاريخيين.
وبالنسبة للعائلة الليبرالية، فبالرغم من اشتراك حزبين اثنين منها في تجربة "الرباعي الحاكم" حاليًا، وهما: حزب "آفاق تونس" و"الاتحاد الوطني الحر" وحصولهما على حقائب وزارية مهمة، مثل وزارة التنمية والتعاون الدولي والاستثمار، ووزارة التجارة، ووزارة الاقتصاد الرقمي، إلا أن حضورها في المشهد السياسي ثانوي وباهت. كما أن تأثيرها في توجيه خيارات الحكومة محدود. وأسوأ من وضع تلك الأحزاب الليبرالية وضع الأحزاب القومية التي ترفع شعار الوحدة العربية لكنها ظلت عاجزة عن تحقيق الوحدة فيما بينها. وهي اليوم مفتَّتة ومتشرذمة وضعيفة الفعالية، بعضها اندمج في الجبهة الشعبية وبعضها يحاول توحيد الجهود مع أحزاب ديمقراطية اجتماعية ضعيفة الحضور والتأثير عساه يقوِّي بها عُوده الذي طاله التآكل حتى كاد يأتي عليه.
آفاق التحالفات والتفاهمات السياسية الممكنة
قبل حوالي عام من أول انتخابات بلدية مرتقبة بعد الثورة، تبدو كل التحالفات والتفاهمات السياسية بين الأحزاب ممكنة نظريًّا. لكن حسابات الحقل هي غير حسابات البيدر على أية حال، وسيكون على كل طرف سياسي أن يزن خياراته وقراراته وخطواته حتى لا يقع في مطب يجعله خارج منظومة الحكم المحلي. وكما هو معلوم في أدبيات السياسة وفي التجارب السياسية المقارنة، فإنَّ من ينجح في إدارة المحليات سرعان ما يرتقي في سُلَّم الحُكم مستفيدًا من منسوب الثقة التي يضعها فيه عموم المواطنين الذين خبروا حكمة تدبيره أو رجاحة تفكيره.
وحيث إن معظم الأحزاب القائمة الآن لا يتوفر على تجربة يُعتدُّ بها في العمل السياسي المحلي فضلًا عن غياب تجربة تلك الأحزاب في العمل البلدي المهيكَل، فإنها تحاول أن تجمع قواها ومواردها من أجل تقوية حظوظها في الفوز بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات المجالس البلدية التي ستُجرى في أواسط مارس/آذار 2017. وفي هذا السياق ظهرت مبادرات في الآونة الأخيرة تدعو إلى إقامة ائتلافات أو تحالفات موسَّعة من أجل إدارة الشأن العام جماعيًّا وتحقيق نوع من التوازن بين "الأحزاب العلمانية" و"الحزب الإسلامي" الرئيسي في البلاد وإن لم تعبِّر عن ذلك بشكل صريح وواضح.
ويمكننا الوقوف هنا عند مبادرتين اثنتين متشابهتين وإن صدرتا عن طرفين يختلفان في التوجهات الاقتصادية ولكن تجمعهما مناهضتهما لحركة النهضة. فأمَّا المبادرة الأولى فصدرت عن حزب آفاق تونس وطرحت فكرة إقامة "كتلة جمهورية موسعة" تضمُّ كل من يؤمن بالجمهورية ويناصر الفكر الجمهوري بقطع النظر عمَّا إذا كان ليبراليًّا أو يساريًّا، من أجل تحقيق الأغلبية والأسبقية على حساب "النهضة" ومن ثم عزلها وتحييدها أو إخضاعها لإرادة "خصومها الموحَّدين". وقد جاءت هذه المبادرة في سياق محاولة حزب "آفاق تونس" استعادة زمام المبادرة بعد أن اتُّهم بمحاولة خذلان الائتلاف الحاكم وإحراج رئيس الحكومة تمهيدًا لتسفيهه وعزله أو إجباره على الاستقالة. وأمَّا المبادرة الثانية فصدرت عن قيادة "الجبهة الشعبية" التي أصدرت بيانًا دعت فيه كل القوى السياسية والفعاليات المدنية "التقدمية"، بما في ذلك التنظيمات النقابية، إلى الانضواء تحت لواء "جبهة موسَّعة للإنقاذ" تحمي مسار العدالة الانتقالية وتقاوم الفساد وتجلي الحقيقة في ما يتعلق بملفات الاغتيال السياسي... ومن ثم تحول دون حصول تفاهمات ثنائية بين حركة نداء تونس وحركة النهضة تُفضي إلى "مصالحة وطنية" يهندسها "الشيخان" ويستفيدان منها سياسيًّا بعد أن يسحبا البساط من تحت أقدام خصومهما المشتركين.
ويُذكر أن الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، قد دعا في الآونة الأخيرة، على إثر لقاء جمعه بالسيد الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية في قصر قرطاج، إلى تجاوز أحقاد الماضي والتصالح، على اعتبار أن البلاد في حاجة إلى جميع أبنائها حتى يخدموها في وئام وانسجام. كما أن رئيس الجمهورية قد أطلق مبادرة تشريعية منذ عدة أشهر تهدف إلى إجراء مصالحة اقتصادية وَجِبائيَّة مع أصحاب المال والأعمال من أجل المساهمة في إنعاش الاقتصاد الوطني، لكنها جوبهت بمعارضة شديدة.
مفردات العلاقة القائمة بين "النهضة" و"نداء تونس"
تبدو العلاقة القائمة بين حركتي النهضة ونداء تونس أشبه ما تكون بزواج مصلحة بين قبيلتين متنازعتين استطاعتا أن تَبْنِيَا ائتلافًا ظرفيًّا وسياقيًّا كان في البدء إكراهًا من إكراهات الواقع ثم ما لبث أن أصبح لعبة سياسية مريحة. ورغم أن الباجي قائد السبسي، ومِن ورائه حزب نداء تونس، كان في "صدام سياسي" مع حركة النهضة قبل الانتخابات الأخيرة (أواخر 2014)، إلا أنه آثر ألا تكون هذه الحركة ذات القاعدة الشعبية العريضة في المعارضة فتعطِّل حينئذٍ كل "المشاريع الإصلاحية" التي تقترحها الحكومة أو رئاسة الجمهورية (على غرار مشروع قانون المصالحة الاقتصادية). لذلك، بادر من منطلق الذرائعية السياسية، إلى دعوة هذه الحركة إلى المشاركة في الحكومة، مبرِّرًا ذلك لأنصاره ولمن انتخبوه وانتخبوا حزبه تحت عنوان "الانتخاب المفيد" أو "الانتخاب العقابي" بأنه يحترم خيار الشعب التونسي الذي وضع حركة النهضة في المرتبة الثانية. ولقد قبلت حركة النهضة بمشاركة رمزية في الحكومة أخرجتها من نطاق هدف "النيران الندائية" التي انهالت عليها قبل الانتخابات لاسيما عبر وسائل الإعلام التي انحاز بعضها بشكل سافر إلى جانب النداء في السَّرَّاء والضرَّاء. كما أنها بمشاركتها تلك أحرجت أحزاب "الجبهة الشعبية" التي كانت تشترط للمشاركة في الحكومة استبعاد حركة النهضة منها. وفي المقابل، استطاع نداء تونس أن يغري حزبي "آفاق تونس" و"الاتحاد الوطني الحر" بالمشاركة في ائتلاف حكومي رباعي يضم حركة النهضة التي لا تختلف في برامجها كثيرًا عن بقية أحزاب هذا الائتلاف الذي كان لحزب نداء تونس نصيب الأسد فيه من حيث عدد الحقائب الوزارية.
واليوم وقد توثقت العلاقة بين "الشيخين" (راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي) ووجد كل منهما نصيبًا مما يرتجيه لدى صاحبه، ولاسيما بعد أن تخطى الحداثيون من أنصار النهضة والبراغماتيون من أنصار النداء الحاجز النفسي الذي كان يحول بينهم، بات بالإمكان التطبيع منظوميًّا بين الحزبين، بمعنى التنسيق الضيق في مضمار العمل السياسي من أجل تعزيز المواقف والمواقع تبادليًّا وتنسيقها ثنائيًّا وصولًا إلى تدشين طَوْر متقدم من العلاقة بين الحزبين قد يتخذ شكل تآلف أو تحالف جديد تُخاض به الاستحقاقات السياسية القادمة (إمكانية خوض الانتخابات البلدية القادمة في قائمات مشتركة و/أو تشكيل حكومة ثنائية التركيبة تقودها شخصية سياسية مستقلة تحظى بثقة الطرفين وباحترام الطبقة السياسية وعموم المواطنين...). وهذا سيناريو محتمل من بين سيناريوهات أخرى كثيرة باتت تُطرح في غرف المداولات الحزبية وكذلك في الحلقات النقاشية المفتوحة واللقاءات التي تبثها أو تنشرها وسائل الإعلام.
رهانات مؤتمر حزب "حركة النهضة" العاشر
بدأ العد التنازلي لعقد مؤتمر حركة النهضة العاشر الذي يُنتظر أن يكون تاريخيًّا بكل المقاييس، حيث سيحسم مسألة مدنية الحزب ويُقرُّ الفصل النهائي بين العمل السياسي والعمل الدعوي. وفي هذا المعنى، يُنتظر أن يقرر المؤتمر -وهو سيد نفسه، فضلًا عن أنه أعلى سلطة في الحركة- اعتبار حركة النهضة حزبًا سياسيًّا مدنيًّا وغير عقائدي، يمكن لأي تونسي يؤمن بمبادئه وأدبياته ورهاناته وأهدافه أن ينضم إلى صفوفه بصرف النظر عن عقيدته الشخصية. وهذا يعني عمليًّا أنَّ من يحمل قناعات لا تستند إلى مرجعية إسلامية يمكنه الانخراط في هذا الحزب والترشح للمناصب القيادية فيه وشغلها إذا استطاع إقناع القواعد الانتخابية بملمحه الشخصي و/أو ببرنامجه.
وسيكون على المؤتمِرِين أن يوجدوا صيغًا وحُججًا وجيهة لإقناع خصوم حركتهم بأنهم في حِلٍّ من أي انتماء إخواني وبأن حزبهم تونسي قلبًا وقالبًا. وقد يتعين عليهم تدقيق بعض النصوص المرجعية التي اعتمدتها الحركة في بداية نشأتها حينما كانت تحمل الصفة الإسلامية في اسمها ("الجماعة الإسلامية" ثم "الاتجاه الإسلامي") أو مراجعتها والتخلِّي عن بعض مفرداتها التي لم تعد تتماشى مع مستوى النضج السياسي والفكري الذي بلغته الحركة وخاصة بعد خوضها تجربتين في الحكم الديمقراطي، بعد الثورة، بالاشتراك مع أحزاب علمانية.
أمَّا أهم ما يجب أن تهتم به حركة النهضة وتجعل منه رهانها الأساسي، بعد أن تُعيد ترتيب أوراق بيتها الداخلي أثناء مؤتمرها القادم، فهو دورها التاريخي في توحيد التونسيين والمساهمة الفعالة في جمعهم حول مشروع وطني يحقق التنمية المتضامنة، ويقطع مع الفساد ويقاومه، ويتصدى للإرهاب، ويقوي الجبهة الداخلية من خلال إيجاد آلية سياسية تبني جسور الثقة والتعاون بين كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين ولا تستثني أحدًا إلا من استثنى نفسه مُؤْثرًا الضدية بملء إرادته.
إن قدر الأحزاب الكبرى في كل بلد أن تكون قاطرة لا مقطورة. ولن تكون كذلك إلا إذا كانت تمتلك رؤية واضحة ورسالة أوضح، عندها تستطيع أن تقوم بدور المربط النشيط والإيجابي بين جميع القوى الحية في المجتمع وأن تقود مشروع التغيير. لكنها لن تنجح إلا إذا رصَّت صفوفها داخليًّا ووحَّدت كلمتها ثم تواضعت لشعبها وسخَّرت نفسها لخدمته بدلًا من أن تستغل زعامتها أو تصدرها المشهد السياسي لتحقيق مغانم ظرفية قد تُفقدها مصداقيتها وتُعجِّل بتآكلها واندثارها.
خاتمة: مستقبل التعايش بين "النهضة" و"نداء تونس"
مع أن الائتلاف الذي حصل بين حركة النهضة وحركة نداء تونس لم يكن متوقعًا قبيل الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، إلا أنه أفضى إلى حالة من التعايش السياسي المحمود الذي جنَّب البلاد كثيرًا من المخاطر وإن لم يُخرجها من وضع الهشاشة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. كما أن وجود الحزبين الأولين (من حيث عدد النواب بالبرلمان) في نفس التشكيل الحاكم أضعف المعارضة التي تشكو من التشرذم أصلًا. لكن تآلف ذينك الحزبين، وربما تحالفهما في مستقبل الأيام، سيكون مفيدًا في تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة شريطة التزامهما باحترام مسار العدالة الانتقالية وبدعم آلياتها التي أقرَّها الدستور.
إن التجربة القصيرة التي جمعت بين النهضة ونداء تونس في الحكم أذابت الكثير من الجليد الذي كان قائمًا بينهما، لكن النداء لم يُنجز بعد مؤتمره التأسيسي وانقسم إلى حزبين اثنين بدأ ثانيهما (مشروع تونس) في الانقسام بدوره إلى كيانين اثنين ولمَّا ينجز مؤتمره التأسيسي. لقد أضحى النداء الأصلي نداءات كثيرة كلٌّ منها يدَّعي أنه يحمل "مشروع الإنقاذ" الذي بشَّر به النداء الأول. وتبعًا لذلك التصدع الكبير في كيان الحزب الفائز في انتخابات 2014، تصدعت كتلته النيابية في البرلمان فأصبحت كتلتين وانزاحت عن المرتبة الأولى تاركة إياها لكتلة النهضة. فمع أية كتلة ومع أي شق ستتآلف النهضة وتتحالف؟ وهل سيكون النداء، بعد كل الانشقاقات والتصدعات التي طالته، قادرًا على أن يكون مخاطِبًا جديًّا للنهضة؟
لكن النهضة نفسها ليست بمنأى عن الصراعات الداخلية وإن كانت صراعات تياراتها المتنافسة على التموقع وصنع القرار الحزبي لا تظهر للعموم. ولذلك، فهي تحتاج إلى حليف سياسي حتى يكون سندًا لها في تسويق ذاتها ورؤاها وبرامجها داخليًّا وخارجيًّا، وحتى تصرف أنظار قواعدها وكوادرها إلى الرهانات الاستراتيجية الكبرى فلا يغرق قادتها في خضم الصراعات الداخلية التي تفسد الود وتعرقل فعل اليد.
ومن الواضح أن للقيادة التاريخية للنهضة، ممثلة في شخص الشيخ راشد الغنوشي مؤسِّس الحركة ورئيسها، دورًا أساسيًّا وحاسمًا في تعديل المشهد السياسي في تونس، باعتبار ما يحظى به من احترام وتقدير في الداخل والخارج، وبالنظر إلى الحنكة والحكمة اللتين برهن عليهما في إدارة الشأن السياسي وتدبير علاقات التآلف والتعايش والشراكة مع أحزاب لا تشترك مع حزبه في الخلفية الفكرية وسبق لها أن عَادَتْه. وهنا موضع الإشارة إلى أن كل التوقعات تذهب في اتجاه إعادة انتخاب راشد الغنوشي رئيسًا لحزب النهضة في نسخته الجديدة لمدة نيابية أخرى قد لا تكون الأخيرة في رصيد الشيخ الحافل بالتجارب(3).
_____________________________
فتحي الجراي - خبير ومحلل سياسي تونسي.
1– أطلق مهدي جمعة تسمية "تونس البدائل" على المؤسسة التي أنشأها حديثًا، في إشارة إلى أن هذا الكيان الجديد سيعمل على اقتراح بدائل غير مسبوقة من شأنها أن تُسهم في تحقيق مشروع الإنهاض الذي طالما انتظرته تونس.
3- يُعتبر راشد الغنوشي صمام أمان ليس فقط داخل حزبه "حركة النهضة" وإنما أيضًا داخل المجتمع السياسي التونسي لأنه رجل وفاق يُعلي مصلحة الوطن ويقدِّم التنازلات المؤلمة من أجله. كما أن راشد الغنوشي شخصية سياسية وفكرية ذات إشعاع في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي، تحظى باحترام حكومات دول الجوار التونسي وباستحسان الدول الغربية.